دراسات فی ولایه الفقیه و فقه الدوله الاسلامیه المجلد 2

اشارة

سرشناسه : منتظری، حسینعلی، - 1301

عنوان و نام پديدآور : دراسات فی ولایه الفقیه و فقه الدوله الاسلامیه/ لمولفه المنتظری

مشخصات نشر : قم: دار الفکر، 14ق. = - 13.

شابک : 2500ریال(ج.4)

يادداشت : فهرستنویسی براساس جلد چهارم، 1411ق. = 1370

يادداشت : جلد سوم این کتاب توسط انتشارات تفکر منتشر شده است

يادداشت : جلد سوم (چاپ دوم: 1415ق. = 1373)؛ بها: 7000 ریال. (ناشر: نشر تفکر)

يادداشت : ج. 3 (چاپ دوم) 1415 = 1374

یادداشت : کتابنامه

عنوان دیگر : ولایه الفقیه و فقه الدوله الاسلامیه

موضوع : ولایت فقیه

موضوع : اسلام و دولت

رده بندی کنگره : BP223/8 /م 78د4 1300ی

رده بندی دیویی : 297/45

شماره کتابشناسی ملی : م 70-2367

الباب السّادس في حدود ولاية الفقيه و اختياراته، و واجبات الحاكم الإسلامي تجاه الإسلام و الأمّة، و واجبات الأمّة تجاهه

اشارة

و ليس غرضنا في هذا الباب شرح التكاليف بالتفصيل في تمام المراحل، فإنه بنفسه يستوعب مجلدات ضخمة، بل نقتصر على ذكر بعض الكلمات و بعض الآيات و الروايات المتعرضة لذلك مع شرح و توضيح يناسب هذا الكتاب، و نشير إجمالا إلى السلطات الثلاث التي لا بدّ منها في كلّ حكومة، و إلى بعض المؤسّسات و المراتب الإدارية و الوظائف المهمّة.

و يشتمل هذا الباب على خمسة عشر فصلا:

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 3

الفصل الأوّل في أهداف الدولة الإسلامية و ما يجب على الحاكم الإسلامي التصدّي له في حكومته

[الحاكم في الحقيقة هو اللّه تعالى و أساس الحكم هو ما أنزل اللّه]

اعلم أنّه قد ظهر لك في مطاوي البحث إلى هنا أنّ الحكومة الإسلاميّة ليس يراد بها السلطة على المسلمين و بلادهم و الحكم عليهم بما يريده الحاكم و يهواه كيف ما كان، نظير ما يشاهد من الملوك و الرؤساء في غالب البلاد، حيث يعاملون الناس معاملة المالك مع مملوكه.

بل المراد بها تنفيذ أحكام الإسلام و حدوده، و إدارة شئون الأمّة على أساس ضوابط الإسلام و قوانينه العادلة، فإنّ الإسلام دين جامع واسع كافل لجميع ما يحتاج إليه الإنسان في مراحل حياته الفرديّة و العائليّة و الاجتماعيّة، و يتوقّف عليه خيره و سعادته في الدارين، و قد روعي فيه حقوق جميع الأفراد و الفئات حتّى الأقليّات غير المسلمة.

ففي الحقيقة الحاكم هو اللّه- تعالى- كما قال: «إِنِ الْحُكْمُ إِلّٰا لِلّٰهِ»*، و قال:

«أَلٰا لَهُ الْحُكْمُ» «1»، و الحكومة الإسلامية قوّة منفذة لأحكامه- عزّ و جلّ-، و تتصدّى

______________________________

(1)- سورة الأنعام (6)، الآية 57 و 62.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 4

لمصالح الأمّة على أساس ضوابط الإسلام.

و ليست حكومة استبدادية ديكتاتورية. و لذا نعبّر عن الحاكم الإسلامي بالإمام و الوالي و الراعي، و عن الأمّة بالرعيّة.

فهو إمام لأنّه أسوة يقتدى به، و وال لأنّه يتولّى مصالح الأمّة كما يتولّى متولى الوقف مثلا مصالحه، و راع لأنّه يرعاهم في جميع مراحلهم حتى لا يعتري عليهم الفساد و الضرر.

و لا يلتفت عندنا إلى الحكومة بما هي مقام و شأن يتفاخر به و تكون حملا و عبأ ثقيلا على ظهر الأمّة، بل يلتفت إليها بما هي وظيفة و مسئولية خطيره على عاتق الحاكم تحقّق بها مصالح الأمّة و يرفع بها عن الأمّة إصرهم و الأغلال التي كانت عليهم وراثة أو تقليدا أو تحميلا.

فيفترق نظام الحكم الإسلامي عن أنظمة الحكم الدارجة في العالم بوجهين أساسيين كما مرّ:

الأوّل: أنّ أساس الحكم الإسلامي هو أحكام اللّه- تعالى- و قوانينه العادلة.

الثاني: أنّ الحاكم يشترط فيه أن يكون فقيها عادلا بصيرا لا يهمّه إلّا إجراء أحكام اللّه و إدامة طرق الأنبياء و الأئمة «ع».

و النبيّ الأكرم «ص» كان هو أوّل من أقام الدولة الإسلاميّة و كان هو بنفسه يتولّى في جنب رسالته الخطيرة إدارة شئون المسلمين: السياسيّة و الاجتماعيّة و الاقتصاديّة و العسكريّة، و يعيّن الأمراء و القضاة و الجباة للنواحي و البلاد، و يرسم لهم منهجهم في الحكم و السياسة. و الحكم الذي قام به النبي «ص» في عصره كان حكما فريدا في الحياة لم تعرف البشرية إلى الآن شبيها له في سهولته و سذاجته و ما وجد فيه الناس من عدل و حريّة و مساواة و إيثار.

و كان «ص» رءوفا بهم و حريصا عليهم يطلب خيرهم و رشادهم و يرفع عنهم إصرهم و الأغلال التي كانت عليهم. و لشدّة رأفته و رحمته و أخلاقه الكريمة جذب الناس إلى الإسلام و خلع سلاح أعدائه الّذين جمعوا قواهم

و إمكاناتهم ضدّ تقدمه؛

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 5

فتراه «ص» بعد ما فتح مكّة و سلّطه اللّه على أعدائه الألدّاء خاطبهم فقال: «يا معشر قريش، ما ترون انّي فاعل بكم؟ قالوا خيرا، أخ كريم و ابن أخ كريم. قال: اذهبوا، فأنتم الطلقاء.» «1»

فعفا «ص» عنهم و فيهم أمثال أبي سفيان، و صفوان بن أميّة و غيرهما من الرؤساء، و قد أمكنه اللّه منهم، و لم ينتقم حتى من وحشي قاتل عمّه حمزة، و من هند مع ما صنعت في أحد بأجساد القتلى و جسد حمزة و كبده.

و لم يكن أساس حكمه «ص» إلّا ما أنزله اللّه- تعالى-:

1- قال اللّه- تعالى- في سورة النساء: «إِنّٰا أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ الْكِتٰابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّٰاسِ بِمٰا أَرٰاكَ اللّٰهُ.» «2»

2- و قال في سورة المائدة: «وَ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ الْكِتٰابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتٰابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ، فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ، وَ لٰا تَتَّبِعْ أَهْوٰاءَهُمْ عَمّٰا جٰاءَكَ مِنَ الْحَقِّ. الآية.» «3»

3- «وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ، وَ لٰا تَتَّبِعْ أَهْوٰاءَهُمْ وَ احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ إِلَيْكَ. الآية» «4»

4- «أَ فَحُكْمَ الْجٰاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّٰهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» «5»

إلى غير ذلك من الآيات الكريمة.

وظائف الحاكم الإسلامي:

[كلام الماوردي في وظائف الحاكم]

و كيف كان فلنتعرض لوظائف الحاكم الإسلامي و واجباته، فنقول:

______________________________

(1)- الكامل لابن الأثير 2/ 252، (ذكر فتح مكّة).

(2)- سورة النساء (4)، الآية 105.

(3)- سورة المائدة (5)، الآية 48.

(4)- سورة المائدة (5)، الآية 49.

(5)- سورة المائدة (5)، الآية 50.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 6

قال الماوردي:

«و الذي يلزمه من الأمور العامّة عشرة أشياء:

أحدها: حفظ الدين

على أصوله المستقرّة و ما أجمع عليه سلف الأمّة، فإن نجم مبتدع أو زاغ ذو شبهة عنه أوضح له الحجّة و بيّن له الصواب، و أخذه بما يلزمه من الحقوق و الحدود، ليكون الدين محروسا من خلل، و الأمّة ممنوعة من زلل.

الثاني: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين و قطع الخصام بين المتنازعين حتّى تعمّ النصفة، فلا يتعدّى ظالم و لا يضعف مظلوم.

الثالث: حماية البيضة و الذبّ عن الحريم، ليتصرف الناس في المعايش و ينتشروا في الأسفار آمنين من تغرير بنفس أو مال.

و الرابع: إقامة الحدود، لتصان محارم اللّه- تعالى- عن الانتهاك و تحفظ حقوق عباده من إتلاف و استهلاك.

و الخامس: تحصين الثغور بالعدّة المانعة و القوّة الدافعة حتى لا تظهر الأعداء بغرّة ينتهكون فيها محرما أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دما.

و السادس: جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمّة، ليقام بحقّ اللّه- تعالى- في إظهاره على الدين كلّه.

و السابع: جباية الفي ء و الصدقات على ما أوجبه الشرع نصّا و اجتهادا من غير خوف و لا عسف.

و الثامن: تقدير العطايا و ما يستحق في بيت المال من غير سرف و لا تقتير و دفعه في وقت لا تقديم فيه و لا تأخير.

التاسع: استكفاء الأمناء و تقليد النصحاء فيما يفوّضه إليهم من الأعمال و يكله إليهم من الأموال، لتكون الأعمال بالكفاية مضبوطة، و الأموال بالأمناء محفوظة.

العاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور و تصفّح الأحوال لينهض بسياسة الأمّة و حراسة الملّة، و لا يعوّل على التفويض تشاغلا بلذّة أو عبادة، فقد يخون الأمين و يغشّ الناصح، و قد قال اللّه- تعالى-: «يٰا دٰاوُدُ، إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ،

دراسات في ولاية الفقيه و فقه

الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 7

فَاحْكُمْ بَيْنَ النّٰاسِ بِالْحَقِّ وَ لٰا تَتَّبِعِ الْهَوىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ.» «1» فلم يقتصر اللّه- سبحانه- على التفويض دون المباشرة و لا عذره في الاتّباع حتى وصفه بالضلال.

و هذا و إن كان مستحقا عليه بحكم الدين و منصب الخلافة فهو من حقوق السياسة لكلّ مسترع.

قال النّبيّ «ص»: «كلّكم راع و كلّكم مسئول عن رعيّته.» «2» ...

و إذا قام الإمام بما ذكرناه من حقوق الأمّة فقد أدّى حقّ اللّه- تعالى- فيما لهم و عليهم، و وجب له عليهم حقّان: الطاعة و النصرة ما لم يتغيّر حاله.» «3»

و ذكر قريبا من ذلك أبو يعلى الفراء الحنبلي في كتابه المسمّى بالأحكام السلطانية أيضا. «4»

و الرجلان كانا في عصر واحد، إذ وفاة الماوردي كانت في «450 ه»، و وفاة أبي يعلى في «458 ه» و تقارب كتابيهما في العبارات يوجب العلم بأخذ أحدهما من الآخر، فلعلّ أبا يعلى أخذ من الماوردي.

[الآيات التي تعرّضت لوظائف الحاكم الإسلاميّ]

و قد تعرّضا كما ترى لأصول واجبات الحكومة الإسلامية، فالأولى أن نذكر بعض الآيات و الروايات المبيّنة للأهداف من الحكومة الإسلامية و واجباتها؛ فخير الكلام ما صدر عن منبع الوحي. و قد مضى أكثر هذه الروايات فيما مضى و لكن التكرار قد يجب و لا محيص عنه، كما ترى نظيره في الكتاب الكريم، حيث إنّه ملي ء من التكرار في القصص و الآيات المذكّرة، فنقول:

1- قال اللّه- تعالى-: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرٰاةِ وَ الْإِنْجِيلِ، يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهٰاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبٰاتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبٰائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلٰالَ الَّتِي كٰانَتْ عَلَيْهِمْ، فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا

النُّورَ

______________________________

(1)- سورة ص (38)، الآية 26.

(2)- مسند أحمد 2/ 111؛ و صحيح البخاري 1/ 160، كتاب الجمعة؛ و صحيح مسلم 3/ 1459، كتاب الإمارة، الباب 5، الحديث 1829.

(3)- الأحكام السلطانيّة للماوردي/ 15.

(4)- الأحكام السلطانيّة/ 27.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 8

الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.» «1»

فالآية تعرضت لخمس من الأمور المهمّة الّتي كان النبيّ «ص» يهتمّ بها و يستمرّ عليها في حياته في قبال الأمّة، و هو «ص» أسوة حسنة لكلّ من يتصدّى للحكومة الإسلامية، فيجب عليه أن يتأسّى به في ذلك.

و المعروف ما تعرفه الفطرة و العقول السليمة و أمر به الشرع لذلك. و المنكر ما تنكره العقول السليمة و نهى عنه الشريعة المطهرة.

فعلى الحاكم الإسلامي أن يجعل الجوّ بقدرته و نفوذه جوّا إسلاميّا سالما ينتشر فيه المعروف بشعبه و تنقطع فيه جذور المنكر و الفساد.

و لعلّ المراد بالأغلال هو الأعمّ من الرسوم و القيود الخرافية الطائفة، و من الأحكام الصعبة المشروعة في شريعة اليهود أو التي حرّمها إسرائيل على نفسه.

و في الحديث عن أبي أمامة عن النبيّ «ص»: «إنّي لم أبعث باليهودية و لا بالنصرانيّة، و لكن بعثت بالحنيفية السمحة.» «2»

2- و قال- تعالى-: «وَ لَيَنْصُرَنَّ اللّٰهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، إِنَّ اللّٰهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ* الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّٰاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقٰامُوا الصَّلٰاةَ وَ آتَوُا الزَّكٰاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَ لِلّٰهِ عٰاقِبَةُ الْأُمُورِ.» «3»

فالناصرون للّه- تعالى- المنصورون من قبله هم الّذين إن تمكّنوا في الأرض و حكموا عليها أقاموا و نفّذوا فرائض اللّه من الصلاة و الزكاة و نحوهما و أمروا بالمعروف و نهوا عن المنكر.

3- و قال: «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ

وَ تُقَطِّعُوا أَرْحٰامَكُمْ؟!» «4»

بناء على كون المراد التصدي للولاية، كما لعلّه الظاهر، اللّهم إلّا أن يقال إنّ السياق يأباه، فتأمّل.

______________________________

(1)- سورة الأعراف (7)، الآية 157.

(2)- مسند احمد 5/ 266.

(3)- سورة الحج (22)، الآية 40- 41.

(4)- سورة محمد (47)، الآية 22.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 9

4- و قال: «وَ إِذٰا تَوَلّٰى سَعىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهٰا وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ وَ اللّٰهُ لٰا يُحِبُّ الْفَسٰادَ* وَ إِذٰا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّٰهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ، فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَ لَبِئْسَ الْمِهٰادُ» «1»

و الظاهر أنّ المراد بالتولّي هو التصدّي للحكم و الولاية بقرينة قوله: «يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ» و قوله: «أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ.»

فالحاكم الإسلامي يحرم عليه الإفساد و التعدّي على الحرث و النسل، يعني الأموال و النفوس، و يجب عليه أن يكون خاضعا مستسلما في قبال الذكرى و النصح.

فتدبّر في كلامه- تعالى- و انظر كيف بلي المسلمون في أعصارنا بالحكّام الطغاة الذين خمّر في طبعهم الإفساد و هتك الأموال و الأعراض و النفوس، و لا يسمحون لأحد الوعظ و النصيحة. و ليس ذلك إلّا بتفرّق المسلمين و اختلافهم، و فرارهم من الموت و إعجابهم بالدنيا و شئونها، و إنّ اللّه- تعالى- «لٰا يُغَيِّرُ مٰا بِقَوْمٍ حَتّٰى يُغَيِّرُوا مٰا بِأَنْفُسِهِمْ» «2»

[الروايات التي تعرّضت لوظائف الحاكم الإسلاميّ]

5- و لمّا بعث رسول اللّه «ص» معاذ بن جبل إلى اليمن وصّاه فقال: «يا معاذ، علّمهم كتاب اللّه، و أحسن أدبهم على الأخلاق الصالحة. و أنزل الناس منازلهم: خيرهم و شرّهم.

و أنفذ فيهم أمر اللّه و لا تحاش في أمره و لا ماله أحدا، فإنّها ليست بولايتك و لا مالك، و أدّ إليهم الأمانة في كلّ قليل و كثير. و عليك

بالرفق و العفو في غير ترك الحقّ، يقول الجاهل: قد تركت من حقّ اللّه. و اعتذر إلى أهل عملك من كلّ أمر خشيت أن يقع إليك منه عيب حتّى يعذروك.

و أمت أمر الجاهلية إلّا ما سنّه الإسلام. و أظهر أمر الإسلام كلّه صغيره و كبيره. و ليكن أكثر همّك الصلاة، فإنّها رأس الإسلام بعد الإقرار بالدين. و ذكّر الناس باللّه و اليوم الآخر. و اتبع الموعظة، فإنّه أقوى لهم على العمل بما يحبّ اللّه. ثم بثّ فيهم المعلّمين. و اعبد اللّه الّذي إليه ترجع. و لا تخف في اللّه لومة لائم.

و أوصيك بتقوى اللّه، و صدق الحديث، و الوفاء بالعهد، و أداء الأمانة، و ترك الخيانة، و لين الكلام، و بذل السلام، و حفظ الجار، و رحمة اليتيم، و حسن العمل، و قصر الأمل، و حبّ الآخرة،

______________________________

(1)- سورة البقرة (2)، الآية 205- 206.

(2)- سورة الرعد (13)، الآية 11.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 10

و الجزع من الحساب، و لزوم الايمان، و الفقه في القرآن، و كظم الغيظ، و خفض الجناح.

و إيّاك ان تشتم مسلما، أو تطيع آثما، أو تعصي إماما عادلا، أو تكذّب إماما صادقا، أو تصدّق كاذبا. و اذكر ربّك عند كلّ شجر و حجر. و أحدث لكلّ ذنب توبة: السرّ بالسرّ و العلانية بالعلانية.

يا معاذ، لو لا أنّني أرى ألّا نلتقي إلى يوم القيامة لقصّرت في الوصية، و لكنّني أرى أن لا نلتقي أبدا.

ثمّ اعلم يا معاذ، أنّ أحبّكم إليّ من يلقاني على مثل الحال التي فارقني عليها.» «1»

و ذكر في كنز العمّال حديثين طويلين في بعث معاذ يشتملان على أكثر مضمون هذا الحديث و زيادات نافعة، فراجع

«2».

و قد ذكرنا الحديث بطوله لما يتضمّن من النصائح العالية النافعة لكلّ من يتصدّى لعمل من أعمال الدولة الإسلاميّة.

و قد دلّ على أنّ من تكاليف الحاكم الإسلامي في نطاق حكومته: 1- تعليم كتاب اللّه. 2- تأديب الناس على الأخلاق الصالحة الفاضلة. 3- الفرق بين خير الناس و شرهم بالتقدير عن الخير و إكرامه، و تأنيب الشر و مجازاته. 4- إجراء المساواة في حكم اللّه و ماله بالنسبة إلى الجميع بلا استثناء لأحد. 5- أداء الأمانة إلى أهلها و إن قلّت. 6- الرفق و العفو بالنسبة إلى المسي ء ما لم يستلزم ترك حقّ. 7- تداوم الوعظ و التذكير. 8- بثّ المعلّمين فيهم لنشر العلوم.

و لا يخفى مناسبة الجملة الأخيرة في الحديث لما صار إليه أمر معاذ في النهاية.

6- و في رواية أنّه «ص» قال لمعاذ: «فأخبرهم أنّ اللّه قد فرض عليهم صدقة؛ تؤخذ من أغنيائهم فتردّ على فقرائهم، فإن هم طاعوا لك بذلك فإيّاك و كرائم أموالهم، و اتّق دعوة المظلوم فإنّه ليس بينه و بين اللّه حجاب.» «3»

يظهر من الرواية أنّ المكلف إذا أدّى واجب ماله فالتعدّي إلى سائر أمواله من

______________________________

(1)- تحف العقول/ 25.

(2)- كنز العمال 10/ 594- 595، باب غزواته و بعوثه ... من كتاب الغزوات و الوفود من قسم الأفعال، الحديث 30291 و 30292.

(3)- صحيح البخاري 3/ 73، كتاب المغازي، بعث أبي موسى و معاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 11

أشدّ الظلم.

7- و في رواية أخرى: «إنّ رسول اللّه «ص» حين بعث معاذا أوصاه و عهد إليه ثمّ قال له: يسّر و لا تعسّر، و بشّر و لا تنفّر.» «1»

8- و بعث

رسول اللّه «ص» عمرو بن حزم واليا على بني الحارث ليفقّههم في الدين و يعلّمهم السنّة و معالم الإسلام، و يأخذ منهم صدقاتهم. و كتب له كتابا عهد اليه فيه عهده و أمره فيه بأمره:

«بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ* هذا بيان من اللّه و رسوله، يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، عهد من محمد النبي رسول اللّه «ص» لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن، أمره بتقوى اللّه في أمره كلّه، فإنّ اللّه مع الذين اتّقوا و الذين هم محسنون. و أمره أن يأخذ بالحقّ كما أمره اللّه، و أن يبشّر الناس بالخير و يأمرهم به، و يعلّم الناس القرآن و يفقّههم فيه. و ينهى الناس؛ فلا يمسّ القرآن إنسان إلّا و هو طاهر. و يخبر الناس بالذي لهم و الذي عليهم. و يلين للناس في الحقّ، و يشتدّ عليهم في الظلم، فإنّ اللّه كره الظلم و نهى عنه فقال: «ألا لعنة اللّه على الظالمين». و يبشّر الناس بالجنّة و بعملها، و ينذر الناس النار و عملها. و يستألف الناس حتّى يفقّهوا في الدين، و يعلّم الناس معالم الحجّ و سنّته و فريضته، و ما أمر اللّه به في الحجّ الأكبر و الحج الأصغر، و هو العمرة.

و ينهى الناس أن يصلّي أحد في ثوب واحد صغير، إلّا أن يكون ثوبا يثني طرفيه على عاتقيه، و ينهى الناس أن يحتبى أحد في ثوب واحد يفضي بفرجه إلى السماء. و ينهى أن يعقص أحد شعر رأسه في قفاه. و ينهى إذا كان بين الناس هيج عن الدعاء إلى القبائل و العشائر. و ليكن دعواهم إلى اللّه- عزّ و جلّ- وحده لا شريك له. فمن لم يدع إلى اللّه

و دعا إلى القبائل و العشائر فليقطفوا بالسيف حتّى تكون دعواهم إلى اللّه وحده لا شريك له.

و يأمر الناس بإسباغ الوضوء وجوههم و أيديهم إلى المرافق و أرجلهم إلى الكعبين و يمسحون برؤوسهم كما أمرهم اللّه و أمر بالصلاة لوقتها، و إتمام الركوع و السجود و الخشوع، و يغلّس

______________________________

(1)- سيرة ابن هشام 4/ 237.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 12

بالصبح، و يهجّر بالهاجرة حين تميل الشمس، و صلاة العصر و الشمس في الأرض مدبرة، و المغرب حين يقبل الليل لا يؤخر حتى تبدو النجوم في السماء، و العشاء أوّل الليل. و أمر بالسعي إلى الجمعة إذ نودي لها، و الغسل عند الرواح إليها.

و أمره أن يأخذ من المغانم خمس اللّه، و ما كتب على المؤمنين في الصدقة من العقار عشر ما سقت العين و سقت السماء، و على ما سقى الغرب نصف العشر. و في كل عشر من الإبل شاتان، و في كلّ عشرين أربع شياه. و في كلّ أربعين من البقر بقرة، و في كلّ ثلاثين من البقر تبيع، جذع أو جذعة. و في كلّ أربعين من الغنم سائمة وحدها، شاة. فانها فريضة اللّه التي افترض على المؤمنين في الصدقة، فمن زاد خيرا فهو خير له.

و أنّه من أسلم من يهوديّ أو نصرانيّ إسلاما خالصا من نفسه و دان بدين الإسلام فإنّه من المؤمنين؛ له مثل ما لهم، و عليه مثل ما عليهم. و من كان على نصرانيته أو يهوديّته فإنّه لا يردّ عنها.

و على كلّ حالم: ذكر أو أنثى، حرّ أو عبد، دينار واف أو عوضه ثيابا. فمن أدّى ذلك فإنّ له ذمّة اللّه و ذمّة رسوله.

و من منع ذلك فإنّه عدوّ للّه و لرسوله و للمؤمنين جميعا. صلوات اللّه على محمد و السلام عليه و رحمة اللّه و بركاته.» «1»

و إنّما نقلنا الحديث بطوله لأنّه على ما قالوا أجمع و أطول كتاب حفظ التاريخ نصّه من كتبه «ص». و اعتنى به أرباب السنن و المسانيد في الأبواب المختلفة من الفقه، و ادّعى بعض إجماع الصدر الأوّل على الأخذ به و إن قطعوه على الأبواب و اختلفوا في بعض ألفاظه.

و عن النووي في التهذيب في ترجمة عمرو بن حزم قال:

«استعمله النبي «ص» على نجران باليمن و هو ابن سبع عشرة سنة، و بعث معه كتابا فيه الفرائض و السنن و الصدقات و الجروح و الديات.» «2»

و النكات المهمّة في هذا العهد أوّلا: الأخذ بالحقّ على نحو ما أمر اللّه به، لا على نحو إعمال الرأي و السليقة الشخصية.

______________________________

(1)- سيرة ابن هشام 4/ 241؛ و تاريخ الطبري 4/ 1727- 1729.

(2)- راجع التراتيب الإداريّة 1/ 168.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 13

و ثانيا: البشارة بالخير و الأمر به.

و ثالثا: تعليم القرآن و تفهيمهم مطالبه المتنوعة.

و رابعا: إرشاد الناس إلى ما ينفعهم و ما يضرّهم.

و خامسا: إعمال الرفق و اللين مع المحقّ، و إعمال الشدّة في قبال الظلم.

و سادسا: التبشير و الإنذار.

و سابعا: تأليف القلوب و تشويقها ليرغبوا في تعلّم الدين و التفقّه فيه.

و ثامنا: تعليم معالم الحجّ و سائر الفرائض و السنن. إلى غير ذلك ممّا اشتمل عليه.

و من هذا العهد و سابقه يعلم إجمالا ما يترقبه رسول اللّه «ص» ممّن يصير واليا على البلاد الإسلامية.

9- و في نهج البلاغة: «اللّهم إنّك تعلم أنّه لم يكن الذي كان

منّا منافسة في سلطان، و لا التماس شي ء من فضول الحطام، و لكن لنردّ المعالم من دينك و نظهر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك و تقام المعطّلة من حدودك.» «1»

و قد مرّ نحو ذلك عن تحف العقول في خطبة تنسب إليه تارة، و إلى سيد الشهداء «ع» أخرى «2».

و يظهر من هذا الكلام أنّ أمير المؤمنين «ع» لم يكن ساكتا في قبال ما كان يقع، بل كان منه مطالبة و محاجّة، و لكن لا للتنافس و طلب الدنيا و المقام، بل لإحياء معالم الدين و الإصلاح في البلاد و رفع الظلم و إقامة الحدود المعطّلة.

10- و فيه أيضا: «قال عبد اللّه بن عباس: دخلت على أمير المؤمنين «ع» بذي قار و هو يخصف نعله، فقال لي: «ما قيمة هذه النعل؟» فقلت: لا قيمة لها. فقال- عليه السلام-: و اللّه لهي أحبّ إليّ من إمرتكم إلّا أن أقيم حقا أو أدفع باطلا.» «3»

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 406؛ عبده 2/ 19؛ لح/ 189، الخطبة 131.

(2)- راجع تحف العقول/ 239.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 111؛ عبده 1/ 76؛ لح/ 76، الخطبة 33.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 14

فهذا الكلام باختصاره جامع لجميع ما يكون على عهدة الحاكم الإسلامي، أي: «إقامة الحقّ و دفع الباطل.»

11- و فيه أيضا: «لو لا حضور الحاضر و قيام الحجة بوجود الناصر و ما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم و لا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها و لسقيت آخرها بكأس أوّلها، و لألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز.» «1»

أقول: الكظّة بالكسر و تشديد الظاء: البطنة و ما يعتري الإنسان

عند الامتلاء من الطعام. و السغب: الجوع. و عفطة العنز: ما تنثره من أنفها.

يظهر من الحديث الشريف أنّ المسلمين- و لا سيّما أهل العلم الواقفين على مذاق الشرع و حثّه على العدالة الاجتماعية- لا يجوز لهم السكوت في قبال التفاوت الفاحش الطبقي المنتج من غصب الأقوياء لحقوق الضعفاء و المستضعفين.

و إحقاق الحقوق لا يمكن إلّا بتحصيل القوّة و القدرة، فبذلك يظهر وجوب إقامة الدولة الحقّة و إحقاق الحقوق في ضوئها.

و اعلم أنّ اللّه- تعالى- لم يخلق الإنسان من دون أن يخلق له ما يحتاج إليه في عيشته و ما يتوقّف عليه حياته. و لو ترى الفقر الشديد و النقص الفاحش في بعض منهم فإنّما نشأ من ظلم بعضهم لبعض أو من كفرانهم نعم اللّه- تعالى- و عدم الاستفادة منها بالاستخراج و الاستنتاج:

ففي سورة إبراهيم قال بعد ذكر أصول نعمه: «وَ آتٰاكُمْ مِنْ كُلِّ مٰا سَأَلْتُمُوهُ، وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللّٰهِ لٰا تُحْصُوهٰا، إِنَّ الْإِنْسٰانَ لَظَلُومٌ كَفّٰارٌ.» «2»

و الظاهر أن المقصود بالسؤال هو الحاجة التكوينية الكامنة في الذوات؛ فاللّه- تعالى- علّل النقص الموجود بالأمرين، أعني الظلم و الكفران، فتدبّر في الآيات الشريفة.

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 52؛ عبده 1/ 31؛ لح/ 50، الخطبة 3.

(2)- سورة إبراهيم (14)، الآية 34.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 15

و في نهج البلاغة: «إنّ اللّه- سبحانه- فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلّا بما متّع به غنيّ، و اللّه- تعالى- سائلهم عن ذلك.» «1» هذا.

12- و في نهج البلاغة أيضا في ردّ الخوارج: «هؤلاء يقولون: لا إمرة إلّا للّه، و إنّه لا بدّ للناس من أمير برّ أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن و

يستمتع فيها الكافر، و يبلّغ اللّه فيها الأجل و يجمع به الفي ء و يقاتل به العدوّ و تأمن به السبل و يؤخذ به للضعيف من القويّ حتى يستريح برّ و يستراح من فاجر.» «2»

13- و فيه أيضا فيما ردّه «ع» على المسلمين من قطائع عثمان: «و اللّه لو وجدته قد تزوج به النساء و ملك به الإماء لرددته، فإنّ في العدل سعة، و من ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق.» «3»

يظهر من الحديث الشريف أنّ من وظائف الحاكم الإسلامي ردّ الأموال العامّة المغصوبة المتعلقة بالمجتمع إلى أهلها. و يأتى في الفصل الذى نعقده لوجوب اهتمام الإمام بأموال المسلمين شرح للخطبة و تتميم لها و روايات أخرى لها عن شرح ابن أبي الحديد و كتاب دعائم الإسلام، فانتظر.

14- و فيه أيضا: «إنّه ليس على الإمام إلّا ما حمّل من أمر ربّه، إلّا البلاغ في الموعظة و الاجتهاد في النصيحة و الإحياء للسنّة و إقامة الحدود على مستحقّيها و إصدار السهمان على أهلها.» «4»

15- و فيه أيضا في خطابه «ع» لعثمان: «فاعلم أنّ أفضل عباد اللّه عند اللّه إمام عادل هدي و هدى؛ فأقام سنّة معلومة و أمات بدعة مجهولة.» «5»

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 1242؛ عبده 3/ 231؛ لح/ 533، الحكمة 328.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 125؛ عبده 1/ 87؛ لح/ 82، الخطبة 40.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 66؛ عبده 1/ 42؛ لح/ 57، الخطبة 15.

(4)- نهج البلاغة، فيض/ 311؛ عبده 1/ 202؛ لح/ 152، الخطبة 105.

(5)- نهج البلاغة، فيض/ 526؛ عبده 2/ 85؛ لح/ 234، الخطبة 164.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 16

يظهر بذلك أنّ من تكاليف الإمام العادل إحياء السنّة و إماتة

البدع.

16- و فيه أيضا: «أيّها الناس، إنّ لي عليكم حقّا، و لكم عليّ حقّ، فأمّا حقّكم عليّ فالنصيحة لكم و توفير فيئكم عليكم، و تعليمكم كيلا تجهلوا، و تأديبكم كيما تعلموا. و أمّا حقّي عليكم فالوفاء بالبيعة، و النصيحة في المشهد و المغيب، و الإجابة حين أدعوكم و الطاعة حين آمركم.» «1» و مفاد الحديث واضح، هذا.

و نهج البلاغة ملي ء من هذا القبيل من الكلمات المتعرضة لتكاليف الحاكم و لا سيّما كتابه «ع» لمالك الأشتر «2»، فراجع.

17- و في الغرر و الدرر للآمدي عن أمير المؤمنين «ع»: «على الإمام أن يعلّم أهل ولايته حدود الإسلام و الإيمان.» «3»

و المراد بأهل ولايته جميع من يكون تحت لواء حكومته.

18- و قد مرّ في كلام له «ع» أرسله إلى معاوية: «و الواجب في حكم اللّه و حكم الإسلام على المسلمين بعد ما يموت إمامهم أو يقتل، ضالّا كان أو مهتديا مظلوما كان أو ظالما حلال الدم أو حرام الدم أن لا يعملوا عملا و لا يحدثوا حدثا و لا يقدّموا يدا و لا رجلا و لا يبدءوا بشي ء قبل أن يختاروا لأنفسهم إماما عفيفا عالما و رعا عارفا بالقضاء و السنّة، يجمع أمرهم، و يحكم بينهم، و يأخذ للمظلوم من الظالم حقّه، و يحفظ أطرافهم و يجبى فيئهم و يقيم حجّتهم (حجّهم و جمعتهم- البحار) و يجبى صدقاتهم.» «4»

19- و مرّ عن كتاب المحكم و المتشابه نقلا عن تفسير النعماني، عن أمير المؤمنين «ع»: «لا بدّ للأمّة من إمام يقوم بأمرهم، فيأمرهم و ينهاهم و يقيم فيهم الحدود و يجاهد العدوّ و يقسم الغنائم و يفرض الفرائض و يعرّفهم أبواب ما فيه صلاحهم و يحذّرهم ما فيه

______________________________

(1)-

نهج البلاغة، فيض/ 114؛ عبده 1/ 80؛ لح/ 79، الخطبة 34.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 991؛ عبده 3/ 92؛ لح/ 426، الكتاب 53.

(3)- الغرر و الدرر 4/ 318، الحديث 6199.

(4)- كتاب سليم بن قيس/ 182؛ و بحار الأنوار 8/ 555 (ط. القديم).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 17

مضارّهم، إذ كان الأمر و النهي أحد أسباب بقاء الخلق و إلّا سقطت الرغبة و الرهبة، و لم يرتدع و لفسد التدبير و كان ذلك سببا لهلاك العباد. فتمام أمر البقاء و الحياة في الطعام و الشراب و المساكن و الملابس و المناكح من النساء و الحلال و الحرام، الأمر و النهي، إذ كان- سبحانه- لم يخلقهم بحيث يستغنون عن جميع ذلك، و وجدنا أوّل المخلوقين و هو آدم «ع» لم يتمّ له البقاء و الحياة إلّا بالأمر و النهي.» «1»

20- و في الخبر الطويل الذي رواه عبد العزيز بن مسلم، عن الرضا «ع»: «إنّ الإمامة زمام الدين و نظام المسلمين و صلاح الدنيا و عزّ المؤمنين. إنّ الإمامة أسّ الإسلام النامي و فرعه السامي. بالإمام تمام الصلاة و الزكاة و الصيام و الحج و الجهاد و توفير الفي ء و الصدقات، و إمضاء الحدود و الأحكام، و منع الثغور و الأطراف. الإمام يحلّ حلال اللّه و يحرم حرام اللّه و يقيم حدود اللّه و يذبّ عن دين اللّه و يدعو إلى سبيل ربّه بالحكمة و الموعظة الحسنة و الحجة البالغة.» «2»

21- و في خبر فضل بن شاذان، عن الرضا «ع» الذي مرّ: فإن قال: فلم جعل أولي الأمر و أمر بطاعتهم، قيل: لعلل كثيرة:

منها: أنّ الخلق لمّا وقفوا على حدّ محدود و أمروا أن

لا يتعدوا ذلك الحد لما فيه من فسادهم لم يكن يثبت ذلك و لا يقوم إلّا بأن يجعل عليهم فيه أمينا ... يمنعهم من التعدّي و الدخول فيما حظر عليهم، لأنّه لو لم يكن ذلك كذلك لكان أحد لا يترك لذّته و منفعته لفساد غيره فجعل عليهم قيّما يمنعهم من الفساد و يقيم فيهم الحدود و الأحكام.

و منها: أنّا لا نجد فرقة من الفرق و لا ملّة من الملل بقوا و عاشوا إلّا بقيّم و رئيس، لما لا بدّ لهم منه في أمر الدين و الدنيا، فلم يجز في حكمة الحكيم أن يترك الخلق ممّا يعلم أنّه لا بدّ لهم منه و لا قوام لهم إلّا به فيقاتلون به عدوّهم و يقسمون به فيئهم و يقيم لهم جمعتهم و جماعتهم و يمنع ظالمهم من مظلومهم.

و منها: أنّه لو لم يجعل لهم إماما قيما أمينا حافظا مستودعا لدرست الملّة و ذهب الدين و غيّرت

______________________________

(1)- المحكم و المتشابه/ 50؛ و بحار الأنوار 90/ 41 (طبعة ايران 93/ 41)، كتاب القرآن. و فيه «في أمر البقاء» بدل «فتمام أمر البقاء».

(2)- الكافي 1/ 200، كتاب الحجة، باب نادر جامع في فضل الإمام ...؛ و رواه في تحف العقول/ 438.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 18

السنّة (السنن- العلل). و الأحكام و لزاد فيه المبتدعون و نقص منه الملحدون و شبّهوا ذلك على المسلمين، لأنّا قد وجدنا الخلق منقوصين محتاجين غير كاملين مع اختلافهم و اختلاف أهوائهم و تشتت أنحائهم (حالاتهم- العلل)، فلو لم يجعل لهم قيّما حافظا لما جاء به الرسول لفسدوا على نحو ما بيّنا و غيّرت الشرائع و السنن و الأحكام و

الإيمان و كان في ذلك فساد الخلق أجمعين.» «1»

22- و قد مرّ خبر حنان، عن أبيه، عن أبي جعفر «ع»، قال: قال رسول اللّه «ص»:

«لا تصلح الإمامة إلّا لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي اللّه، و حلم يملك به غضبه، و حسن الولاية على من يلي حتّى يكون لهم كالوالد الرحيم.»

و في رواية أخرى: «حتّى يكون للرعية كالأب الرحيم.» «2»

فيجب أن يكون الوالي على الأمّة بمنزلة الأب الرحيم الذي قد أشرب في قلبه محبّة الأولاد و اللطف بهم فيجبر ضعفهم و نقصهم بقوّته و إمكاناته و لا يواجههم بالخشونة و الغضب.

23- و في خبر سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «اتّقوا الحكومة، فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبيّ (كنبيّ خ. ل) أو وصيّ نبيّ.» «3»

فمن واجبات الإمام فصل الخصومات و رفع المنازعات الواقعة في الأمّة بالحق و العدالة مباشرة أو بالتسبيب.

24- و في كنز العمّال: «على الوالي خمس خصال: جمع الفي ء من حقّه، و وضعه في حقّه، و أن يستعين على أمورهم بخير من يعلم، و لا يجمّرهم فيهلكهم، و لا يؤخّر أمرهم لغد.» (و لا يؤخّر أمر يوم لغد خ. ل) (عق عن وائلة) «4».

قال في النهاية:

______________________________

(1)- عيون أخبار الرضا 2/ 100 (من نسخة مخطوطة مصححة)، الباب 34، الحديث 1؛ و علل الشرائع 1/ 95 (طبعة أخرى 1/ 253)، الباب 182، الحديث 9.

(2)- الكافي 1/ 407، كتاب الحجة، باب ما يجب من حق الإمام على الرعية ...، الحديث 8.

(3)- الوسائل 18/ 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.

(4)- كنز العمال 6/ 47، الباب 1 من كتاب الإمارة و القضاء، الفصل 3

في أحكام الإمارة، الحديث 14789.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 19

«تجمير الجيش: جمعهم في الثغور و حبسهم عن العود إلى أهلهم.» «1»

25- و قد مرّ روايات مستفيضة دالّة على أنّ الإمامة نظام الأمّة، و في بعضها:

«و مكان القيّم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه و يضمّه، فإذا انقطع النظام تفرّق الخرز و ذهب ثمّ لم يجتمع بحذافيره أبدا.» «2»

فعلى إمام المسلمين جمع أمرهم و توحيد كلمتهم و قطع جذور الاختلاف و التفرق عن مجتمعهم حتى يكونوا كيد واحدة على من سواهم و يكون ببركته «مثل المؤمنين في توادّهم و تعاطفهم و تراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه شي ء تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمّى.» «3»

[الآيات و الروايات التي تعرّضت لتكليف المسلمين و إمامهم في السياسة الخارجيّة]

و هاهنا آيات و روايات كثيرة أيضا يستفاد منها تكليف المسلمين و إمامهم في السياسة الخارجيّة و في علاقاتهم مع سائر الأمم و المذاهب نذكر هنا بعضا منها و التفصيل يأتي في فصل مستقل، فانتظر.

26- قال اللّه- تعالى-: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَتَّخِذُوا بِطٰانَةً مِنْ دُونِكُمْ، لٰا يَأْلُونَكُمْ خَبٰالًا. وَدُّوا مٰا عَنِتُّمْ. قَدْ بَدَتِ الْبَغْضٰاءُ مِنْ أَفْوٰاهِهِمْ، وَ مٰا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ. قَدْ بَيَّنّٰا لَكُمُ الْآيٰاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ.» «4»

27- و قال: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصٰارىٰ أَوْلِيٰاءَ، بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ.

وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، إِنَّ اللّٰهَ لٰا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّٰالِمِينَ* فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسٰارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشىٰ أَنْ تُصِيبَنٰا دٰائِرَةٌ. فَعَسَى اللّٰهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلىٰ مٰا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نٰادِمِينَ.» «5»

______________________________

(1)- النهاية لابن الأثير 1/ 292.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 442؛ عبده 2/ 39؛ لح/ 203، الخطبة 146.

(3)- مسند أحمد

4/ 270، عن رسول اللّه «ص».

(4)- سورة آل عمران (3)، الآية 118.

(5)- سورة المائدة (5)، الآية 51 و 52.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 20

إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الناهية عن موالاة الكفّار و موادّتهم.

28- و قال اللّه- تعالى-: «وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا.» «1»

فالعلاقة الموجبة لسلطة الكفّار على المسلمين كما نشاهدها في أعصارنا منهيّ عنها جدّا، و قد أمر اللّه- تعالى- بالقتال و جهاد الكفّار و المنافقين و الغلظة عليهم و إعداد القوّة في قبالهم، كما نطقت بذلك الآيات و الروايات الكثيرة و قد مرّ بعضها في فصل الجهاد من هذا الكتاب، فراجع. هذا.

و في قبال جميع ذلك وردت أدلّة تدلّ على المهادنة و المعاملة معهم بالبرّ و القسط إذا لم يقاتلوا المسلمين في دينهم و لم يخرجوهم من ديارهم:

29- قال اللّه- تعالى-: «لٰا يَنْهٰاكُمُ اللّٰهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقٰاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ، إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّمٰا يَنْهٰاكُمُ اللّٰهُ عَنِ الَّذِينَ قٰاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ وَ ظٰاهَرُوا عَلىٰ إِخْرٰاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ، وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ.» «2»

30- و قال بعد ما أمر بإعداد القوّة في قبال الكفّار: «وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهٰا وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللّٰهِ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.» «3»

31- و قد وادع رسول اللّه «ص» أهل أيلة و كتب لهم: «بسم اللّه الرحمن الرحيم هذه أمنة من اللّه و محمّد النّبيّ رسول اللّه ليوحنّة بن روبة و أهل أيلة و لسفنهم و لسيارتهم و لبحرهم و لبرّهم. ذمّة اللّه و ذمّة محمد النّبيّ «ص» و لمن كان معهم

من كلّ مارّ الناس من أهل الشام و اليمن و أهل البحر ...» «4»

______________________________

(1)- سورة النساء (4)، الآية 141.

(2)- سورة الممتحنة (60)، الآية 8 و 9.

(3)- سورة الانفال (8)، الآية 61.

(4)- الاموال لأبي عبيد/ 258.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 21

32- و في كتاب النبي «ص» لأهل نجران و هم نصارى: «و لنجران و حاشيتها جوار اللّه و ذمّة محمّد النبيّ رسول اللّه على أنفسهم و ملّتهم و أرضهم و أموالهم و غائبهم و شاهدهم و عيرهم و بعثهم و أمثلتهم، لا يغيّر ما كانوا عليه و لا يغيّر حقّ من حقوقهم و أمثلتهم، لا يفتن أسقف من أسقفيّته و لا راهب من رهبانيّته و لا واقه من وقاهيته على ما تحت أيديهم من قليل أو كثير ...» «1»

قال في الأموال:

«الواقه: وليّ العهد بلغتهم.»

33- و في عهد طويل كتبه النبي «ص» لليهود حين ما قدم المدينة: «و إنّ يهود بني عوف أمّة مع المؤمنين، لليهود دينهم، و للمسلمين دينهم، مواليهم و أنفسهم إلّا من ظلم و أثم ...» «2»

و سيأتي تفصيله.

إلى غير ذلك من المعاهدات الواقعة بين رسول اللّه «ص» و بين أهل الكتاب أو بين المشركين، و كذلك ما ورد من الروايات الكثيرة في حرمة أهل الذمّة و حفظ حقوقهم. فإنّه يستفاد من جميع ذلك أنّ الواجب على إمام المسلمين أن تكون علاقته مع سائر الأمم و المذاهب بالقسط و العدل و رعاية الحقوق من الطرفين؛ لا بأن يضيّع حقوقهم المدنيّة و الاجتماعيّة، و لا بأن يتخذوا بطانة و يجعل لهم سبيل و استيلاء على المسلمين في السياسة أو الاقتصاد أو الثقافة أو نحو ذلك. هذا.

فهذه آيات و

روايات كثيرة جمعناها هنا، يستفاد من جميعها سنخ تكاليف الإمام و واجباته في نطاق الإسلام و في تجاه الأمّة.

[العناوين المتحصّلة من الآيات و الروايات في وظائف الحاكم الإسلاميّ]

و المتحصّل من جميعها مع التحفّظ على التعبيرات الواقعة فيها خمسة عشر عنوانا، و لعلّ بعضها متداخلة كما ترى و لكن نذكر الجميع حفظا للتعبيرات:

1- جمع أمر المسلمين و حفظ نظامهم، و منع الثغور و الأطراف، و الدفاع عنهم

______________________________

(1)- فتوح البلدان للبلاذري/ 76 و نحوه في الاموال لأبي عبيد/ 244.

(2)- سيرة ابن هشام 2/ 149.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 22

و قتال مقاتليهم و البغاة عليهم.

2- الإصلاح في البلاد و إيجاد الأمن فيها و في السبل.

3- أن يضع عنهم إصرهم و الأغلال التي كانت عليهم من الرسوم و القيود و العادات و التقاليد الباطلة.

4- أن يعلّمهم الكتاب و السنّة و حدود الإسلام و الإيمان، و يبيّن لهم الحلال و الحرام و ما ينفعهم و يضرّهم.

و يعمّم التعليم و التربية ببثّ المعلّمين فيهم و تأليف الناس جميعا ليرغبوا في تعلّم الدين و التفقّه فيه.

5- إقامة فرائض اللّه و شعائره من الصلاة و الحج و غيرهما، و تأديب الناس على الأخلاق الفاضلة.

6- إقامة السنّة و إماتة البدع، و الذبّ عن دين اللّه و حفظ الشرائع و السنن عن التغيير و التأويل و الزيادة و النقصان.

7- الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بمفهومهما الوسيع، أعني السعي في إشاعة المعروف و بسطه، و مكافحة أنواع المنكر و الظلم و الفساد.

8- منع الظلم و إحقاق حقوق الضعفاء من الأقوياء و إعمال الشدّة في قبال الظالمين.

9- القضاء بالعدل و إقامة حدود اللّه و أحكامه.

10- ردّ ما غصب من بيت المال و الأموال العامّة، و إجراء المساواة

في حكم اللّه و ماله، و رفع التبعيضات الظالمة التي توجب كظّة الظالمين و سغب المظلومين.

11- جباية الفي ء و الصدقات على نحو ما أمر اللّه به و توفيرها على مستحقّيها من الأشخاص و المصارف العامة.

12- تتابع الوعظ و التذكير و الإنذار و التبشير.

13- التمييز بين الأخيار من الناس و الأشرار منهم بإكرام الخير و الإحسان اليه، و تأنيب الشر و مجازاته.

14- إعمال الرفق و العفو في غير ترك الحقّ، فيكون للرعيّة كالوالد الرحيم.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 23

15- حسن العلاقة مع سائر الأمم و المذاهب بالسلم و البرّ و القسط و حفظ الحقوق المتقابلة في النفوس و الملة و الأراضي و الأموال إذا لم يقاتلوا المسلمين و لم يخرجوهم من ديارهم، لا بأن يتّخذهم الوالي بطانة أو يجعل لهم سبيلا على المسلمين و شئونهم.

فهذه خمسة عشر عنوانا لما يجب على الحاكم الإسلامي بالأصالة، اقتبسناها ممّا ذكر من الآيات و الروايات. و لم نرد الاستقصاء فيها، بل ذكر نماذج.

و الجامع لجميع هذه العناوين هو الأمور المتعلّقة بمجتمع المسلمين بما هو مجتمع، أي بنحو العامّ المجموعي لا الاستغراقي، كحفظ نظامهم، و أمن بلادهم و سبلهم، و دفع الأعداء عنهم و إعداد القوى في قبالهم، و تعليمهم و هدايتهم، و إقامة السنة و إماتة البدع و إقامة فرائض اللّه و شعائره فيهم، و إجراء حدود اللّه و أحكامه، و فصل الخصومات بينهم، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و جباية الفي ء و الصدقات و حفظ الأنفال و الأموال العامّة و إيصالها إلى أهلها، و تنظيم علاقتهم مع سائر الأمم و نحو ذلك مما يتعلّق بالمجتمع بما هو مجتمع و لا يكون

متعلّقا بشخص خاص.

و الخطابات الواردة في الكتاب و السنّة في هذا السنخ من الأمور أيضا توجّهت إلى المجتمع كذلك لا بنحو العموم الاستغراقي.

و على هذا فيكون المتصدي لها من يتمثل فيه المجتمع، أعني الحاكم المنتخب من قبل اللّه- تعالى- أو من قبلهم. و لعلّ قول أمير المؤمنين «ع» على ما في نهج البلاغة: «إلّا أن أقيم حقّا أو أدفع باطلا» باختصاره و جامعيّته يعمّ جميع ما ذكرنا، و إن شئت فعبّر «حراسة الدين و سياسة الدنيا»، فتأمّل.

و أمّا تعيين السلطات الثلاث و رعاية المواصفات المعتبرة فيها و مراقبة أعمالها و بعث العيون عليها و نحو ذلك فليست هذه الأمور من أهداف الحكومة و واجباتها بالأصالة، بل هي من قبيل المقدمات الواقعة في طريق تحصيل الأهداف.

و إن شئت قلت: هي قوام الحكومة لا من أهدافها، و البحث فيها يأتي في الفصول الآتية. هذا.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 24

و إذا كانت هذه برامج الحكومة الإسلامية و أهدافها و كان المسؤول المنفّذ لها هو الإمام المعصوم أو الفقيه العادل البصير بالأمور و الواجد لسائر ما ذكرناه من الشروط الثمانية فأيّ شي ء يوجب الوحشة و الفرار منها؟ و هل لا يكون المخالف لإقامتها من عملاء الاستعمار أو ممّن يريد الإقدام على الظلم أو على الفساد و الفحشاء و الفرار من حدود اللّه و أحكامه؟ هذا.

[هنا ظهر أمران]
اشارة

و بما ذكرناه من الآيات و الروايات المبيّنة لتكاليف الحاكم الإسلامي و واجباته يظهر لك أمران:

الأوّل: ان الإمام و الحاكم الإسلامي قائد و مرجع للشئون الدينيّة و السياسية معا،

و ليس الدين منفكا عن السياسة على ما ربّما يسمع من بعض نواعق الاستعمار و أبواقه.

و على التفكيك بينهما أيضا يكون بناء الكنيسة و عملها لما نسبوه إلى السيد المسيح «ع» من قوله: «أعطوا لقيصر ما لقيصر و ما للّه للّه.» «1»

نعم، ساحة الدين الحقّ بريئة من السياسة الحديثة المبنيّة على المكر و الشيطنة و الهضم للحقوق و البراعة في الكذب و الخداع.

و أمّا السياسة بمعنى حفظ نظام المسلمين و حقوقهم و سيادتهم و إصلاح شئونهم العامّة بشعبها المختلفة و الدفاع عنهم على أساس ما أنزل اللّه- تعالى- من الأحكام فهي داخلة في نسج الإسلام و نظامه، كما مرّ بالتفصيل في الباب الثالث من الكتاب.

______________________________

(1)- إنجيل مرقس، الباب 12، الرّقم 17؛ و إنجيل متى، الباب 22، الرّقم 21؛ و إنجيل لوقا، الباب 20، الرّقم 25.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 25

و من الأسف أنه قد يتفوّه بالانفكاك المذكور بعض البسطاء و المقلّدة من المسلمين أيضا ممّن لم يعرف الدين و لا السياسة.

و كيف كان فبالجمع بين الشؤون الدينيّة و السياسيّة في الروايات المذكورة يعرف أنّ إمام المسلمين هو المرجع لهم في دينهم و ثقافتهم و سياستهم و الدفاع عنهم، كما كان كذلك النبي «ص».

نعم، ليس معنى ذلك أنّ الإمام بنفسه يتصدّى لجميع الشؤون بالمباشرة. بل كلّما اتسع نطاق الملك و زادت التكاليف تكثّرت الدوائر و المؤسسات و الأجهزة، و توجد قهرا سلطات تشريعيّة و تنفيذيّة و قضائيّة على أساس الحاجة، و يحال كلّ أمر إلى مؤسّسة تناسبه. و لكنّ الإمام و الحاكم بمنزلة رأس

المخروط يحيط بجميعها و يشرف على الجميع إشرافا تامّا، فهو المسؤول و المكلّف كما يأتي بيان ذلك في بعض الفصول الآتية.

الأمر الثاني: انّ الحاكم إنّما يتصدّى و يتدخّل في الأمور العامّة الاجتماعية التي لا بدّ منها
اشارة

للمجتمع بما هو مجتمع، و لا ترتبط بشخص خاص حتى يكون هو المتصدّي لها.

و أمّا الأمور و الأحوال غير العامّة كالزراعة و الصناعة و التجارة و الأرزاق و المسكن و المصنع و اللباس و الزواج و التعليم و التعلّم و المسافرات و الاحتفالات و نحو ذلك من الأمور المتعلّقة بالأشخاص و العائلات فالناس في انتخابها و انتخاب أنواعها و كيفيّاتها أحرار، و لكلّ منهم أن يختار ما يريده و يهواه ما لم يكن فيه منع شرعي.

فمصالح الأفراد و المجتمعات تقضي بترك الأفراد أحرارا في نشاطاتهم، و يكتفى بمساعدتهم و مراقبتهم فحسب، إذ يساعد ذلك على الابتكار و كثرة الإنتاج و التقدّم،

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 26

و التحديد يوجب أن يفقد الشخص اعتماده على النفس و أن لا يزدهر الاستعدادات في مجالات الحياة.

اللّهم إلّا إذا فرض شي ء منها في مورد خاص موجبا للإضرار بالمجتمع أو ببعض الأفراد؛ فللحاكم حينئذ تحديده في ذلك المورد بمقدار يدفع به الضرر.

و بالجملة، يجب أن يكون البناء في هذه الأمور و الأحوال الشخصيّة على الإطلاق و الحرّية إلّا في موارد الضرورة، لا على المنع و التحديد إلّا بإذن الحكومة.

نعم، يتوقع من الحكومة بل ربما يتعين عليها بالنسبة إلى هذه الأمور التخطيط الكلي و التعليم و الإرشاد و الهداية إلى أنواعها و طرق تحصيلها و بيان أنفعها و الأصلح منها، و الإعانة و إيجاد الإمكانات لها لدى الاحتياج، و المنع عمّا حرّمه اللّه- تعالى- من الربا و الاحتكار و التطفيف و الغشّ و الخيانة و

نحو ذلك. و أمّا الإجبار على بعض الأنواع و سلب الحرّيات فمخالف لطبع الأمّة و لمذاق الشرع إلّا مع الضرورة. هذا.

و لكنّك تشاهد أنّ أكثر الحكومات الدارجة في أعصارنا ربّما يتدخّلون في هذه الأمور و يحدّدون الاختيارات و الحريّات التي جعلها اللّه- تعالى- في طباع البشر.

و يوجب تدخّلهم ذلك:

أولا: كراهة الأمّة و بغضاءها في قبال الحكومة.

و ثانيا: كثرة العصيان و الهتك لها.

و ثالثا: احتياج الحكومة إلى استخدام موظّفين كثيرين للتدخّل و التحديد و المراقبة.

و رابعا: إلى وضع ضرائب كثيرة فوق طاقة الأشخاص لمصارف الموظّفين و أجهزتهم. فلا تنتج هذه التدخّلات إلّا البغضاء و التنافر و الخصام المتتابع بين الحكومة و بين الأمّة بلا ضرورة.

هذا مضافا إلى أنّ سلب الحرية في الأمور الإنتاجيّة و الصناعية و التحديد فيها كما أشرنا إليه يوجب قلّة الإنتاج جدّا، فإنّ العلاقة النفسية و الحرية الطبيعية أقوى باعث يحفز الإنسان إلى الصناعة و الإنتاج و تحمّل المشاقّ في سبيلهما.

و من الأسف أنّ أكثر هذه التحديدات و التدخّلات إنّما تقع في بعض البلاد

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 27

الإسلاميّة و الحكومات الدارجة فيها. و ربّما تقع بإلقاء شياطين الاستعمار و إيحائهم إلى عملائهم، أو بتقليد بعض البسطاء من الحكّام لبعض آخر. مع أنّك ترى أن رءوس الكفر و الاستعمار قد أطلقوا أممهم و تابعوا أهواءهم، فهل لا يكون هذا إلّا نحو مكر مكروه لعدم راحة الأمّة الإسلاميّة و عدم استقرار نظامهم و عدم ثبات دويلاتهم؟! فاعتبروا يا أولي الأبصار! هذا.

و أسوأ من هذه التدخّلات و التحديدات مباشرة الدولة بنفسها للزراعة و التجارة و الصناعات؛ فقد عقد ابن خلدون في مقدّمته فصلا بديعا بعنوان أنّ التجارة من

السلطان مضرّة بالرعايا مفسدة للجباية.

و محصل كلامه:

«أنّ تصدي السلطان للتجارة و الفلاحة غلط عظيم، و إدخال الضرر على الرعايا من وجوه متعدّدة، و منها أنّ له القدرة و المال الكثير فيجعل السوق تحت قبضته و اختياره، فلا يحصل أحد من التجار على غرضه في شي ء من حاجاته فيدخل على النفوس من ذلك غمّ و نكد، و يدخل به على الرعايا من العنت و المضايقة و فساد الأرباح ما يقبض آمالهم عن السعي و يؤدّي إلى فساد الجباية، فإنّه إذا انقبض الفلّاحون عن الفلاحة و قعد التجّار عن التجارة ذهبت الجباية جملة أو دخلها النقص المتفاحش. و إذا قايس السلطان بين ما يحصل له من الجباية و بين هذه الأرباح وجدها بالنسبة إلى الجباية أقلّ من القليل. ثمّ فيه التعرّض لأهل عمرانه و اختلال الدولة بفسادهم و نقصه، فإنّ الرعايا إذا قعدوا عن تثمير أموالهم بالفلاحة و التجارة نقصت و تلاشت بالنفقات، و كان فيها إتلاف أحوالهم.» «1»

هذا.

و لنذكر مثالين من تحديد النبي «ص» و تدخّله بما أنّه كان واليا و حاكما في هذا السنخ من الأمور مقتصرا على قدر الضرورة:

______________________________

(1)- مقدمة ابن خلدون/ 197، الفصل 41 من الفصل 3 من الكتاب الأوّل (طبعة أخرى/ 281، الفصل 40).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 28

[مثالين في تدخّل النبي «ص» بما أنّه كان واليا في الأمور الاجتماعية الصغيرة]
الأوّل:

ما رواه في الوسائل بسنده، عن علي بن أبي طالب «ع» أنّه رفع الحديث إلى رسول اللّه «ص» أنّه «ص» مرّ بالمحتكرين، فأمر بحكرتهم أن تخرج إلى بطون الأسواق و حيث تنظر الأبصار إليها. فقيل لرسول اللّه «ص»: لو قوّمت عليهم، فغضب رسول اللّه «ص» حتّى عرف الغضب في وجهه، فقال: أنا أقوّم عليهم؟! إنّما السعر إلى

اللّه؛ يرفعه إذا شاء و يخفضه إذا شاء.» «1»

و في رواية حذيفة، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «نفد الطعام على عهد رسول اللّه «ص»، فأتاه المسلمون فقالوا: يا رسول اللّه، قد نفد الطعام و لم يبق منه شي ء إلّا عند فلان فمره ببيعه. قال: فحمد اللّه و أثنى عليه ثمّ قال: يا فلان، إنّ المسلمين ذكروا أنّ الطعام قد نفد إلّا شي ء عندك فأخرجه و بعه كيف شئت و لا تحبسه.» «2»

فانظر انّه «ص» بمقتضى الضرورة ألزم البيع في مورد الاحتكار و لكنّه لم يسعّر، إذ لم تكن فيه ضرورة في ذلك العصر، فأحال ذلك إلى ما تقتضيه طبيعة العرض و الطلب. و يأتي منّا البحث في مسألة الاحتكار و التسعير في فصل مستقل، فانتظر.

الثاني:

ما رواه المشايخ الثلاثة بسند معتبر، عن زرارة، عن أبي جعفر «ع» قال: «إنّ سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار، و كان منزل الأنصاري بباب البستان فكان يمرّ به إلى نخلته و لا يستأذن. فكلّمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء، فأبى سمرة، فلمّا تأبّى

______________________________

(1)- الوسائل 12/ 317، الباب 30 من أبواب آداب التجارة، الحديث 1.

(2)- الوسائل 12/ 317، الباب 29 من أبواب آداب التجارة، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 29

جاء الأنصاري إلى رسول اللّه «ص» فشكا إليه و خبّره الخبر، فأرسل إليه رسول اللّه «ص» و خبّره بقول الأنصاري و ما شكا و قال: إذا أردت الدخول فاستأذن، فأبى، فلمّا أبى ساومه حتّى بلغ به من الثمن ما شاء اللّه، فأبى أن يبيع، فقال: لك بها عذق يمدّ لك (مذلّل- يب) في الجنة، فأبى أن يقبل.

فقال

رسول اللّه «ص» للأنصاري: اذهب فاقلعها وارم بها إليه، فإنّه لا ضرر و لا ضرار.» «1»

و في رواية أخرى لزرارة عنه «ع» نحوه، و فيه: «فقال له رسول اللّه «ص» خلّ عنه و لك مكانه عذق في مكان كذا و كذا. فقال: لا. قال: فلك اثنان. قال: لا أريد. فلم يزل يزيده حتّى بلغ عشرة أعذاق. فقال: لا. قال: فلك عشرة أعذاق في مكان كذا و كذا. فأبى. فقال:

خلّ عنه و لك مكانه عذق في الجنّة. قال: لا أريد. فقال له رسول اللّه «ص»: إنّك رجل مضارّ، و لا ضرر و لا ضرار على مؤمن. الحديث» «2»

و الظاهر أنّ المراد بالضرر هو النقص في المال أو في النفس، و الضرار أعمّ منه، فيشمل مطلق التضييق. أو انّ الضرر فعل الواحد، و الضرار فعل الاثنين كما في النهاية. «3» و قيل غير ذلك. و العذق كفلس: النخلة و بالكسر: العرجون بما فيه من الشماريخ.

و كيف كان فهو «ص» لم يأمر بقلع الشجرة في بادئ الأمر، بل أمر بالاستيذان، ثمّ ساومه حتّى بلغ به من الثمن عشرة أعذاق، فلمّا أبى ذلك و أبى العذق في الجنة أيضا و رأى منه اللجاجة اضطرّ إلى الحكم بقلع الشجرة لقلع جذر الفساد و قطع رجاء المفسد.

فإن قلت: لم لم يحكم هو «ص» بالبيع جبرا و قهرا عليه فإن الحاكم وليّ الممتنع؟

______________________________

(1)- الوسائل 17/ 341، الباب 12 من أبواب إحياء الموات، الحديث 3.

(2)- الكافي 5/ 294، كتاب المعيشة، باب الضرار، الحديث 8.

(3)- النهاية لابن الأثير 3/ 81.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 30

قلت: يظهر من معاملة سمرة مع رسول اللّه «ص» و الأنصاري أنه لم يكن

يتعبّد بالبيع و رفع المزاحمة عن الأنصاري و إن حكم به النبي «ص» و دفع إليه الثمن، فتدبّر. هذا.

و في مسند أحمد بن حنبل روى بسنده عن عبادة بن الصامت، عن رسول اللّه «ص» حديثا طويلا يشتمل على قضايا كثيرة و فيه: «و قضى أن لا ضرر و لا ضرار.» «1»

و هل يراد بقوله: «لا ضرر» نفي الضرر ادعاء، يعني نفي الحكم الضرري، أو يكون نهيا إلهيّا نظير سائر النواهي الشرعية، أو يكون نهيا ولائيا من قبل النبيّ الأكرم «ص» كما ربّما يشهد بذلك التعبير بالقضاء منه «ص»، فيكون نظير سائر النواهي الصادرة في مقام إعمال الولاية؟ وجوه. و للبحث فيه محل آخر.

و كيف كان فالأحكام الولائية الصادرة عن اضطرار إنّما تتقدّر بقدر الاضطرار و الضرورة.

______________________________

(1)- مسند أحمد 5/ 327.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 31

الفصل الثاني في الشورى

اشارة

و فيها جهات من البحث:

1- اهتمام الإسلام بالاستشارة:

[التشاور و القرآن]

لا يخفى أنّ بناء الحكم الإسلامي على إعمال التشاور و تبادل الآراء في الأمور، و الاجتناب عن الاستبداد و الديكتاتورية.

و الإسلام- على ما يظنّ- أوّل نظام قانوني حثّ على الشورى في مجال الحكم و تدبير الأمور، حينما كان العصر عصر الحكومات الاستعبادية الديكتاتورية.

فترى في القرآن الكريم سورة باسم الشورى عدّ فيها التشاور في الأمور في عداد الفرائض و الخلقيات المرغّب فيها، فقال- تعالى-: «وَ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبٰائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَوٰاحِشَ، وَ إِذٰا مٰا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ* وَ الَّذِينَ اسْتَجٰابُوا لِرَبِّهِمْ، وَ أَقٰامُوا الصَّلٰاةَ، وَ أَمْرُهُمْ شُورىٰ بَيْنَهُمْ، وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ.» «1»

______________________________

(1)- سورة الشورى (42)، الآية 37 و 38.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 32

و قد بلغت الشورى من الأهميّة بحيث أمر اللّه- تعالى- نبيّه الأكرم «ص» مع عصمته و اتّصاله بمنبع الوحي أن يشاور أصحابه و يحصّل آراءهم، و استمرت سيرته «ص» على ذلك و إن كان العزم و القرار النهائي له «ص».

فقال- تبارك و تعالى-: «وَ شٰاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، فَإِذٰا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّٰهِ، إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ.» «1»

و لفظ الأمر و إن كان بحسب اللغة و المفهوم يعمّ جميع الشؤون الفردية و الاجتماعيّة من السياسة و الاقتصاد و الثقافة و الدفاع، و تحسن المشاورة أيضا في جميع ذلك حتى في الشؤون الفرديّة المهمة، و لكن المتبادر منه و المتيقّن هو الحكومة و الإمارة بشعبها التي من أهمّها مسألة الحرب و الدفاع، كما يشهد بذلك ما عن رسول اللّه «ص»: «لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة.» «2» و ما عن أمير المؤمنين «ع»: «فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة. الحديث.» «3» و ما عن

الإمام المجتبى «ع» في كتابه إلى معاوية: «ولّاني المسلمون الأمر بعده.» «4» إلى غير ذلك من موارد استعمال كلمة الأمر.

و وقوع قوله- تعالى-: «و شاورهم في الأمر» في سياق الآيات الحاكية عن غزوة أحد لا يدلّ على اختصاص الكلمة بالحرب و الأمور الدفاعية، و لا على اختصاص مشاورة النبي «ص» بها، و إن كانت الحرب بنفسها من أهمّ شئون الحكومة و من أحوجها إلى التشاور. هذا.

و ينبغي أن يزداد إعجابنا بهذا الدستور القرآني إذا مثّلنا لعقولنا الوضع الحاكم في تلك الأعصار في الحكومات الدارجة، حيث لم يكن لعامّة الناس وعي سياسي يحفزهم إلى التدخل في الأمور و مطالبته، و كان للحكّام عند أكثرهم قداسة ذاتية تقربهم من الآلهة و تفرض التسليم لهم بلا نقد و اعتراض، و المسلمون كانوا خاضعين لرسول اللّه «ص» لا يتوقّعون منه «ص» تشريكهم في الأمر و الحكم؛ ففي هذا الظرف

______________________________

(1)- سورة آل عمران (3)، الآية 159.

(2)- صحيح البخاري 3/ 91، كتاب المغازي، باب كتاب النبي «ص» إلى كسرى و قيصر.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 51؛ عبده 1/ 31؛ لح/ 49، الخطبة 3.

(4)- مقاتل الطالبيين/ 36.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 33

تشاهد القرآن الكريم يؤكّد على مشاورة النبي «ص» المسلمين و على مشاورة بعضهم بعضا لتصير الشورى أساسا خالدا في الشريعة الإسلامية.

و السرّ في ذلك أنّ الشورى توجب تبادل الأفكار و تلاقحها و اتضاح الأمر و اطمينان الخاطر بعدم الاشتباه و الخطأ.

ففي الأمور المهمّة نظير تدبير أمور الأمّة و مسائل الحرب و الدفاع و نحوها لا محيص عنها و لعلّ تركها يكون ظلما على المجتمع و الأمّة.

نعم، تعيين شخص الإمام إن وقع من قبل اللّه- تعالى-

أو من قبل الرسول الأكرم أو الإمام المعصوم فلا يبقى معه مجال للشورى في أصله، فإنّ أمر اللّه حاكم على كلّ شي ء و قد مرّ بالتفصيل، فراجع. هذا.

و أمّا الأخبار الواردة في الحثّ على الشورى و الاهتمام بها

ففي غاية الكثرة من طرق الفريقين، فلنذكر بعضها:

1- ما رواه في العيون عن الرضا «ع» بإسناده عن النبي «ص»، قال: من جاءكم يريد أن يفرّق الجماعة و يغصب الأمّة أمرها و يتولّى من غير مشورة فاقتلوه، فإن اللّه قد أذن ذلك.» «1»

يظهر من الحديث الاهتمام بالمشورة في التصدّي لأصل الولاية أو في اعمالها، و لعلّ الثاني أظهر.

هذا و لكن الظاهر أنّ جواز القتل يرتبط بتفريق الجماعة و غصب أمر الأمّة، لا بترك المشورة فقط، فتدبّر.

2- ما رواه الترمذي بسنده عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه «ص»: «إذا كانت أمراؤكم خياركم و أغنياؤكم سمحاءكم و أموركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها ...» «2» و رواه في تحف العقول أيضا عن النبي «ص» «3».

______________________________

(1)- عيون أخبار الرضا 2/ 62، الباب 31، الحديث 254.

(2)- سنن الترمذي 3/ 361، أبواب الفتن، الباب 64، الحديث 2368.

(3)- تحف العقول/ 36.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 34

3- ما رواه في البحار عن الخصال، عن الصادق «ع»، قال: «لا يطمعنّ القليل التجربة المعجب برأيه في رئاسة.» «1»

4- ما رواه في الوسائل عن أبي هريرة، قال: سمعت أبا القاسم «ع» يقول:

«استرشدوا العاقل و لا تعصوه فتندموا.» «2»

5- و فيه أيضا عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: فيما أوصى به رسول اللّه «ص» عليا «ع» قال: «لا مظاهرة أوثق من المشاورة، و لا عقل كالتدبير.» «3»

أقول: التدبير: ملاحظة دبر الشي ء و عاقبته.

6- و فيه أيضا عن جعفر بن

محمد، عن أبيه «ع»، قال: «قيل: يا رسول اللّه، ما الحزم؟ قال: مشاورة ذوي الرأي و اتباعهم.» «4»

7- و فيه أيضا عن معمر بن خلاد، قال: هلك مولى لأبي الحسن الرضا «ع» يقال له: سعد، فقال له: أشر عليّ برجل له فضل و أمانة، فقلت: أنا أشير عليك؟ فقال شبه المغضب: «إنّ رسول اللّه «ص» كان يستشير أصحابه ثمّ يعزم على ما يريد.» «5»

يظهر من الحديث أنّ الاستشارة كانت من سيرة النبي «ص» و كان يداوم عليها.

8- و في نهج البلاغة: «لا مظاهرة أوثق من المشاورة.» «6»

9- و فيه أيضا: «من استبدّ برأيه هلك، و من شاور الرجال شاركها في عقولها.» «7»

______________________________

(1)- بحار الأنوار 72/ 98 (طبعة ايران 75/ 98)، كتاب العشرة، الباب 48، الحديث 2.

(2)- الوسائل 8/ 409، الباب 9 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 1.

(3)- الوسائل 8/ 424، الباب 21 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 2.

(4)- الوسائل 8/ 424، الباب 21 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 1.

(5)- الوسائل 8/ 428، الباب 24 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 1.

(6)- نهج البلاغة، فيض/ 1139؛ عبده 3/ 177؛ لح/ 488، الحكمة 113.

(7)- نهج البلاغة، فيض/ 1165؛ عبده 3/ 192؛ لح/ 500، الحكمة 161.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 35

10- و فيه أيضا: «و الاستشارة عين الهداية، و قد خاطر من استغنى برأيه.» «1»

11- و فيه أيضا: «من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ.» «2»

12- و فيه أيضا: «فلا تكلّموني بما تكلّم به الجبابرة، و لا تتحفّظوا منّي بما يتحفّظ به عند أهل البادرة و لا تخالطوني بالمصانعة، و لا تظنّوا بي استثقالا في حقّ قيل لي، و لا التماس إعظام لنفسي،

فإنّه من استثقل الحقّ أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفّوا عن مقالة بحقّ أو مشورة بعدل، فإنّي لست بفوق أن أخطئ و لا آمن ذلك من فعلي إلّا أن يكفي اللّه من نفسي ما هو أملك به منّي.» «3»

فليتنبّه شيعة أمير المؤمنين المدّعون للاقتداء به، و ليتدبّروا في هذه الكلمات الصادرة عن باب علم النبي «ص» و أخيه و وزيره، و لا يستنكفوا عن المشاورة و لا يستثقلوا عن الحقّ الذي ربّما يقال لهم، حتّى ممّن هو دونهم بحسب العناوين الرسميّة الاعتباريّة.

13- فروى الحسن بن جهم، قال: «كنّا عند أبي الحسن الرضا «ع» فذكر أباه «ع» فقال: كان عقله لا توازن به العقول و ربّما شاور الأسود من سودانه. فقيل له تشاور مثل هذا؟ فقال: إنّ اللّه- تبارك و تعالى- ربّما فتح على لسانه. قال: فكانوا ربّما أشاروا عليه بالشي ء فيعمل به من الضيعة و البستان.» «4»

14- و في آخر الفقيه في وصية أمير المؤمنين «ع» لابنه محمد بن الحنفية: «اضمم آراء الرجال بعضها إلى بعض ثم اختر أقربها إلى الصواب و أبعدها من الارتياب.» (إلى أن قال): «قد خاطر بنفسه من استغنى برأيه و من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ.» «5»

______________________________

(1)- نهج البلاغة/ فيض/ 1181؛ عبده 3/ 200؛ لح/ 506، الحكمة 211.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 1169؛ عبده 3/ 193؛ لح/ 501، الحكمة 173.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 686؛ عبده 2/ 226؛ لح/ 335، الحكمة 216.

(4)- الوسائل 8/ 428، الباب 24 من ابواب احكام العشرة، الحديث 3.

(5)- الفقيه 4/ 385 و 388، باب النوادر، الحديث 5834.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 36

15- و في الغرر و الدرر للآمدي عن أمير المؤمنين «ع»: «أفضل الناس رأيا من لا يستغني عن رأي مشير.» «1»

16- و فيه أيضا: «إنّما حضّ على المشاورة لأنّ رأي المشير صرف و رأي المستشير مشوب بالهوى.» «2»

17- و فيه أيضا: «حقّ على العاقل أن يضيف إلى رأيه رأي العقلاء و يضمّ إلى علمه علوم الحكماء.» «3»

18- و فيه أيضا: «من لزم المشاورة لم يعدم عند الصواب مادحا و عند الخطأ عاذرا.» «4»

إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة الواردة في هذا الباب.

و قال قائل في هذا الشأن:

اقرن برأيك رأي غيرك و استشر فالحق لا يخفى على الاثنين للمرإ مرآة تريه وجهه و يرى قفاه بجمع مرآتين

و قال آخر:

شاور سواك إذا نابتك نائبة يوما و إن كنت من أهل المشورات فالعين تنظر منها ما دنا و نأى و لا ترى نفسها إلّا بمرآة

هذا.

و الظاهر أنّ عمدة مشاورة النبي الأكرم «ص» كانت مع وجوه القبائل لجلب أنظارهم و إعطاء الشخصيّة لهم و إظهار الاعتماد عليهم، و لا محالة كانت نفس هذا العمل من أقوى العوامل المؤثّرة في قوّة عزمهم و تحرّكهم و متابعتهم في جميع المراحل.

و أمّا غيره «ص» من الحكّام غير المعصومين فاللازم أن يكون لهم مشاورون

______________________________

(1)- الغرر و الدرر 2/ 429، الحديث 3152.

(2)- الغرر و الدرر 3/ 92، الحديث 3908.

(3)- الغرر و الدرر 3/ 408، الحديث 4920.

(4)- الغرر و الدرر 5/ 406، الحديث 8956.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 37

أخصّائيون في الأمور العامّة المهمّة من السياسة و الاقتصاد و الثقافة و الدفاع، فيطرح لهم المسائل و يطلب منهم تبادل الآراء و استحصال الفكر الصحيح في كل مسألة

و تنظيم البرامج و الخطوط الكليّة لإدارة النفوس و البلاد.

و ليحذر الحاكم من الإعجاب بالنفس و بأفكار نفسه، بل يستمع الآراء المختلفة و يقلّب وجوه الرأي، و بعد التأمّل و التعمّق فيها يختار ما هو الأصلح في مجالات الحكم، و لا يتبادر إلى التصميم و القرار قبل المشاورة و تبادل الأفكار و تلاقحها، فإنّ الجواد قد يكبو و الصارم قد ينبو، و ضرر الخطأ و الاشتباه من العظيم عظيم.

نعم، لما كان المسؤول و المكلّف هو الحاكم فالملاك بعد المشاورة و استماع الأنظار المختلفة هو تشخيص نفسه، و لا يتعيّن عليه متابعة الأكثريّة، و لا يلزم من ذلك كون الشورى بلا فائدة، إذ يترتّب عليها مضافا إلى جلب أنظار المشاورين و إعطاء الشخصيّة لهم نضج الفكر و الاطلاع على جوانب الأمر و عواقبه حتّى يختار ما هو الأصلح بعد التأمّل في الأنظار المختلفة و المقايسة بينها.

و في نهج البلاغة: «و قال- عليه السلام- لعبد اللّه بن العباس و قد أشار عليه في شي ء لم يوافق رأيه: لك أن تشير عليّ و أرى، فإن عصيتك فأطعني.» «1»

و بالجملة فالإمام أو الأمير المسؤول هو الذي يختار و يعزم بعد إنضاج الفكر بالمشاورة.

و اعتبار الأكثريّة إنّما يكون فيما إذا كان المسؤول هو الأمّة أو أهل الحلّ و العقد، كما في انتخاب الإمام أو الممثّلين، و كما في التقنين في مجلس الشورى؛ ففي هذه الموارد يكون الملاك آراء الجميع أو الأكثريّة، كما لا يخفى.

و أمّا جعل الإمامة و الولاية للشورى لا للشخص- كما قد يتلقّى بألسنة بعض المتثقّفين و كنت أنا أيضا في مجلس الخبراء مدافعا عن هذه الفكرة- فالظاهر أنّه مخالف لسيرة العقلاء و المتشرعة، و ليس أمرا صالحا

لإدارة البلاد و العباد و لا سيّما في

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 1239؛ عبده 3/ 230؛ لح/ 531، الحكمة 321.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 38

المواقع الحسّاسة الخطيرة، حيث يتوقّف مضيّ الأمور فيها على وحدة مركز القرار و التصميم.

و عن أمير المؤمنين «ع»: «الشركة في الملك تؤدي إلى الاضطراب.» «1»

و اللّه- تعالى- خاطب نبيّه «ص» فقال: «وَ شٰاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، فَإِذٰا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّٰهِ.» فجعل العزم و القرار في النهاية لشخص النبي الأكرم «ص» فتأمّل.

______________________________

(1)- الغرر و الدرر 2/ 86، الحديث 1941.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 39

2- مواصفات من يستشار

1- معاوية بن وهب، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «استشر في أمرك الذين يخشون ربهم.» «1»

2- الحسين بن المختار، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: قال علي «ع»: «شاور في حديثك الذين يخافون اللّه.» «2»

3- سليمان بن خالد، قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: «استشر العاقل من الرجال الورع، فإنّه لا يأمر إلّا بخير، و إيّاك و الخلاف، فإنّ مخالفة الورع العاقل مفسدة في الدين و الدنيا.» «3»

4- منصور بن حازم، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: قال رسول اللّه «ص»: «مشاورة العاقل الناصح رشد و يمن و توفيق من اللّه، فإذا أشار عليك الناصح العاقل فإيّاك و الخلاف، فإنّ في ذلك العطب.» «4»

5- المعلى بن خنيس، قال: قال أبو عبد اللّه «ع»: «ما يمنع أحدكم إذا ورد عليه ما لا قبل له به أن يستشير رجلا عاقلا له دين و ورع، ثمّ قال أبو عبد اللّه «ع»: أما إنّه إذا فعل ذلك لم يخذله اللّه بل يرفعه اللّه و رماه بخير الأمور و

أقربها إلى اللّه.» «5»

______________________________

(1)- الوسائل 8/ 426، الباب 22 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 3.

(2)- الوسائل 8/ 426، الباب 22 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 4.

(3)- الوسائل 8/ 426، الباب 22 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 5.

(4)- الوسائل 8/ 426، الباب 22 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 6.

(5)- الوسائل 8/ 426، الباب 22 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 7.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 40

6- الحلبي، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: قال: إنّ المشورة لا تكون إلّا بحدودها، فمن عرفها بحدودها و إلّا كانت مضرّتها على المستشير أكثر من منفعتها له، فأوّلها أن يكون الذي تشاوره عاقلا، و الثانية أن يكون حرّا متديّنا، و الثالثة أن يكون صديقا مؤاخيا، و الرابعة أن تطلعه على سرّك فيكون علمه به كعلمك بنفسك، ثمّ يسرّ ذلك و يكتمه. فإنّه إذا كان عاقلا انتفعت بمشورته، و إذا كان حرّا متديّنا أجهد نفسه في النصيحة لك، و إذا كان صديقا مؤاخيا كتم سرّك إذا اطلعته عليه، و إذا اطلعته على سرّك فكان علمه به كعلمك به تمّت المشورة و كملت النصيحة.» «1»

و قد نقلنا هذه الأخبار الستة من الوسائل.

7- و في الغرر و الدرر: «أفضل من شاورت ذو التجارب، و شرّ من قارنت ذو المعايب.» «2»

8- و فيه أيضا: «جهل المشير هلاك المستشير.» «3»

9- و فيه أيضا: «خير من شاورت ذووا النهى و العلم و أولوا التجارب و الحزم.» «4»

10- و في نهج البلاغة في كتابه «ع» لمالك الاشتر: «و لا تدخلنّ في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل و يعدك الفقر، و لا جبانا يضعفك عن الأمور، و لا حريصا يزيّن لك الشره

بالجور؛ فإنّ البخل و الجبن و الحرص غرائز شتّى يجمعها سوء الظنّ باللّه.» «5»

11- الحسن بن راشد، قال: قال أبو عبد اللّه «ع»: «يا حسن، إذا نزلت بك نازلة فلا تشكها إلى أحد من أهل الخلاف، و لكن اذكرها لبعض إخوانك، فإنّك لن تعدم خصلة من خصال أربع: إمّا كفاية بمال، و إمّا معونة بجاه، أو دعوة تستجاب، أو مشورة برأي.» «6»

______________________________

(1)- الوسائل 8/ 426، الباب 22 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 8.

(2)- الغرر و الدرر 2/ 456، الحديث 3279.

(3)- الغرر و الدرر 3/ 367، الحديث 4767.

(4)- الغرر و الدرر 3/ 428، الحديث 4990.

(5)- نهج البلاغة، فيض/ 998؛ عبده 3/ 97؛ لح/ 430، الكتاب 53.

(6)- الوسائل 2/ 631، الباب 6 من أبواب الاحتضار، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 41

12- و في البحار عن العلل بسنده عن عمّار الساباطي، قال: قال أبو عبد اللّه «ع»: «يا عمّار، إن كنت تحبّ أن تستتبّ لك النعمة و تكمل لك المروّة و تصلح لك المعيشة فلا تستشر العبد و السفلة في أمرك؛ فإنّك إن ائتمنتهم خانوك، و إن حدّثوك كذبوك، و إن نكبت خذلوك، و إن و عدوك موعدا لم يصدقوك.» «1»

13- و قد مرّ في حديث وصايا النبي «ص» لعليّ: «يا عليّ ليس على النساء جمعة و لا جماعة ... و لا تستشار.» «2»

14- و مرّ عن نهج البلاغة في كتاب أمير المؤمنين «ع» إلى ابنه الحسن «ع»:

«إيّاك و مشاورة النساء، فإنّ رأيهنّ إلى أفن و عزمهنّ إلى وهن.» «3»

إلى غير ذلك من الأخبار، فراجع.

______________________________

(1)- بحار الأنوار 72/ 99 (طبعة ايران 75/ 99)، كتاب العشرة، الباب 48، الحديث 9.

(2)- الفقيه 4/

364، باب النوادر، الحديث 5762.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 938؛ عبده 3/ 63؛ لح/ 405، الكتاب 31.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 42

3- حقّ المستشير على المشير و بالعكس

1- تحف العقول في رسالة الحقوق المروية عن علي بن الحسين «ع»: «و أمّا حقّ المستشير فإن حضرك له وجه رأي جهدت له في النصيحة و أشرت عليه بما تعلم أنّك لو كنت مكانه عملت به. و ذلك ليكن منك في رحمة و لين، فإنّ اللين يؤنس الوحشة، و إنّ الغلظ يوحش موضع الأنس. و إن لم يحضرك له رأي و عرفت له من تثق برأيه و ترضى به لنفسك دللته عليه و أرشدته اليه، فكنت لم تأله خيرا و لم تدّخره نصحا، و لا حول و لا قوّة إلّا باللّه.

و أمّا حقّ المشير عليك فلا تتهمه فيما لا يوافقك عليه من رأيه إذا أشار عليك. فإنّما هي الآراء و تصرّف الناس فيها و اختلافهم، فكن عليه في رأيه بالخيار إذا اتّهمت رأيه، فأمّا تهمته فلا تجوز لك إذا كان عندك ممّن يستحقّ المشاورة. و لا تدع شكره على ما بدا لك من إشخاص رأيه و حسن وجه مشورته، فإذا وافقك حمدت اللّه و قبلت ذلك من أخيك بالشكر و الإرصاد بالمكافأة في مثلها إن فزع إليك، و لا قوّة إلّا باللّه.» «1»

2- و في سنن أبي داود بسنده عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه «ص»:

«المستشار مؤتمن.» «2»

و مثله في سنن ابن ماجة عن أبي هريرة، و كذا عن أبي مسعود عنه «ص». و في سفينة البحار عن أمير المؤمنين «ع» «3».

3- و في سفينة البحار للمحدث القمي عن أبي عبد اللّه «ع»: «من استشار أخاه

______________________________

(1)-

تحف العقول/ 269.

(2)- سنن أبي داود 2/ 626، كتاب الادب، باب في المشورة.

(3)- سنن ابن ماجة 2/ 1233، كتاب الأدب، الباب 37، الحديث 3745 و 3746؛ و سفينة البحار 1/ 718.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 43

فلم يمحضه محض الرأي سلبه اللّه- عزّ و جلّ- رأيه.» و رواه في الوسائل إلّا أنّه قال:

«فلم ينصحه محض الرأي.» «1»

4- و في الغرر و الدرر: «ظلم المستشير ظلم و خيانة.» «2»

5- و فيه أيضا: «على المشير الاجتهاد في الرأي و ليس عليه ضمان النجح.» «3»

6- و فيه أيضا: «من غشّ مستشيره سلب تدبيره.» «4»

______________________________

(1)- سفينة البحار 1/ 718، باب الشين بعده الواو؛ و الوسائل 8/ 427، الباب 23 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 2.

(2)- الغرر و الدرر 4/ 272، الحديث 6037.

(3)- الغرر و الدرر 4/ 316، الحديث 6194.

(4)- الغرر و الدرر 5/ 217، الحديث 8055.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 44

4- ذكر بعض موارد استشارة النبي «ص» تتميما للفائدة

الأوّل في غزوة البدر:

ففي كتاب المغازي للواقدي:

«قالوا: و مضى رسول اللّه «ص» حتّى إذا كان دوين بدر أتاه الخبر بمسير قريش، فأخبرهم رسول اللّه «ص» بمسيرهم و استشار رسول اللّه «ص» الناس، فقام أبو بكر فقال فأحسن، ثمّ قام عمر فقال فأحسن، ثمّ قال: يا رسول اللّه، إنّها و اللّه قريش و عزّها، و اللّه ما ذلّت منذ عزّت، و اللّه ما آمنت منذ كفرت، و اللّه لا تسلم عزّها أبدا، و لتقاتلنّك، فاتّهب لذلك اهبته و أعدّ لذلك عدّته. ثمّ قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول اللّه، امض لأمر اللّه؛ فنحن معك. و اللّه لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيّها: «فاذهب أنت و ربّك فقاتلا، إنّا

هاهنا قاعدون.» «1» و لكن اذهب أنت و ربّك فقاتلا، إنّا معكما مقاتلون. و الذي بعثك بالحقّ لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك- و برك الغماد من وراء مكّة بخمس ليال من وراء الساحل ممّا يلي البحر و هو على ثمان ليال من مكّة إلى اليمن- فقال له رسول اللّه خيرا و دعا له بخير. ثمّ قال رسول اللّه «ص»: أشيروا عليّ أيّها الناس! و إنّما يريد رسول اللّه «ص» الأنصار. و كان يظن أنّ الأنصار لا تنصره إلّا في الدار، و ذلك أنّهم شرطوا له أن يمنعوه ممّا يمنعون منه أنفسهم و أولادهم. فقال رسول اللّه «ص»: أشيروا عليّ. فقام سعد بن معاذ فقال: أنا أجيب عن الأنصار،

______________________________

(1)- سورة المائدة (5)، الآية 24.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 45

كأنّك يا رسول اللّه تريدنا. قال: أجل. قال: إنّك عسى أن تكون خرجت عن أمر قد أوحي إليك في غيره، و إنا قد آمنّا بك و صدقناك، و شهدنا أنّ كلّ ما جئت به حقّ و أعطيناك مواثيقنا و عهودنا على السمع و الطاعة، فامض يا نبيّ اللّه، فو الذي بعثك بالحقّ لو استعرضت هذا البحر فخضته لخضناه معك ما بقي منا رجل، وصل من شئت، و اقطع من شئت، و خذ من أموالنا ما شئت، و ما أخذت من أموالنا أحبّ إلينا ممّا تركت. و الذي نفسي بيده ما سلكت هذا الطريق قطّ، و مالي بها من علم، و ما نكره أن يلقانا عدوّنا غدا، إنّا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، لعلّ اللّه يريك منّا ما تقرّ به عينك ... قالوا فلمّا فرغ سعد من المشورة قال

رسول اللّه «ص»: سيروا على بركة اللّه، فإنّ اللّه قد وعدني إحدى الطائفتين، و اللّه لكأنّي أنظر إلى مصارع القوم. قال: و أرانا رسول اللّه «ص» مصارعهم يومئذ.» «1»

و روى نحوه علي بن إبراهيم في تفسيره في تفسير سورة الأنفال «2».

و في مسند أحمد:

«استشار رسول اللّه «ص» الناس في الأسارى يوم بدر.» «3»

الثاني في غزوة أحد:

ففي سيرة ابن هشام:

«قال رسول اللّه «ص» للمسلمين: إني قد رأيت و اللّه خيرا؛ رأيت بقرا، و رأيت في ذباب سيفي ثلما، و رأيت انّي أدخلت يدي في درع حصينة، فأوّلتها المدينة ... فإن رأيتم

______________________________

(1)- المغازي 1/ 48.

(2)- تفسير علي بن إبراهيم/ 238.

(3)- مسند أحمد 3/ 243.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 46

أن تقيموا بالمدينة و تدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا بشرّ مقام، و إن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها. و كان رأي عبد اللّه بن أبيّ بن سلول مع رأي رسول اللّه «ص»؛ يرى رأيه في ذلك و ألّا يخرج إليهم، و كان رسول اللّه «ص» يكره الخروج.

فقال رجال من المسلمين ممّن أكرم اللّه بالشهادة يوم أحد و غيره ممّن كان فاته بدر: يا رسول اللّه، اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنّا جبنّا عنهم و ضعفنا.

فقال عبد اللّه بن أبيّ بن سلول: يا رسول اللّه، أقم بالمدينة لا تخرج إليهم؛ فو اللّه ما خرجنا منها إلى عدوّ لنا قطّ إلّا أصاب منا و لا دخلها علينا إلّا أصبنا منه ...

فلم يزل الناس برسول اللّه «ص» الذين كان من أمرهم حبّ لقاء القوم حتّى دخل رسول اللّه «ص» بيته فلبس لأمته ... ثمّ خرج عليهم و قد ندم الناس، و قالوا:

استكرهنا رسول اللّه «ص» و

لم يكن لنا ذلك. فلمّا خرج عليهم رسول اللّه «ص» قالوا: يا رسول اللّه، استكرهناك و لم يكن ذلك لنا، فإن شئت فاقعد، صلى اللّه عليك. فقال رسول اللّه «ص»: ما ينبغي لنبيّ إذا لبس لأمته أن يضعها حتّى يقاتل.

فخرج رسول اللّه «ص» في ألف من أصحابه.» «1»

و في المغازي بعد نقل رؤيا النبيّ:

«و قال النبي «ص»: أشيروا عليّ. و رأى رسول اللّه «ص» ألّا يخرج من المدينة لهذه الرؤيا.» ثمّ ذكر القصّة بالتفصيل، فراجع «2».

فهو «ص» مع ما كان يرى من عدم الخروج من المدينة لمّا رأى إصرار أكثر أصحابه على الخروج و حرصهم على الشهادة في سبيل اللّه ترك رأي نفسه و تابع رأيهم، حرصا على حفظ حرمتهم و إبقاء لروح الإيثار و الشجاعة المحياة في نفوسهم.

______________________________

(1)- سيرة ابن هشام 3/ 66.

(2)- المغازي للواقدي 1/ 209.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 47

الثالث في غزوة الأحزاب (الخندق):

ففي المغازي:

«ندب رسول اللّه «ص» الناس و أخبرهم خبر عدوّهم، و شاورهم في أمرهم بالجدّ و الجهاد، و وعدهم النصر إن هم صبروا و اتّقوا، و أمرهم بطاعة اللّه و طاعة رسوله، و شاورهم رسول اللّه «ص». و كان رسول اللّه «ص» يكثر مشاورتهم في الحرب، فقال: أ نبرز لهم من المدينة، أم نكون فيها و نخندقها علينا، أم نكون قريبا و نجعل ظهورنا إلى هذا الجبل؟ فاختلفوا؛ فقالت طائفة: نكون مما يلي بعاث إلى ثنيّة الوداع، إلى الجرف، فقال قائل: ندع المدينة خلوفا، فقال سلمان يا رسول اللّه، إنا إذ كنّا بأرض فارس و تخوفنا الخيل خندقنا علينا، فهل لك يا رسول اللّه أن نخندق؟

فأعجب رأي سلمان المسلمين و ذكروا حين دعاهم النبي «ص» يوم

أحد أن يقيموا و لا يخرجوا، فكره المسلمون الخروج و أحبّوا الثبات في المدينة.» «1»

الرابع في غزوة الأحزاب أيضا:

حينما اشتدّ الأمر على رسول اللّه «ص» و أصحابه:

ففي المغازي أيضا ما ملخّصه:

«حصر رسول اللّه «ص» و أصحابه بضع عشرة حتّى خلص إلى كلّ امرئ منهم الكرب، فأرسل رسول اللّه «ص» إلى عيينة بن حصن و إلى الحارث بن عوف و قال لهما: أ رأيت إن جعلت لكم ثلث تمر المدينة ترجعان بمن معكم و تخذّلان بين الأعراب؟

______________________________

(1)- المغازي للواقدي 1/ 444، (الجزء الثاني).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 48

قالا: تعطينا نصف تمر المدينة، فأبى رسول اللّه «ص» أن يزيدهما على الثلث، فرضيا بذلك.

و جاءا في عشرة من قومهما حين تقارب الأمر، فجاءوا و قد أحضر رسول اللّه «ص» أصحابه، و أحضر الصحيفة و الدواة.

فأقبل أسيد بن حضير إلى رسول اللّه «ص» فقال: يا رسول اللّه، إن كان أمرا من السماء فامض له، و إن كان غير ذلك فو اللّه لا نعطيهم إلّا السيف، متى طمعوا بهذا منّا؟

فأسكت رسول اللّه «ص» و دعا سعد بن معاذ و سعد بن عبادة، فاستشارهما في ذلك و هو متكئ عليهما و القوم جلوس، فتكلم بكلام يخفيه، و أخبرهما بما قد أراد من الصلح.

فقالا: إن كان أمرا من السماء فامض له، و إن كان أمرا لم تؤمر فيه و لك فيه هوى فامض لما كان لك فيه هوى، فسمعا و طاعة، و إن كان إنّما هو الرأي فما لهم عندنا إلّا السيف، و أخذ سعد بن معاذ الكتاب.

فقال رسول اللّه «ص»: إنّي رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة فقلت: أرضيهم و لا أقاتلهم.

فقالا: يا رسول اللّه، إن كانوا ليأكلون

العلهز في الجاهلية من الجهد، ما طمعوا بهذا منّا قط أن يأخذوا تمرة إلّا بشرى أو قرى! فحين أتانا اللّه- تعالى- بك، و أكرمنا بك، و هدانا بك نعطى الدنيّة! لا نعطيهم أبدا إلّا السيف.

فقال رسول اللّه «ص»: شقّ الكتاب. فتفل سعد فيه ثم شقّه، و قال: بيننا السيف.» «1»

و في النهاية:

«العلهز: هو شي ء يتّخذونه في سني المجاعة، يخلطون الدم بأوبار الإبل ثمّ يشوونه بالنار و يأكلونه، و قيل: كانوا يخلطون فيه القردان.» «2»

______________________________

(1)- المغازي للواقدي 1/ 477، (الجزء الثاني).

(2)- النهاية لابن الأثير 3/ 293.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 49

أقول: الظاهر أنّ ما كان منه «ص» أوّلا مع عيينة و الحارث لم يكن إلّا مجرد المقاولة و المفاوضة، و لم يكن غرضه «ص» إلّا حفظ كيان الأنصار و حقن دمائهم، فلمّا رأى قوّتهم و شدّة بأسهم أحال الأمر إليهم. فهو «ص» لم يخلف وعدا جازما و لا أقدم على ما لا يصحّ، بل أخذ بعد المشاورة بما ظهر كونه أصلح.

و كيف كان فالظاهر كما مرّ أنّ عمدة مشاورة النبي «ص» كانت مع وجوه القبائل لجلب أنظارهم و إظهار الاعتماد عليهم، تقوية لعزمهم و تحرّكهم، و إلّا فهو «ص» كان متّصلا بمنبع الوحي و كان الحقّ واضحا له. فما كان استشارته «ص» أمّته إلّا وزان استشارة اللّه إيّاه: ففي مسند أحمد، عن حذيفة، عنه «ص» أنّه قال: «إنّ ربّي- تبارك و تعالى- استشارني في أمّتي ما ذا أفعل بهم؟ فقلت:

ما شئت أي ربّ، هم خلقك و عبادك. فاستشارني الثانية، فقلت له كذلك، فقال: لا أحزنك في أمّتك. الحديث.» «1»

الخامس في قصة الحديبية:

ففي سنن البيهقي بسنده عن المسوّر بن مخرمة و مروان بن

الحكم، قالا:

خرج رسول اللّه «ص» زمن الحديبية في بضع عشرة مأئة من أصحابه، حتّى إذا كانوا بذي الحليفة قلّد رسول اللّه «ص» الهدي و أشعره و أحرم بالعمرة، و بعث بين يديه عينا له من خزاعة يخبره عن قريش.

و سار رسول اللّه «ص» حتّى إذا كان بوادي الأشطاط قريب من عسفان أتاه عينه الخزاعي فقال: إني تركت كعب بن لؤي و عامر بن لؤي قد جمعوا لك الأحابيش و جمعوا لك جموعا و هم مقاتلوك و صادّوك عن البيت.

______________________________

(1)- مسند أحمد 5/ 393.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 50

فقال النبي «ص»: أشيروا عليّ، أ ترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم، فإن قعدوا قعدوا موتورين محزونين و إن نجوا تكن عنقا قطعها اللّه، أو ترون أن نؤمّ البيت فمن صدّنا عنه قاتلناه؟

فقال أبو بكر: اللّه و رسوله أعلم يا نبيّ اللّه، إنّما جئنا معتمرين و لم نجئ نقاتل أحدا، و لكن من حال بيننا و بين البيت قاتلناه.

فقال النبي «ص» فروحوا إذا. قال الزهري: و كان أبو هريرة يقول: ما رأيت أحدا قطّ كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول اللّه.» «1»

السادس في غزوة الطائف:

و بعد ما حاصر رسول اللّه «ص» الطائف «قيل إنّه استشار نوفل بن معاوية الدئلي في المقام عليهم، فقال: يا رسول اللّه ثعلب في جحر؛ إن أقمت عليه أخذته، و إن تركته لم يضرّك، فأذّن بالرحيل.» «2»

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 2، ص: 50

إلى غير ذلك من الموارد التي ربما يعثر

عليها المتتبع.

______________________________

(1)- سنن البيهقي 9/ 218. كتاب الجزية، باب المهادنة على النظر للمسلمين.

(2)- الكامل لابن الأثير 2/ 267، (في ذكر حصار الطائف).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 51

الفصل الثالث في أنّ المسؤول في الحكومة الإسلاميّة هو الإمام، و السلطات الثلاث أياديه و أعضاده

اعلم أنّ المستفاد من الآيات و الروايات التي مرّت في بيان تكاليف الحاكم و كذلك من سيرة النبي «ص» و أمير المؤمنين «ع» هو أنّ الإمام و الحاكم في الحكومة الإسلامية يكون هو المكلّف و المسؤول لحفظ كيان المسلمين و تدبير أمورهم و إصلاح شئونهم على أساس ضوابط الإسلام و مقرراته.

فهو المكلف بإصلاح الملك و المسؤول عن فساده.

و لكنّه إذا اتّسعت حيطة ملكه و الاحتياجات و التكاليف المتوجّهة إليه احتاج قهرا إلى تكثير المشاورين و الأيادي و العمّال في شتّى الدوائر المختلفة، و لا محالة يفوّض كلّ أمر إلى فرد متخصّص أو دائرة تناسبه. و من هنا تنشأ السلطات الثلاث.

فليس وزان الحاكم الإسلامي وزان الملك في الحكومة المشروطة الدارجة في أعصارنا في بعض البلاد كإنكلترا مثلا، حيث ترى أنّه لا يكون إلّا وجودا تشريفيا يتمتّع من أعلى الإمكانيات و أغلاها من دون أن يتحمّل أيّة مسئوليّة علمية أو

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 52

نشاطية نافعة، و إنّما تتوجّه المسؤوليّات و التكاليف من أوّل الأمر إلى السلطات الثلاث.

و بالجملة، فالمسؤول و المكلّف في الحكومة الإسلاميّة هو الإمام الصلاة و الحاكم، و السلطات الثلاث أياديه و أعضاده، و يكون هو بمنزلة رأس المخروط مشرفا على الجميع شرافا تامّا.

1- ففي خبر عبد العزيز بن مسلم، عن الرضا «ع»: «بالإمام تمام الصلاة و الزكاة و الصيام و الحج و الجهاد و توفير الفي ء و الصدقات و إمضاء الحدود و الأحكام

و منع الثغور و الأطراف.

الإمام يحلّ حلال اللّه و يحرّم حرام اللّه و يقيم حدود اللّه و يذبّ عن دين اللّه ...» «1»

2- و مرّ في خبر فضل بن شاذان، عن الرضا «ع» في حكمة جعل الإمام:

«فجعل عليهم قيّما يمنعهم من الفساد و يقيم فيهم الحدود و الأحكام ... فيقاتلون به عدوّهم و يقسّمون به فيئهم و يقيم لهم جمعتهم و جماعتهم و يمنع ظالمهم من مظلومهم.» «2»

3- و في خبر المحكم و المتشابه عن أمير المؤمنين «ع»: «لا بدّ للأمّة من إمام يقوم بأمرهم، فيأمرهم و ينهاهم و يقيم فيهم الحدود و يجاهد فيهم العدوّ و يقسّم الغنائم و يفرض الفرائض و يعرفهم أبواب ما فيه صلاحهم و يحذّرهم ما فيه مضارهم ...» «3»

4- و في خبر سليم عنه «ع»: «يختاروا لأنفسهم إماما عفيفا عالما و رعا عارفا بالقضاء و السنّة يجمع أمرهم و يحكم بينهم، و يأخذ للمظلوم من الظالم حقّه، و يحفظ أطرافهم و يجبي فيئهم و يقيم حجّتهم (حجّهم و جمعتهم- البحار) و يجبي صدقاتهم.» «4»

إلى غير ذلك ممّا ورد في بيان واجبات الإمام و تكاليفه، حيث يظهر منها أن

______________________________

(1)- الكافي 1/ 200، كتاب الحجة، باب نادر جامع في فضل الإمام، الحديث 1.

(2)- عيون أخبار الرضا 2/ 101، الباب 34، الحديث 1.

(3)- المحكم و المتشابه/ 50؛ و في بحار الأنوار 90/ 41 (طبعة ايران 93/ 41)، كتاب القرآن، باب ما ورد في أصناف آيات القرآن. و لكن في البحار: «و يجاهد العدوّ»، بدل «و يجاهد فيهم العدوّ».

(4)- كتاب سليم بن قيس/ 182.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 53

المسؤول هو الإمام و الحاكم، و قد نسب

جميع الأعمال و النشاطات إليه.

5- و يشهد لذلك أيضا ما رواه الكليني بسنده عن المعلّى بن خنيس، قال:

قلت لأبي عبد اللّه «ع» يوما: جعلت فداك، ذكرت آل فلان و ما هم فيه من النعيم، فقلت: لو كان هذا إليكم لعشنا معكم. فقال «ع»: هيهات يا معلّى، أما و اللّه لو كان ذاك ما كان إلّا سياسة الليل و سياحة النهار و لبس الخشن و أكل الجشب، فزوي ذلك عنا. فهل رأيت ظلامة قطّ صيّرها اللّه- تعالى- نعمة إلّا هذه؟» «1»

فالمعلّى تمنّى أن تكون الحكومة للإمام الصادق «ع» ليعيش هو أيضا في ضوئها مرفّها، و الامام «ع» نبّهه على خطأه و اشتباهه و أنّه لو كان الأمر كذلك كان على الإمام صرف الليل في التدبير و السياسة و ترسيم الخطوط، و صرف النهار في التحرك و السياحة للإشراف على المسؤولين و الموظّفين و الاطلاع على أوضاع البلاد و العباد، و مع هذا كلّه يكون في المعيشة في سطح ضعفة الناس بلبس الخشن و أكل الجشب.

6- و في وصية الإمام الكاظم «ع» لهشام بن الحكم: «و يجب على الوالي أن يكون كالراعي لا يغفل عن رعيّته و لا يتكبّر عليهم.» «2»

7- و في كتاب أمير المؤمنين «ع» لمالك حين ولّاه مصر بعد ذكر العمّال و انتخابهم قال: «ثمّ تفقّد أعمالهم، و ابعث العيون من أهل الصدق و الوفاء عليهم. فإنّ تعاهدك في السرّ لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة و الرفق بالرعيّة، و تحفّظ من الأعوان. فإنّ أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا فبسطت عليه العقوبة في بدنه و أخذته بما أصاب من عمله، ثمّ نصبته بمقام المذلّة

و وسمته بالخيانة و قلّدته عار التّهمة.» «3»

______________________________

(1)- الكافي 1/ 410، كتاب الحجة، باب سيرة الإمام في نفسه ...، الحديث 2.

(2)- تحف العقول/ 394.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 1011؛ عبده 3/ 106؛ لح/ 435، الكتاب 53.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 54

8- و فيه أيضا: «و اجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرغ لهم فيه شخصك و تجلس لهم مجلسا عامّا فتتواضع فيه للّه الذي خلقك، و تقعد عنهم جندك و أعوانك من أحراسك و شرطك، حتّى يكلّمك متكلّمهم غير متتعتع، فإنّي سمعت رسول اللّه «ص» يقول في غير موطن: «لن تقدّس أمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقّه من القويّ غير متتعتع.»

ثمّ احتمل الخرق منهم و العيّ، و نحّ عنهم الضيق و الأنف يبسط اللّه عليك بذلك أكناف رحمته و يوجب لك ثواب طاعته. و أعط ما أعطيت هنيئا، و امنع في إجمال و إعذار.

ثمّ أمور من أمورك لا بدّ لك من مباشرتها؛ منها: إجابة عمّا لك بما يعيا عنه كتّابك. و منها:

إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك بما تحرج به صدور أعوانك.» «1»

أقول: التعتعة في الكلام: التردّد فيه من عجز. و الخرق بالضم: العنف و الشدة. و العيّ بالكسر: العجز عن النطق. و الأنف محركة: الاستنكاف و الاستكبار. و أكناف الرحمة: أطرافها. و تخرج: تضيق.

9- و فيه أيضا: «و مهما كان في كتّابك من عيب فتغابيت عنه الزمته.» «2»

10- و في نهج البلاغة أيضا في كتاب له «ع» إلى عبد اللّه بن عباس عامله على البصرة: «فاربع ابا العباس- رحمك اللّه- فيما جرى على لسانك و يدك من خير و شر؛ فإنّا شريكان في ذلك، و كن عند صالح ظنّي

بك و لا يفيلنّ «3» رأيي فيك. و السّلام.» «4»

إلى غير ذلك من الروايات الدالة على مسئولية الإمام بشخصه، و منها الحديث النبويّ المشهور المرويّ من طرق السنة الذي رواه البخاري و مسلم و أحمد و غيرهم:

11- ففي البخاري بسنده عن عبد اللّه بن عمر، قال: سمعت رسول اللّه «ص» يقول: «كلّكم راع، و كلكم مسئول عن رعيّته: الإمام راع و مسئول عن رعيّته، و الرجل راع في

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 1021؛ عبده 3/ 112؛ لح/ 439، الكتاب 53.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 1016؛ عبده 3/ 109؛ لح/ 437، الكتاب 53.

(3)- قال: أخطأ و ضعف.

(4)- نهج البلاغة، فيض/ 868؛ عبده 3/ 21؛ لح/ 376، الكتاب 18.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 55

أهله و هو مسئول عن رعيّته، و المرأة راعية في بيت زوجها و مسئولة عن رعيّتها، و الخادم راع في مال سيّده و مسئول عن رعيّته. قال: و حسبت أن قد قال: و الرجل راع في مال أبيه و مسئول عن رعيّته، و كلّكم راع و مسئول عن رعيّته.» «1»

و روى نحوه مسلم، و أحمد، فراجع «2».

و بالجملة، يظهر من جميع هذه الروايات أنّ الإمام و الحاكم الإسلامي هو المسؤول و المكلّف بإدارة الأمور العامّة؛ فالوزراء و العمّال و الكتّاب و الجنود و القضاة أعوانه و أياديه، و يجب عليه الإشراف عليهم و على أعمالهم، و ليس له سلب المسؤوليّة عن نفسه.

و قد صرّح بما ذكرناه الماوردي و أبو يعلى، حيث ذكرا فيما يلزم الإمام من الأمور العامّة مباشرة نفسه بمشارفة الأمور:

قال الماوردي في عداد ما يلزم الإمام:

«العاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور و تصفّح الأحوال، لينهض بسياسة الأمّة

و حراسة الملّة. و لا يعوّل على التفويض تشاغلا بلذّة أو عبادة؛ فقد يخون الأمين و يغشّ الناصح، و قد قال اللّه- تعالى-: «يٰا دٰاوُدُ، إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، فَاحْكُمْ بَيْنَ النّٰاسِ بِالْحَقِّ، وَ لٰا تَتَّبِعِ الْهَوىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ.» فلم يقتصر اللّه- سبحانه- على التفويض دون المباشرة و لا عذره في الاتّباع حتّى وصفه بالضلال.

و هذا و إن كان مستحقّا عليه بحكم الدين و منصب الخلافة فهو من حقوق السياسة لكلّ مسترع. قال النبي «ص»: «كلّكم راع و كلّكم مسئول عن رعيّته.» ...» «3»

______________________________

(1)- صحيح البخاري 1/ 160، كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى و المدن.

(2)- صحيح مسلم 3/ 1459، كتاب الإمارة، الباب 5، الحديث 1829؛ و مسند أحمد 2/ 111.

(3)- الأحكام السلطانيّة للماوردي/ 16؛ و ذكر أبو يعلى أيضا نحو ذلك في الأحكام السلطانيّة/ 28.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 57

الفصل الرّابع في بيان إجمالي لأنواع السلطات و الدوائر في الحكومة الإسلامية

اشارة

و هو مع بساطته فصل طويل.

قد عرفت في مطاوي بعض الفصول السابقة أنّه ليس معنى ولاية الإمام أو الفقيه تصدّيه بنفسه لجميع الأعمال و الشؤون مباشرة، بل كلّما اتّسع نطاق الملك و تكثّرت الاحتياجات و التكاليف تكثّرت السلطات و الدوائر و فوّض كلّ أمر إلى دائرة تناسبه. و لكنّ الإمام أو الفقيه الواجد للشرائط بمنزلة رأس المخروط يشرف على جميعها إشرافا تامّا و هو المسؤول العالي و هو الذي تتوقّع منه الأمّة سياسة البلاد و العباد. و سائر المسؤولين بمراتبهم أياديه و أعضاده.

و أصول السلطات في الحكومة ثلاثة: التشريعية و التنفيذية و القضائية.

إذ تدبير أمور الأمّة يتوقّف أوّلا: على ترسيم الخطوط الكليّة و تعيين المقرّرات.

و ثانيا: على إجراء المقرّرات و الخطوط المعيّنة في شتّى الأمور

الواجبة على الحكومة.

و ثالثا: على فصل خصومات الأمّة و القضاء بينهم في المنازعات. فإلى هذه

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 58

السلطات الثلاث يرجع جميع تكاليف الحاكم في نطاق حكومته حتّى إن دائرة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الحسبة و الإذاعة و التلفزيون أيضا تعدّ من شعب التنفيذ. و إنّما عدّ القضاء سلطة مستقلّة لأنّ شأنه الحكم لا التنفيذ و الإجراء، و للاهتمام بشأنه، و لأنّ المقصود عموم سلطته حتّى بالنسبة إلى أعضاء سلطة التنفيذ و التشريع أيضا، و لذا يحال تعيين القضاة إلى نفس الإمام لا رئيس سلطة التنفيذ، فتدبّر، و بالجملة، فهنا سلطات ثلاث:

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 59

الأولى: السلطة التشريعيّة و فيها جهات من البحث:

1- في بيان الحاجة إليها و حدودها و تكاليفها:
اشارة

فنقول: قد اصطلح على هذه السلطة في عصرنا مجلس الشورى و القوة المقنّنة، و تعدّ من أهمّ الأركان في الحكومات الديموقراطية الدارجة.

و الحاجة إليها مع فرض اتساع نطاق الملك و كثرة الحوادث الواقعة و الحاجة إلى ترسيم المخطّطات الكثيرة في غاية الوضوح لا نحتاج فيها إلى بيان.

لكن لا يخفى عليك وجود التفاوت الأساسي بين السلطة التشريعيّة في الحكومة الإسلاميّة، و بين ما تعارف في الحكومات الدارجة العصريّة: إذ النوّاب في الحكومات الدارجة لا يلتزمون بشي ء إلّا بما يرونه مصلحة لناخبيهم فقط، و يبدعون القوانين على حسب أهوائهم و إن باينت العقل و الشرع.

و أمّا في الحكومة الإسلاميّة فالأساس هو ضوابط الإسلام و أحكام اللّه- تعالى- النازلة على رسوله الأكرم «ص» في شتّى المسائل المرتبطة بالحياة بشؤونها المختلفة.

و لا يحقّ لأحد و إن بلغ ما بلغ من العلم و الثقافة و القدرة أن يشرّع حكما أو يبدع قانونا بارتجال. حتّى إنّ النبيّ

الأكرم «ص» بعلوّ شأنه و قربه من اللّه- تعالى- أيضا يكون تابعا لما أنزله اللّه- تعالى- حاكما على أساسه.

قال اللّه- تعالى-: «إِنِ الْحُكْمُ إِلّٰا لِلّٰهِ.»* و قال: «أَلٰا لَهُ الْحُكْمُ.» «1»

______________________________

(1)- سورة الأنعام (6)، الآية 57 و 62.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 60

و قال: «وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ وَ لٰا تَتَّبِعْ أَهْوٰاءَهُمْ، وَ احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ إِلَيْكَ ... أَ فَحُكْمَ الْجٰاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ، وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّٰهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ؟» «1»

و ما سمعت منّا سابقا من تقسيم الأحكام إلى أحكام إلهية كان الرسول داعيا إليها و واسطة لإبلاغها، و كانت الأوامر الصادرة عنه في بيان هذه الأحكام أوامر إرشاديّة محضة، و إلى أحكام سلطانية مولويّة صدرت عنه بما أنّه كان وليّ أمر المسلمين و حاكمهم، فليس معنى ذلك أنّه «ص» كان يحكم في القسم الثاني بما يريده و يهواه، و أنّه كان له أن يحكم بأحكام مضادّة لأحكام اللّه- تعالى- ناسخة لها. بل الظاهر أنّ القسم الثاني كان أحكاما عادلة موسمية من قبيل الصغريات و المصاديق للأحكام الكليّة الشاملة النازلة من قبل اللّه- تعالى- على قلبه الشريف.

فالروح الحاكم على مجتمع المسلمين ليس إلّا ما أنزله اللّه- تعالى- حتّى فيما ربّما نسمّيها بالأحكام الثانوية، فإنّها أيضا مستفادة من كبريات كليّة أنزلها اللّه- تعالى- على نبيّه، فتدبّر. هذا.

و المأخذ لأحكام اللّه- تعالى-، كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، و السنّة القويمة، و العقل الخالي عن شوائب الأوهام و التعصّبات الكاشف عن حكم اللّه- تعالى-. و المستخرج لها من هذه المآخذ هم الفقهاء الأمناء على حلاله و

حرامه.

و ليس عمل مجلس الشورى في الحكومة الإسلاميّة إلّا المشاورة في ترسيم الخطوط و البرامج الصحيحة العادلة للبلاد و العباد و لا سيّما القوّة التنفيذية على أساس ضوابط الإسلام المستخرجة باجتهاد الفقهاء.

فللحكم الشرعي ثلاث مراحل:
الأولى: مرحلة التشريع.

و هو حقّ للّه- تعالى- الذي يملك البلاد و العباد،

______________________________

(1)- سورة المائدة (5)، الآية 49 و 50.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 61

و يطّلع على مصالحهم و مفاسدهم و مضارّهم و منافعهم. و لا يشركه في ذلك أحد من خلقه.

الثانية: مرحلة استنباط الأحكام و استخراجها من منابعها الصحيحة،

و الإفتاء بها. و مرجعها الفقهاء العدول.

الثالثة: مرحلة ترسيم الخطوط الكليّة

و البرامج الصحيحة للبلاد و المسؤولين على ضوء الفتاوى المستخرجة من قبل الفقهاء. لا بتطبيق قوانين الإسلام كيف ما كان على المشاكل و أهواء الأمّة، بل بتطبيق المشاكل و الحوادث الواقعة على قوانين الإسلام بواقعيتها و قداستها، و بين الطريقين بون بعيد، كما لا يخفى.

نعم، يعتبر فيها فهم الوقائع و الحوادث و ادراك حقيقتها أيضا، لاختلاف الأحكام الشرعيّة بتفاوت الوقائع قهرا.

فقوانين الإسلام و مقرراته هي الأساس، و المسلمون جميعا لها تبع في شتّى المسائل من العبادة و الثقافة و الاقتصاد و السياسة و نحو ذلك، و ليس لمجلس الشورى التخلّف عنها.

و بالجملة ليس لمجلس الشورى في الحكومة الإسلامية التقنين و التشريع بارتجال أو على حسب أهواء الأمّة، بل على أساس ضوابط الإسلام.

و لا يلزم من ذلك ضيق المجال أو انسداد الطرق في بعض الأحيان، إذ الإسلام بجامعيّته و خاتميّته قد التفت إلى جميع جوانب الحياة و حاجاتها، و جميع الظروف و الحالات حتّى موارد الضرر و الضرورة، و العسر و الحرج، و تزاحم الموضوعات و الملاكات و نحو ذلك.

و قد مرّ عن النبي «ص» أنّه قال في خطبته في حجة الوداع: «يا أيّها الناس و اللّه ما من شي ء يقرّبكم من الجنّة و يباعدكم من النار إلّا و قد أمرتكم به. و ما من شي ء يقرّبكم من النار و يباعدكم من الجنّة إلّا و قد نهيتكم عنه.» «1»

______________________________

(1)- أصول الكافي 2/ 74، كتاب الإيمان و الكفر، باب الطاعة و التقوى، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 62

و في صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه «ع»: قال أمير المؤمنين «ع»:

«الحمد للّه

الذي لم يخرجني من الدنيا حتى بينت للأمّة جميع ما تحتاج إليه.» «1»

و في خبر حماد، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: سمعته يقول: «ما من شي ء إلّا و فيه كتاب أو سنّة.» «2»

و في خبر المعلّى بن خنيس، قال: قال أبو عبد اللّه «ع»: «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلّا و له أصل في كتاب اللّه- عزّ و جلّ-، و لكن لا تبلغه عقول الرجال.» «3»

إلى غير ذلك من الأخبار، فراجع.

2- انتخاب النوّاب لمجلس الشورى:

قد عرفت في الفصل السابق أنّ المسؤول و المكلّف في الحكومة الإسلاميّة هو الإمام و الحاكم و أنّ السلطات الثلاث بمراتبها أياديه و أعضاده.

و على هذا فطبع الموضوع يقتضي أن يكون انتخاب أعضاء مجلس الشورى بيده و باختياره، لينتخب من يساعده في العمل بتكاليفه.

نعم، لمّا كان الغرض من مجلس الشورى التشاور و اتخاذ القرار في الأمور العامّة المتعلّقة بالأمّة، فلو أمكن أن يفوّض إليها انتخاب الأعضاء و تكون السلطة التشريعية منبثقة عن إرادتها و اختيارها كاختيار نفس الوالي عند عدم النصّ كان ذلك أولى و أوقع في نفوس الأمّة و أدعى لهم إلى الاحترام بالقرارات المتّخذة و التسليم في قبالها، بل يجري ذلك في انتخاب بعض الوزراء و الأمراء أيضا كما هو المتعارف في بعض البلاد.

______________________________

(1)- تهذيب الأحكام 6/ 319، آخر كتاب القضايا و الأحكام، باب الزيادات، الحديث 86.

(2)- الكافي 1/ 59، كتاب فضل العلم، باب الردّ إلى الكتاب و السّنة، الحديث 4.

(3)- الكافي 1/ 60، كتاب فضل العلم، باب الردّ إلى الكتاب و السنّة، الحديث 6.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 63

و لعلّ آية الشورى و قاعدة السلطنة و توجّه الخطابات القرآنية المتضمّنة للأمور العامّة كآيات

القتال و الجهاد و إعداد القوى و حدّ السرقة و الزنا و نحو ذلك إلى المجتمع أيضا تناسب ذلك.

إذ الأمر إذا كان أمر الأمّة و التكليف تكليفها فالتصميم و اتخاذ القرار فيه أيضا يناسب أن يكون من قبل ممثّلي الأمّة.

و لكن الإمام العادل لو رأى عدم تهيّؤ الأمّة لانتخاب الأعضاء أو لم يكن لهم رشد و وعي سياسي لانتخاب الرجال الصالحين أو كانوا في معرض التهديدات و التطميعات و اشتراء آرائهم بذلك كان للإمام الذي فرض علمه و عدله و حسن ولايته انتخاب الأعضاء بنفسه. اللّهم إلّا أن يشترط عليه حين انتخابه على القول بصحّته كون انتخاب فريق الشورى بيد الأمّة لا بيده، فتدبّر.

ثمّ إنّ اتفاق الآراء في مجلس الشورى ممّا لا يحصل غالبا، فلا محالة يكون الاعتبار بآراء الأكثريّة كما هو المتعارف في جميع الاجتماعات و الأحزاب السياسيّة.

و الإشكال في ذلك بلزوم سحق حقوق الأقليّة و ضياع حقوق الغيّب يظهر الجواب عنه بما مرّ مستقصى في مسألة انعقاد الإمامة بانتخاب الأمّة، فراجع الفصل السادس من الباب الخامس.

3- مواصفات الناخبين و المنتخبين:

لا إشكال في أنّ الناخب يعتبر فيه البلوغ و العقل و الرشد الفكري بحيث يقدر على تشخيص من يكون أصلح لتحمّل هذه المسؤوليّة الخطيرة المتعلّقة بمصالح الأمّة.

و اللازم في المنتخب أن يكون بالغا عاقلا متدينا و رعا عالما بزمانه مطلعا على حاجات الأمّة شجاعا قادرا على أخذ التصميم و القرار.

و قد مرّ في الفصل الثاني أخبار مستفيضة تدلّ على مواصفات من يستشار.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 64

و سيأتي في هذا الفصل شرائط الوزراء و العمّال.

و كأنّ النائب في مجلس الشورى مشاور و عامل، فيعتبر فيه مواصفات كليهما.

و لكنّك ترى أنّ المتعارف

في أكثر الممالك و البلاد أنّهم يراعون في المنتخب الاعتبارات القوميّة و العنصريّة و العشائريّة، و كون الشخص ذا شهرة قومية و جبروت و ثروة، من دون أن يراعوا علمه و دينه و تقواه و شجاعته و كفايته و قدرته على الدفاع عن الإسلام و حقوق المسلمين.

و كثيرا ما يقع من هذه الناحية سقوط الملك و ضياع حقوق الأمّة و سلطة الطواغيت و الجبابرة، بل و نفوذ الأجانب و تدخّلهم في شئون المسلمين و بلادهم.

و ربّما توسلوا لذلك باشتراء آراء الناخبين أو بالتمويه عليهم و إغوائهم. فيجب على الناخبين الدقّة و التشاور في انتخاب النوّاب للمجلس و عدم الوقوع تحت تأثير الأجواء الكاذبة و الدعايات الباطلة و التهديدات و التطميعات الماديّة. اللّهم فاعذنا من شياطين الجنّ و الإنس.

4- منابع الحكم الإسلامي و مصادره:
[الكتاب العزيز، و السنّة القويمة بأقسامها]

قد مرّ منّا أن أساس الحكومة الإسلاميّة هو قوانين الإسلام و مقرّراته في شتّى مسائل الحياة، و أنّ منابعها و مصادرها هي الكتاب العزيز، و السنّة القويمة بأقسامها من قول المعصوم و فعله و تقريره الثابتة بطريق صحيح معتبر، و حكم العقل القطعي الخالي عن شوائب الأوهام و التعصّبات، كالحسن و القبح العقليّين و كالملازمات العقليّة القطعيّة. و هذه الثلاثة ممّا اتفق عليها الشيعة و السنّة.

و ما يرى في بعض الكلمات من التشكيك في حجّيّة العقل مطلقا فهو بظاهره كلام واه لا يعتنى به، إذ لو حصل بحكم العقل القطعي القطع بحكم الشارع فلا مجال لإنكار حجّيّته، فإن القطع حجة ذاتا، و العقل أمّ الحجج و أساسها. و هل يثبت التوحيد و النبوّة و حجّيّة كتاب اللّه و سنّة رسول اللّه إلّا من طريق العقل؟

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 65

و في

خبر عن الإمام الصادق «ع» قال: «العقل دليل المؤمن.» «1»

و في خبر آخر عنه «ع» قلت له: ما العقل؟ قال: «ما عبد به الرحمن و اكتسب به الجنان.» «2»

و في خبر هشام بن الحكم، عن موسى بن جعفر «ع»: «يا هشام، إنّ للّه على الناس حجّتين: حجّة ظاهرة و حجّة باطنة، فأمّا الظاهرة فالرسل و الأنبياء و الأئمّة- عليهم السلام-، و أمّا الباطنة فالعقول.» «3»

و بالجملة، فأصل حجية العقل القطعي إجمالا ممّا لا مجال للإشكال فيه و إن وقع الإشكال في بيان مصاديقه. و للبحث فيه محل آخر. و كذا لا إشكال في حجيّة الكتاب و السنّة إجمالا على من أذعن بالإسلام و النبوّة.

نعم،

هنا أمور اختلف في حجّيتها الفريقان:
الأول- الإجماع بما هو إجماع و اتّفاق:

فعلماء السنّة يعتبرون إجماع الفقهاء بما هو إجماع حجّة مستقلة. و يستندون في ذلك إلى آيات و روايات:

أهمّها قوله- تعالى-: «وَ مَنْ يُشٰاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مٰا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدىٰ وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مٰا تَوَلّٰى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ سٰاءَتْ مَصِيراً.» «4»

______________________________

(1)- الكافي 1/ 25، كتاب العقل و الجهل، الحديث 24.

(2)- الكافي 1/ 11، كتاب العقل و الجهل، الحديث 3.

(3)- الكافي 1/ 16، كتاب العقل و الجهل، الحديث 12.

(4)- سورة النساء (4)، الآية 115.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 66

و ما رووه عن النبي «ص» من قوله: «لا تجتمع أمّتي على ضلالة أو خطأ.»

فروى ابن ماجة في سننه، عن أنس بن مالك، عنه «ص» أنّه قال: «إنّ أمّتي لا تجتمع على ضلالة، فإذا رأيتم اختلافا فعليكم بالسواد الأعظم.» «1»

و روى الترمذي بسنده، عن ابن عمر أن رسول اللّه «ص» قال: «إنّ اللّه لا يجمع أمّتي- أو قال: أمّة محمد- على ضلالة، و

يد اللّه على الجماعة، و من شذّ شذّ إلى النار.» «2»

و لم أجد في كتب الحديث للسنّة ما يشتمل على لفظ الخطأ، نعم هو مذكور في كتب الاستدلال.

و أمّا علماء الشيعة الإماميّة فيقولون: لا موضوعيّة للإجماع بما هو إجماع و اتفاق عندنا. نعم، لو اتفقت الأمّة على قول بحيث لا يشذّ منها أحد فلا محالة يكون الإمام المعصوم من العترة الطاهرة داخلا فيها، فيكون حجّة لذلك. كما أنّه كذلك لو كانت كثرة القائل في المسألة بحيث يحدس منها تلقي المسألة عن النبيّ «ص» أو عن الإمام المعصوم «ع» حدسا قطعيّا، فيكون الإجماع كاشفا عن الحجّة، أعني قول المعصوم، و ذلك إنّما يكون في المسائل الأصليّة المأثورة المتلقّاة يدا بيد عن المعصومين- عليهم السلام- المذكورة في كتب القدماء من أصحابنا المعدّة لنقل هذه المسائل، لا في المسائل التفريعيّة الاستنباطيّة التي أعمل فيها الرأي و النظر.

و بالجملة، فالحجة في الحقيقة هو قول المعصوم المكشوف به؛ إمّا بدخوله في المجمعين أو بالحدس عن قوله لا الإجماع بما هو إجماع.

فوزان الإجماع حينئذ وزان الخبر الواحد الصحيح الكاشف عن السنّة القويمة، فليس في عرض السنّة بل في طولها و يكون حجّة عليها.

قال الفقيه الهمداني في مبحث صلاة الجمعة من مصباح الفقيه:

«المدار في حجّية الإجماع على ما قرّرناه في محلّه و استقرّ عليه رأي المتأخّرين ليس على اتّفاق الكلّ بل و لا اتّفاقهم في عصر واحد، بل على استكشاف رأي المعصوم

______________________________

(1)- سنن ابن ماجة 2/ 1303، كتاب الفتن، باب السواد الأعظم، الحديث 3950.

(2)- سنن الترمذي 3/ 315، أبواب الفتن، الباب 7، الحديث 2255.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 67

بطريق الحدس من فتوى علماء الشيعة الحافظين

للشريعة. و هذا ممّا يختلف باختلاف الموارد؛ فربّ مسألة لا يحصل فيها الجزم بموافقة الإمام «ع» و إن اتفقت فيها آراء جميع الأعلام، كبعض المسائل المبتنية على مبادي عقليّة أو النقليّة القابلة للمناقشة. و ربّ مسألة يحصل فيها الجزم بالموافقة و لو من الشهرة.» «1» هذا

و أمّا آية المشاقّة فأجيب عنها بوجوه: منها: أنّا لا نسلّم أنّ سبيل المؤمنين هو إجماعهم، بل لعلّ المراد به هو سبيلهم بما هم مؤمنون، أي سبيل الإيمان بالرسول في قبال مشاقّته «ص»، و قد حقّق في محلّه أنّ ذكر الوصف يشعر بالعلّيّة و الدخالة، فمرجع ذلك إلى سنّة الرسول «ص» و ليس أمرا وراءها.

و في المستصفى للغزالي، قال:

«و الذي نراه أنّ الآية ليست نصّا في الغرض، بل الظاهر أنّ المراد بها أنّ من يقاتل الرسول و يشاقّه و يتّبع غير سبيل المؤمنين في مشايعته و نصرته و دفع الأعداء عنه نولّه ما تولّى. فكأنّه لم يكتف بترك المشاقّة حتّى تنضمّ إليه متابعة سبيل المؤمنين في نصرته و الذبّ عنه و الانقياد له فيما يأمر و ينهى. و هذا هو الظاهر السابق إلى الفهم، فإن لم يكن ظاهرا فهو محتمل.» «2» هذا.

و أمّا الرواية الّتي استندوا إليها فلم تثبت عندنا بسند يعتمد عليه.

و في سنن ابن ماجة قد حكى في ذيل الحديث عن الزوائد:

«في إسناده أبو خلف الأعمى، و اسمه حازم بن عطاء، و هو ضعيف، و قد جاء الحديث بطرق في كلّها نظر. قاله شيخنا العراقي في تخريج أحاديث البيضاوي.» «3»

نعم، في تحف العقول في رسالة الإمام الهادى «ع» إلى أهل الأهواز، قال:

______________________________

(1)- مصباح الفقيه- كتاب الصلاة/ 436.

(2)- المستصفى للغزالي 1/ 175.

(3)- سنن ابن ماجة 2/ 1303، كتاب

الفتن، الباب 8، الحديث 3950.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 68

«و قد اجتمعت الأمّة قاطبة لا اختلاف بينهم أنّ القرآن حقّ لا ريب فيه عند جميع أهل الفرق، و في حال اجتماعهم مقرّون بتصديق الكتاب و تحقيقه، مصيبون مهتدون، و ذلك بقول رسول اللّه «ص»:

«لا تجتمع أمّتي على ضلالة» فأخبر أنّ جميع ما اجتمعت عليه الأمّة كلّها حقّ.» «1»

أقول: على فرض صحّة الحديث فظاهره إطباق جميع الأمّة؛ فلا يختص بالفقهاء و المجتهدين، كما لا يختصّ بعلماء السنّة فقط، بل يعمّ جميع طوائف المسلمين و منهم الشيعة الإمامية بأئمتهم الاثنى عشر، و قد مرّ منّا أنّ اتّفاق جمع يوجد فيه الإمام المعصوم حجّة عندنا بلا إشكال، فتدبّر.

الثاني- القياس و الاستحسانات الظنية:

فأكثر علماء السنة يعتمدون عليهما، حيث إنّهم تركوا التمسك بأقوال العترة و لم يتمكّنوا من استنباط الفروع المبتلى بها من الكتاب و السنّة النبويّة الواصلة اليهم، فلجئوا إلى الآراء و الاستحسانات، و لكن أخبار أهل البيت- عليهم السلام- و الروايات الحاكية لسيرتهم مليئة بالمعارف و الأحكام و الآداب، بحيث تشفي العليل و تروي الغليل و معها لا تصل النوبة إلى القياس و الاستحسانات الظنية.

و النبي «ص» جعل العترة قرين الكتاب في وجوب التمسك بهما على ما دلّ عليه حديث الثقلين المتواتر بين الفريقين.

و قد استفاضت بل تواترت أخبارنا على عدم حجّيّة القياس و الآراء الظنّيّة، فراجع «2».

______________________________

(1)- تحف العقول/ 458.

(2)- راجع الوسائل 18/ 20، الباب 6 من أبواب صفات القاضي؛ و مستدرك الوسائل 3/ 175، الباب 6 من أبواب صفات القاضي.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 69

و من جملة أخبار الباب ما رواه الكليني بسنده، عن عيسى بن عبد

اللّه القرشي، قال: دخل أبو حنيفة على أبي عبد اللّه «ع» فقال له: يا أبا حنيفة، بلغني أنّك تقيس؟ قال:

نعم. قال: لا تقس، فانّ أوّل من قاس إبليس حين قال: خلقتني من نار و خلقته من طين.

فقاس ما بين النار و الطين. و لو قاس نوريّة آدم بنوريّة النار عرف فضل ما بين النورين و صفاء أحدهما على الآخر.» «1»

و منها: ما رواه بسند صحيح، عن أبان بن تغلب، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال:

«إنّ السنّة لا تقاس. ألا ترى أنّ المرأة تقضي صومها و لا تقضي صلاتها، يا أبان، إنّ السنّة إذا قيست محق الدين.» «2»

و منها: موثقة مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عن أبيه أنّ عليا «ع» قال:

«من نصب نفسه للقياس لم يزل دهره في التباس. و من دان اللّه بالرأي لم يزل دهره في ارتماس.» «3»

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة.

و في سنن الدارمي عن ابن سيرين، قال:

«أوّل من قاس إبليس. و ما عبدت الشمس و القمر إلّا بالمقاييس.» «4»

و عن الحسن أنّه تلا هذه الآية: «خَلَقْتَنِي مِنْ نٰارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ»* قال:

«قاس إبليس، و هو أوّل من قاس.» «5»

و في إعلام الموقعين بسنده عن عوف بن مالك الأشجعي، قال: قال رسول اللّه «ص»: «تفترق أمّتي على بضع و سبعين فرقة، أعظمها فتنة قوم يقيسون الدين برأيهم؛ يحرّمون به ما أحلّ اللّه و يحلّون ما حرّم اللّه.» «6»

______________________________

(1)- الكافي 1/ 58، كتاب فضل العلم، باب البدع و الرأي و المقاييس، الحديث 20.

(2)- الوسائل 18/ 25، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10.

(3)- الوسائل 18/ 25، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 11.

(4)- سنن الدارمي 1/ 65، باب

تغيّر الزمان و ما يحدث فيه.

(5)- سنن الدارمي 1/ 65، باب تغيّر الزمان و ما يحدث فيه.

(6)- إعلام الموقعين 1/ 53.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 70

و الظاهريون من فقهاء السنّة و بعض المعتزلة أيضا ينكرون العمل بالقياس و الرأي:

قال ابن حزم الأندلسي في المحلّى:

«و لا يحلّ القول بالقياس في الدين و لا بالرأي، لأنّ أمر اللّه- تعالى- عند التنازع بالردّ إلى كتابه و الى رسوله «ص» قد صحّ، فمن ردّ إلى قياس و إلى تعليل يدعيه، أو إلى رأي فقد خالف أمر اللّه- تعالى- المعلّق بالإيمان و ردّ إلى غير من أمر اللّه- تعالى- بالردّ إليه، و في هذا ما فيه، قال عليّ: و قول اللّه- تعالى-: «مٰا فَرَّطْنٰا فِي الْكِتٰابِ مِنْ شَيْ ءٍ»، و قوله- تعالى-: «تِبْيٰاناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ»، و قوله- تعالى-: «لِتُبَيِّنَ لِلنّٰاسِ مٰا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ»، و قوله- تعالى-: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» إبطال للقياس و للرأي.» «1»

الثالث- أقوال العترة الطاهرة:

لا يخفى أن قول النبي «ص» و فعله و تقريره من السنّة قطعا و تكون حجّة بلا إشكال. و بعض علماء السنة يعدّون أقوال الصحابة بل و أعمالهم أيضا حجّة.

و أمّا الشيعة الإماميّة فيعدّون أقوال الأئمة الاثنى عشر من العترة و كذا أفعالهم و تقريرهم حجّة، لعصمتهم عندنا، و لأنّهم عترة النبي «ص» و قد عدّ النبي «ص» عترته عدلا للكتاب العزيز و قرينا له في خبر الثقلين المتواتر بين الفريقين.

و قد تعرض له أكثر أرباب الصحاح و السنن و المسانيد، فراجع.

و من ذلك ما رواه الترمذي بسنده، عن زيد بن أرقم، قال: قال رسول اللّه «ص»: «إنّي تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من

الآخر: كتاب اللّه حبل ممدود من السماء الى الأرض، و عترتي أهل بيتي. و لن يتفرقا حتّى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما.» «2»

______________________________

(1)- المحلّى لابن حزم 1/ 56، المسألة 100.

(2)- سنن الترمذي 5/ 328، أبواب المناقب، باب مناقب أهل بيت النبي «ص»، الحديث 3876.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 71

و دلالة الخبر على حجّيّة أقوال العترة ظاهرة، لإيجاب التمسك بهم و بالكتاب العزيز.

و مسألة حجيّة أقوالهم غير مسألة الإمامة و الخلافة، فإنّ الأولى مسألة أصوليّة و الثانية مسألة كلاميّة.

و في كنز العمال، عن أبي سعيد، قال: قال رسول اللّه «ص»: «أيّها الناس إنّي تارك فيكم أمرين، إن أخذتم بهما لن تضلّوا بعدي أبدا، و أحدهما أفضل من الآخر: كتاب اللّه هو حبل اللّه الممدود من السماء إلى الأرض، و أهل بيتي عترتي. ألا و إنّهما لن يتفرّقا حتّى يردا عليّ الحوض.» (ابن جرير) «1».

إلى غير ذلك من الأخبار من طرق الفريقين.

و عترة النبي «ص» أهل بيته، و أهل البيت أدرى بما في البيت. و هم لا يحدّثون إلّا بما سمعوه من آبائهم عن النبي «ص»، كما دلّ على ذلك بعض الأخبار:

ففي خبر هشام بن سالم، و حماد بن عثمان و غيره، قالوا: سمعنا أبا عبد اللّه «ع» يقول: «حديثي حديث أبي، و حديث أبي حديث جدّي، و حديث جدّي حديث الحسين، و حديث الحسين حديث الحسن، و حديث الحسن حديث أمير المؤمنين «ع»، و حديث أمير المؤمنين حديث رسول اللّه «ص»، و حديث رسول اللّه «ص» قول اللّه- عزّ و جلّ.» «2»

و لا يخفى أنّ محل البحث في هذه المسائل هو علم الكلام و علم أصول الفقه، و

غرضنا هنا ليس إلّا إشارة إجماليّة إليها، فراجع مظانّها.

5- الاستنباط و الاجتهاد:

أمّا الاستنباط، ففي لسان العرب:

______________________________

(1)- كنز العمال 1/ 381، الباب 2 من كتاب الإيمان و الإسلام من قسم الأفعال، الحديث 1657.

(2)- الوسائل 18/ 58، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، الحديث 26.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 72

«نبط الماء ينبط و ينبط نبوطا: نبع. و كلّ ما أظهر فقد أنبط. و استنبطه و استنبط منه علما و خبرا و مالا: استخرجه. و الاستنباط: الاستخراج. و استنبط الفقيه: إذا استخرج الفقه الباطن باجتهاده و فهمه. قال اللّه- عزّ و جلّ-: «لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ.» «1»

أقول: فكأنّ حكم اللّه- تعالى- ماء حياة أو شي ء نفيس دفين في خلال مصادره و منابعه يستخرجه الفقيه منها.

و أمّا الاجتهاد، ففي لسان العرب:

«الاجتهاد و التجاهد: بذل الوسع و المجهود. و في حديث معاذ: «أجتهد رأيي.»

الاجتهاد بذل الوسع في طلب الأمر، و هو افتعال من الجهد: الطاقة، و المراد به ردّ القضية التي تعرض للحاكم من طريق القياس إلى الكتاب و السنّة، و لم يرد الرأي الذي رآه من قبل نفسه من غير حمل على كتاب أو سنّة.» «2»

أقول: أمّا الحديث الذي أشار إليه فهو ما رواه أبو داود و الترمذي و غيرهما: ففي سنن أبي داود بسنده عن أناس من أصحاب معاذ بن جبل أنّ رسول اللّه «ص» لمّا أراد أن يبعث معاذا إلى اليمن قال: «كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟» قال:

«أقضي بكتاب اللّه.» قال: «فإن لم تجد في كتاب اللّه؟» قال: «فبسنّة رسول اللّه «ص» قال: «فإن لم تجد في سنّة رسول اللّه «ص» و لا في كتاب اللّه؟» قال: «أجتهد رأيي و لا

آلو.» فضرب رسول اللّه «ص» صدره و قال: «الحمد للّه الذي وفّق رسول رسول اللّه لما يرضي رسول اللّه.» «3»

و أمّا قوله: «من طريق القياس»، فلعلّه أراد به أعمّ من القياس و الاستحسانات العقليّة الظنية.

______________________________

(1)- لسان العرب 7/ 410.

(2)- لسان العرب 3/ 135.

(3)- سنن أبي داود 2/ 272، كتاب الاقضية، باب اجتهاد الرأي في القضاء

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 73

و قد صار لفظ الاجتهاد، و كذا الرأي في أعصار أئمتنا- عليهم السلام- ظاهرين في هذا المعنى. و بهذا المعنى وقع النهي عنهما في رواياتنا «1».

و أمّا الاجتهاد بمعنى إفراغ الوسع و الطاقة في استنباط الأحكام من أدلّتها الشرعيّة من الكتاب و السنّة و العقل القطعي فهو أمر واجب ضروري لا منع فيه و ليس لأحد إنكاره.

و عن أبي عبد اللّه «ع»: «إنّما علينا أن نلقي إليكم الأصول و عليكم أن تفرّعوا.» «2»

و عن الرضا «ع»: «علينا إلقاء الأصول و عليكم التفريع.» «3»

و الروايات الواردة في الإرجاع إلى الكتاب و السنّة في غاية الكثرة. و على هذا فالاجتهاد عندنا غير الاجتهاد باصطلاح السنّة.

و أمّا ما ذكره أخيرا فكأنّه أراد به نفي إرادة التصويب. و البحث فيه يأتي في العنوان التالي.

6- التخطئة و التصويب:

لا يخفى أنّ المسائل الدينية على قسمين: فقسم منها مسائل أصليّة ضرورية أجمع عليها جميع فرق المسلمين و دلّ عليها نصّ الكتاب العزيز أو السنّة المتواترة القطعية أو العقل السليم، و القسم الآخر فروع اجتهاديّة استنباطيّة تحتاج إلى إعمال الاجتهاد و النظر و استنباطها من الأصول المبيّنة في الكتاب و السنة أو من حكم العقل القطعي.

______________________________

(1)- راجع الوسائل 18/ 20، الباب 6 من ابواب صفات القاضي.

(2)- الوسائل 18/ 41، الباب

6 من ابواب صفات القاضي، الحديث 51.

(3)- الوسائل 18/ 41، الباب 6 من ابواب صفات القاضي، الحديث 52.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 74

أمّا القسم الأول، فلا خلاف فيها و لا إشكال و لا مجال فيها للاجتهاد و الاستنباط.

و أمّا القسم الثاني المتوقف على إعمال الاجتهاد و النظر، فلا محالة قد يقع فيها الخلاف لاختلاف في معاني بعض الألفاظ، أو للاختلاف في صحة الحديث و ضعفه، أو لاختلاف الروايات المنقولة، أو للاختلاف في أسباب الترجيح عند التعارض، أو للاختلاف في حجيّة بعض الأمور و عدم حجّيتها كالمفاهيم و خبر الواحد و الإجماع و لا سيّما المنقول منه و الشهرة بقسميها و كحجيّة أقوال الأئمة الطاهرين من العترة الثابتة عندنا و حجّيّة أقوال الصحابة عند بعض السنّة، و حجيّة القياس و الاستحسانات الظنيّة عندهم و نحو ذلك. و يرجع الجميع إلى الاختلاف في الدرك أو المدرك.

و في هذا القسم قد وقع البحث في أنّ الآراء المستنبطة المختلفة كلّها حقّ و صواب، أو أنّ الحقّ واحد منها و الباقون مخطئون و إن كانوا معذورين؟

فاتّفق أصحابنا الإماميّة على أنّ للّه- تعالى- في كلّ واقعة خاصّة حكما واحدا يشترك فيه الجميع. و جميع المسلمين مأمورون أوّلا و بالذات بالعمل به. فالدين في جميع المراحل واحد و الشرع واحد و الحقّ واحد، و إنّما الاختلاف وقع في إحراز الواقع و استنباطه من منابعه، فأصابه بعض و أخطأه بعض آخر.

فليست الاجتهادات المختلفة في مسألة واحدة يمثّل كلّها حكم اللّه المنزل على رسوله و إن جاز العمل بها لأهلها في الظاهر، و إنّما تكون آراء الفقهاء و المجتهدين طرقا محضة قد تصيب الواقع و قد تخطئه، كما

أنّ العلم الذي هو أمّ الحجج و تكون حجيّته ذاتية يكون كذلك، و كذلك سائر الطرق و الأمارات العقلائية و الشرعية.

فكأنّ حكم اللّه الواقعي دفين في خلال مبانيه و مصادره و يستخرجه الفقيه باستنباطه؛ فقد يعثر عليه و قد يخطئ، و يكون للمصيب أجران و للمخطئ أجر واحد.

فليس الحكم الواقعي تابعا لمفاد الطريق، مجعولا على وفقه كيفما كان، كما لا يوجب قيام الطريق على خلاف الواقع تبدّل الواقع و انقلابه إلى مفاد الطريق.

هذا ما عليه أصحابنا الإماميّة. فهم بأجمعهم ينكرون التصويب. و يسمّون

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 75

بذلك مخطّئة.

و أمّا علماء السنّة ففيهم خلاف: بعضهم مخطّئة، و بعض منهم مصوّبة: قال الامام فخر الدين الرازي في بحث الاجتهاد من كتاب المحصول:

«فإن لم يكن للّه- تعالى- فيها حكم فهذا قول من قال: «كلّ مجتهد مصيب.» و هم جمهور المتكلّمين منّا كالأشعري و القاضي أبي بكر، و من المعتزلة كأبي الهذيل و أبي علي و أبي هاشم و اتباعهم.» «1»

و قال الإمام الغزالي في المستصفى:

«الذي ذهب إليه محقّقوا المصوّبة أنّه ليس في الواقعة التي لا نصّ فيها حكم معين يطلب بالظنّ، بل الحكم يتبع الظن. و حكم اللّه على كلّ مجتهد ما غلب على ظنّه، و هو المختار، و إليه ذهب القاضي.» «2»

أقول: عمدة نظر المصوّبة كان إلى تصويب آراء الصحابة و أفعالهم. فكانوا يظنّون أنّ مطلق من صاحب النبيّ «ص» فهو ممّن لم يخطئ أبدا فضلا عن أن يصدر عنه فسق أو جور.

و لكنّ الحقّ في المسألة هو ما عرفته من أصحابنا الإمامية من القول بالتخطئة.

و قال ابن حزم الأندلسي في المحلّى:

«مسألة: و الحقّ من الأقوال في واحد منها

و سائرها خطأ ... فصحّ أنّ الحقّ في الأقوال ما حكم اللّه- تعالى- به فيه، و هو واحد لا يختلف، و انّ الخطأ ما لم يكن من عند اللّه- عزّ و جلّ-.

و من ادّعى أن الأقوال كلّها حقّ و أنّ كلّ مجتهد مصيب فقد قال قولا لم يأت به قرآن و لا سنّة و لا إجماع و لا معقول، و ما كان هكذا فهو باطل.» «3»

______________________________

(1)- المحصول/ القسم الثالث من الجزء الثاني/ 47.

(2)- المستصفى 2/ 363.

(3)- المحلّى لابن حزم 1/ 70، المسألة 109.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 76

و في الفقه الإسلامي و أدلّته للدكتور وهبة الزحيلي بعد ذكر المخطئة، قال:

«و هم جمهور المسلمين، منهم الشافعيّة و الحنفيّة على التحقيق، الذين يقولون بأنّ المصيب في اجتهاده واحد من المجتهدين، و غيره مخطئ، لأنّ الحقّ لا يتعدّد.» «1»

و لكن في المستصفى للغزالي بعد ذكر الاجتهاد و التصويب و التخطئة، قال:

«و قد اختلف الناس فيها، و اختلفت الرواية عن الشافعي و أبي حنيفة» «2». هذا.

و يدلّ على التخطئة- مضافا إلى وضوحها، فإنّ الاجتهاد في الحكم و استنباطه متفرع على وجوده واقعا في الرّتبة السابقة، فلا يعقل كونه تابعا له- روايات:

1- ففي صحيح مسلم، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، عن رسول اللّه «ص» في وصاياه لمن أمّره أميرا على جيش أو سريّة: «و إذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم اللّه فلا تنزلهم على حكم اللّه و لكن أنزلهم على حكمك، فإنّك لا تدري أ تصيب حكم اللّه فيهم أم لا.» «3»

2- و روى الترمذي، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه «ص»: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران

و إذا حكم فأخطأ فله أجر واحد.» «4»

3- و في نهج البلاغة: «ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه، ثمّ ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلافه، ثمّ يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوّب آراءهم جميعا، و إلههم واحد، و نبيّهم واحد، و كتابهم واحد ...» «5»

4- و في الدر المنثور بإسناده عن الشعبي، قال: سئل أبو بكر عن الكلالة فقال:

______________________________

(1)- الفقه الإسلامي و أدلّته 1/ 72.

(2)- المستصفى 2/ 363.

(3)- صحيح مسلم 3/ 1358، كتاب الجهاد، الباب 2، ذيل الرقم 1731.

(4)- سنن الترمذي 2/ 393، أبواب الأحكام، الباب 2، الحديث 1341.

(5)- نهج البلاغة، فيض/ 74؛ عبده 1/ 50؛ لح/ 60، الخطبة 18.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 77

«إنّي سأقول فيها برأيي، فإن كان صوابا فمن اللّه وحده لا شريك له، و إن كان خطأ فمنّي و من الشيطان، و اللّه منه بري ء، أراه ما خلا الوالد و الولد.» «1»

5- و قال عمر لكاتبه:

«اكتب: هذا ما رأى عمر. فإن كان صوابا فمن اللّه، و إن كان خطأ فمنه.» «2»

6- و قال ابن مسعود في المفوضة:

«أقول فيها برأيي. فإن كان صوابا فمن اللّه، و إن كان خطأ فمنّي و من الشيطان.

و اللّه و رسوله عنه بريئان.» «3»

7- و في كنز العمال:

«اقض بينهما يا عمرو، فإذا قضيت بينهما القضاء فلك عشر حسنات، و إن اجتهدت فأخطأت فلك حسنة.» (حم طب، عن عمرو) «4».

8- و فيه أيضا:

«اجتهد، فإذا أصبت فلك عشر حسنات، و إن أخطأت فلك حسنة.» (عد، عن عقبة بن عامر) «5»

9- و فيه أيضا عن موسى بن ابراهيم، عن رجل من آل ربيعة أنّه

بلغه أنّ أبا بكر حين استخلف قعد في بيته حزينا، فدخل عليه عمر فأقبل عليه يلومه و قال:

أنت كلّفتني هذا الأمر، و شكا إليه الحكم بين الناس فقال له عمر: أو ما علمت انّ رسول اللّه «ص» قال: «إنّ الوالي إذا اجتهد فأصاب الحقّ فله أجران و إن اجتهد فأخطأ الحقّ فله أجر واحد.» فكأنّه سهّل على أبي بكر. (ابن راهويه و خيثمة في فضائل الصحابة

______________________________

(1)- الدر المنثور 2/ 250.

(2)- المحصول للإمام الرازي/ القسم الثالث من الجزء الثاني/ 70 (في الاجتهاد).

(3)- المحصول/ القسم الثالث من الجزء الثاني/ 71 (في الاجتهاد).

(4)- كنز العمال 6/ 99، الباب 2 من كتاب الإمارة و القضاء من قسم الاقوال، الحديث 15018.

(5)- كنز العمال 6/ 99، الباب 2 من كتاب الإمارة و القضاء من قسم الأقوال، الحديث 15019.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 78

هب) «1».

10- و في ديباجة الموطأ لمالك المطبوع بمصر: «قال معن بن موسى:

سمعت مالكا يقول: إنّما أنا بشر أخطئ و أصيب، فانظروا في رأيي فما وافق السنّة فخذوا به.» «2» هذا.

و لعلّ ما قد يتلقّى بالألسن و الأفواه حتّى من بعض الشيعة أيضا من قولهم:

«هذا ما أفتى به المفتي، و كلّ ما أفتى به المفتي فهو حكم اللّه في حقّي» يكون كلاما ورثوه من أهل التصويب، و إلّا فهو بظاهره ممنوع، فإنّ حكم اللّه لا يكون تابعا لإفتاء الفقيه كما مرّ.

نعم، الأنبياء كلّهم و النبي الأكرم «ص» و كذا الأئمة الاثنا عشر من العترة عندنا معصومون من الذنوب و من الخطأ، و محلّ البحث فيه الكتب الكلاميّة، فراجع.

7- انفتاح باب الاجتهاد المطلق:

قد ظهر بما مرّ أنّ أساس الحكومة الحقّة و أساس جميع أعمال المسلمين في

جميع شئونهم هو أحكام اللّه- تعالى- التي نزلت على رسوله الكريم بالوحي و يشترك فيها الجميع. و أنّ منابعها و مصادرها هي الكتاب العزيز، و السنّة القويمة، و العقل القطعي الخالي عن الأوهام.

فيجب أوّلا و بالذات الرجوع إلى هذه المنابع و أخذ الأحكام منها.

فمن كان قادرا على الرجوع إليها و الاستنباط منها عمل على وفق ما استنبط و استفاد. و من لم يقدر على الاستنباط رجع إلى فتوى من استنبط، رجوع الجاهل في

______________________________

(1)- كنز العمال 5/ 630، الباب 1 من كتاب الخلافة مع الإمارة من قسم الأفعال، الحديث 14110.

(2)- الموطأ لمالك 1/ ج. (- أدبه مع آل رسول اللّه و كرم أخلاقه).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 79

كلّ فنّ تخصّصي إلى العالم الخبير به. و في الحقيقة هو طريق علمه العادي بالأحكام و لكن بنحو الإجمال.

و ليس لفتوى الفقيه موضوعيّة و سببيّة، بل هو طريق محض كسائر الطرق العقلائيّة و الشرعيّة قد يصيب و قد يخطئ.

و الأحوط بل الأقوى في المسائل الخلافية هو الرجوع إلى الأعلم، كما هو طريقة العقلاء في تقديم الأعلم على غيره في المسائل المهمّة المختلف فيها.

و على هذا فليس لمجتهد خاصّ و فقيه مخصوص خصوصيّة. و قد كثر الفقهاء من الشيعة و كذا من السنّة في جميع الأعصار.

و ربّما اختلف الفقهاء في الفتاوى و منابعها و في طريق الاستنباط و كيفيّتها كما مرّ.

و الخلاف في علماء السنة أكثر، حيث إنّ الشيعة تقيّدوا في فتاويهم بالكتاب، و بالنصوص من النبي «ص» أو الأئمة الاثنى عشر «ع».

و أمّا فقهاء السنّة فحيث اعتمد أكثرهم على القياس و الاستحسانات الظنيّة و المناطات الحدسية تشتتت آراؤهم و جاؤوا كثيرا بفتاوى

متناقضة متهافتة. و كم تدخّلت التعصّبات أو أيادي السياسة و الحكومات الدارجة في بعض البلاد و المناطق في تفضيل بعض الآراء على بعض، بل و في تحريم بعض المذاهب الفقهيّة و تعذيب متابعيها و الإلزام بأخذ مذهب آخر، كما شهد بذلك التاريخ، و الناس كانوا غالبا على دين ملوكهم.

و ربّما استعانوا في إعمال سياساتهم ببعض العلماء و العملاء أيضا، إلى أن استقرت آراء علمائهم و حكّامهم في النهاية على حصر المذاهب في المذاهب الأربعة الدارجة لهم فعلا، أعني مذاهب أبي حنيفة، و مالك، و الشافعي، و أحمد بن حنبل.

و في رياض العلماء للمتتبع الخبير الميرزا عبد اللّه الأفندي الأصفهاني نقلا من كتاب «تهذيب الأنساب و نهاية الأعقاب» تأليف أحد من بني أعمام السيد المرتضى «ره» ما ملخّصه أنّه:

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 80

«اشتهر على ألسنة العلماء أنّ العامّة في زمن الخلفاء لمّا رأوا تشتّت المذاهب في الفروع و اختلاف الآراء، بحيث لم يمكن ضبطها فقد كان لكلّ واحد من الصحابة و التابعين و من تبعهم مذهب برأسه في المسائل الشرعيّة و الأحكام الدينيّة، التجئوا إلى تقليلها فأجمعوا على أن يجمعوا على بعض المذاهب ...

فالعامّة أيضا لمّا اضطربت اتّفقت كلمات رؤسائهم و عقيدة عقلائهم على أن يأخذوا من أصحاب كلّ مذهب خطيرا من المال و يلتمسوا آلاف ألف دراهم و دنانير من أرباب الآراء في ذلك المقال.

فالحنفية، و الشافعيّة، و المالكية، و الحنبلية لوفور عدّتهم و بهور عدّتهم جاؤوا بما طلبوه، فقرّروهم على عقائدهم.

و كلّفوا الشيعة، المعروفة في ذلك العصر بالجعفرية، لمجي ء ذلك المال الذي أرادوا منهم، و لمّا لم يكن لهم كثرة مال توانوا في الإعطاء و لم يمكنهم

ذلك.

و كان ذلك في عصر السيد المرتضى «ره» و هو قد كان رأسهم و رئيسهم، و قد بذل جهده في تحصيل ذلك المال و جمعه من الشيعة فلم يتيسّر له، حتّى إنّه كلّفهم بأن يجيئوا بنصف ما طلبوه و يعطي النصف الآخر من خاصّة ماله، فما أمكن للشيعة هذا العطاء. فلذلك لم يدخلوا مذهب الشيعة في تلك المذاهب، و أجمعوا على صحّة خصوص الأربعة و بطلان غيرها. فآل أمر الشيعة إلى ما آل في العمل بقول الآل السادة الأنجاب.

و العامّة قد جوّزوا الاجتهاد في المذهب و لم يجوّزوا الاجتهاد من المذهب، حتّى إنّهم لم يجوزوا تلفيق أقوال هذه الأربعة و القول في بعض المسائل بقول بعض و في بعضها بقول الآخر. و استمرّوا على هذا الرأي إلى يومنا هذا، و لم يخالفهم أحد منهم في تلك الأعصار المتمادية سوى محيي الدّين العربي المعاصر لفخر الدين الرازي، حيث خالفهم في الفروع؛ فتارة يقول بقول واحد من هؤلاء الأئمة الأربعة في مسألة و يقول في مسألة أخرى بقول الآخر، و تارة يخترع في بعض المسائل و ينفرد بقول

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 81

لم يدخل في تلك الأقاويل.» «1» انتهى كلام رياض العلماء.

و في روضات الجنّات بعد نقل ما في رياض العلماء، قال:

«و يؤيد هذا التفصيل ما ذكره صاحب «حدائق المقرّبين»: أنّ السيد المرتضى «ره» واطأ الخليفة- و كأنّه القادر باللّه المتقدم إليه الإشارة- على أن يأخذ من الشيعة مأئة ألف دينار ليجعل مذهبهم في عداد تلك المذاهب و ترفع التقيّة و المؤاخذة على الانتساب إليهم، فتقبّل الخليفة، ثمّ إنّه بذل لذلك من عين ماله ثمانين ألفا، و طلب من الشيعة

بقية المال فلم يفوا به.» «2»

و كيف كان فالمقصود من الاجتهاد هو استخراج أحكام اللّه- تعالى- و إحرازها.

و المنابع لها هي الأدلّة الأربعة من الكتاب، و السنة، و العقل، و الإجماع على القول به. و هي- بحمد اللّه- باقية لنا، و قد شرّحت و فسّرت و تنقّحت أكثر مما كانت في عصر الأئمة الأربعة للسنّة.

و قد تقدّم الفقهاء الأربعة و تأخّر عنهم فقهاء كثيرون و يوجدون في أعصارنا أيضا، و لم يكن الفقهاء الأربعة معاصرين للنّبيّ «ص»، و لا ورّاث علمه بلا واسطة، بل تأخّروا عنه «ص» بأكثر من قرن، و لم يجعل اللّه- تعالى- العلم و الاجتهاد ملكا طلقا لبعض دون بعض، و لم يرد آية و لا رواية على تعيّن الأربعة، و لا دلّ عليه دليل من العقل.

فبأيّ وجه ينسدّ باب الاجتهاد من الكتاب و السنّة، و يتعيّن التقليد منهم، أو الاجتهاد في نطاق مذاهبهم فقط؟! و هل كان يوحى إليهم و لا يوحى إلى غيرهم؟! أو كان لهم نبوغ علمي و شرائط غير طبيعية لا توجد لغيرهم أبدا؟! و هل يكون إلزام الخليفة العباسي حجة شرعية لا تجوز مخالفتها؟!

و بالجملة، نحن لا نرى وجها مبرّرا لحصر الاجتهاد المطلق و الاستنباط من

______________________________

(1)- رياض العلماء 4/ 33.

(2)- روضات الجنّات 4/ 308.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 82

الكتاب و السنة على فئة خاصّة عاشوا بعد النبي «ص» بأكثر من قرن، و لم يتميّزوا قطّ بخصائص غير عادية لا توجد لغيرهم إلى يوم القيامة، و قد سبقهم أساتذتهم، و تقدّمهم و عاصرهم أئمة أهل البيت- عليهم السلام-، و لحقهم فقهاء كثيرون ملكوا علوم القدماء و تجاربهم و أضافوا إليها استنباطات

جديدة و يكونون أعلم بشرائط الزمان و أعرف بحاجاته و خصوصياته.

و في كتاب نظم الحكم و الإدارة في الشريعة الإسلامية تأليف علي علي منصور:

عن أبي حنيفة أنّه كان يقول: «علمنا هذا رأي لنا و هو أحسن ما قدرنا عليه؛ فمن جاءنا بأحسن منه فهو الصواب. و لا يحلّ لأحد أن يقول بقولنا حتّى يعلم من أين قلنا.»

و كان مالك يقول: «إنّما أنا بشر؛ أخطئ و أصيب، فانظروا في رأيي، فإن وافق الكتاب و السنّة فخذوا به، و ما لم يوافقهما فاتركوه.»

و كان الشافعي يقول لأتباعه: «لا تقلّدوني في كلّ ما أقول، و انظروا في ذلك، فإنّه دين.»

و يقول الإمام أحمد بن حنبل: «لا تقلّدوني، و لا مالكا، و لا الشافعي، و لا الثوري.

و خذوا من حيث أخذوا.» «1»

و في ديباجة المغني لابن قدّامة نقلا عن أبي حنيفة أنّه قال:

«لا يحلّ لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم مأخذه من الكتاب و السنّة و إجماع الأمّة و القياس الجليّ في المسألة.» «2»

و في كتاب «السنّة» لعبد اللّه بن أحمد بن حنبل بسنده أنّ أبا حنيفة قال لأبي يوسف:

«يا يعقوب لا ترو عنّي شيئا، فو اللّه ما أدري أ مخطئ أم مصيب.» «3»

و في الفقه الإسلامي و أدلّته عن الشافعي أنه قال:

______________________________

(1)- نظم الحكم و الإدارة في الشريعة الإسلامية/ 35.

(2)- المغني 1/ 14.

(3)- السنة 1/ 226.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 83

«إذا صحّ الحديث فهو مذهبي. و اضربوا بقولي عرض الحائط.» «1»

و في ذيل مبادي نظم الحكم في الإسلام:

«كان الإمام أحمد يقول: لا تقلّد في دينك الرجال، فإنّهم لن يسلموا من أن يغلطوا. و من ترك الحديث و أخذ

بقول الرجال فقد ترك من لا يغلط إلى من يغلط.» ... إن أبا حنيفة كان يقول: «هذا رأيي؛ فمن جاء برأي خير منه قبلته.»

و إن الإمام أحمد كان يقول: «لا تقلّدني، و لا تقلّد مالكا، و لا الشافعي، و لا الثوري.

و تعلّم كما تعلّمنا.» «2»

إلى غير ذلك ممّا حكي عن الأئمة الأربعة في شأن آرائهم و فتاواهم.

نعم، الأئمة الاثنا عشر من العترة الطاهرة «ع» لهم ميز بلا ريب، لأنّهم أهل البيت، و أهل البيت أدرى بما في البيت، و قد جعلهم رسول اللّه «ص» عدلا للكتاب العزيز و قرينا له في حديث الثقلين المتواتر بطرق الفريقين. و قد رواه في عبقات الأنوار من طرق علماء السنّة عن خمسة و ثلاثين من الصحابة عنه «ص».

و قد مرّ نقل بعض أسناده في الباب الثاني من هذا الكتاب، و بيان دلالته على حجّيّة أقوال العترة الطاهرة، و أنّها غير مسألة الإمامة المختلف فيها بين الفريقين، فراجع.

و في نهج البلاغة: «هم موضع سرّه و لجأ أمره و عيبة علمه و موئل حكمه و كهوف كتبه و جبال دينه. بهم أقام انحناء ظهره و أذهب ارتعاد فرائصه ... لا يقاس بآل محمد «ص» من هذه الأمّة أحد، و لا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا. هم أساس الدين و عماد اليقين. إليهم يفي ء الغالي، و بهم يلحق التالي و لهم خصائص حقّ الولاية و فيهم الوصية و الوراثة.» «3»

و فيه أيضا: و من خطبة له- عليه السلام- يذكر فيها آل محمد- صلّى اللّه عليه و آله و سلم-: «هم عيش العلم و موت الجهل يخبرهم حلمهم عن علمهم (و ظاهرهم عن باطنهم)

______________________________

(1)- الفقه الإسلامي و أدلّته 1/ 37.

(2)-

مبادي نظم الحكم في الإسلام لعبد الحميد المتولي/ 327.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 44؛ عبده 1/ 24؛ لح/ 47، الخطبة 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 84

و صمتهم عن حكم منطقهم، لا يخالفون الحقّ و لا يختلفون فيه. هم دعائم الإسلام و ولائج الاعتصام.

بهم عاد الحقّ في نصابه، و انزاح الباطل عن مقامه، و انقطع لسانه عن منبته، عقلوا الدين عقل وعاية و رعاية لا عقل سماع و رواية، فإنّ رواة العلم كثير و رعاته قليل.» «1»

و في مستدرك الحاكم النيسابوري بسنده، عن أبي ذر، قال: سمعت النبي «ص» يقول: «ألا إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من قومه؛ من ركبها نجا و من تخلّف عنها غرق.» «2»

و فيه أيضا بسنده، عن ابن عباس، قال: قال رسول اللّه «ص»: «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، و أهل بيتي أمان لأمّتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس.» «3»

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الواردة في حقّهم- عليهم السلام-.

و قال العلّامة شرف الدين الموسوي في كتاب المراجعات:

«و المراد بأهل بيته هنا مجموعهم من حيث المجموع باعتبار أئمّتهم، و ليس المراد جميعهم على سبيل الاستغراق، لأنّ هذه المنزلة ليست إلّا لحجج اللّه و القوّامين بأمره خاصّة، بحكم العقل و النقل. و قد اعترف بهذا جماعة من أعلام الجمهور. ففي الصواعق المحرقة لابن حجر: و قال بعضهم: يحتمل أن المراد بأهل البيت الذين هم أمان، علماؤهم لأنّهم الذين يهتدى بهم كالنجوم، و الذين إذا فقدوا جاء أهل الأرض من الآيات ما يوعدون ...» «4»

أقول: و لا أظنّ أنّ أحدا من المسلمين المنصفين يجترئ على تفضيل الأئمّة الأربعة في

فقه السنّة على الأئمّة الطاهرة من عترة النبي «ص» و أهل بيته في العلم و الفضائل.

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 825؛ عبده 2/ 259؛ لح/ 357، الخطبة 239.

(2)- مستدرك الحاكم 3/ 151، كتاب معرفة الصحابة.

(3)- مستدرك الحاكم 3/ 149، كتاب معرفة الصحابة.

(4)- المراجعات/ 76 (المراجعة الثامنة).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 85

نعم، سياسة الأمويّين و العباسيّين في عصرهم صنعت ما صنعت بالعترة و الآل، و ما أدراك ما السياسة، و ما الذي يتعقبها إذا كانت شيطانية!! فتدبّر في المقام و احتط لدينك.

و قد ظهر لك بما ذكرناه أنّ حصر الاجتهاد في الأئمّة الأربعة لأهل السنّة لا أساس له في الشريعة و أنّه قبل أن يكون أمرا دينيّا فقهيّا كان أمرا سياسيّا متطوّرا على حسب تطوّر السياسة في الأزمنة و الأمكنة. و الأئمة الأربعة بأنفسهم أيضا بريئون منه، فراجع الكتب المتعرضة لتاريخ المذاهب الأربعة و المتمذهبين بها.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 86

8- التقليد و أدلّته
[معنى التقليد و منشأه]

لا يخفى أنّ استنباط الأحكام الشرعية و استخراجها من أدلّتها و منابعها يكون بتصدّي المجتهد الفقيه العالم بالكتاب، و السنّة، و أحكام العقل القطعية، و ما يتوقّف عليه الاستنباط من العلوم المختلفة.

فمن يكون مجتهدا فعليه الاستنباط و العمل بما فهمه و استنبطه، أو الاحتياط في مقام العمل.

و من لم يبلغ مرتبة الاجتهاد فلا محالة يحتاط في العمل مع الإمكان أو يرجع إلى فتوى من اجتهد و استنبط.

و على هذا فعلى النوّاب في مجلس الشورى أيضا الرجوع في تخطيطهم و برامجهم السياسية إلى فتاوى المجتهد الواجد للشرائط. و الأحوط بل الأقوى في المسائل الخلافية رعاية الأعلميّة أيضا على ما يقتضيه ارتكاز العقلاء و سيرتهم، كما

أنّه المتعيّن لأمر الولاية أيضا إذا وجد سائر الشرائط كما مرّ.

و قد استقرّت سيرة العقلاء في جميع الأعصار و الأمصار من جميع الأمم و المذاهب على رجوع الجاهل في كلّ فنّ إلى العالم الخبير المتخصّص فيه إذا كان ثقة، و قد يعبّر عنه بأهل الخبرة.

فالمريض يرجع إلى الطبيب الحاذق الثقة و يعمل برأيه. و المتعاملان يرجعان في معاملاتهما إلى المتخصص في معرفة الأمتعة و قيمها. و هكذا في سائر الأمور التخصصية.

بل لا يمكن أن يستقيم نظام بدون التقليد إجمالا، إذ لا يوجد مجتمع يستطيع جميع أفراده تحصيل المعرفة التفصيلية بجميع ما يتّصل بحياتهم من الهندسة و الطبّ و أصول

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 87

الصناعات و الحرف الضروريّة.

و استمرّت سيرة أصحاب النبي «ص» و الأئمة «ع» أيضا على استفتاء بعضهم من بعض و العمل بقوله و فتياه من دون ردع منهم «ع».

و التقليد المذموم في الكتاب العزيز هو تقليد الأبناء للآباء أو الاتباع للرؤساء تعصّبا، أي تقليد الجاهل لجاهل مثله أو لفاسق غير مؤتمن، لا رجوع الجاهل في كل فنّ إلى العالم الخبير فيه إذا كان ثقة؛ فإنّه أمر فطريّ ضروريّ لا محيص عنه للمجتمعات و إن كانت في أعلى مراتب الرقي. و في الحقيقة ليس هذا تقليدا بل كسب علم بنحو الإجمال.

فالمجتهد يعرف حكم الواقعة بنحو التفصيل، و المقلّد برجوعه إلى العالم الثقة يكسب العلم أو الوثوق به إجمالا، و يعمل بما حصل له من العلم.

و الإشكال في السيرة بأنّها إنّما تفيد إذا اتصلت بعصر الأئمة «ع» و لم يردعوا عنها، و الاجتهاد بنحو يوجد في أعصارنا من إعمال الدقّة و استنباط الفروع من الأصول الكليّة لم يعهد

وجوده في تلك الأعصار، مدفوع. إذ التفريع على الأصول، و كذا مقايسة الأخبار المتعارضة و إعمال الترجيح فيها كان متعارفا بين أصحاب الأئمة «ع» أيضا، كما يشهد بذلك قوله «ع»: «إنّما علينا أن نلقى إليكم الأصول و عليكم أن تفرعوا» «1» هذا.

ما استدلوا به على حجّيّة فتوى الفقيه:
اشارة

و استدلوا على حجّيّة فتوى الفقيه مضافا إلى السيرة المذكورة ببعض الآيات و الروايات أيضا:

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 41، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 51.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 88

[الآيات]

1- فمن الآيات قوله- تعالى-: «وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ قَبْلِكَ إِلّٰا رِجٰالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ، فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ». «1»

بتقريب أنّ وجوب السؤال يستلزم وجوب القبول و ترتيب الأثر عليه و إلّا وقع لغوا، و إذا وجب قبول الجواب وجب قبول كلّ ما يصحّ أن يسأل عنه، إذ لا خصوصيّة لسبق السؤال.

2- و منها قوله- تعالى-: «وَ مٰا كٰانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً، فَلَوْ لٰا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ.» «2»

بتقريب أنّ الظاهر من الآية بمقتضى كلمة «لو لا» وجوب النفر، فتجب الغاية و غاية الغاية أيضا، أعني التفقّه و الإنذار و حذر القوم، و لأنّ طبع الحذر يناسب اللزوم. و المراد بالإنذار بقرينة لفظ التفقّه في الدين هو بيان الأحكام الشرعية، فذكر اللازم و أريد الملزوم. فتدل الآية على وجوب ترتيب الأثر على قول الفقيه المبيّن للأحكام. و إن شئت قلت إذا وجب بيان الأحكام وجب ترتيب الأثر و إلّا وقع لغوا.

3- و منها قوله: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مٰا أَنْزَلْنٰا مِنَ الْبَيِّنٰاتِ وَ الْهُدىٰ مِنْ بَعْدِ مٰا بَيَّنّٰاهُ لِلنّٰاسِ فِي الْكِتٰابِ أُولٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّٰهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللّٰاعِنُونَ.» «3»

فإنّ حرمة الكتمان تستلزم وجوب القبول بعد الإظهار و إلّا لزم اللغو.

4- و منها قوله- تعالى- حكاية عن إبراهيم الخليل: «يٰا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جٰاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مٰا لَمْ يَأْتِكَ، فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرٰاطاً سَوِيًّا.» «4»

______________________________

(1)- سورة النحل

(16)، الآية 43.

(2)- سورة التوبة (9)، الآية 122.

(3)- سورة البقرة (2)، الآية 159.

(4)- سورة مريم (19)، الآية 43.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 89

دلّت الآية على وجوب إطاعة العالم في علمه و المتابعة له. إلى غير ذلك من الآيات.

[الروايات]
اشارة

و أمّا الروايات فهي في غاية الكثرة و تنقسم إلى طوائف سبع.

الطائفة الأولى: ما ورد في مدح الرواة

و الترغيب في نشر الأحاديث و بيان الأحكام الشرعية، و هي كثيرة:

5- فمنها ما رواه الرضا «ع» عن آبائه «ع»، قال: قال رسول اللّه «ص»: «اللّهم ارحم خلفائي»- ثلاث مرات- فقيل له: يا رسول اللّه و من خلفاؤك؟ قال: «الذين يأتون من بعدي و يروون عنّي أحاديثي و سنّتي، فيعلمونها الناس من بعدي.» «1»

و قد مرّت أسانيد الحديث و شرحه في الفصل الثالث من الباب الخامس في الاستدلال به لإثبات ولاية الفقيه، و قلنا هناك أنّه ليس المراد به الحفّاظ لألفاظ الحديث نظير المسجّلات، بل المتفقّهون في أقواله «ص» و سنّته، فراجع ما حررناه هناك.

6- و منها خبر عبد السلام بن صالح الهروي، قال: سمعت الرضا «ع» يقول:

«رحم اللّه عبدا أحيا أمرنا.» قلت: و كيف يحيى أمركم؟ قال: «يتعلّم علومنا و يعلّمها الناس.» «2»

و تقريب الاستدلال بالحديثين يظهر ممّا مرّ و إن كان في الجميع إشكال يأتي بيانه.

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 66، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، الحديث 53.

(2)- الوسائل 18/ 102، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 11.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 90

الطائفة الثانية من الروايات: ما ورد من الأئمة- عليهم السلام- من إرجاع شيعتهم إلى الفقهاء منهم

بنحو العموم:

7- منها ما في توقيع صاحب الزمان- عليه السلام- الذي رواه الصدوق في كتاب كمال الدين، عن محمد بن محمد بن عصام الكليني، قال: حدثنا محمد بن يعقوب الكليني، عن إسحاق بن يعقوب، قال: سألت محمد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتابا قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليّ، فورد التوقيع بخطّ مولانا صاحب الزمان «ع»، و فيه: «و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، و أنا حجّة اللّه عليهم.» و رواه الشيخ أيضا في الغيبة بسنده

عن الكليني.

و رواه الطبرسي في آخر الاحتجاج أيضا عنه «1».

و قد مرّ البحث في سند الحديث و متنه في الفصل الثالث من الباب الخامس في إثبات ولاية الفقيه، و قلنا هناك أنّ إسحاق بن يعقوب مجهول، و أنّ الرواية و إن دلّت على جلالته و لكن الراوي لها نفسه. و نقل الكليني عنه و إن أشعر باعتماده عليه و لكن الرواية لم تذكر في الكافي و لا ندري ما هو الوجه في ذلك؟!

و كيف كان فالظاهر أنّ المراد بالرواة في الحديث هم الفقهاء المستند علمهم و فقههم إلى روايات أهل البيت، في قبال أهل القياس و الاجتهادات الظنّيّة.

و احتمال العهد و عدم العموم في الحوادث لا يضرّ بالاستدلال بعد عموم التعليل، أعني قوله «ع»: «فإنّهم حجّتي عليكم.» فهم بجعله «ع» صاروا حجّة علينا، كما هو حجّة اللّه المطلق. و اطلاقه يقتضي جواز الرجوع إلى فقهاء الشيعة و الأخذ

______________________________

(1)- كمال الدين/ 483، باب ذكر التوقيعات ...، الحديث 4، و الوسائل 18/ 101، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 91

بقولهم، سواء حصل العلم أو الوثوق من قولهم أم لا، فيكون حجة مطلقا.

8- و منها ما في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري- عليه السلام-: «فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا على هواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه، و ذلك لا يكون إلّا بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم.» «1»

و رواه الطبرسي أيضا في أواخر الاحتجاج عنه «ع» «2».

و الراوي لهذا التفسير هو الصدوق- عليه الرحمة- عن أبي الحسن محمد بن القاسم المفسّر الأسترآبادي الخطيب، قال: حدثني أبو يعقوب يوسف بن محمد

بن زياد و أبو الحسن علي بن محمد بن سيّار. و الثلاثة كلّهم مجاهيل و إن تكلّف في تنقيح المقال لتوثيقهم «3».

و مجرّد رواية الصدوق عنهم لا يدلّ على توثيقهم، فإنّه في غير الفقيه روى عن غير الموثقين كثيرا، بل فيه أيضا.

و قد قطع جمع من الأعلام منهم ابن الغضائري بكون التفسير موضوعا، و قالوا إنّ فيه مطالب لا يناسب صدورها عن الإمام- عليه السلام-.

و أمّا دلالة الرواية فواضحة. و إطلاقها يدلّ على حجّية قول الفقيه الواجد للشرائط مطلقا؛ حصل الوثوق من قوله أم لا. و لعلّ عدم إيجاب التقليد من جهة التخيير بينه و بين الاحتياط.

9- و منها ما رواه الكشّي بسنده، عن أحمد بن حاتم بن ماهويه، قال: كتبت إليه، يعني أبا الحسن الثالث «ع» أسأله عمّن آخذ معالم ديني، و كتب أخوه أيضا بذلك، فكتب «ع» إليهما: «فهمت ما ذكرتما، فاصمدا في دينكما على كلّ مسنّ في حبّنا، و كلّ كثير القدم في أمرنا، فإنّهما كافوكما إن شاء اللّه- تعالى-.» «4»

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 95، الباب 10 من أبواب صفات القاضي، الحديث 20.

(2)- الاحتجاج للطبرسي/ 255 (طبعة أخرى 2/ 263).

(3)- راجع تنقيح المقال 3/ 175 و 336، و 2/ 305.

(4)- الوسائل 18/ 110، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 45.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 92

و المراد بأخيه على ما قيل فارس أو طاهر بن حاتم. و أحمد بن حاتم مجهول.

و هل المراد بأخذ معالم الدين تعلّمها، أو أخذها تعبّدا و إن لم يحصل العلم و الوثوق؟ فعلى الثاني يكون وزان الخبر وزان الروايتين السابقتين. و لو أريد بمعالم الدين الأعمّ من الأصول و الفروع كما هو

الظاهر يرد عليه أنّ التقليد التعبّدي لا يجزي في الأصول إلّا أن تخصّص الرواية بالنسبة إلى أصول الدين بدليل آخر، فتدبّر.

فهذه ثلاث روايات ضعيفة من حيث السند، و لكن لها دلالة على حجّية قول الفقيه مطلقا و إن لم يحصل علم أو وثوق.

الطائفة الثالثة: ما ورد من الأئمّة- عليهم السلام- من إرجاع بعض الشيعة إلى بعض،

و بيان وثاقتهم و أمانتهم. و هي أيضا كثيرة:

10- فمنها ما رواه الكليني، عن محمد بن عبد اللّه الحميري و محمد بن يحيى جميعا، عن عبد اللّه بن جعفر الحميري، عن أحمد بن إسحاق، عن أبي الحسن «ع»، قال سألته و قلت: من أعامل أو عمّن آخذ و قول من أقبل؟ فقال له: العمري ثقتي، فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي، و ما قال لك عنّي فعنّي يقول، فاسمع له و أطع، فإنّه الثقة المأمون.

و أخبرني أبو علي أنّه سأل أبا محمد «ع» عن مثل ذلك، فقال له: العمري و ابنه ثقتان.

فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان، و ما قالا لك فعنّي يقولان، فاسمع لهما و أطعهما، فإنّهما الثقتان المأمونان ...» و رواه الشيخ أيضا في كتاب الغيبة «1».

و الرواية صحيحة. و أحمد بن إسحاق شيخ القميّين من خواصّ أبي محمد «ع».

______________________________

(1)- الكافي 1/ 329، كتاب الحجة، باب في تسمية من رآه، الحديث 1؛ و الوسائل 18/ 99، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 4.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 93

و المراد بالعمري و ابنه: عثمان بن سعيد العمري و ابنه محمد بن عثمان، و كلاهما من نوّاب الناحية المقدسة.

و هل الرواية في مقام جعل الحجيّة التعبّديّة لروايتهما أو لفتواهما، أو تكون إمضاء لما استقرّت عليه السيرة من العمل بقول الثقة المأمون رواية أو فتوى، و

إنّما تعرضت لكون الرجلين من مصاديق ما استقرت عليه السيرة؟ وجهان.

ظاهر تعليل الإمام- عليه السلام- هو الثاني. إذ التعليل يقع عادة بذكر كبرى كليّة ارتكازيّة معلومة للمخاطب. و سبق العهد بكبرى كليّة شرعيّة بهذا المضمون بعيد جدا.

ثمّ هل تكون الرواية دليلا لحجيّة رواية الثقة أو فتواه، أو كلتيهما؟ لعلّ الظاهر هو الأخير. إذ الفتوى في تلك الأعصار كانت قليلة المؤونة؛ فإن ذكر الرواية بقصد الحكاية عن الإمام كان رواية، و إن ذكرها بقصد الحكاية عمّا فهمه و أدركه من الحكم الشرعي كان فتوى.

11- و منها ما رواه الكشي بسنده، عن شعيب العقرقوفي، قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع»، ربّما احتجنا أن نسأل عن الشي ء، فمن نسأل؟ قال: «عليك بالأسدي، يعني أبا بصير.» «1»

12- و منها ما رواه الكشي أيضا، عن عبد اللّه بن أبي يعفور، قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع»: إنّه ليس كلّ ساعة ألقاك و لا يمكن القدوم، و يجي ء الرجل من أصحابنا فيسألني و ليس عندي كلّ ما يسألني عنه؟ فقال: «ما يمنعك من محمد بن مسلم الثقفي، فإنّه سمع من أبي و كان عنده وجيها.» «2»

و الرواية بنفسها شاهدة على أنّ رجوع بعض الأصحاب إلى بعض و الاستفتاء منه كان أمرا متعارفا.

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 103، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 15.

(2)- الوسائل 18/ 105، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 23.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 94

13- و منها ما رواه أيضا عن يونس بن يعقوب، قال: كنّا عند أبي عبد اللّه «ع» فقال: «أ ما لكم من مفزع؟ أ ما لكم من مستراح تستريحون إليه؟ ما يمنعكم من الحارث بن المغيرة النضري؟»

«1»

14- و منها ما رواه عن عليّ بن المسيّب الهمداني، قال: قلت للرضا «ع»:

«شقتي بعيدة و لست أصل إليك في كلّ وقت، فممّن آخذ معالم ديني؟ قال: «من زكريا بن آدم القميّ المأمون على الدين و الدنيا.» قال عليّ بن المسيّب: فلمّا انصرفت قدمنا على زكريا بن آدم فسألته عمّا احتجت إليه «2».

15- و منها ما رواه عن عبد العزيز بن المهتدي و الحسن بن علي بن يقطين جميعا عن الرضا «ع»، قال: قلت: لا أكاد أصل إليك أسألك عن كلّ ما احتاج إليه من معالم ديني، أ فيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟

فقال: نعم. «3»

16- و منها ما رواه أيضا عن عبد العزيز بن المهتدي- و كان خير قميّ رأيته، و كان وكيل الرضا «ع» و خاصّته- قال: سألت الرضا «ع» فقلت: إنّي لا ألقاك في كلّ وقت، فممّن آخذ معالم ديني؟ فقال: «خذ عن يونس بن عبد الرحمن.» «4»

17- و منها ما رواه أيضا عن عبد العزيز بن المهتدي، قال: قلت للرضا «ع»: إنّ شقّتي بعيدة فلست أصل إليك في كلّ وقت، فآخذ معالم ديني عن يونس مولى آل يقطين؟ قال: نعم. «5»

أقول: الشقّة بالضم و التشديد: المسافة التي يشقّها المسافر.

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 105، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 24.

(2)- الوسائل 18/ 106، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 27.

(3)- الوسائل 18/ 107، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 33.

(4)- الوسائل 18/ 107، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 34.

(5)- الوسائل 18/ 107، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 35.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 95

18- و يشبه هذه الطائفة ما رواه الكشي بسنده عن جميل بن دراج، قال:

سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: «بَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ بالجنة: بريد بن معاوية العجلي، و أبو بصير ليث بن البختري المرادي، و محمد بن مسلم، و زرارة. أربعة نجباء أمناء اللّه على حلاله و حرامه.

لو لا هؤلاء انقطعت آثار النبوّة و اندرست.» «1»

19- و ما رواه بسنده عن سليمان بن خالد، قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: «ما أجد أحدا أحيا ذكرنا و أحاديث أبي «ع» إلّا زرارة، و أبو بصير ليث المرادي، و محمد بن مسلم، و بريد بن معاوية العجلي. و لو لا هؤلاء ما كان أحد يستنبط هذا. هؤلاء حفّاظ الدين و أمناء أبي على حلال اللّه و حرامه ...» «2» هذا.

و الظاهر أنّ هذه الأحاديث بكثرتها ليست في مقام جعل الحجّية التعبّديّة لخبر الثقة أو فتواه، بل مفادها إمضاء السيرة المستمرة و بيان المصداق لموضوعها، فتدبّر.

الطائفة الرابعة: ما اشتمل على الأمر بالإفتاء و الترغيب فيه:

20- فمنها ما رواه الشيخ الطوسي، عن أبي جعفر الباقر «ع» أنّه قال لأبان بن تغلب: «اجلس في مسجد المدينة و أفت الناس، فإنّي أحبّ أن يرى في شيعتي مثلك.» «3»

21- و منها ما رواه الكشي بسنده، عن معاذ بن مسلم النحوي، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «بلغني أنّك تقعد في الجامع فتفتي الناس؟» قلت: نعم و أردت أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج. إنّي أقعد في المسجد فيجي ء الرجل فيسألني عن الشي ء، فإذا عرفته بالخلاف لكم أخبرته بما يفعلون. و يجي ء الرجل أعرفه بمودّتكم

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 103، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 14.

(2)- الوسائل 18/ 104، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 21.

(3)- الفهرست للطوسي/

17 (طبعة أخرى/ 41).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 96

و حبّكم، فأخبره بما جاء عنكم. و يجي ء الرجل لا أعرفه و لا أدري من هو، فأقول:

جاء عن فلان كذا و جاء عن فلان كذا، فأدخل قولكم فيما بين ذلك. فقال لي:

«اصنع كذا، فإنّي كذا أصنع.» و رواه الصدوق في العلل أيضا. «1»

22- و منها ما في نهج البلاغة في كتابه إلى قثم بن عباس، و هو عامله على مكّة:

«أمّا بعد، فأقم للناس الحجّ، و ذكّرهم بأيّام اللّه و اجلس لهم العصرين فأفت المستفتي و علّم الجاهل و ذاكر العالم.» «2»

و يشبه هذه الطائفة ما في قصّة بعث رسول اللّه «ص» مصعب بن عمير و عمرو بن حزم:

23- ففي سيرة ابن هشام في قصّة بيعة العقبة: «قال ابن إسحاق: فلمّا انصرف عنه القوم بعث رسول اللّه «ص» معهم مصعب بن عمير ... و أمره أن يقرئهم القرآن و يعلّمهم الإسلام و يفقّههم في الدين.» «3»

24- و في السيرة، و الطبري: «و بعث رسول اللّه «ص» عمرو بن حزم واليا على بنى الحارث ليفقّههم في الدين و يعلّمهم السنّة و معالم الإسلام.» «4»

إذ تفهيم فروع الدين و الأحكام لم يكن إلّا بالإفتاء فيها، كما لا يخفى.

و تقريب الاستدلال بهذه الروايات أنّ فائدة الإفتاء هي ترتيب الأثر عليه و العمل على طبق الفتوى، و إلّا وقع لغوا. فبدلالة الاقتضاء يفهم جواز العمل به.

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 108، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 36.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 1062؛ عبده 3/ 140؛ لح/ 457، الكتاب 67.

(3)- سيرة ابن هشام 2/ 76.

(4)- سيرة ابن هشام 4/ 241؛ و نحوه في تاريخ الطبري 4/ 1727.

دراسات في

ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 97

الطائفة الخامسة من الروايات: ما دلّ على حرمة الإفتاء بغير علم،

حيث يستفاد منها جواز أصل الإفتاء و صحّته:

25- فمنها ما رواه الصدوق في معاني الأخبار بسنده، عن حمزة بن حمران، قال:

«سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: «من استأكل بعلمه افتقر.» قلت: إنّ في شيعتك قوما يتحمّلون علومكم و يبثّونها في شيعتكم، فلا يعدمون منهم البرّ و الصلة و الإكرام؟

فقال: «ليس أولئك بمستأكلين، إنّما ذاك الذي يفتي بغير علم و لا هدى من اللّه ليبطل به الحقوق طمعا في حطام الدنيا.» «1»

26- و منها ما رواه الكليني بسند صحيح، عن أبي عبيدة، قال: قال أبو جعفر «ع»: «من أفتى الناس بغير علم و لا هدى من اللّه لعنته ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب، و لحقه وزر من عمل بفتياه.» «2»

إلى غير ذلك من الروايات، فراجع.

الطائفة السادسة: ما دلّ على أنّ الإفتاء و الأخذ به كان متعارفا

و لم يردع عنه الأئمّة بل قرّروه:

27- فمنها خبر علي بن أسباط، قال: قلت للرضا «ع»: يحدث الأمر لا أجد بدّا

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 102، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 12.

(2)- الوسائل 18/ 9، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 98

من معرفته، و ليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك، قال: فقال:

«ايت فقيه البلد فاستفته من أمرك، فإذا أفتاك بشي ء فخذ بخلافه، فإنّ الحقّ فيه.» «1»

و لعلّ الراوي كان بلغه حديثان متعارضان في المسألة، و في مثله يحمل الموافق لأهل الخلاف على صدوره تقيّة، أو أنّه في عصر الرضا «ع» كان بناء فقهاء السلاطين على الإفتاء بخلاف أهل البيت.

28- و منها ما رواه الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، رفعه، قال: سألت امرأة أبا عبد اللّه «ع» فقالت: إنّي كنت أقعد في نفاسي

عشرين يوما حتّى أفتوني بثمانية عشر يوما؟ فقال أبو عبد اللّه «ع»: و لم أفتوك بثمانية عشر يوما؟ فقال رجل للحديث الّذي روي عن رسول اللّه «ص» ...» «2»

إلى غير ذلك من الروايات التي يظهر منها إمضاء الإمام و تقريره لأصل الإفتاء و الأخذ به.

الطائفة السابعة: ما دلّ على إرجاع أمر القضاء إلى الفقهاء من الشيعة

و إيجاب القبول لحكمهم:

29- فمنها ما مرّ من مقبولة عمر بن حنظلة في حكم المتنازعين، و فيها: «ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا، و نظر في حلالنا و حرامنا، و عرف أحكامنا؛ فليرضوا به حكما، فإنّي قد جعلته عليكم حاكما. فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم اللّه و علينا ردّ، و الرادّ علينا الرادّ على اللّه و هو على حدّ الشرك باللّه.» «3»

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 83، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 33.

(2)- الوسائل 2/ 613، الباب 3 من أبواب النفاس، الحديث 7.

(3)- الوسائل 18/ 99، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 99

30- و منها خبر أبي خديجة، و فيه: «اجعلوا بينكم رجلا ممّن قد عرف حلالنا و حرامنا، فإنّي قد جعلته قاضيا.» «1»

و تقريب الاستدلال بها أنّ القضاء يلازم الإفتاء؛ فإذا كان القضاء نافذا و لم يجز ردّه لزم منه كون الإفتاء أيضا نافذا.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 2، ص: 99

فهذه سبع طوائف من الروايات التي ربّما استدل بها على حجيّة فتوى المجتهد لمن رجع إليه و قلّده.

المناقشة في أدلّة التقليد:

أقول: التقليد المصطلح عليه في أعصارنا عبارة عن الأخذ بقول الفقيه العادل تعبّدا، و إن فرض أنّه لم يحصل للمقلّد الوثوق و الاطمينان بمطابقته للواقع. فيكون قول الفقيه العادل و فتياه حجّة تأسيسية تعبّدية، نظير حجّيّة البيّنة الثابتة بخبر مسعدة بن صدقة.

و لا يخفى أنّ إثبات ذلك بالآيات المذكورة و أكثر الروايات

التي مرّت مشكل، لعدم كونها في مقام جعل التكليف الظاهريّ للجاهل و أنّه متعبّد بالأخذ بأقوال العلماء و فتاواهم و إن لم يحصل له وثوق بكونها مطابقة للواقع.

بل الظاهر من آية السؤال أنّ الجاهل يجب عليه السؤال حتى يحصل له العلم و لو بنحو الإجمال. و يشهد لذلك أنّ الظاهر منها بقرينة المورد كون المقصود هو السؤال عن مواصفات الأنبياء التي لا يجزي فيها الظن و التقليد قطعا.

و المراد بأهل الذكر على هذا أهل الكتاب من اليهود، كما عن ابن عباس

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 100، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 6. و لفظة «عليكم» بعد قوله «جعلته» ليست في التهذيب بطبعيه، و إن وجدت في الوسائل.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 100

و مجاهد. و في بعض الأخبار أنّ المراد بأهل الذكر هم الأئمة الاثنا عشر- عليهم السلام- «1».

و كيف كان فلا ترتبط بباب التقليد التعبّدي.

هذا مضافا إلى أنّ الآية في مقام بيان وجوب السؤال، لا وجوب العمل بما أجيب حتى يتمسك بإطلاقه لصورة عدم حصول الوثوق و العلم أيضا. و يكفي في عدم لغوية السؤال ترتب فائدة ما عليه، و هو العمل بالجواب مع الوثوق.

و بذلك يظهر الجواب عن آية الكتمان أيضا.

و أمّا آية النفر، فمحطّ النظر فيها هو بيان وجوب تعلّم العلوم الدينيّة و التفقّه فيها بالنفر إلى مظانّها، ثمّ نشرها في البلاد ليعمّ العلم جميع العباد فيتعلّم غير النافرين من النافرين لعلّهم يحذرون.

و ليست في مقام جعل الحجّيّة التعبّديّة لقول الفقيه و بيان وجوب الحذر من قوله مطلقا حتّى يتمسّك بإطلاقه لصورة عدم حصول العلم و الوثوق أيضا.

نعم، يحصل غالبا للجهال العلم العادي و سكون النفس

بصحّة ما أنذروا به إجمالا إذا كان المنذر ثقة من أهل الخبرة. و يكفي هذا قطعا، إذ العلم حجّة ذاتا و يكون عند العقلاء أعمّ ممّا لا يحتمل فيه الخلاف أصلا، أو يكون احتمال الخلاف فيه ضعيفا جدّا بحيث لا يعتنى به و يكون وجوده كالعدم، و نعبّر عنه بالوثوق و الاطمينان و سكون النفس و نحو ذلك.

و يشهد لعدم كون الآية في مقام بيان الحكم الظاهري التعبّدي رواية عبد المؤمن الأنصاري، عن أبي عبد اللّه «ع» الواردة في تفسيرها، قال «ع»: «فأمرهم أن ينفروا إلى رسول اللّه «ص» فيتعلّموا ثمّ يرجعوا إلى قومهم فيعلّموهم.» «2» فالغرض هو التعلّم ثمّ التعليم، لا التعبّد المحض.

______________________________

(1)- راجع اصول الكافي 1/ 210، كتاب الحجّة، باب أن أهل الذكر ... هم الأئمة.

(2)- الوسائل 18/ 101، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 101

و يشهد له أيضا الاستدلال بها في أخبارنا لوجوب نفر البعض لمعرفة الإمام ثم تعريفه للباقين. «1»

مع وضوح أنّ الإمامة من المسائل الاعتقاديّة التي لا يجري و لا يجزي فيها التعبّد و التقليد.

و بذلك يظهر الأمر في قول الخليل «ع» لأبيه أيضا، إذ ليس مراده المتابعة التعبّدية، فإنّ التوحيد و نفي الشرك من أصول الدين و لا مجال للتعبّد فيه.

و كذلك الكلام في الطائفة الأولى من الروايات، فإن المقصود فيها بثّ العلم و نشره، و لذا قال: «فيعلّمونها الناس من بعدي.» فلا ربط لها بالتقليد التعبّدي.

و أمّا الطائفة الثالثة الواردة في إرجاع بعض الشيعة إلى بعض، فالظاهر أنّها ليست بصدد التأسيس و جعل الحجية لقول الفقيه أو الراوي تعبّدا، بل تكون إمضاء لما استقرّت عليه السيرة

من الأخذ بقول الخبير الثقة و بيانا لكون الأفراد المذكورة من مصاديق موضوعها.

هذا مضافا إلى امكان منع كونها مرتبطة بباب الاجتهاد و الإفتاء، بل لعلّها مرتبطة بباب الرواية. و بين البابين بون بعيد. فإنّ الراوي يحكي عن الإمام، و المفتي يحكي عن فهم نفسه و رأيه. اللّهم إلّا أن يقال بعمومها لكلا البابين.

و أمّا ما دلّ على الترغيب في الإفتاء أو جوازه أو تقريره، فلا يدلّ على وجوب القبول و التعبّد به مطلقا، لعدم كونها في مقام البيان من هذه الجهة، بل لعلّ الواجب هو العمل بالفتوى بعد حصول الوثوق بمطابقته للواقع، كما عليه السيرة.

و ليست فائدة الإفتاء منحصرة في التعبّد به بنحو الإطلاق حتّى يحكم بذلك بدلالة الاقتضاء.

______________________________

(1)- أصول الكافي 1/ 378، كتاب الحجة، باب ما يجب على الناس عند مضي الإمام.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 102

و أما ما دلّ على إرجاع أمر القضاء إلى الفقهاء فالتعدّي منه إلى غير باب القضاء متوقّف على إلغاء الخصوصيّة و القطع بعدم دخالتها، و هو ممنوع. لارتباط القضاء بالمتنازعين، فلا يمكن فيه الاحتياط، و فصل الخصومة ممّا لا محيص عنه. ففي مثله يكون حكم الفقيه نافذا حتّى مع العلم بالخلاف أيضا فضلا عن صورة الشكّ.

و بالجملة، إثبات التقليد التعبّدي بهذه الآيات و الروايات مشكل.

نعم، الطائفة الثانية من الروايات، أعني التوقيع الشريف و ما في تفسير الإمام و خبر أحمد بن حاتم بن ماهويه ظاهرة في جعل الحجّية لقول الفقيه الثقة و جواز العمل بقوله مطلقا و إن لم يحصل العلم و الوثوق، فيكون حجّة تأسيسيّة شرعية.

و لكن الإشكال في سندها، كما مرّ. فإثبات هذا الحكم الأساسيّ بمثل هذه الروايات الضعيفة غير

المذكورة في الكتب الأربعة التي عليها المدار مشكل.

فالعمدة في الباب هي بناء العقلاء و سيرتهم

على رجوع الجاهل في كلّ فن إلى العالم فيه. و لا مجال للإشكال فيها، لحصولها في جميع الأعصار و الأمصار و جميع الأمم و المذاهب.

و قد استقرّت سيرة الأصحاب أيضا في عصر النبي «ص» و الأئمة «ع» على رجوع الجاهل إلى العالم و الاستفتاء منه و العمل بما سمعه من الخبير الثقة.

و لكن ليس بناء العقلاء مبنيّا على التعبّد من ناحية الآباء أو الرؤساء، و لا على إجراء دليل الانسداد و أنّهم مع الالتفات إلى انسداد باب العلم اضطرّوا إلى العمل بالتقليد و الظنّ، و لا على اعتماد كلّ فرد في عمله على عمل سائر العقلاء و بنائهم.

بل من جهة اعتماد كلّ فرد في عمله هذا على علم نفسه و الإدراك الحاصل في ضميره. فالمراد بناء العقلاء بما هم عقلاء، حيث إنّ الجاهل برجوعه إلى الخبير الثقة يحصل له الوثوق و الاطمينان، و هو علم عادي تسكن به النفس، و العلم حجّة عند العقل.

فيرجع بناء العقلاء هنا إلى حكم العقل، حيث إنّهم لا يتقيّدون في نظامهم

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 103

بالعلم التفصيلي المستند إلى الدليل في جميع المسائل، بل يكتفون بالعلم الإجمالي أيضا. كما لا يتقيّدون بما لا يحتمل فيه الخلاف أصلا، بل يكتفون بالوثوق و العلم العادي أيضا، أي ما يكون احتمال الخلاف فيه ضعيفا جدا. و ليس في هذا تعبّد أصلا، لعدم التعبّد في عمل العقلاء بما هم عقلاء.

فإذا فرض أنّه في مورد خاص لم يحصل لهم الوثوق الشخصي بقول أهل الخبرة لجهة من الجهات- كما ربما يتّفق ذلك في المسائل التفريعيّة الدقيقة الخلافيّة- فإن لم يكن الموضوع

مهمّا و جاز فيه التسامح أمكن أيضا العمل رجاء. و أمّا إذا كان الموضوع من الأمور المهمّة التي لا يتسامح فيها كالمريض الدائر أمره بين الحياة و الموت مثلا فلا محالة يحتاطون حينئذ إن أمكن، أو يرجعون فيه إلى خبير آخر أو شورى طبيّة مثلا.

و لا يخفى أن مسائل الدين و الشريعة كلّها مهمّة لا يجوز لها فيها التسامح و التساهل.

و بالجملة، فالملاك في بناء العقلاء و عملهم حصول الوثوق الشخصيّ. و ليس هذا تقليدا تعبديّا، بل هو علم عادي بنحو الإجمال يكتفي به العقلاء.

و بعبارة أخرى، إن كان التقليد عبارة عن العمل بقول الغير من دون مطالبة الدليل فهذا يكون تقليدا، و أمّا إذا كان عبارة عن الأخذ بقول الغير تعبّدا فعمل العقلاء ليس تقليدا، إذ ليس بينهم تعبّد.

و يجري ما ذكرناه في جميع الأمارات العقلائيّة التي لا تأسيس فيها للشارع، فإنّ العقلاء لا يعتمدون عليها إلّا مع حصول الوثوق و العلم العادي.

فإن قلت: المعتبر في إحراز الواقعيّات و إن كان هو الوثوق الشخصي و العلم العادي، و لكنّ بناء العقلاء في مقام الاحتجاج الدائر بين الموالي و العبيد هو الاحتجاج بقول الخبير الثقة مطلقا، فلا يسمع اعتذار العبد في مخالفته لقول الخبير الثقة بأنّه لم يحصل له الوثوق شخصا.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 104

قلت: لا نسلّم الفرق بين المقامين؛ فلو فرض أنّ المولى فوّض أمر ابنه إلى عبده، فمرض الابن و ذهب به العبد إلى طبيب، فصادف أنّ العبد تردّد في صحّة طبابته لجهة من الجهات، و كان يتمكّن من الاحتياط أو الرجوع إلى طبيب آخر أو شورى طبيّة، فترك ذلك و عمل بقول الطبيب الأوّل و

اتّفق أنّ الابن مات لذلك، فإذا اطّلع المولى على تفصيل الواقعة فهل ليس له أن يعاتب العبد؟ و هل يسمع اعتذار العبد بأنّه عمل بتكليفه من الرجوع إلى الطبيب؟

و الحاصل أنّ الرجوع إلى فقهاء أصحاب النبي «ص»، و كذا أصحاب الأئمة- عليهم السلام- أمثال زرارة، و محمّد بن مسلم، و بريد العجلي، و ليث بن البختري المرادي، و يونس و غيرهم من بطانة الأئمة «ع» كان أمرا متعارفا، كما تعارف إرجاع الأئمة «ع» أيضا إليهم، و لكن لم يكن الاجتهاد في تلك الأعصار بحسب الغالب مبتنيا على المباني الصعبة الدقيقة، بل كان خفيف المؤونة جدّا، فكان يحصل الوثوق غالبا للمستفتي و كان يعمل بوثوقه و اطمينانه الحاصل من فتوى الفقيه.

فكذلك في أعصارنا لو حصل الوثوق بصحّة فتوى المفتي و كونه مطابقا للواقع، كما لعلّه الغالب أيضا للأغلب، صحّ الأخذ به.

و في الحقيقة العمل إنّما يكون بالوثوق الذي هو علم عاديّ تسكن به النفس، لا بالتقليد و التعبّد.

و أمّا إذا لم يحصل الوثوق في مورد خاصّ لجهة من الجهات، فالعمل به تعبّدا مشكل.

نعم، لو ثبت جعل الشارع قول الفقيه حجّة تأسيسيّة تعبّدية، نظير جعل البينة حجّة في الدعاوي، صحّ العمل به و إن لم يحصل الوثوق، بل و إن حصل ظنّ ما بالخلاف، و لكن إثبات ذلك مشكل. إذ ما استدلّ به من الآيات و الروايات لإثبات ذلك إمّا أن تكون مرتبطة بباب التعليم و التعلّم، أو تكون إرشادا إلى

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 105

ما عليه بناء العقلاء و سيرتهم، أو تكون في مقام بيان المصاديق لذلك، أو يكون سندها مخدوشا، فتدبّر. هذا.

و لكن لقائل أن يقول: إنّ مقتضى

ما ذكرت وجوب الاحتياط فيما إذا لم يحصل الوثوق الشخصي من قول الثقة أو فتواه أو غيرهما من الأمارات مطلقا، سواء كان الشك في ثبوت التكليف أو في سقوطه بعد ثبوته، و سواء كان الموضوع من الأمور المهمّة كالدماء و الفروج أو من غيرها، و لا نظنّ أحدا يلتزم بذلك.

فالحقّ في المسألة هو التفصيل؛ فإن كان الشك في سقوط التكليف بعد ثبوته و لو بالعلم الإجمالي وجب الاحتياط أو العمل بأمارة شرعيّة أو عقلائيّة توجب العلم أو الوثوق بالامتثال. و كذلك الكلام إذا كان الشك في أصل ثبوت التكليف و لكن الموضوع كان من الأمور المهمة. و أمّا في غيرها فتجري البراءة العقلية و الشرعية. نعم، مع وجود الأمارة الشرعية أو العقلائية على التكليف يجب الأخذ بها و إن لم يحصل الوثوق الشخصي، إذ مع وجودها يحكم العقلاء بجواز احتجاج المولى على العبد، و لا يسمع اعتذاره بعدم حصول الوثوق له شخصا، فتدبّر. هذا.

كلام ابن زهرة في التّقليد:

و قد ناسب في المقام نقل كلام ابن زهرة في أوائل الغنية، قال:

«فصل: لا يجوز للمستفتي تقليد المفتي، لأنّ التقليد قبيح. و لأنّ الطائفة مجمعة على أنّه لا يجوز العمل إلّا بعلم.

و ليس لأحد أن يقول: قيام الدليل و هو إجماع الطائفة على وجوب رجوع العامي إلى المفتي و العمل بقوله مع جواز الخطأ عليه يؤمنه من الإقدام على قبيح و يقتضي إسناد عمله إلى علم.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 106

لأنّا لا نسلّم إجماعها على العمل بقوله مع جواز الخطأ عليه، و هو موضع الخلاف.

بل إنما أمروا برجوع العامي إلى المفتي فقط، فأمّا ليعمل بقوله تقليدا فلا.

فإن قيل: فما الفائدة في رجوعه إليه إذا لم

يجز له العمل بقوله؟

قلنا: الفائدة في ذلك أن يصير له بفتياه و فتيا غيره من علماء الإمامية سبيل إلى العلم بإجماعهم فيعمل بالحكم على يقين.» «1» انتهى كلام الغنية.

ثمّ على فرض دلالة الآيات و الروايات و السيرة على الحجّيّة التعبّدية لقول الفقيه فالاطلاع عليها و تحقيق دلالتها خارج من وسع العامي لتوقّف ذلك على الاجتهاد في هذه المسألة. اذ التقليد فيها يوجب التسلسل، كما لا يخفى. كما أن جواز العمل بالاحتياط و تشخيص موارده و كيفيته أيضا يتوقف على الاجتهاد في هذه المسألة أو التقليد فيها.

فلا يبقى للعاميّ في بادي الأمر إلّا الرجوع إلى أهل الخبرة و العمل بقوله بعد حصول الوثوق و الاطمينان الذي هو علم عاديّ، و حجّيته تكون ذاتية، فتدبّر.

و أمّا ما قد يرى من بعض العوام من التعبّد المحض بفتوى المجتهد مطلقا من دون التفات إلى أنّه يطابق الواقع أم لا، بل و إن التفتوا إلى ذلك و شكّوا في مطابقته له، فلعلّه من جهة ما لقّنوا كثيرا بأنّ تكليف العامي ليس إلّا العمل بفتوى المجتهد، و أنّ ما أفتى به المفتي فهو حكم اللّه في حقّه مطلقا. و الظاهر أنّ هذه الجملة تكون من بقايا إلقاءات المصوّبة، و إن تردّدت على ألسنتنا أيضا. هذا.

طريق آخر إلى مسألة التقليد:

و لكن هنا طريق آخر إلى مسألة التقليد ربّما ينقدح في بعض الأذهان، و إن كان لا يخلو من إشكال. و هو أنّ المناصب الثلاثة أعني بيان الشريعة، و أمر

______________________________

(1)- الجوامع الفقهية/ 485.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 107

القضاء، و الولاية الكبرى كلّها اجتمعت في عصر النبي الأكرم «ص» للنبي «ص». و في عصر الأئمة الاثنى عشر أيضا كانت الثلاثة

لهم عندنا. و في الحقيقة كان بيان الأحكام و القضاء أيضا من شئون من له الولاية و الإمامة الحقّة.

فكذلك في عصر الغيبة أيضا يكون المرجع للقضاء و للإفتاء من له الولاية الكبرى، أعني الفقيه الجامع للشرائط التي مرّت بالتفصيل. حيث إنّ الدين و السياسة في الشريعة الإسلامية متلازمان. فالمتصدي لإدارة شئونهما يجب أن يكون شخصا واحدا جامعا لصفات الإفتاء و القضاء و الولاية، و إن توقفت إدارة كلّ منها على الاستعانة بالآخرين.

و يشهد لذلك مجموع الآيات و الروايات التي مرّت منّا في الفصل الأوّل من هذا الباب، حيث ذكر فيها جهات الدين و السياسة توأما.

و يدلّ عليه أيضا ما مرّ من قوله «ص»: «اللّهم ارحم خلفائي.» ثلاث مرّات فقيل له: «يا رسول اللّه، و من خلفاؤك؟» قال: «الذين يأتون من بعدي و يروون عنّي أحاديثي و سنّتي، فيعلّمونها الناس من بعدي.» «1»

حيث إنّ المتبادر من خلفائه خلفاؤه في جميع شئونه العامّة، فتشمل الثلاثة.

و كذا قوله «ع» في التوقيع الذي مرّ: «و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، و أنا حجة اللّه عليهم.» «2»

إذ المراد بالحوادث، الأمور الحادثة للمسلمين في كلّ عصر و زمان إذا أشكل عليهم تشخيص هويّتها أو الأحكام المنطبقة عليها.

فيعلم بذلك أنّ المرجع للعلم بالكليات المأثورة و للعلم بالحوادث الواقعة شخص واحد. فصاحب العصر- عجل اللّه فرجه- جعل الفقيه المبتني فقهه على روايات أهل البيت مرجعا لكلا الأمرين من الإفتاء و الولاية.

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 66، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، الحديث 53.

(2)- الوسائل 18/ 101، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9. و اعتمد في النقل على كمال الدين/ 484.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة

الإسلامية، ج 2، ص: 108

و كذلك ما مرّ في كلام سيد الشهداء «ع» من قوله: «ذلك بأنّ مجاري الأمور و الأحكام على أيدي العلماء باللّه الأمناء على حلاله و حرامه.» «1» فجعل منصب الولاية لمن له حقّ الإفتاء.

و هكذا مقبولة عمر بن حنظلة «2». إذ منصب القضاء أو الولاية المجعولة فيها يلازم دائما الإفتاء أيضا.

و بالجملة، المناصب الثلاثة متلازمة، و كلّها مجعولة لشخص واحد، فيكون منصب الإفتاء أيضا مجعولا تعبّديّا. و لا محالة يشترط في المفتي شروط خاصّة أيضا ذكروها في محلّها.

و بالجملة مرجعيّة الفتوى ليست إلّا تداوم مقام الولاية و الإمامة، و لأجل ذلك أجمع فقهاؤنا على عدم جواز تقليد الميت. هذا.

و لكن قد مرّ منّا الإشكال في انحصار طريق الإمامة في النصب، و في دلالة الأدلّة عليه ثبوتا و إثباتا. و لعلّ الشارع المقدّس أحال تعيين الوالي في عصر الغيبة إلى انتخاب الأمّة مع رعاية الشرائط المعتبرة، و أمر الإفتاء إلى ما استقرّت عليه السيرة كما مرّ بيانها، فتدبّر.

و حيث إنّ الوالي المنتخب يراعى فيه الشروط الثمانية التي مرّت و منها الفقاهة بل الأعلميّة مع الإمكان فلا محالة مع كون الأعلم واجدا لسائر الشرائط يتعيّن انتخابه للولاية، فتجتمع المناصب الثلاثة لواحد قهرا. و هو الأنسب لمصالح الإسلام و المسلمين، حيث إنّ المقصود جمع أمر المسلمين و توحيد كلمتهم، و لا يحصل ذلك إلّا بوحدة الإمام و القائد.

______________________________

(1)- تحف العقول/ 238.

(2)- الوسائل 18/ 99، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 109

و لكن اللازم هو أن يستعين الإمام في كلّ شأن من الشؤون الثلاثة بأهل الخبرة فيه.

ففي الإفتاء أيضا يلزم أن يدعو جماعة

من أهل الفتوى و النظر و يعقد شورى فتوى يرجع إليها في المسائل المعضلة، فلا يفتي فيها إلّا بعد تلاقح الأفكار و استماع الأنظار المختلفة، إذ ربّما هلك من استبدّ برأيه.

بل ربّما يتوقّف الإفتاء في بعض المسائل السياسية أو الاقتصاديّة أو العسكريّة المستحدثة على معرفة خصوصيّات الموضوعات المستحدثة و الإحاطة بأطرافها و نواحيها أيضا، فيجب الاستمداد من المتخصصين فيها؛ فلربّما يؤثّر ذلك في معرفة الحكم الشرعي المنطبق عليها، فتدبّر.

و قد طال البحث في هذه المسألة فأعتذر من القرّاء الكرام.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 110

الثانية من السلطات الثلاث: السلطة التنفيذية و فيها جهات من البحث:

1- المراد منها و الحاجة اليها و مراتبها:

المراد بهذه السلطة هم الوزراء و الأمراء و المدراء و العمّال و الضبّاط و الكتّاب في الشؤون المختلفة و الدوائر المتفرقة في البلاد و النواحي. و أهمّها و أعلى مراتبها في أعصارنا هي الوزارة. و ليس اسم الوزارة أمرا مستحدثا بعد النبي «ص» كما توهّم.

1- فقد ترى أنّ موسى «ع» استدعى من ربّه وزارة أخيه و قال على ما في القرآن الكريم: «وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هٰارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي.» «1»

2- و قال- تعالى-: «وَ لَقَدْ آتَيْنٰا مُوسَى الْكِتٰابَ وَ جَعَلْنٰا مَعَهُ أَخٰاهُ هٰارُونَ وَزِيراً.» «2»

3- و عن أمير المؤمنين أنّ النبي «ص» قال مخاطبا لعشيرته في قصّة دعوته لهم: «فأيّكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي و وصيّي و خليفتي فيكم؟» فقال أمير المؤمنين «ع» قلت: «أنا يا نبيّ اللّه أكون وزيرك عليه.» قال: فأخذ برقبتي ثمّ قال: «إنّ هذا أخي و وصيّي و خليفتي فيكم، فاسمعوا له و أطيعوا.» «3»

______________________________

(1)- سورة طه (20)، الآيات 29- 32.

(2)- سورة الفرقان (25)، الآية 35.

(3)- تاريخ الطبري 3/

1172؛ و الكامل لابن الأثير 2/ 63؛ و شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 13/ 211.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 111

4- و في أواخر الخطبة القاصعة من نهج البلاغة أنّ النبيّ «ص» قال لعليّ «ع»: «انّك تسمع ما أسمع و ترى ما أرى، إلّا أنّك لست بنبيّ و لكنّك وزير.» «1»

5- و في مسند أحمد بسنده عن علي «ع»، قال: سمعت رسول اللّه «ص» يقول: «ليس من نبيّ كان قبلي إلّا قد أعطي سبعة نقباء وزراء نجباء. و إنّي أعطيت أربعة عشر وزيرا نقيبا نجيبا:

سبعة من قريش، و سبعة من المهاجرين.» «2»

6- و فيه أيضا بسنده عن علي «ع»، قال: قال رسول اللّه «ص»: «إنّه لم يكن قبلي نبيّ إلّا قد أعطي سبعة رفقاء نجباء وزراء، و إنّي أعطيت أربعة عشر: حمزة و جعفر و عليّ و حسن و حسين و أبو بكر و عمر و المقداد و عبد اللّه بن مسعود و أبو ذر و حذيفة و سلمان و عمّار و بلال.» «3»

7- و فيه أيضا عن عائشة قالت: قال رسول اللّه «ص»: «من ولّاه اللّه- عزّ و جلّ- من أمر المسلمين شيئا فأراد به خيرا جعل له وزير صدق، فإن نسي ذكّره، و إن ذكر أعانه.» «4»

8- و في سنن أبي داود بسنده عن عائشة قالت: قال رسول اللّه «ص»: «إذا أراد اللّه بالأمير خيرا جعل له وزير صدق، إن نسي ذكّره، و إن ذكر أعانه. و إذا أراد اللّه به غير ذلك جعل له وزير سوء، إن نسي لم يذكّره، و إن ذكر لم يعنه.» «5»

9- و في البحار عن اعلام الدين، قال النبيّ «ص»: «ما

من أحد ولّى شيئا من أمور المسلمين فأراد اللّه به خيرا إلّا جعل اللّه له وزيرا صالحا، إن نسي ذكّره، و إن ذكر أعانه، و إن همّ بشرّ كفّه و زجره.» «6»

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 812؛ عبده 2/ 183؛ لح/ 301، الخطبة 192.

(2)- مسند أحمد 1/ 88.

(3)- مسند أحمد 1/ 148.

(4)- مسند أحمد 6/ 70.

(5)- سنن أبي داود 2/ 118، كتاب الخراج، باب في اتخاذ الوزير.

(6)- بحار الأنوار 72/ 359 (طبعه ايران 75/ 359)، كتاب العشرة، الباب 81 (باب أحوال الملوك و الأمراء) الحديث 75.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 112

10- و فيه أيضا عن أمالي الصدوق بسنده، عن المفضل، قال: قال أبو عبد اللّه «ع»: «إذا أراد اللّه- عزّ و جلّ- برعيّة خيرا جعل لها سلطانا رحيما، و قيّض له وزيرا عادلا.» «1»

11- و في مسند أحمد بسنده، عن أبي هريرة، عن النبيّ «ص»، قال: «ويل للوزراء! ليتمنى أقوام يوم القيامة أنّ ذوائبهم كانت معلّقة بالثريّا يتذبذبون بين السماء و الأرض و إنّهم لم يلوا عملا.» «2» إلى غير ذلك من الأخبار.

فما في مقدمة ابن خلدون:

«كان رسول اللّه «ص» يشاور أصحابه و يفاوضهم في مهمّاته العامّة و الخاصّة ...

و لم يكن لفظ الوزير يعرف بين المسلمين، لذهاب رتبة الملك بسذاجة الإسلام.» «3»

واضح الفساد. هذا.

و روى الشيخ عبد الحي الكتّاني عن القاضي أبي بكر بن العربي في أحكام القرآن أنّ:

«الوزارة عبارة عن رجل موثوق به في دينه و عقله يشاوره الخليفة فيما يعنّ له من الأمور.» «4»

و ذكر الماوردي في الأحكام السلطانية في اشتقاق اسم الوزارة ثلاثة أوجه:

«احدها: أنّه مأخوذ من الوزر و هو الثقل، لأنّه يحمل عن الملك أثقاله.

الثّاني:

أنّه مأخوذ من الوزر و هو الملجأ، و منه قوله- تعالى-: «كَلّٰا لٰا وَزَرَ». «5» أي لا ملجأ. فسمّي بذلك لأنّ الملك يلجأ إلى رأيه و معونته.

و الثالث: أنّه مأخوذ من الأزر و هو الظهر، لأنّ الملك يقوى بوزيره، كقوة البدن بالظهر.» «6»

______________________________

(1)- بحار الأنوار 72/ 340 (طبعة ايران 75/ 340)، كتاب العشرة، الباب 81، الحديث 19.

(2)- مسند أحمد 2/ 521.

(3)- المقدمة لابن خلدون/ 166، الفصل 35 (طبعة أخرى/ 237، الفصل 34) من الفصل 3 من الكتاب الأول.

(4)- التراتيب الإدارية 1/ 17.

(5)- سورة القيامة (75)، الآية 11.

(6)- الأحكام السلطانية للماوردي/ 24.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 113

و كيف كان فمهمّة السلطة التنفيذيّة بمراتبها من الوزارة و غيرها تنفيذ القوانين و التصميمات المتّخذة من قبل السلطة التشريعيّة في شتّى مسائل الحياة.

و الاحتياج إليها واضح، فإنّ القانون مهما كان صالحا راقيا فهو بنفسه لا يكفي في إصلاح شئون المجتمع و رفع حاجاته العامّة ما لم يكن هنا مسئول يلتزم بإجرائه و تنفيذه. و لا يمكن أن يفوّض تنفيذ التكاليف العامّة المتعلقة بالمجتمع، مثل نظم البلاد و إيجاد الأمن فيها و الدفاع عنها و إجراء الحدود و التعزيرات و نحو ذلك، إلى عامّة المجتمع. فإنّه يوجب إهمال كثير من الأمور و الفوضى و الاختلاف، فلا بدّ من أن يفوّض كلّ قسمة منها إلى مسئول خاصّ يكون متخصّصا فيها و يصير ملتزما بإجرائها.

و لا تتحدّد السلطة التنفيذية بشكل خاصّ أو عدد خاصّ أو مرتبة خاصّة. بل كلّما اتسع نطاق الملك و حيطته و تشعبت مسائل الحياة و احتياجاتها تشعّبت الدوائر و كثر العمّال قهرا.

نعم، تجب رعاية القصد فيها و الاحتراز عن الإفراط و التفريط.

فإنّ كثرة العمّال و الموظّفين توجب كثرة الدوائر و تفرّقها و تضييع أوقات المراجعين و وضع ضرائب كثيرة على عاتق المجتمع. و كلّ ذلك خسارة.

و قد كانت الحكومة في عصر النبي «ص» في غاية السذاجة و البساطة، فكان هو «ص» بنفسه يتولّى قسما كبيرا من الشؤون السياسيّة و القضائيّة و الاقتصاديّة و العسكرية. نعم، كان يفوّض بعض التكاليف و المسؤوليّات أيضا إلى الأفراد الصالحين للقيام بها حسب الضرورة و الحاجة، فكان يعيّن الولاة على البلاد، و الجباة على الصدقات، و الأمراء للسرايا و في بعض الغزوات و يرسم لهم تكاليفهم و منهجهم كما ضبطها التواريخ.

و كذلك نشاهد السذاجة فيما بعده و في خلافة أمير المؤمنين «ع» أيضا مع سعة نطاق الملك و كثرة البلاد. فالمهمّ هو إنجاح الطلبات و رفع الحاجات و العمل بالتكاليف بأسهل الطرق و في أسرع الأوقات و الأزمان بأقلّ المؤونات.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 114

و بذلك يستقرّ الملك و يكتسب رضا الأمّة الذي يكون ضمانة لبقاء الدولة و الأمن.

قال أمير المؤمنين على ما في نهج البلاغة في كتابه للأشتر النخعي: «و ليكن أحبّ الأمور إليك أوسطها في الحقّ و أعمّها في العدل و أجمعها لرضا الرعيّة، فإنّ سخط العامّة يجحف برضا الخاصّة، و إنّ سخط الخاصّة يغتفر مع رضا العامة.» «1»

2- مصدر السلطة التنفيذية:

لا يخفى أنّ الوزراء و العمّال بأصنافهم و مراتبهم إمّا أن ينتخبوا من قبل الامام و الوالي الأعظم، أو من قبل مجلس الشورى، أو من قبل الأمّة مباشرة، أو بالتبعيض فينتخب بعض المراتب من قبل الأمّة بالمباشرة و بعضها من قبل الوالي أو المجلس، كما هو المتعارف في بعض البلاد. و لا محالة ينتهي

جميع ذلك إلى انتخاب الأمّة قهرا إذا فرض كون انتخاب الوالي و كذا المجلس من قبلها.

و قد عرفت في الفصل الثالث أنّ المكلّف و المسؤول في الحكومة الإسلاميّة أوّلا و بالذات هو الإمام و الوالي، و أنّ السلطات الثلاث أياديه و أعضاده.

و على هذا فطبع الموضوع يقتضي أن يكون انتخاب هذه السلطة أيضا بيده لينتخب من يراه مساعدا له في تكاليفه مسانخا له في فكره و سليقته، اللّهم إلّا أن يشترط عليه أمر آخر.

و المتعارف في بلادنا ترشيح الوزراء من قبل الوالي أو رئيس الجمهوريّة المنتخب و عرضهم على المجلس للتعيين و يكون للمجلس الردّ و القبول. و يكون انتخاب سائر العمّال من شئون الوزراء على حسب أعمالهم و مسئوليّاتهم. و لا ضير في ذلك بعد تشريعه في مجلس الخبراء و رعاية الشرائط المعتبرة عقلا و شرعا.

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 996؛ عبده 3/ 95؛ لح/ 429، الكتاب 53.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 115

3- مواصفات الوزراء و العمّال و الأمراء بمراتبهم:
[شروط في الولاة و الوزراء و العمّال]

لا يخفى أنّ أكثر المشاكل التي تعانيها أنظمة الحكم في العالم ترجع إلى سوء انتخاب الوزراء و الأمراء و العمّال قصورا أو تقصيرا، و إلى فساد المسؤولين أو عدم كفايتهم، فيوجب ذلك تشتت الأمور و عدم انسجام الملك و بغضاء الأمّة المنتهية إلى ثورتها أحيانا.

و العقل و الشرع يحكمان باعتبار شروط و مواصفات في الولاة و الوزراء و العمّال تجب رعايتها و إعمال الدقّة في تحقيقها، و يكون إهمالها خيانة بالإسلام و الأمّة.

و عمدتها العقل الوافي و الإيمان و التخصص و التجربة و القدرة على التصميم و العمل و الوثاقة و الأمانة و أن لا يكون من أهل الحرص و الطمع.

و قسّم الماوردي الوزارة على قسمين:

«وزارة

تفويض، و وزارة تنفيذ. فأمّا وزارة التفويض فهو أن يستوزر الإمام من يفوّض إليه تدبير الأمور برأيه و إمضائها على اجتهاده.»

قال:

«و يعتبر في تقليد هذه الوزارة شروط الإمامة إلّا النسب وحده، لأنّه ممضى الآراء و منفّذ الاجتهاد، فاقتضى أن يكون على صفات المجتهدين.»

و قال في وزارة التنفيذ إنّه

«يراعى فيه سبعة أوصاف:

أحدها: الأمانة، حتى لا يخون فيما قد اؤتمن عليه و لا يغشّ فيما قد استنصح فيه.

و الثاني: صدق اللهجة، حتّى يوثق بخبره فيما يؤدّيه و يعمل على قوله فيما ينهيه.

و الثالث: قلّة الطمع، حتّى لا يرتشي فيمايل و لا ينخدع فيتساهل.

و الرابع: أن يسلم فيما بينه و بين الناس من عداوة و شحناء، فإنّ العداوة تصدّ عن التناصف و تمنع من التعاطف.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 116

و الخامس: أن يكون ذكورا لما يؤديه إلى الخليفة و عنه، لأنه شاهد له و عليه.

و السادس: الذكاء و الفطنة، حتى لا تدلّس عليه الأمور فتشتبه و لا تموّه عليه فتلتبس، فلا يصح مع اشتباهها عزم و لا يصلح مع التباسها حزم ...

و السابع: أن لا يكون من أهل الأهواء فيخرجه الهوى من الحقّ إلى الباطل و يتدلّس عليه المحق من المبطل، فإنّ الهوى خادع الألباب و صارف له عن الصواب، و لذلك قال النبي «ص»: «حبّك الشي ء يعمي و يصمّ.» ...

فإن كان هذا الوزير مشاركا في الرأي احتاج إلى وصف ثامن، و هو الحنكة و التجربة التي تؤدّيه إلى صحّة الرأي و صواب التدبير، فإن في التجارب خبرة بعواقب الأمور.» «1»

و ذكر نحو ذلك أبو يعلى الفراء أيضا «2». هذا.

[الولاة في الآيات]

و قد مرّ ذكر الشروط الثمانية المعتبرة في الولاة،

و بيان حكم العقل، و الآيات و الروايات الدالّة على اعتبارها في الباب الرابع. و لعلّه يستفاد من كثير منها أدلّة المقام أيضا، فلنذكر بعضها هنا مضافا إلى ما ورد في خصوص الوزراء و الأمراء:

1- قال اللّه- تعالى-: «وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا.» «3»

2- و قال: «وَ لٰا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ* الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لٰا يُصْلِحُونَ.» «4»

و الوزراء و الأمراء و العمّال يراد إطاعتهم في نطاق عملهم، فلا يجوز أن ينتخبوا من المسرفين المفسدين.

3- و قال: «أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ* مٰا لَكُمْ، كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟» «5»

______________________________

(1)- الأحكام السلطانية للماوردي/ 22 و 26 و 27.

(2)- الأحكام السلطانيّة لأبي يعلى/ 29، 31.

(3)- سورة النساء (4)، الآية 141.

(4)- سورة الشعراء (26)، الآية 151- 152.

(5)- سورة القلم (68)، الآية 35- 36.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 117

4- و قال: «أَ فَمَنْ كٰانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كٰانَ فٰاسِقاً، لٰا يَسْتَوُونَ.» «1»

5- و قال: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لٰا يَعْلَمُونَ؟ إِنَّمٰا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبٰابِ.» «2»

6- و قال: «وَ لٰا تُؤْتُوا السُّفَهٰاءَ أَمْوٰالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّٰهُ لَكُمْ قِيٰاماً». «3»

7- و قال حكاية عن يوسف النبيّ «ص»: «اجْعَلْنِي عَلىٰ خَزٰائِنِ الْأَرْضِ، إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ». «4»

8- و قال حكاية عن بنت شعيب النبي «ص»: «قٰالَتْ إِحْدٰاهُمٰا يٰا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ، إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ.» «5»

[الولاة في الروايات]

9- و قد مرّ في صحيحة العيص بن القاسم، عن أبي عبد اللّه «ع»: «انظروا لأنفسكم، فو اللّه إنّ الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي، فإذا وجد رجلا هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه و يجي ء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان

فيها.» «6»

10- و في أصول الكافي عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «قال رسول اللّه «ص»: «من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر ممّا يصلح.» «7»

11- و فيه أيضا عن طلحة بن زيد، قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول:

«العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق؛ لا يزيده سرعة السير إلّا بعدا.» «8»

______________________________

(1)- سورة السجدة (32)، الآية 18.

(2)- سورة الزمر (39)، الآية 9.

(3)- سورة النساء (4)، الآية 5.

(4)- سورة يوسف (12)، الآية 55.

(5)- سورة القصص (28)، الآية 26.

(6)- الوسائل 11/ 35، الباب 13 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 1.

(7)- أصول الكافي 1/ 44، كتاب فضل العلم، باب من عمل بغير علم، الحديث 3.

(8)- الكافي 1/ 43، كتاب فضل العلم، باب من عمل بغير علم، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 118

12- و فيه أيضا عن مفضل بن عمر، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس.» «1»

[الولاة في كلام أمير المؤمنين في عهده إلى الأشتر]

13- و في نهج البلاغة في كتابه «ع» لمالك الأشتر: «إنّ شرّ وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا، و من شركهم في الآثام، فلا يكوننّ لك بطانة فإنّهم أعوان الأثمة و إخوان الظلمة. و أنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم و نفاذهم، و ليس عليه مثل آصارهم و أوزارهم ممّن لم يعاون ظالما على ظلمه و لا آثما على إثمه. أولئك أخفّ عليك مئونة و أحسن لك معونة ...

و لا يكوننّ المحسن و المسي ء عندك بمنزلة سواء، فإنّ في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان و تدريبا لأهل الإساءة على الإساءة و ألزم كلّا منهم ما ألزم نفسه ...

فولّ من جنودك أنصحهم

في نفسك للّه و لرسوله و لإمامك، و أنقاهم جيبا، و أفضلهم حلما، ممّن يبطئ عن الغضب و يستريح إلى العذر، و يرأف بالضعفاء و ينبو على الأقوياء، و ممّن لا يثيره العنف و لا يقعد به الضعف. ثمّ الصق بذوي (المروءات) الأحساب و أهل البيوتات الصالحة و السوابق الحسنة، ثمّ أهل النجدة و الشجاعة و السخاء و السماحة، فانّهم جماع من الكرم و شعب من العرف ...

ثم انظر في أمور عمالك، فاستعملهم اختبارا و لا تولّهم محاباة و أثرة، فإنّهم (فإنّهما خ. ل) جماع من شعب الجور و الخيانة. و توخّ منهم أهل التجربة و الحياء من أهل البيوتات الصالحة و القدم في الإسلام المتقدّمة، فإنّهم أكرم أخلاقا و أصحّ أعراضا و أقلّ في المطامع إشرافا و أبلغ في عواقب الأمور نظرا. ثمّ أسبغ عليهم الأرزاق، فإنّ ذلك قوّة لهم على استصلاح أنفسهم، و غنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم و حجّة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك ...

ثمّ انظر في حال كتّابك، فولّ على أمورك خيرهم، و اخصص رسائلك الّتي تدخل فيها مكائدك و أسرارك بأجمعهم لوجوه صالح الأخلاق، ممّن لا تبطره الكرامة فيجترئ بها عليك في خلاف لك بحضرة ملأ و لا تقصر به الغفلة عن إيراد مكاتبات عمّا لك عليك و إصدار جواباتها على

______________________________

(1)- الكافي 1/ 26، كتاب العقل و الجهل، الحديث 29.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 119

الصواب عنك ...

ثمّ لا يكن اختيارك إيّاهم على فراستك و استنامتك و حسن الظنّ منك، فإنّ الرجال يتعرّفون لفراسات الولاة بتصنعهم و حسن خدمتهم، و ليس وراء ذلك من النصيحة و الأمانة شي ء، و لكن

اختبرهم بما ولّوا للصالحين قبلك، فاعمد لأحسنهم كان في العامّة أثرا و أعرفهم بالأمانة وجها، فإنّ ذلك دليل على نصيحتك للّه و لمن ولّيت أمره.» «1»

14- و في نهج البلاغة أيضا: «لا يقيم أمر اللّه سبحانه إلّا من لا يصانع و لا يضارع و لا يتبع المطامع.» «2»

15- و فيه أيضا: «آلة الرئاسة سعة الصدر.» «3»

[الولاة في كلمات أمير المؤمنين القصار]

و في الغرر و الدرر للآمدي الجامع لكلمات أمير المؤمنين «ع» كلمات كثيرة يستفاد منها مواصفات الحكّام و الوزراء و الأمراء و العمّال، و ما ينبغي أن يكونوا عليها نذكر بعضا من ذلك:

16- كقوله: «العدل نظام الإمرة.» «4»

17- و قوله: «الإنصاف زين الإمرة.» «5»

18- و قوله: «آفة الوزراء خبث السريرة.» «6»

19- و قوله: «آفة الزعماء ضعف السياسة.» «7»

20- و قوله: «آفة العمران جور السلطان.» «8»

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 999؛ عبده 3/ 97؛ لح/ 430، الكتاب 53.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 1137؛ عبده 3/ 176؛ لح/ 488، الحكمة 110.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 1169؛ عبده 3/ 194؛ لح/ 501، الحكمة 176.

(4)- الغرر و الدرر 1/ 198، الحديث 773.

(5)- الغرر و الدرر 1/ 230، الحديث 923.

(6)- الغرر و الدرر 3/ 102، الحديث 3929.

(7)- الغرر و الدرر 3/ 103، الحديث 3931.

(8)- الغرر و الدرر 3/ 109، الحديث 3954.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 120

21- و قوله: «إذا ملك الأراذل هلك الأفاضل.» «1»

22- و قوله: «إذا استولى اللئام اضطهد الكرام.» «2»

23- و قوله: «تولّى الأراذل و الأحداث الدول دليل انحلالها و إدبارها.» «3»

24- و قوله: «حسن السياسة قوام الرعيّة.» «4»

25- و قوله: «حسن السياسة يستديم الرئاسة.» «5»

26- و قوله: «حسن التدبير و تجنّب التبذير من حسن السياسة.» «6»

27- و قوله:

«حسن العدل نظام البريّة.» «7»

28- و قوله: «خير السياسات العدل.» «8»

29- و قوله: «دولة العادل من الواجبات.» «9»

30- و قوله: «خور «10» السلطان أشدّ على الرعيّة من جور السلطان.» «11»

______________________________

(1)- الغرر و الدرر 3/ 129، الحديث 4033.

(2)- الغرر و الدرر 3/ 129، الحديث 4035.

(3)- الغرر و الدرر 3/ 295، الحديث 4523.

(4)- الغرر و الدرر 3/ 384، الحديث 4818.

(5)- الغرر و الدرر 3/ 385، الحديث 4820.

(6)- الغرر و الدرر 3/ 385، الحديث 4821.

(7)- الغرر و الدرر 3/ 385، الحديث 4819.

(8)- الغرر و الدرر 3/ 420، الحديث 4948.

(9)- الغرر و الدرر 4/ 10، الحديث 5110.

(10)- «الخور» بفتحتين: الضعف.

(11)- الغرر و الدرر 3/ 442، الحديث 5047.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 121

31- و قوله: «دولة اللئام مذلّة الكرام.» «1»

32- و قوله: «دول الفجّار مذلّة الأبرار.» «2»

33- و قوله: «دول اللئام من نوائب الأيّام.» «3»

34- و قوله: «دولة الأوغاد مبنيّة على الجور و الفساد.» «4»

35- و قوله: «زوال الدول باصطناع السفل.» «5»

36- و قوله: «شرّ الناس من يظلم الناس.» «6»

37- و قوله: «شرّ الملوك من خالف العدل.» «7»

38- و قوله: «شرّ الولاة من يخافه البري ء.» «8»

39- و قوله: «شرّ الوزراء من كان للأشرار وزيرا.» «9»

40- و قوله: «شرّ الأمراء من كان الهوى عليه أميرا.» «10»

41- و قوله: «شرّ الأمراء من ظلم رعيّته.» «11»

______________________________

(1)- الغرر و الدرر 4/ 10، الحديث 5113.

(2)- الغرر و الدرر 4/ 11، الحديث 5115.

(3)- الغرر و الدرر 4/ 11، الحديث 5116.

(4)- الغرر و الدرر 4/ 11، الحديث 5118.

(5)- الغرر و الدرر 4/ 112، الحديث 5486.

(6)- الغرر و الدرر 4/ 164، الحديث 5676.

(7)- الغرر و الدرر 4/ 165، الحديث 5681.

(8)- الغرر و

الدرر 4/ 166، الحديث 5687.

(9)- الغرر و الدرر 4/ 167، الحديث 5692.

(10)- الغرر و الدرر 4/ 167، الحديث 5693.

(11)- الغرر و الدرر 4/ 172، الحديث 5717.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 122

42- و قوله: «فقدان الرؤساء أهون من رئاسة السفل.» «1»

43- و قوله: «كيف يعدل في غيره من يظلم نفسه.» «2»

44- و قوله: «من حسنت سياسته وجبت طاعته.» «3»

45- و قوله: «من أحسن الكفاية استحقّ الولاية.» «4»

46- و قوله: «من لم يصلح نفسه لم يصلح غيره.» «5»

47- و قوله: «وزراء السوء أعوان الظلمة و إخوان الأثمة.» «6»

48- و قوله: «ولاة الجور شرار الأمّة و أضداد الأئمّة.» «7»

49- و قوله: «لا يكون عمران حيث يجور السلطان.» «8»

50- و قوله: «ليكن أحبّ الناس إليك و أحظاهم لديك أكثرهم سعيا في منافع الناس.» «9»

51- و قوله: «ليكن أحظى الناس منك أحوطهم على الضعفاء و أعملهم بالحقّ.» «10»

______________________________

(1)- الغرر و الدرر 4/ 424، الحديث 6569.

(2)- الغرر و الدرر 4/ 564، الحديث 6996.

(3)- الغرر و الدرر 5/ 211، الحديث 8025.

(4)- الغرر و الدرر 5/ 349، الحديث 8692.

(5)- الغرر و الدرر 5/ 415، الحديث 8990.

(6)- الغرر و الدرر 6/ 239، الحديث 10121.

(7)- الغرر و الدرر 6/ 239، الحديث 10122.

(8)- الغرر و الدرر 6/ 404، الحديث 10791.

(9)- الغرر و الدرر 5/ 49، الحديث 7377.

(10)- الغرر و الدرر 5/ 50، الحديث 7383.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 123

52- و قوله: «ليكن أخطى الناس عندك أعملهم بالرفق.» «1»

53- و قوله: «ليكن أبغض الناس إليك و أبعدهم منك أطلبهم لمعايب الناس.» «2»

54- و فيما رواه ابن أبي الحديد في آخر شرحه من الحكم المنسوبة إلى

أمير المؤمنين «ع» قوله: «لا تقبلنّ في استعمال عمّالك و أمرائك شفاعة إلّا شفاعة الكفاية و الأمانة» «3»

55- و قوله: «من علامات المأمون على دين اللّه بعد الإقرار و العمل، الحزم في أمره و الصدق في قوله، و العدل في حكمه، و الشفقة على رعيّته، لا تخرجه القدرة إلى خرق، و لا اللين إلى ضعف، و لا تمنعه العزّة من كرم عفو، و لا يدعوه العفو إلى إضاعة حقّ، و لا يدخله الإعطاء في سرف، و لا يتخطّى به القصد إلى بخل، و لا تأخذه نعم اللّه ببطر.» «4»

أقول: الخرق بالضم: ضد الرفق. و القصد: الاعتدال بين الإفراط و التفريط.

56- و في دعائم الإسلام عن عليّ «ع»: أنّه كتب إلى رفاعة قاضيه على الأهواز: «اعلم يا رفاعة، إنّ هذه الإمارة أمانة، فمن جعلها خيانة فعليه لعنة اللّه إلى يوم القيامة، و من استعمل خائنا فإنّ محمدا «ص» بري ء منه في الدنيا و الآخرة.» «5»

[الولاة في كلام النبيّ ص و سائر الأئمة]

57- و في البحار عن الغوالي، عن النبي «ص»: «أصلح وزيرك، فإنّه الذي يقودك إلى الجنّة و النار.» «6»

58- و فيه أيضا عن رسالة الغيبة للشهيد الثاني بسنده إلى الإمام الصادق «ع»

______________________________

(1)- الغرر و الدرر 5/ 49، الحديث 7375.

(2)- الغرر و الدرر 5/ 50، الحديث 7378.

(3)- شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 20/ 276 (الحديث 184).

(4)- شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 20/ 255 (الحديث 6).

(5)- دعائم الإسلام 2/ 531، كتاب آداب القضاة، الحديث 1890.

(6)- بحار الأنوار 74/ 165 (طبعة ايران 77/ 165)، كتاب الرّوضة، الباب 7 (باب ما جمع من مفردات كلماته «ص»).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 124

في رسالته إلى النجاشي والي الأهواز:

«فأمّا من تأنس به و تستريح إليه و تلجئ أمورك إليه فذلك الرجل الممتحن المستبصر الأمين الموافق لك على دينك، و ميّز عوامّك و جرّب الفريقين، فإن رأيت هنالك رشدا فشأنك و إيّاه.» «1»

59- و فيه أيضا عن الخصال بسنده عن أبي عبد اللّه «ع»: «لا يطمعنّ ذو الكبر في الثناء الحسن ... و لا المعاقب على الذنب الصغير في السؤدد، و لا القليل التجربة المعجب برأيه في رئاسة.» «2»

60- و في تحف العقول عن الإمام الصادق «ع»: «و ليس يحبّ للملوك أن يفرّطوا في ثلاث: في حفظ الثغور، و تفقّد المظالم، و اختيار الصالحين لأعمالهم.» «3»

61- و في البحار عن أمالي الطوسي بسنده، عن أبي ذرّ أنّ النبي «ص» قال:

«يا با ذرّ، إنّي أحبّ لك ما أحبّ لنفسي، إنّي أراك ضعيفا، فلا تأمرنّ على اثنين و لا تولّين مال يتيم.» «4»

62- و في صحيح مسلم بسنده، عن أبي ذرّ أنّ رسول اللّه «ص» قال: «يا أبا ذرّ، إنّي أراك ضعيفا، و إنّي أحبّ لك ما أحبّ لنفسي، لا تأمرنّ على اثنين و لا تولّين مال يتيم.» «5»

63- و فيه أيضا بسنده، عن أبي ذرّ، قال: قلت: يا رسول اللّه، أ لا تستعملني؟

قال: فضرب بيده على منكبي، ثمّ قال: «يا با ذرّ، إنّك ضعيف و إنّها أمانة و إنّها يوم القيامة خزي و ندامة إلّا من أخذها بحقّها و أدّى الذي عليه فيها.» «6»

______________________________

(1)- بحار الأنوار 72/ 361 (طبعة ايران 75/ 361)، كتاب العشرة، الباب 81 (باب أحوال الملوك و الأمراء)، الحديث 77.

(2)- بحار الأنوار 72/ 67 (طبعة ايران 75/ 67)، كتاب العشرة، الباب 44 (باب الأدب و من عرف قدره)، الحديث 4.

(3)- تحف العقول/

319.

(4)- بحار الأنوار 22/ 406، تاريخ نبيّنا، الباب 12 (باب كيفية إسلام أبي ذر)، الحديث 20، و ج 72/ 342 (طبعة إيران 75/ 342)، كتاب العشرة، الباب 81 (باب أحوال الملوك و الأمراء)، الحديث 27.

(5)- صحيح مسلم 3/ 1458، كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة، الحديث 1826.

(6)- صحيح مسلم 3/ 1457، كتاب الإمارة باب كراهة الإمارة بغير ضرورة، الحديث 1825.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 125

64- و فيه أيضا بسنده عن أبي موسى، قال: دخلت على النبي «ص» أنا و رجلان من بني عمّي فقال أحد الرجلين: يا رسول اللّه، أمّرنا على بعض ما ولّاك اللّه- عزّ و جلّ-. و قال الآخر مثل ذلك، فقال «ص»: «إنّا و اللّه لا نولّي على هذا العمل أحدا سأله و لا أحدا حرص عليه.» «1»

65- و في سنن البيهقي بسنده عن ابن عباس، عن رسول اللّه «ص»: «من استعمل عاملا من المسلمين و هو يعلم أنّ فيهم أولى بذلك منه و أعلم بكتاب اللّه و سنّة نبيه فقد خان اللّه و رسوله و جميع المسلمين.» «2»

66- و في كنز العمّال، عن حذيفة: «أيّما رجل استعمل رجلا على عشرة أنفس علم أنّ في العشرة أفضل ممّن استعمل فقد غشّ اللّه و غشّ رسوله و غشّ جماعة المسلمين.» «3»

67- و فيه أيضا، عن ابن عباس: «من استعمل رجلا من عصابة و فيهم من هو أرضى للّه منه فقد خان اللّه و رسوله و المؤمنين.» «4»

68- و فيه أيضا، عن واثلة: «على الوالي خمس خصال: جمع الفي ء من حقّه و وضعه في حقّه، و أن يستعين على أمورهم بخير من يعلم، و لا يجمّرهم فيهلكهم،

و لا يؤخر أمرهم لغد.» «5»

69- و فيه أيضا عن أبي هريرة: «يكون في آخر الزمان أمراء ظلمة، و وزراء فسقة، و قضاة خونة، و فقهاء كذبة. فمن أدركهم فلا يكوننّ لهم عريفا و لا جابيا و لا خازنا و لا شرطيا.» «6»

إلى غير ذلك من الآيات و الروايات الكثيرة التي يستفاد منها و لو بالالتزام مواصفات الحكّام و الوزراء و الأمراء و العمّال و أنّه يجب على المسؤولين رعايتها في

______________________________

(1)- صحيح مسلم 3/ 1456، كتاب الإمارة باب النهي عن طلب الإمارة و الحرص عليها.

(2)- سنن البيهقي 10/ 118، كتاب آداب القاضي، باب لا يولي الوالي امرأة و لا فاسقا و لا جاهلا أمر القضاء.

(3)- كنز العمال 6/ 19، الباب 1 من كتاب الإمارة و القضاء من قسم الأقوال، الحديث 14653.

(4)- كنز العمال 6/ 25، الباب 1 من كتاب الإمارة و القضاء من قسم الأقوال، الحديث 14687.

(5)- كنز العمال 6/ 47، الباب 1 من كتاب الإمارة و القضاء من قسم الأقوال، الحديث 14789.

(6)- كنز العمال 6/ 77، الباب 1 من كتاب الإمارة و القضاء من قسم الأقوال، الحديث 14909.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 126

انتخابهم. و مع ذلك كلّه فقد غفل الأكثر في البلاد الإسلاميّة عن ذلك، و كم قد وردت و ترد من قبل ذلك خسارات على الأمّة، فتدبّر. هذا.

و في منهاج البراعة:

«قد قيل لحكيم: ما بال انقراض دولة آل ساسان؟ قال: لأنّهم استعملوا أصاغر العمّال على أعاظم الأعمال فلم يخرجوا من عهدتها، و استعملوا أعاظم العمّال على أصاغر الأعمال فلم يعتنوا عليها، فعاد وفاقهم الى الشتات و نظامهم الى البتات.» «1»

و نذكر في الخاتمة أمرين مناسبين للبحث:
الأوّل: في شرح ابن أبي الحديد لنهج البلاغة قال:

«استكتب أبو موسى الأشعري نصرانيا. فكتب

إليه عمر: اعزله و استعمل بدله حنيفيّا. فكتب له أبو موسى إنّ من غنائه و خيره و خبرته كيت و كيت. فكتب له عمر: ليس لنا أن نأتمنهم و قد خوّنهم اللّه، و لا أن نرفعهم و قد وضعهم اللّه، و لا أن نستنصحهم في الدين و قد وترهم الإسلام، و لا أن نعزّهم و قد أمرنا بأن يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون. فكتب أبو موسى: إنّ البلد لا يصلح إلّا به. فكتب اليه عمر: مات النصراني. و السلام.» «2»

أقول: فعلى شيعة الخليفة الثاني في البلاد الإسلامية أن يعتبروا بذلك و يقلّلوا من تسليطهم اليهود و النصارى على أراضي المسلمين و بلادهم و سياستهم و اقتصادهم و ثقافتهم، و ان يستحيوا من اللّه- تعالى- و من أولياء اللّه و من أممهم و يرجعوا إلى قداستهم الإسلامية. و لا يقبل اللّه قطّ اعتذارهم بالخشية من أن تصيبهم دائرة من قبل ذلك، فتدبّر.

______________________________

(1)- منهاج البراعة 11/ 144.

(2)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 12/ 7.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 127

الثاني: قال الماوردي في الأحكام السلطانية:

«حكي أنّ المأمون كتب في اختيار وزير: إنّي التمست لأموري رجلا جامعا لخصال الخير ذا عفّة في خلائقه و استقامة في طرائقه قد هذّبته الآداب و أحكمته التجارب، إن اؤتمن على الأسرار قام بها. و إن قلّد مهمّات الأمور نهض فيها، يسكته الحلم و ينطقه العلم و تكفيه اللحظة و تغنيه اللمحة. له صولة الأمراء و أناة الحكماء و تواضع العلماء و فهم الفقهاء، إن أحسن إليه شكر، و إن ابتلي بالإساءة صبر، لا يبيع نصيب يومه بحرمان غده، يسترقّ قلوب الرجال بخلابة لسانه و حسن بيانه.» «1»

أقول: لو

فرض كون وزراء الحاكم بهذه الصفات التي ذكرها المأمون فمرحبا بهذا الحاكم و طوبى لمن يعيش في ظلّ حكمه.

4- إشارة إلى دوائر من السلطة التنفيذية:

لا يخفى أنّ المقصود بالسلطة التنفيذية هي الدوائر و المؤسسات التي تباشر إجراء الأهداف و التكاليف العامّة التي تكون على عهدة الحاكم سوى أمر القضاء و توابعه الذي لأهميّته يعدّ سلطة مستقلّة، كما سيأتي. و قد مرّ بيان تكاليف الحاكم و واجباته.

و على هذا فوزارة الدفاع و المؤسسات المرتبطة بتعليم الجنود و تمرينهم و إعداد القوى و تقوية الصنائع العسكرية و حفظ الثغور و الأطراف، و دوائر إيجاد الأمن في السبل و في البلاد، و دائرة التعليم و التربية، و إدارة الكلّيات و الجوامع و الحوزات العلميّة الدينيّة، و دائرة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و دائرة الحسبة بشعبها، و الوزارة الخارجيّة و تنظيم العلاقات مع سائر الأمم و البلاد، و الوزارة المالية المتصدية لجمع الفي ء و الخراج و الصدقات و صرفها في مصارفها المقرّرة و نحو ذلك من الأمور العامّة كلّها تكون من شعب سلطة التنفيذ. و نحن لا نبحث في هذا الكتاب إلّا في

______________________________

(1)- الأحكام السلطانية/ 22.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 128

بعض من ذلك، نذكره بعد ذلك في فصول مستقلة. إذ ذكره هنا في هذا الفصل يوجب طول الفصل و ملال القارئ.

5- ذكر بعض من ولّاه النبي «ص» على النواحي:

أخذنا ذلك من كتاب التراتيب الإدارية للشيخ عبد الحيّ الكتاني «1» بنحو التلخيص:

«قال الزرقاني في شرح المواهب: أمراؤه- عليه السلام-: ولاته الذين ولّاهم على البلاد و القضاء و الصدقات. الأمراء الذين وجّههم رسول اللّه «ص» على الجهات كثيرون، منهم أمير مكّة عتّاب بن أسيد.

1- قال ابن جماعة: أمّر رسول اللّه «ص» عتّاب بن أسيد على مكّة و إقامة الموسم و الحج بالمسلمين سنة ثمان. قلت: «قال ابن القيّم في الهدى: و هو دون

العشرين سنة.»

2- و في صبح الأعشى لمّا أسلم بادان نائب كسرى ولّاه النّبيّ «ص» على جميع مخاليف اليمن. و كان منزله بصنعاء مملكة التبابعة. و بقي حتّى مات بعد حجّة الوداع.

3- فولّى النبيّ «ص» ابنه شهر بن بادان على صنعاء. و ولّى على كلّ جهة واحدا من أصحابه.

4- و في ترجمة عبد اللّه بن جحش من الإصابة عن البغوي أنّه أوّل أمير في الإسلام.

5- و ترجم في الإصابة لعامر بن شهر الهمذاني أنّه أحد عمّال النبي «ص» على اليمن.

6- و ترجم فيها أيضا لعبد اللّه بن عمرو بن سبيع الثعلبي، فذكر عن الشعبي: أنّ

______________________________

(1)- التراتيب الإداريّة 1/ 240.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 129

المصطفى «ص» استعمله على بني تغلبة و عبس و بني عبد اللّه بن غطفان.

7- و في ترجمة أبي موسى الأشعري أنّه «ع» استعمله على بعض اليمن، كزبيد و عدن و أعمالهما.

8- و ترجم في الإصابة للحارث بن بلال المارني (المزني) أنّه كان عامل رسول اللّه «ص» على نصف جديلة بني طيّئ.

9- و ترجم للحرث بن نوفل الهاشمي أنّه ولّاه المصطفى «ع» بعض أعمال مكّة.

و عن ابن سعد: صحب الحارث المصطفى «ع» فاستعمله على بعض عمله بمكّة، و أقرّه أبو بكر و عمر و عثمان.

10- و ترجم لحصين بن نيار فقال: كان أحد عمّال النبي «ص».

11- و ترجم للحارث بن عبد المطلب أنّه صحب المصطفى «ع» و استعمله على بعض أعمال مكّة و ولّاه أبو بكر و عثمان. ثم حرّر أنّ الترجمة لحفيده الحارث بن نوفل السابق.

12- و ترجم لرافع بن عمرو الطائي، فذكر أنّ الحاكم خرّج أنّه لمّا كانت غزوة السلاسل استعمل رسول اللّه «ص»

عمرو بن العاص على جيش فيه أبو بكر و عمر.

13- و ترجم فيها لزياد الباهلي، والد الهرماس، فذكر عن الدارقطني عن الهرماس، قال: أتيت رسول اللّه «ص» مع أبي، فولّاه على عشيرته من باهلة.

14- و ترجم للسائب بن عثمان عن ابن إسحاق أنّه استعمله النبيّ «ص» على المدينة في غزوة بواط.

15- و ترجم لسعد الدوسي، قال: أتيت رسول اللّه «ص» فأسلمت، فاستعملني على قومي و جعل لهم ما أسلموا عليه من أموالهم. الحديث.

16- و ترجم أيضا لسعيد بن خفّاف التميمي أنّه كان عاملا للنبيّ «ص» على بطون تميم، و أقرّه أبو بكر.

17- و ترجم لسعد بن عبد اللّه بن ربيعة أنّه «ص» استعمله على الطائف.

18- و ترجم لسلمة بن يزيد الجعفي أنّه «ع» استعمله على مروان و كتب له كتابا.

19- و ترجم لصيفي بن عامر من بني ثعلبة فقال: أمّره النّبيّ «ص» على قومه.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 130

20- و ترجم للضحاك بن قيس فقال فيه: عامل النبيّ «ص».

21- و ترجم لامرئ القيس بن الأصبغ الكلبي فقال: كان زعيم قومه، و بعثه النّبيّ «ص» عاملا على كلب في حين إرساله إلى قضاعة.

22- و ترجم للحارث بن بلال المزني فقال: عامل رسول اللّه «ص».

23- و ترجم لعبد الرحمن بن إيزي الخزاعي فنقل عن ابن السكن فقال: استعمله النبيّ «ص» على خراسان.

24- و ترجم عثمان بن أبي العاص فقال: استعمله «ص» على الطائف و أقرّه أبو بكر و عمر.

25- و في عكاشة بن ثور أنّه كان عامل المصطفى «ص» على السكاسك و السكون.

26- و في العلاء بن الحضرمي أنّه «ص» استعمله على البحرين.

27- و في عمرو بن حزم الأنصاري: استعمله «ص»

على نجران، و روى عنه كتابا كتبه له في الفرائض و الزكاة و الديات و غير ذلك. و في أسد الغابة: استعمله «ص» على أهل نجران، و هو ابن سبع عشرة سنة، بعد أن بعث إليهم خالد بن الوليد فأسلموا.

28- و في عمرو بن الحكم القضاعي: أنّه «ص» بعثه عاملا على بني القيس.

29- و في عمرو بن سعيد بن العاص: كان النّبيّ «ص» استعمله على وادي القرى و غيرها و قبض و هو عليها.

30- و في عمرو بن محجوب العامري أنّه كان من عمّال النّبيّ «ص».

31- و في عوف الوركاني: أنّه كان من عمّال رسول اللّه «ص».

32- و في عبد اللّه بن زيد الكندي: أنّه كان عامل المصطفى على اليمن.

33- و في عبد اللّه بن سوار: أنّه من عمّال المصطفى «ص» على البحرين.

34- و في فروة بن مسيك: استعمله المصطفى «ص» على مراد و مذحج و زبيد كلّها.

35- و في مردة بن نفاتة السّلولي: أنّه قدم على النبيّ «ص» في جماعة من بني

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 131

سلول فأسلموا و أمّره عليهم.

36- و ترجم السيوطي في درّ السحابة لأبي جديع المرادي فقال: إنّه كان عاملا للنبيّ «ص» و إنّه كان من أهل مصر.

37- و في ترجمة قضاعة بن عامر الدوسي: أنّه كان عامل النبيّ «ص» على بني أسد.

38- و في الترجمة بعدها أنّه ولّى عليهم أيضا سنان بن أبي سنان.

39- و في ترجمة قيس بن مالك الأرحبى: أنّه لمّا أسلم و أسلم قومه كتب له عهدا على قومه همذان: عربها و مواليها و خلائطها أن يسمعوا له و يطيعوا، و أنّ لهم ذمّة اللّه ما أقاموا الصلاة.

40- و

في مالك بن عوف النصري: استعمله «ص» على من أسلم من قومه و من تلك القبائل من أعماله، فكان يقاتل بهم ثقيف.

41- و في المنذر بن ساوي الدارمي: كان عامل النبيّ «ص» على هجر.

42- و في ترجمة أبي هيضم المزني: دعا رسول اللّه «ص» فقال: اللّهم إنّي مستعمله على هذا الوادي.

43- و في ترجمة سواد بن عزية البلوي الأنصاري: كان عامل رسول اللّه «ص» على خيبر.

44- و في ترجمة عمر بن أبي ربيعة الشاعر: أنّ المصطفى «ص» ولّى والده عبد اللّه بن أبي ربيعة المخزومي الجند (بفتح الجيم و النون: بلد باليمن و مخاليفها).

45- و في السيرة الشاميّة تراجم تضمّنت تأمير النبيّ «ص» خالد بن الوليد على صنعاء و أعمالها.

46- و تاميره للمغافر بن أبي أميّة المخزومي على كندة.

47- و تأميره زياد بن لبيب على حضرموت.

48- و تأميره لأبي موسى الأشعري على زبيد و عدن و ريع الساحل.

49- و معاذ بن جبل على الجند.

50- و أبا سفيان على نجران.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 132

51- و أبا زيد بن سفيان على غيرها.» «1»

6- ذكر بعض من بعثه رسول اللّه «ص» على الصدقات:

في سيرة ابن هشام:

«قال ابن إسحاق: و كان رسول اللّه «ص» قد بعث أمراءه و عمّاله على الصدقات، إلى كلّ ما أوطأ الإسلام من البلدان:

1- فبعث المهاجر بن أبي أميّة بن المغيرة إلى صنعاء، فخرج عليه العنسي و هو بها.

2- و بعث زياد بن لبيد أخا بني بياضة الأنصاري إلى حضرموت و على صدقاتها.

3- و بعث عديّ بن حاتم على طيّئ و صدقاتها و على بني أسد.

4- و بعث مالك بن نويرة- قال ابن هشام: اليربوعي- على صدقات بني حنظلة.

5- و فرّق صدقة بني سعد على رجلين

منهم، فبعث الزبرقان بن بدر على ناحية منها.

6- و قيس بن عاصم على ناحية.

7- و كان قد بعث العلاء بن الحضرمي على البحرين.

8- و بعث عليّ بن أبي طالب «ع» إلى أهل نجران ليجمع صدقتهم و يقدّم عليه بجزيتهم.» «2»

9- أقول: و في التراتيب الإدارية عن الاستبصار:

«أنّ رسول اللّه «ص» استعمل عمرو بن حزم بن زيد الأنصاري على نجران و هو ابن سبع عشرة سنة ليفقّههم في الدين و يعلّمهم القرآن و يأخذ صدقاتهم و ذلك سنة عشر.» «3»

______________________________

(1)- التراتيب الإداريّة 1/ 240- 245.

(2)- سيرة ابن هشام 4/ 246.

(3)- التراتيب الإدارية للكتاني 1/ 44.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 133

10- و فيه أيضا عن الاستيعاب:

«أنّ رسول اللّه «ص» بعث معاذ بن جبل قاضيا على الجند من اليمن يعلّم الناس القرآن و شرائع الإسلام و يقضي بينهم و جعل إليه قبض الصدقات من العمّال الذين باليمن عام فتح مكّة.» «1»

7- في عدد غزوات النبي «ص» و سراياه:

في أوّل كتاب المغازي للواقدي بعد ما عدّ مغازي النبيّ «ص» و سراياه و ذكرها بأساميها و مواضعها و تواريخها قال:

«فكانت مغازي النبيّ «ص» الّتي غزا بنفسه سبعا و عشرين غزوة. و كان ما قاتل فيها تسعا: بدر القتال، و أحد، و المريسيع، و الخندق، و قريظة، و خيبر، و الفتح، و حنين، و الطائف. و كانت السرايا سبعا و أربعين سريّة.» «2»

و ذكر نحو ذلك ابن سعد في الطبقات «3».

و في التراتيب الإدارية قال:

«فصل في مخرج النبيّ «ص» بنفسه و كم غزوة غزاها: قال في الاستيعاب: أكثر ما قيل في ذلك أنّ غزواته بنفسه كانت ستة و عشرين غزوة. و كانت أشرف غزواته و أعظمها حرمة عند اللّه و عند

رسوله و عند المؤمنين غزوة بدر الكبرى، حيث قتل صناديد قريش و ظهر دينه من يومئذ ... قال أبو عمر بن عبد البرّ في الاستيعاب:

كانت بعوثه «ص» و سراياه خمسة و ثلاثين، من بين بعث و سرية. و قال غيره:

بلغت ستّا و خمسين، كما ذكر الحافظ الدمياطي. و قيل: ثمانيا و أربعين. و قيل:

______________________________

(1)- التراتيب الإدارية للكتّاني 1/ 43.

(2)- المغازي 1/ 7.

(3)- الطبقات 2/ 1 (القسم الأوّل من الجزء الثاني).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 134

سبعا و أربعين. و قيل: ستّا و ثلاثين.» «1»

أقول: و في تحف العقول فيما روي عن أبي الحسن الثالث «ع»، قال: «و كان المتوكّل نذر أن يتصدّق بمال كثير إن عافاه اللّه من علّته. فلمّا عوفي سأل العلماء عن حدّ المال الكثير، فاختلفوا و لم يصيبوا المعنى. فسأل أبا الحسن «ع» عن ذلك، فقال «ع»: «يتصدّق بثمانين درهما.» فسأل عن علّة ذلك؟ فقال: إنّ اللّه قال لنبيّه «ص»: لقد نصركم اللّه في مواطن كثيرة. فعددنا مواطن رسول اللّه «ص» فبلغت ثمانين موطنا و سمّاها اللّه كثيرة. فسرّ المتوكّل بذلك.» «2»

8- ذكر من استخلفه رسول اللّه «ص» على المدينة أو على أهله حينما خرج من المدينة:

قال الواقدي في المغازي:

«قالوا: و استخلف رسول اللّه «ص» في مغازيه على المدينة: في غزوة ودّان، سعد بن عبادة، و استخلف في غزوة بواط سعد بن معاذ، و في طلب كرز بن جابر الفهري زيد بن حارثة، و في غزوة ذي العشيرة أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي، و في غزوة بدر القتال أبا لبابة بن عبد المنذر العمريّ، و في غزوة السويق أبا لبابة بن عبد المنذر العمريّ، و في غزوة الكدر ابن أمّ مكتوم المعيصي، و في غزوة ذي أمرّ عثمان بن عفّان،

و في غزوة بحران ابن أمّ مكتوم، و في غزوة أحد ابن أمّ مكتوم، و في غزوة حمراء الأسد ابن أمّ مكتوم، و في غزوة بني النضير ابن أمّ مكتوم، و في غزوة بدر الموعد عبد اللّه بن رواحة، و في غزوة ذات الرقاع عثمان بن عفان، و في غزوة دومة

______________________________

(1)- التراتيب الإدارية 1/ 313.

(2)- تحف العقول/ 481.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 135

الجندل سباع بن عرفطة، و في غزوة المريسيع زيد بن حارثة، و في غزوة الخندق ابن أمّ مكتوم، و في غزوة بني قريظة ابن أمّ مكتوم، و في غزوة بني لحيان ابن أمّ مكتوم، و في غزوة الغابة ابن أمّ مكتوم، و في غزوة الحديبية ابن أمّ مكتوم، و في غزوة خيبر سباع بن عرفطة الغفاري، و في عمرة القضية أبا رهم الغفاري، و في غزوة الفتح و حنين و الطائف ابن أمّ مكتوم، و في غزوة تبوك ابن أمّ مكتوم، و يقال: محمد بن مسلمة الأشهلي، و في حجة رسول اللّه «ص» ابن أمّ مكتوم.» «1»

و في التراتيب الإدارية:

«كان يستخلف المصطفى «ص» في كلّ غزواته. و آخرها غزوة تبوك استخلف محمد بن مسلمة الانصاري.

و في الإصابة نقلا عن ابن عبد البرّ و جماعة من أهل العلم بالنسب و السير: أنّ النبي «ص» استخلف ابن أمّ مكتوم ثلاث عشرة مرّة حتّى في تبوك و خروجه لحجة الوداع و في خروجه إلى بدر، ثمّ استخلف أبا لبابة لمّا ردّه من الطريق.

و فيها أيضا في ترجمة جعال بن سراقة الضمري نقلا عن ابن إسحاق: لما غزا رسول اللّه «ص» بني المصطلق في شعبان سنة ستّ استعمل على المدينة

جعالا الضمري.

و فيها لمّا ترجم لسباع بن عرفطة الغفاري ذكر أنّه «ص» استخلفه على المدينة لمّا ذهب لغزوة خيبر.

و فيها في ترجمة أبي رهم الغفاري: استخلفه النبي «ص» على المدينة في غزوة الفتح.

و في المواهب و شرحها: و استخلف النبي «ص» على المدينة في غزوة تبوك على ما قال ابن هشام محمّد بن مسلمة الأنصاري. قال الدمياطي تبعا للواقدي و هو عنده أثبت ممّن قال: استخلف عليّا أو سالما أو ابن أمّ مكتوم. و لكن قال الحافظ زين الدين العراقي في ترجمة عليّ «ع» من شرح التقريب: لم يتخلّف عليّ «ع» عن المشاهد إلّا تبوك، فإنّ النبيّ «ص» خلّفه على المدينة كما رواه عبد الرزاق في

______________________________

(1)- المغازى 1/ 7.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 136

مصنفه بسند صحيح عن سعد بن أبي وقاص. و لفظه: إنّ رسول اللّه «ص» لمّا خرج إلى تبوك استخلف على المدينة علي بن أبي طالب.

و في الاستيعاب: كان رسول اللّه «ص» لمّا قدم المدينة يستخلف عليّا في أكثر غزواته.

و في محاضرات الأبرار للشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي: نوّابه «ص» الذين استعملهم على المدينة في وقت خروجه لغزوة أو عمرة: أبو لبابة، و بشير بن المنذر، و عثمان بن عفان، و عبد اللّه بن أمّ مكتوم، و أبو ذرّ، و عبد اللّه بن عبد اللّه بن أبي سلول، و سباع بن عرفطة، و نميلة بن عبد اللّه الليثي، و عريف بن أضبط الديلمي، و أبو رهم، و محمد بن مسلمة الأنصاري، و زيد بن حارثة، و السائب بن عثمان بن مظعون، و أبو سلمة بن عبد الأسد، و سعد بن عبادة، و أبو دجانة الساعدي.

ثمّ فصّل ولاية كلّ واحد من هؤلاء.

باب في الرجل يستخلفه الإمام على أهله إذا سافر:

خلّف المصطفى في غزوة تبوك علي بن أبي طالب على أهله، و أمره بالقيامة فيهم.

قلت: في المواهب نقلا عن شرح التقريب: إنّ النبي «ص» استخلف عليّا «ع» على المدينة و خلّفه على عياله.

قال الزرقاني: خلّفه على عياله فقال: يا عليّ، اخلفني في أهلي، و اضرب و خذ و أعط. ثمّ دعا نساءه فقال: اسمعن لعليّ و اطعن ...

و أخرج ابن إسحاق عن سعد بن أبي وقاص: خلّف «ص» عليّا على أمر أهله، و أمره بالإقامة فيهم.» «1»

أقول: لسنا نحن فيما نقلناه من ذكر عمّال النّبيّ «ص» و أمرائه و خلائفه و غزواته و سراياه بصدد سرد المسائل التاريخية و تمييز الصحيح منها من السقيم. بل الغرض أن يتّضح للقارئين الكرام إجمالا أنّ رسول اللّه «ص» أتى بدين و سلطة

______________________________

(1)- التراتيب الإداريّة 1/ 314- 316.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 137

دينية معا، و أنّه كان صاحب شريعة و مؤسّس حكومة و دولة.

فما قد يتوهّم من أنّه «ص» لم يكن إلّا نذيرا و بشيرا للبشر، و أنّه لم يكن من برامجه الحكومة و لوازمها ناش من الغفلة أو الجهل بموازين الإسلام و قوانينه الشاملة لجميع مجالات الحياة، و من الجهل بسيرته «ص» و سنّته، فتدبّر.

9- ذكر بعض من بعثه النبي «ص» إلى الملوك للدعوة إلى الإسلام:

قال ابن هشام في السيرة:

«بعث رسول اللّه «ص» رسلا من أصحابه، و كتب معهم كتبا إلى الملوك يدعوهم فيها إلى الإسلام:

1- فبعث دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر، ملك الروم.

2- و بعث عبد اللّه حذافة السهمي إلى كسرى، ملك فارس.

3- و بعث عمرو بن أميّة الضمري إلى النجاشي، ملك الحبشة.

4- و بعث

حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس، ملك الإسكندرية.

5- و بعث عمرو بن العاص السهمي إلى جيفر و عياذ ابنى الجلندي الأزديين، ملكي عمان.

6- و بعث سليط بن عمرو، أحد بني عامر بن لؤي، إلى ثمامة بن أثال، و هوذة بن علي الحنفيين، ملكي اليمامة.

7- و بعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوي العبدي، ملك البحرين.

8- و بعث شجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن أبي شمر الغسّاني، ملك تخوم الشام.» «1»

و في التراتيب الإدارية للكتّاني:

______________________________

(1)- سيرة ابن هشام 4/ 254.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 138

9- «و بعث المهاجر بن أبي أميّة المخزومي إلى الحارث، ملك اليمن. قال ابن جماعة: بعث رسول اللّه «ص» ستّة نفر في يوم واحد في المحرّم سنة سبع. و في شرح الزرقاني على المواهب و شرح الألفية لابن كيران: و بعث ستّة نفر في يوم واحد إلى الملوك و أصبح كلّ منهم يتكلّم بلسان القوم الذين بعث إليهم، كذا لابن سعد و غيره، و هذه معجزة أخرى.» «1»

10- ذكر من بعثه النبي «ص» إلى الجهات يعلّم الناس القرآن و يفقّههم في الدين:

نذكر ذلك أيضا بالتلخيص من كتاب التراتيب الإدارية:

1- فمنهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف. في سيرة ابن إسحاق: لمّا انصرف النبيّ «ص» من القوم الذين بايعوه في العقبة الأولى- قال: و هم اثنا عشر- بعث معهم مصعبا و أمره أن يقرئهم القرآن و يعلّمهم الإسلام و يفقههم في الدين، و كان يسمّى المقرئ بالمدينة.

قلت: في الاستبصار لابن قدّامة المقدسي: لمّا قدم مصعب بن عمير المدينة نزل على أسعد بن زرارة، فكان يطوف به على دور الأنصار يقرئهم القرآن و يدعوهم إلى اللّه- عزّ و جلّ-، فأسلم على يديهما جماعة منهم سعد بن معاذ

و أسيد بن حضير و غيرهما.

2- و منهم معاذ بن جبل. في الاكتفاء: استخلف رسول اللّه «ص» عتّاب بن أسيد على مكّة، و خلّف معه معاذ بن جبل يفقّه الناس في الدين و يعلّمهم القرآن. و في الاستيعاب: بعثه النبيّ «ص» قاضيا على الجند من اليمن يعلّم الناس القرآن و شرائع الإسلام و يقضي بينهم، و جعل إليه قبض الصدقات من العمّال الذين

______________________________

(1)- التراتيب الإدارية 1/ 194.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 139

باليمن عام فتح مكّة.

3- و منهم عمرو بن حزم الخزرجي. في الاستيعاب: استعمله النبيّ «ص» على نجران ليفقّههم في الدين و يعلّمهم القرآن و يأخذ صدقاتهم، و ذلك سنة عشر بعد أن بعث إليهم خالد بن الوليد فأسلموا، و كتب له كتابا في الفرائض و السنن و الصدقات و الديات.

4- و منهم أبو عبيدة بن الجرّاح. أخرج أحمد في مسنده، عن أنس، قال: لمّا وفد أهل اليمن على رسول اللّه «ص» قالوا: ابعث معنا رجلا يعلّمنا السنّة و الإسلام.

فأخذ بيد أبي عبيدة بن الجراح فقال: هذا أمين هذه الأمّة. و سيّره إلى الشام أميرا، فكان فتح أكثر الشام على يده.

5- و منهم رافع بن مالك الأنصاري. ترجمه في الإصابة فذكر عن ابن إسحاق: أنّه أوّل من قدم المدينة بسورة يوسف و أنّ الزبير بن بكّار روى في أخبار المدينة أنّ رافعا لمّا لقي المصطفى «ص» بالعقبة أعطاه ما أنزل إليه في العشر سنين التي خلت، فقدم به رافع إلى المدينة ثمّ جمع قومه فقرأ عليه في موضعه.

6- و منهم أسيد بن حضير. ترجم في الإصابة لإبراهيم بن جابر فقال: كان من جملة العبيد الذين نزلوا على النبيّ

«ص» أيّام حصاره الطائف، فأعتقه و بعثه إلى أسيد بن حضير و أمره أن يمونه و يعلّمه. ذكره الواقدي.

7- و ترجم في الإصابة أيضا للأزرق بن عقبة الثقفي، فذكر أنّه ممّن نزل على النّبيّ «ص» في حصار الطائف و أنّه أسلم و أعتقه و سلّمه لخالد بن سعيد بن العاص ليمونه و يعلّمه. «1»

______________________________

(1)- التراتيب الإدارية 1/ 42- 44.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 140

الثالثة من السلطات الثلاث: السلطة القضائية و فيها جهات من البحث:

1- الحاجة إليها:

لا يخفى على من راجع تواريخ الأمم و الأجيال في العالم أنّ لأمر القضاء و فصل الخصومات مكانة خاصّة حسّاسة في جميع الأمم و المجتمعات البشرية. إذ عليه و على سلامة نظامه تبنى سلامة المجتمع و أمنه و استقرار العدل فيه و حفظ الحقوق و الحرمات.

و لو لم ينسجم انسجاما سالما، أو فوّض أمره إلى غير أهله فشا الجور و الفساد و ضاعت الحقوق و ضعفت الدولة. بل ربّما أعقب ذلك سقوطها و زوالها.

و السرّ في ذلك أنّ عالم الطبيعة عالم التزاحم و التصادم، و الإنسان في طبعه مجبول على الولع و الطمع، و قد زيّن له حبّ الشهوات من النساء و الضياع و الأموال، و «يشيب ابن آدم و تشبّ فيه خصلتان: الحرص و طول الأمل.» «1»

فربّما يستفيد الشخص من قوّته و قدرته أو من غفلة غيره استفادة سوء فينزو على أموال الناس و حقوقهم. هذا.

مضافا إلى أنّه قد يشتبه الأمر عليه فيتسلّط على مال غيره عن جهل و شبهة، و يستعقب ذلك التنازع و البغضاء، بل ربّما يؤول الأمر إلى القتال و إتلاف النفوس و الأموال.

فلا محيص عن وجود سلطة عالمة عادلة نافذ الأمر تصلح بينهم أو تقضي بينهم

______________________________

(1)- جامع السعادات 3/

37؛ عن النبيّ «ص».

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 141

بالحقّ و العدل فيرتفع النزاع و يجد كلّ ذي حقّ حقّه.

و لأجل ذلك ترى الشريعة الإسلاميّة قد حثّ على الصلاح و الإصلاح و نفي الإيمان عمّن لم يحكّم هذه السلطة و لم يسلّم لها تسليما، و أكّد في سلامة سلطة القضاء و تفويضها إلى أهلها.

1- قال اللّه- تعالى-: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ، فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ.» «1»

2- و قال: «فَاتَّقُوا اللّٰهَ وَ أَصْلِحُوا ذٰاتَ بَيْنِكُمْ.» «2»

3- و في نهج البلاغة عن رسول اللّه «ص»: «صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة و الصيام.» «3»

4- و قال- تعالى-: «فَلٰا وَ رَبِّكَ لٰا يُؤْمِنُونَ حَتّٰى يُحَكِّمُوكَ فِيمٰا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لٰا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّٰا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً.» «4»

2- القضاء للّه و لرسوله و للأنبياء و الأوصياء، و كان الأنبياء و الأئمة يتصدّون له:

لمّا كان الأصل الأوّلي كما مرّ يقتضي عدم ثبوت الولاية لأحد على أحد إلّا للّه- تعالى- أو لمن ولّاه اللّه أو أجاز له و نفّذه، و القضاء أيضا شعبة من شعب الولاية بل من أهمّها و يكون ملازما للتصرّف في سلطة الغير، فلا محالة لا يصح القضاء و لا ينفذ إلّا من قبل اللّه- تعالى- مالك الجميع أو من ولّاه اللّه أو أجاز له ذلك و لو بالواسطة باسمه و شخصه أو بعنوان عامّ:

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 2، ص: 141

______________________________

(1)- سورة الحجرات (49)، الآية 10.

(2)- سورة الأنفال (8)، الآية 1.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 977؛ عبده 3/ 85؛ لح/ 421، الكتاب 47.

(4)- سورة النساء (4)، الآية 65.

دراسات في

ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 142

1- قال اللّه- تعالى-: «إِنِ الْحُكْمُ إِلّٰا لِلّٰهِ، يَقُصُّ الْحَقَّ وَ هُوَ خَيْرُ الْفٰاصِلِينَ.» «1»

2- و قال: «وَ اللّٰهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ، وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لٰا يَقْضُونَ بِشَيْ ءٍ، إِنَّ اللّٰهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.» «2»

3- و قال: «وَ مٰا كٰانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لٰا مُؤْمِنَةٍ إِذٰا قَضَى اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ.» «3»

4- و في خبر سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّه «ع»: «اتّقوا الحكومة، فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين، لنبي (كنبيّ) أو وصي نبيّ.» «4»

5- و في خبر إسحاق بن عمار، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: قال أمير المؤمنين «ع» لشريح: «يا شريح، قد جلست مجلسا لا يجلسه (ما جلسه) إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ، أو شقيّ.» «5»

6- و في مصباح الشريعة عن الصادق «ع»: «و الحكم لا يصحّ إلّا بإذن من اللّه و برهانه.» «6»

و كان من شئون الأنبياء و تكاليفهم أيضا فصل الخصومات و القضاء بين الناس بالعدل. و النبيّ الأكرم «ص» أيضا كان يمارس بنفسه أمر القضاء على أساس ما أنزله اللّه عليه:

7- قال اللّه- تعالى-: «يٰا دٰاوُدُ، إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، فَاحْكُمْ بَيْنَ النّٰاسِ بِالْحَقِّ.» «7»

______________________________

(1)- سورة الأنعام (6)، الآية 57.

(2)- سورة غافر (40)، الآية 20.

(3)- سورة الأحزاب (33)، الآية 36.

(4)- الوسائل 18/ 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.

(5)- الوسائل 18/ 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2.

(6)- مصباح الشريعة/ 41، الباب 63 في الفتيا (طبع بيروت/ 16، الباب 6 في الفتيا.).

(7)- سورة ص (38)، الآية 26.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية،

ج 2، ص: 143

فاللّه- تعالى- فرع جواز حكم داود على جعله خليفة له- تعالى- فيظهر من ذلك عدم نفوذ حكمه لو لا ذلك.

8- و قال: «وَ دٰاوُدَ وَ سُلَيْمٰانَ إِذْ يَحْكُمٰانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ، وَ كُنّٰا لِحُكْمِهِمْ شٰاهِدِينَ.» «1»

9- و قال مخاطبا لنبيّنا: «فَلٰا وَ رَبِّكَ لٰا يُؤْمِنُونَ حَتّٰى يُحَكِّمُوكَ فِيمٰا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لٰا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّٰا قَضَيْتَ، وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً.» «2»

10- و في صحيحة سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «في كتاب علي «ع» أنّ نبيّا من الأنبياء شكا إلى ربّه فقال: يا ربّ، كيف أقضي فيما لم أر و لم أشهد؟ قال:

فأوحى اللّه إليه: احكم بينهم بكتابي و اضفهم إلى اسمي، فحلفهم (تحلفهم خ. ل) به، و قال: هذا لمن لم تقم له بيّنة.» «3»

11- و في حديث آخر عنه «ع»، قال: «في كتاب عليّ «ع» أنّ نبيّا من الأنبياء شكا إلى ربه القضاء فقال: كيف أقضي بما لم تر عيني و لم تسمع أذني؟ فقال: اقض عليهم بالبيّنات و أضفهم إلى اسمي يحلفون به. الحديث.» «4»

12- و في خبر هشام بن الحكم، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: قال رسول اللّه «ص»:

«إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الأيمان و بعضكم ألحن بحجّته من بعض، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئا فإنّما قطعت له به قطعة من النار.» «5»

أقول: «لحن الرجل» من باب علم: فطن بحجته و انتبه.

______________________________

(1)- سورة الأنبياء (21)، الآية 78.

(2)- سورة النساء (4)، الآية 65.

(3)- الوسائل 18/ 167، الباب 1 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

(4)- الوسائل 18/ 167، الباب 1 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2.

(5)- الوسائل 18/

169، الباب 2 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 144

13- و في سنن أبي داود بسنده عن أمّ سلمة، قالت: قال رسول اللّه «ص»:

«إنّما أنا بشر، و إنّكم تختصمون إليّ و لعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له من حقّ أخيه بشي ء فلا يأخذ منه شيئا فإنّما أقطع له قطعة من النار.» «1»

و رواه أيضا مالك في أوّل الأقضية من الموطأ عن أمّ سلمة عنه «ص» «2».

و قد كان رسول اللّه «ص» يبعث القضاة إلى النواحي أيضا، فيتولّون هذه المهمّة بنصبه و أمره:

14- ففي سنن أبي داود أيضا بسنده عن عليّ «ع»، قال: «بعثني رسول اللّه «ص» إلى اليمن قاضيا فقلت: يا رسول اللّه، ترسلني و أنا حديث السن و لا علم لي بالقضاء؟ فقال: إنّ اللّه سيهدي قلبك و يثبّت لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضينّ حتّى تسمع من الآخر كما سمعت من الأوّل، فإنّه أحرى أن يتبيّن لك القضاء، قال: فما زلت قاضيا أو ما شككت في قضاء بعد.» «3»

أقول: و قال عمر بن الخطاب في حقّه: «عليّ اقضانا.» «4»

15- و فيه أيضا بسنده عن أناس من أصحاب معاذ بن جبل أنّ رسول اللّه «ص» لمّا أراد أن يبعث معاذا إلى اليمن قال: «كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟» قال: أقضي بكتاب اللّه. قال: «فإن لم تجد في كتاب اللّه؟» قال: فبسنّة رسول اللّه «ص». قال: «فإن لم تجد في سنّة رسول اللّه «ص» و لا في كتاب اللّه؟» قال: أجتهد رأيي و لا آلو. فضرب رسول اللّه «ص» صدره

و قال: «الحمد للّه الذي وفق رسول رسول اللّه لما يرضى رسول اللّه.» «5»

______________________________

(1)- سنن أبي داود 2/ 270، كتاب الأقضية، باب في قضاء القاضي إذا أخطأ.

(2)- الموطأ للمالك 2/ 106، كتاب الأقضية، باب الترغيب في القضاء بالحقّ.

(3)- سنن أبي داود 2/ 270، كتاب الأقضية، باب كيف القضاء.

(4)- مسند أحمد 5/ 113.

(5)- سنن أبي داود 2/ 272، كتاب الأقضية، باب اجتهاد الرأي في القضاء.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 145

16- و في سنن ابن ماجة بسنده عن معاذ بن جبل، قال: لمّا بعثني رسول اللّه «ص» إلى اليمن قال: «لا تقضينّ و لا تفصلنّ إلّا بما تعلم. و إن أشكل عليك أمر فقف حتّى تبيّنه أو تكتب إليّ فيه.» «1»

17- و في كنز العمال عن عليّ «ع»، قال: قلت: «يا رسول اللّه، إن عرض لي أمر لم ينزل فيه قضاء في أمره و لا سنّة كيف تأمرني؟ قال: تجعلونه شورى بين أهل الفقه و العابدين من المؤمنين و لا تقضي فيه برأي خاصّة.» (طس و أبو سعيد في القضاة) «2»

أقول: و الخبران يوهنان ما في خبر معاذ من قوله: «أجتهد رأيي و لا آلو.»

فيظهر منهما عدم الاعتبار بالرأي.

و كيف كان فأمر القضاء عظيم، و هو من أعظم شعب الولاية و يكون تصرّفا في سلطة الغير. فالأصل يقتضي عدم صحّته و نفوذه إلّا أن يكون من قبل اللّه- تعالى- مالك الملك و الملكوت أو من ولّاه اللّه- تعالى- أو أجاز له ذلك من نبيّ أو وصيّ نبيّ.

و الظاهر أنّ المقصود بالوصيّ الوارد في الرواية هو الأعمّ من الوصاية بلا واسطة أو معها، جعلت لشخص خاصّ أو لعنوان عامّ معرّف بالمواصفات،

فيشمل الفقهاء الواجدين للشرائط المجاز لهم القضاء في عصر الغيبة أيضا، فإنّ حاجة الناس إلى القضاء في كلّ عصر واضحة كما مرّ، و لا يمكن تعطيله و إهماله في عصر من الأعصار، كما لا يجوز تعطيل الولاية الكبرى، فيتعيّن له الفقيه الجامع للشرائط فإنّه القدر المتيقّن. و يستفاد أيضا من مقبولة عمر بن حنظلة و مشهورة أبي خديجة المتقدّمتين، حيث منع الإمام فيهما من الرجوع إلى قضاة الجور و أرجع شيعته إلى من يعرف أحكامهم «ع». و ظاهرهما اعتبار الاجتهاد و الفقاهة في القاضي، كما يأتي

______________________________

(1)- سنن ابن ماجة 1/ 21، المقدمة، باب اجتناب الرأي و القياس، الحديث 55.

(2)- كنز العمال 5/ 812، الباب 2 من كتاب الخلافة مع الإمارة من قسم الأفعال، الحديث 14456.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 146

بيانه عن قريب.

و ظاهر الخبرين جعل المنصب من قبله «ع» و تفريع جواز التحاكم إلى الفقيه على جعله- عليه السلام-، فيظهر من ذلك أنّه لو لا نصبه و جعله إيّاه قاضيا لم يجز الرجوع إليه و لم يكن قضاؤه شرعيا نافذا.

3- شرائط القاضي و مواصفاته:

قد ظهر بما مرّ أوّلا: أنّ الأصل يقتضي عدم نفوذ القضاء إلّا فيما قام الدليل عليه.

و ثانيا: أنّ المستفاد من الآيات و الروايات كون القضاء للّه و لرسوله و لأوصيائه.

و ثالثا: أنّه لا يمكن القول بتعطيله في عصر الغيبة، فيجوز للفقيه الواجد للشرائط التصدّي له لأنّه القدر القدر المتيقن و لدلالة المقبولة و المشهورة و غيرهما عليه كما يأتي بيانه. فلا محالة يراد بالوصيّ في الرواية ما يشمل الوصاية بعنوان عامّ أيضا، أو يكون مستثنى ممّا دلّ على الحصر.

بل يمكن القول بأنّ الحاكم المنتخب من قبل الأمّة أيضا-

بعد فرض صحّة انتخابه و كونه واجدا للشرائط التي منها الفقاهة و إمضاء الشرع لذلك- يصير بحكم الوصيّ، فتدبّر.

إذا عرفت هذا فقد حان الوقت لبيان الواصفات المعتبرة فيمن يقلّد أمر القضاء و يتولّى له، فنقول:

1- قال المحقّق في القضاء من الشرائع:

«و يشترط فيه البلوغ و كمال العقل و الإيمان و العدالة و طهارة المولد و العلم

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 147

و الذكورة.» «1»

و في المسالك في شرح العبارة:

«هذه الشرائط عندنا موضع وفاق.» «2»

2- و قال العلّامة في القواعد:

«و يشترط فيه البلوغ و العقل و الذكورة و الإيمان و العدالة و طهارة المولد و العلم.» «3»

3- و في مختصر أبي القاسم الخرقي في فقه الحنابلة:

«و لا يولّى قاض حتّى يكون بالغا عاقلا مسلما حرّا عدلا عالما فقيها و رعا.» «4»

4- و في المنهاج للنووي في فقه الشافعية:

«و شرط القاضي: مسلم مكلّف حرّ ذكر عدل سميع بصير ناطق كاف مجتهد.» «5»

5- و في بداية المجتهد لابن رشد:

«فأمّا الصفات المشترطة في الجواز فأن يكون حرّا مسلما بالغا ذكرا عاقلا عدلا ...

و اختلفوا في كونه من أهل الاجتهاد، فقال الشافعي: يجب أن يكون من أهل الاجتهاد و مثله حكى عبد الوهّاب عن المذهب. و قال أبو حنيفة: يجوز حكم العامّيّ ... و كذلك اختلفوا في اشتراط الذكورة، فقال الجمهور: هي شرط في صحّة الحكم. و قال أبو حنيفة: يجوز أن تكون المرأة قاضيا في الأموال. قال الطبري: يجوز أن تكون المرأة حاكما على الإطلاق في كلّ شي ء.» «6»

6- و قال أبو الحسن الماوردي في الأحكام السلطانية ما ملخّصه:

«و لا يجوز أن يقلّد القضاء إلّا من تكاملت فيه شروطه، و هي سبعة:

فالشرط الأوّل:

أن يكون رجلا. و هذا الشرط يجمع البلوغ و الذكورية.

و الشرط الثاني: العقل. و هو مجمع على اعتباره. و لا يكتفى فيه بالعقل الذي يتعلّق

______________________________

(1)- الشرائع 4/ 67.

(2)- المسالك 2/ 351.

(3)- القواعد 2/ 201.

(4)- راجع المغني لابن قدّامة 11/ 380.

(5)- المنهاج/ 588، (كتاب القضاء).

(6)- بداية المجتهد 2/ 449، كتاب الأقضية.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 148

به التكليف من علمه بالمدركات الضرورية، حتّى يكون صحيح التمييز جيّد الفطنة بعيدا من السهو و الغفلة يتوصّل بذكائه إلى إيضاح ما أشكل و فصل ما أعضل.

و الشرط الثالث: الحرية.

و الشرط الرابع: الإسلام ... و لا يجوز أن يقلّد الكافر القضاء على المسلمين و لا على الكفّار، و قال أبو حنيفة: يجوز تقليده القضاء بين أهل دينه.

و الشرط الخامس: العدالة. و هي معتبرة في كلّ ولاية. و العدالة أن يكون صادق اللهجة ظاهر الأمانة عفيفا عن المحارم متوقّيا المآثم، بعيدا من الريب، مأمونا في الرضا و الغضب، مستعملا لمروءة مثله في دينه و دنياه.

و الشرط السادس: السلامة في السمع و البصر، ليصحّ بهما إثبات الحقوق و يفرّق بين الطالب و المطلوب، و يعرف المحقّ من المبطل. فإن كان ضريرا كانت ولايته باطلة. و جوّزها مالك، كما جوّز شهادته.

و الشرط السابع: أن يكون عالما بالأحكام الشرعيّة. و علمه بها يشتمل على علم أصولها و الارتياض بفروعها.» «1»

7- و قال أبو يعلى الفراء في الأحكام السلطانية:

«لا يجوز تقليد القضاء إلّا لمن كملت فيه سبع شرائط: الذكورية و البلوغ، و العقل، و الحريّة، و الإسلام، و العدالة، و السلامة في السمع و البصر، و العلم.» «2»

و لا يخفى أنّ ما ذكره ثمانية لا سبعة، اللّهم إلّا ان

يعدّ الأوّلان واحدا، كما في الماوردي.

ثم أقول: أمّا اعتبار البلوغ و العقل فلقصور الصغير و المجنون و كونهما مولّى عليهما مسلوبي العبارة و الأفعال شرعا، و إذا لم تنفذ عبارتهما في حقّ أنفسهما فكيف تنفذ في حقّ الغير.

______________________________

(1)- الأحكام السلطانية/ 65.

(2)- الأحكام السلطانية/ 60.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 149

و أمّا الإيمان فإن أريد به ما في قبال الكفر فيدلّ على اعتباره كلّ ما دلّ على حرمة تولّى الكفّار، و قوله- تعالى-: «لَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا.» «1» و ما عن النبي «ص»: «الإسلام يعلو و لا يعلى عليه.» «2» و القضاء على المؤمن سبيل عليه و علوّ، نعم، لا يجري هذا في القضاء على الكافر. هذا مضافا إلى وضوح الحكم و أنّ الكافر ليس نبيّا و لا وصيّا.

و إن أريد بالإيمان كونه إماميّا فيدلّ على اعتباره- مضافا إلى أصالة عدم الانعقاد مع الشك- قوله «ع»: «منكم» في خبر أبي خديجة، و كذا المقبولة كما يأتي بيانه «3».

هذا مضافا إلى أنّ القضاء يجب أن يكون على أساس مذهب المترافعين، فطبع الموضوع يقتضي أن يكون القاضي لهم منهم. و لعلّ القاضي في كلّ مذهب يناسب أن يكون من أنفسهم، فتدبّر.

و أمّا العدالة فيدلّ على اعتبارها- مضافا إلى الأصل المشار إليه، و إلى وضوحه، و إلى كثير ممّا دلّ على اعتبارها في الولاية من الآيات و الروايات، فراجع الفصل السادس من الباب الرابع- خصوص خبر سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «اتّقوا الحكومة، فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبيّ (كنبيّ خ. ل) أو وصيّ نبيّ.» «4»

و يدل عليه خبر أبي خديجة و

كذا المقبولة أيضا.

و أمّا طهارة المولد، و كذا الذكورة فيدلّ على اعتبارهما ما دلّ على اعتبارهما في

______________________________

(1)- سورة النساء (4)، الآية 141.

(2)- الفقيه 4/ 334، كتاب الفرائض، باب ميراث أهل الملل، الحديث 5719.

(3)- الوسائل 18/ 4، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 5، و 18/ 99، الباب 11 منها، الحديث 1.

(4)- الوسائل 18/ 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 150

الوالي، فراجع الفصل العاشر و الحادي عشر من ذلك الباب.

و في اعتبار الحرّية كلام، و قد مرّ البحث فيه في الفصل الثاني عشر من ذلك الباب، و مرّ أنّ موضوع البحث منتف في أعصارنا.

و أمّا السمع و البصر فإن توقف عليهما معرفة المحقّ و المبطل و القضاء بالحقّ و العدل لزم رعايتهما و إلّا فلا دليل على اعتبارهما بالخصوص، فتدبّر.

4- اعتبار العلم في القاضي:

و أمّا العلم فيدلّ على اعتباره إجمالا- مضافا إلى الأصل، و إلى وضوح ذلك لتوقّف القضاء بالحقّ عليه، و إلى كثير من أدلّة اعتباره في الوالي من الآيات و الروايات الّتي مرّت- خصوص خبري أبي خديجة و كذا مقبولة عمر بن حنظلة كما يأتي، و خبر سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «اتّقوا الحكومة، فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبيّ (كنبيّ) أو وصيّ نبيّ.» «1»

و ما رواه الكليني مرفوعا، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «القضاة أربعة: ثلاثة في النار و واحد في الجنّة: رجل قضى بجور و هو يعلم فهو في النار، و رجل قضى بجور و هو لا يعلم فهو في النار، و رجل قضى بالحقّ و هو لا يعلم فهو

في النار، و رجل قضى بالحقّ و هو يعلم فهو في الجنّة.» «2»

و روى أبو داود في السنن بسنده عن ابن بريدة، عن أبيه، عن النبيّ «ص»، قال: «القضاة ثلاثة: واحد في الجنّة و اثنان في النار: فأمّا الذي في الجنّة فرجل عرف الحقّ فقضى به، و رجل عرف الحقّ فجار في الحكم فهو في النار، و رجل قضى للناس على جهل فهو في

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.

(2)- الوسائل 18/ 11، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، الحديث 6.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 151

النار.» «1»

و في نهج البلاغة في صفة من يتصدّى للقضاء و ليس أهلا له: «و رجل قمش جهلا موضع في جهّال الأمّة، عاد في أغباش الفتنة، عم بما في عقد الهدنة. قد سمّاه أشباه الناس عالما و ليس به. بكّر فاستكثر من جمع ما قلّ منه خير ممّا كثر، حتّى إذا ارتوى من آجن و اكتنز من غير طائل جلس بين الناس قاضيا ضامنا لتخليص ما التبس على غيره.

فإن نزلت به إحدى المبهمات هيأ لها حشوا رثّا من رأيه ثمّ قطع به، فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت لا يدري أصاب أم أخطأ: فإن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ، و إن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب.

جاهل خبّاط جهالات عاش ركّاب عشوات. لم يعضّ على العلم بضرس قاطع. يذري الروايات إذراء الريح الهشيم. لأملئ- و اللّه- بإصدار ما ورد عليه و لا هو أهل لما فوّض إليه. لا يحسب العلم في شي ء ممّا أنكره، و لا يرى أنّ من وراء ما بلغ مذهبا لغيره. و

إن أظلم أمر اكتتم به لما يعلم من جهل نفسه. تصرخ من جور قضائه الدماء، و تعجّ منه المواريث.» «2»

و روى نحوه الكليني في الكافي، فراجع «3».

أقول: قمش جهلا: جمعه. موضع فيهم: أي مسرع. و الأغباش جمع الغبش بالتحريك: الظلمات. عاد فيها: أي مسرع فيها. و روي غارّ بالتشديد، أي غافل. عم بما في عقد الهدنة: جاهل بمصالح السكون و الدّعة. و يحتمل أن يراد أنّه غافل عمّا في التسامح و التساهل من المفاسد و المضارّ، و لعلّه أظهر. الآجن: الماء المتغير. الحشو:

فضل الكلام. و الرثّ: الخلق البالي. و الخبّاط، مبالغة الخابط: السائر على غير هدى. و العاشي: الأعمى أو ضعيف البصر. و العشوة: ركوب الأمر على غير هدى.

و الهشيم: ما يبس من النبت و تفتّت. و العجّ: رفع الصوت.

______________________________

(1)- سنن أبي داود 2/ 268، كتاب الأقضية باب في القاضي يخطئ.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 71؛ عبده 1/ 47؛ لح/ 59، الخطبة 17.

(3)- راجع أصول الكافي 1/ 55، كتاب فضل العلم، باب البدع و الرأي و المقاييس، الحديث 6.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 152

فليتأمّل شيعة أمير المؤمنين- عليه السلام- المتصدّون لأمر القضاء في هذه الخطبة الشريفة، و ليلتفتوا إلى موقع عملهم و سلطتهم على دماء الناس و الأعراض و الأموال و أنّ أمرها لشديد عند اللّه- تعالى- فعليهم الدقّة و الاحتياط، و ليس بناكب عن الصراط من سلك سبيل الاحتياط.

و عن المفيد في المقنعة، عن النّبيّ «ص»، قال: «من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكّين.» «1»

و في رواية أنس بن مالك، عن النبيّ «ص»: «لسان القاضي بين جمرتين من نار حتّى يقضي بين الناس، فإمّا إلى الجنّة و إمّا إلى

النار.» «2»

و روى الترمذي بسنده عن رسول اللّه «ص»: «ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلّوا سبيله، فإنّ الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة.» «3» هذا.

و لكن لمّا كان أمر القضاء عظيما لا ينسجم نظام بلاد المسلمين و حفظ حقوقهم إلّا به فالمتصدّي له إذا كان أهلا له و راعى جانب الدقّة و الاحتياط في عمله فلا محالة كان أجره عند اللّه أيضا عظيما. و لا يجوز لمن يقدر عليه و يوجد فيه الشرائط أن يتركه إلّا مع وجود الكفاية.

و عن رسول اللّه «ص»: «ساعة إمام عادل أفضل من عبادة سبعين سنة.» «4» هذا.

و ذكر أمير المؤمنين- عليه السلام- في كتاب كتبه لمالك الأشتر مواصفات من يريد أن يختاره للقضاء، فقال: «ثمّ اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممّن

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 8، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 8.

(2)- الوسائل 18/ 167، الباب 12 من أبواب آداب القاضي، الحديث 2.

(3)- سنن الترمذي 2/ 438، أبواب الحدود، الباب 2، الحديث 1447.

(4)- الوسائل 18/ 308، الباب 1 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 5.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 153

لا تضيق به الأمور و لا تمحكه الخصوم و لا يتمادى في الزلّة، و لا يحصر من الفي ء إلى الحقّ إذا عرفه، و لا تشرف نفسه على طمع، و لا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه. و أوقفهم في الشبهات، و آخذهم بالحجج، و أقلّهم تبرّما بمراجعة الخصم، و أصبرهم على تكشف الأمور، و أصرمهم عند اتّضاح الحكم، ممّن لا يزدهيه إطراء و لا يستميله إغراء، و أولئك قليل.

ثمّ أكثر تعاهد قضائه

و افسح له في البذل ما يزيل علّته، و تقلّ معه حاجته إلى الناس. و أعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك، فانظر في ذلك نظرا بليغا. فإنّ هذا الدين قد كان أسيرا في أيدي الأشرار يعمل فيه بالهوى و تطلب به الدنيا.» «1»

أقول: أمحكه: جعله محكان، أي عسر الخلق. حصر كفرح: ضاق صدره و التبرّم: الملل و التضجّر. لا يزدهيه إطراء: لا يستخفّه كثرة الثناء عليه.

فعلى حكّام المسلمين و ولاتهم أن يهتمّوا بأمر القضاء و القضاة، كما اهتمّ به أمير المؤمنين «ع»، و أمر مالكا بالاهتمام بهم و بما يزيل علّتهم و حاجاتهم.

و في كنز العمّال: «إذا أراد اللّه بقوم خيرا ولّى عليهم علماؤهم و جعل المال في سمحائهم. و إذا أراد اللّه بقوم شرّا ولّى عليهم سفهاءهم و قضى بينهم جهّالهم و جعل المال في بخلائهم.» (فر، عن مهران) «2»

5- هل يعتبر في علم القاضي كونه عن اجتهاد؟
اشارة

هل يعتبر في القاضي أن يكون علمه عن اجتهاد، أو يكفي التقليد أيضا؟ و على الأوّل فهل يعتبر كونه مجتهدا مطلقا، أو يكفي التجزّي؟

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 1009؛ عبده 3/ 104؛ لح/ 434، الكتاب 53.

(2)- كنز العمال 6/ 7 الباب 1 من كتاب الإمارة و القضاء من قسم الأقوال، الحديث 14595.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 154

[كلمات الأصحاب]

1- قال الشيخ في الخلاف:

«و لا يجوز أن يتولّى القضاء إلّا من كان عارفا (عالما خ. ل) بجميع ما وليّ، و لا يجوز أن يشذّ عنه شي ء من ذلك، و لا يجوز أن يقلّد غيره ثمّ يقضي به. و قال الشافعي:

ينبغي أن يكون من أهل الاجتهاد و لا يكون عامّيّا، و لا يجب أن يكون عالما بجميع ما وليه. و قال في القديم مثل ما قلناه. و قال أبو حنيفة: يجوز أن يكون جاهلا بجميع ما وليه إذا كان ثقة و يستفتى الفقهاء و يحكم به، و وافقنا في العامّي أنّه لا يجوز أن يفتي. دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم.» «1»

2- و قال في القضاء من النهاية:

«و ينبغي أن لا يتعرّض للقضاء أحد حتى يثق من نفسه بالقيام به. و ليس يثق أحد بذلك من نفسه حتّى يكون عاقلا كاملا، عالما بالكتاب و ناسخه و منسوخه، و عامّه و خاصّه، و ندبه و إيجابه، و محكمه و متشابهه، عارفا بالسنّة و ناسخها و منسوخها، عالما باللغة، مضطلعا بمعاني كلام العرب، بصيرا بوجوه الإعراب، ورعا من محارم اللّه- تعالى-، زاهدا في الدنيا، متوفّرا على الأعمال الصالحات، مجتنبا للكبائر و السيئات، شديد الحذر من الهوى، حريصا على التقوى. فإذا كان بالصفات التي ذكرناها جاز له

أن يتولّى القضاء و الفصل بين الناس.» «2»

و قد ذكر نحو ذلك أستاذه الشيخ المفيد «قده» في المقنعة، فراجع «3». و يأتي كلام الشيخ في المبسوط أيضا.

3- و قال ابن زهرة في الغنية:

«يجب في المتولّي للقضاء أن يكون عالما بالحقّ في الحكم المردّد إليه، بدليل إجماع الطائفة. و أيضا فتولية المرء ما لم يعرفه قبيحة عقلا و لا يجوز فعلها. و أيضا فالحاكم مخيّر في الحكم عن اللّه- تعالى- و نائب عن رسول اللّه «ص» و لا شك في قبح ذلك من دون العلم. و أيضا قوله- تعالى-: «وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْكٰافِرُونَ.»

______________________________

(1)- الخلاف 3/ 309، كتاب القضاء، المسألة 1.

(2)- النهاية/ 337.

(3)- المقنعة/ 111.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 155

و من حكم بالتقليد لم يقطع على الحكم بما أنزل اللّه- تعالى-.» «1»

4- و قال المحقّق في قضاء الشرائع:

«و كذا لا ينعقد لغير العالم المستقلّ بأهليّة الفتوى، و لا يكفيه فتوى العلماء. و لا بدّ أن يكون عالما بجميع ما وليه و يدخل فيه أن يكون ضابطا، فلو غلب عليه النسيان لم يجز نصبه.» «2»

5- و قال في المسالك:

«المراد بالعالم هنا المجتهد في الأحكام الشرعية، و على اشتراط ذلك في القاضي إجماع علمائنا. و لا فرق بين حالة الاختيار و الاضطرار.» «3»

6- و في الجواهر:

«بلا خلاف أجده فيه، بل في المسالك و غيرها الإجماع عليه من غير فرق بين حالتي الاختيار و الاضطرار.» «4»

7- و قال الماوردي في الأحكام السلطانية:

«و جوّز أبو حنيفة تقليد القضاء ممّن ليس من أهل الاجتهاد ليستفتي في أحكامه و قضاياه. و الذي عليه جمهور الفقهاء أنّ ولايته باطلة و أحكامه مردودة.»

«5»

8- و في كتاب الأقضية من بداية المجتهد:

«و اختلفوا في كونه من أهل الاجتهاد، فقال الشافعي: يجب أن يكون من أهل الاجتهاد، و مثله حكى عبد الوهاب عن المذهب. و قال أبو حنيفة: يجوز حكم العامي.» «6»

______________________________

(1)- الجوامع الفقهية/ 562.

(2)- الشرائع 4/ 67.

(3)- المسالك 2/ 351.

(4)- الجواهر 40/ 15.

(5)- الأحكام السلطانية/ 66.

(6)- بداية المجتهد 2/ 449.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 156

ما يستدلّ به على اعتبار الاجتهاد في القاضي:

أقول: قد يستدلّ على اعتبار الاجتهاد في القاضي- مضافا إلى الأصل الحاكم بعدم صحّة القضاء و نفوذه إلّا فيما ثبت بالدليل، و إلى الاجماع المدّعى في الخلاف و الغنية و المسالك و غيرها و إن أمكن المناقشة في تحققه بنحو يفيد- بمقبولة عمر بن حنظلة، و خبري أبي خديجة، و توقيع صاحب الأمر- عجل اللّه تعالى فرجه-:

أمّا المقبولة فهي ما رواه الكليني بسند لا بأس به، عن عمر بن حنظلة، قال:

«سألت أبا عبد اللّه «ع» عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان و إلى القضاة، أ يحلّ ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت. و ما يحكم له فإنّما يأخذ سحتا و إن كان حقّا ثابتا له، لأنّه أخذه بحكم الطاغوت و قد أمر اللّه أن يكفر به، قال اللّه- تعالى-: «يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحٰاكَمُوا إِلَى الطّٰاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ.» «1»

قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران (إلى) من كان منكم ممّن قد روى حديثنا، و نظر في حلالنا و حرامنا، و عرف أحكامنا، فليرضوا به حكما فإنّي قد جعلته عليكم حاكما فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنّما استخفّ بحكم اللّه و علينا ردّ، و

الرادّ علينا الرادّ على اللّه، و هو على حد الشرك باللّه.

قلت: فإن كان كلّ رجل اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما و اختلفا فيما حكما، و كلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال: الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما و أصدقهما في الحديث و أورعهما، و لا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر ...» «2»

______________________________

(1)- سورة النساء (4)، الآية 60.

(2)- أصول الكافي 1/ 67، كتاب فضل العلم، باب اختلاف الحديث، الحديث 10؛ و الوسائل 18/ 99، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 157

و قد مرّ البحث في سند الحديث في الفصل الثالث من الباب الخامس، فراجع.

و مرّ أنّه و إن استدلوا بالحديث لإثبات منصبي الولاية و القضاء للفقيه و لكنّ القدر المتيقّن منه هو القضاء فقط على فرض دلالته على النصب، كما لعلّه الظاهر من قوله: «فإنّي قد جعلته.»

و تقريب الاستدلال به للمقام هو أنّ الظاهر من قوله: «روى حديثنا» كون حديث العترة الطاهرة أساس حكمه و قضائه، في قبال من كان يعتمد على القياس و الاستحسانات الظنّيّة. و مقتضى ذلك كونه مجتهدا، إذ منبع علم المقلّد هو فتوى المجتهد لا الأحاديث الصادرة عنهم- عليهم السلام-.

و الظاهر من قوله «ع»: «نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا» أيضا كونه من أهل النظر و المعرفة بالنسبة إلى أحكام الأئمة «ع» و فتاواهم الصادرة عنهم في الحلال و الحرام، و أن يعلم أنّ ما يحكم به هو حكمهم «ع». و ظاهر ذلك أيضا اعتبار الاجتهاد، إذ لا يصدق على المقلّد لغيره أنّه نظر و عرف، فإنّ المعرفة إنّما تصدق مع

الإحاطة بجميع خصوصيّات الشي ء و مميّزاته. ففرق بين العلم الإجمالي بوجود الشي ء، و بين معرفته بخصوصيّاته.

و تشخيص أحكام الأئمة «ع» و فتاواهم في الحلال و الحرام من خلال أحاديثهم المرويّة، و لا سيّما إذا كانت متعارضة بحسب الظاهر أو محتاجة إلى الشرح و التفسير لا يتيسّر إلّا لمن كان له ملكة الاجتهاد و الفقاهة.

و كذلك قوله «ع» في جواب سؤال السائل عن صورة اختلاف الرجلين: «الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما و أصدقهما في الحديث»

و قول السائل في ذيل الحديث: «أ رأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب و السنّة» كلّ ذلك ممّا يظهر منه اعتبار الفقاهة في من نصبه الإمام الصادق «ع» للقضاء بالنصب العامّ.

و احتمال أنّ الاجتهاد أخذ طريقا لا موضوعا، فالملاك هو الاطلاع على الأحكام و وقوع القضاء على وفق الحقّ و لو كان عن تقليد، مخالف لظاهر الحديث جدّا.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 158

و العلم الاجتهادي بالأحكام علم تفصيلي و إحاطة تفصيليّة بها، و من المحتمل جدّا موضوعيّة ذلك لهذا المنصب الشريف.

و أمّا خبرا أبي خديجة فالأولى منهما ما رواه عن الإمام الصادق «ع» أنّه قال:

«إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور، و لكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا، فاجعلوه بينكم فإنّي قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه.» «1»

و الثانية ما رواه فقال: «بعثني أبو عبد اللّه «ع» إلى أصحابنا فقال: «قل لهم:

إيّاكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تداري في شي ء من الأخذ و العطاء أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفسّاق. اجعلوا بينكم رجلا ممّن قد عرف حلالنا و حرامنا، فإنّي قد جعلته قاضيا. و إيّاكم أن يخاصم

بعضكم بعضا إلى السلطان الجائر.» «2»

و تقريب الاستدلال بهما أيضا واضح و لا سيّما الثاني، لظهور المعرفة في الإحاطة بالشي ء بجميع خصوصيّاته. و من المحتمل جدّا اتّحاد الخبرين، فيشكل الاعتماد على ظهور الأوّل منهما في كفاية التجزّي كما يأتي بيانه.

و أمّا التوقيع فهو ما رواه إسحاق بن يعقوب، عن صاحب الزمان «ع» من قوله «ع»: «و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم و أنا حجّة اللّه عليهم.» «3»

بناء على شموله للإفتاء و الولاية و القضاء، كما مرّ بيانه في فصل اثبات الولاية به.

و تقريب الاستدلال أنّ الإرجاع وقع إلى رواة الحديث، و المقلّد ليس مبنى علمه الأحاديث كما مرّ.

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 4، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 5.

(2)- الوسائل 18/ 100، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 6. و لفظة «عليكم» بعد قوله «جعلته» ليست في التهذيب بطبعيه، و ان وجدت في الوسائل.

(3)- الوسائل 18/ 101، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9. و اعتمد في النقل على كمال الدين/ 484.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 159

فهذه روايات يمكن أن يستدل بها لاعتبار الاجتهاد في القاضي.

بل يمكن أن يقال: إنّ العالم في خبر سليمان بن خالد: «فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء،» «1» و في غيره من الأخبار أيضا منصرف إلى العلم عن اجتهاد، إذ المقلد لا يطلق عليه أنّه عالم إلّا بنحو من العناية. هذا.

كلام صاحب الجواهر: [في عدم اعتبار الاجتهاد في القاضي]

و لكن في الجواهر ما حاصله و ملخّصه:

«إنّ المستفاد من الكتاب و السنّة صحّة الحكم بالحقّ و العدل و القسط من كلّ مؤمن.

قال اللّه- تعالى-: «إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمٰانٰاتِ إِلىٰ أَهْلِهٰا، وَ

إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ.» «2»

«يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّٰامِينَ لِلّٰهِ شُهَدٰاءَ بِالْقِسْطِ، وَ لٰا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلىٰ أَلّٰا تَعْدِلُوا، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوىٰ» «3»

«يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّٰامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدٰاءَ لِلّٰهِ وَ لَوْ عَلىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوٰالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ. إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللّٰهُ أَوْلىٰ بِهِمٰا، فَلٰا تَتَّبِعُوا الْهَوىٰ أَنْ تَعْدِلُوا.» «4»

و مفهوم قوله: «وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْكٰافِرُونَ* ... وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ* ... وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ.» «5»

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.

(2)- سورة النساء (4)، الآية 58.

(3)- سورة المائدة (5)، الآية 8.

(4)- سورة النساء (4)، الآية 135.

(5)- سورة المائدة (5)، الآية 44، 45 و 47.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 160

و قال علي «ع»: «الحكم حكمان: حكم اللّه، و حكم الجاهلية. فمن أخطأ حكم اللّه حكم بحكم الجاهلية.» «1»

و قال أبو جعفر «ع»: «الحكم حكمان: حكم اللّه- عزّ و جلّ-، و حكم أهل الجاهلية.

و قد قال اللّه- عزّ و جلّ-: «وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّٰهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» و أشهد على زيد بن ثابت لقد حكم في الفرائض بحكم الجاهلية.» «2»

إلى غير ذلك من النصوص الدالّة على أنّ المدار هو الحكم بالحقّ الذي هو عند محمّد و أهل بيته. و لا ريب أنّه يندرج في ذلك من سمع منهم- عليهم السلام- أحكاما خاصّة مثلا، و حكم بها بين الناس و إن لم يكن له مرتبة الاجتهاد.

و في خبر أبي خديجة: «انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من

قضايانا، فاجعلوه بينكم فإنّي قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه.» «3»

بناء على إرادة الأعمّ من المجتهد منه، بل لعلّ ذلك أولى من الأحكام الاجتهادية الظنّيّة.

بل قد يقال باندراج من كان عنده أحكامهم بالاجتهاد الصحيح أو التقليد الصحيح و حكم بها بين الناس كان حكما بالحقّ و القسط و العدل.

نعم، قد يقال بتوقّف صحّة ذلك على الإذن منهم- عليهم السلام-، لخبر سليمان بن خالد «4» و غيره ممّا يقتضي توقّف الحكم و ترتّب الأثر عليه على الإذن و النصب.

اللّهم إلّا أن يقال بأنّ النصوص دالّة على الإذن منهم- عليهم السلام- لشيعتهم الحافظين لأحكامهم في الحكم بين الناس بأحكامهم الواصلة إليهم بقطع أو اجتهاد صحيح أو تقليد كذلك.

و في خبر عبد اللّه بن طلحة «5» الوارد في اللّص الداخل على المرأة و قتل ولدها و أخذ

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 11، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، الحديث 7.

(2)- الوسائل 18/ 11، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، الحديث 8.

(3)- الوسائل 18/ 4، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 5.

(4)- الوسائل 18/ 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.

(5)- الوسائل 19/ 45، الباب 23 من أبواب قصاص النفس، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 161

ثيابها عن الصادق «ع» أمر السائل بالقضاء بينهم بما ذكره الإمام- عليه السلام-.

و إنّما شدّة الإنكار في النصوص على المعرضين عنهم المستغنين عنهم بآرائهم و قياساتهم.

قال الحلبي: قلت لأبي عبد اللّه «ع»: «ربّما كان بين الرجلين من أصحابنا المنازعة في الشي ء فيتراضيان برجل منّا؟ فقال: ليس هو ذاك. إنّما هو الذي يجبر الناس على حكمه بالسيف و السوط.» «1»

و لو سلّم عدم ما يدلّ على الإذن

فليس في شي ء من النصوص ما يدلّ على عدم جواز الإذن لهم في ذلك.

بل قد يدّعى أنّ الموجودين في زمن النّبيّ «ص» ممّن أمر بالترافع إليهم قاصرون عن مرتبة الاجتهاد، و إنّما يقضون بين الناس بما سمعوه من النّبيّ «ص».

و نصب خصوص المجتهد في زمان الغيبة بناء على ظهور النصوص فيه لا يقتضي عدم جواز نصب الغير. و يمكن بناء ذلك- بل لعلّه الظاهر- على إرادة النصب العامّ في كلّ شي ء على وجه يكون له ما للإمام- عليه السلام-. و حينئذ فتظهر ثمرة ذلك بناء على عموم هذه الرئاسة أنّ للمجتهد نصب مقلّده للقضاء بين الناس بفتاواه التي هي حلالهم و حرامهم.

و أمّا دعوى الإجماع الّتي قد سمعتها فلم أتحقّقها، بل لعلّ المحقّق عندنا خلافها خصوصا بعد أن حكى في التنقيح عن المبسوط أقوالا ثلاثة: أوّلها جواز كونه عامّيا و يستفتي الفقهاء و يقضي بفتواهم، بناء على كون فتاوى المجتهد أحكامهم- عليهم السلام- فالقضاء حينئذ بها.

خصوصا إذا قلنا أنّ القضاء في زمن الغيبة من باب الأحكام الشرعية لا النصب القضائي، و أنّ ذلك هو المراد من قوله «ع»: «جعلته قاضيا و حاكما.» فإنّ الفصل بها حينئذ من المقلّد كالفصل بها من المجتهد. إذ الجميع مرجعه إلى القضاء بين الناس بحكم أهل البيت، و اللّه العالم.» «2»

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 5، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 8.

(2)- الجواهر 40/ 15- 20.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 162

انتهى ما في الجواهر بتلخيص منا. و قد ذكرناه بطوله لاشتماله على عمدة ما يمكن أن يستدلّ به لعدم اعتبار الاجتهاد في القاضي.

الجواب عمّا في الجواهر: [في عدم اعتبار الاجتهاد في القاضي]

أقول: محصّل ما استدلّ به في الجواهر لعدم اعتبار الاجتهاد في

القاضي أمور:

الأوّل: إطلاق ما دلّ على الحكم بالحقّ و العدل و القسط.

الثاني: مفهوم الآيات الثلاث.

الثالث: ما دلّ على أنّ المدار هو الحكم بالحقّ.

الرابع: خبر أبي خديجة.

الخامس: خبر عبد اللّه بن طلحة.

السادس: خبر الحلبي.

السابع: أنّ الموجودين في عصر النّبيّ «ص» ممّن أمر بالترافع إليهم كمعاذ بن جبل و غيره من الصحابة كانوا قاصرين عن مرتبة الاجتهاد.

الثامن: أنّ نصب خصوص المجتهدين في عصر الغيبة لا يقتضي عدم جواز نصب الغير.

التاسع: أنّ مقتضى عموم ولاية الفقيه أنّ له نصب مقلّده للقضاء.

العاشر: عدم ثبوت الإجماع المدّعى على اعتبار الاجتهاد.

الحادي عشر: أنّ القضاء في عصر الغيبة من باب بيان الأحكام الشرعية لا النصب القضائي.

و يرد على الأول أوّلا: أنّها في مقام بيان أنّ الحكم يجب أن يكون بالحقّ و العدل و القسط، لا في مقام بيان من له الحكم و شرائطه، فلا إطلاق لها من هذه الجهة.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 163

و ثانيا: قد مرّ منّا سابقا أنّ الأحكام العامّة المتعلّقة بالمجتمع بما هو مجتمع تتوجّه إلى ممثل المجتمع و من يتبلور فيه المجتمع، و هو الحاكم. فلا يجوز للآحاد التصدّي لها، للزوم الهرج و المرج.

و يؤيّد ذلك أنّ الخطاب في الآية الأولى يتوجّه إلى من عنده الأمانات، و قد فسّرت في أخبار الفريقين بالامارة و الولاية، كما مرّ شرح ذلك في الفصل الثالث من الباب الخامس، فراجع.

فالمخاطب في الآية هم الحكّام و الولاة لا جميع الناس، فتأمّل.

و في رواية معلّى بن خنيس، عن الصادق «ع» قال: قلت له: قول اللّه- عزّ و جلّ-: «إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمٰانٰاتِ إِلىٰ أَهْلِهٰا، وَ إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ.» فقال: «عدل الإمام أن

يدفع ما عنده إلى الإمام الذي بعده و أمرت الأئمّة أن يحكموا بالعدل، و أمر الناس أن يتّبعوهم.» «1»

يظهر من الحديث أنّ المخاطب في الآية و المكلّف بالتكليفين هو الإمام، فتدبّر.

و يرد على الثاني أنّ الآيات الثلاث في مقام بيان حرمة الحكم بغير ما أنزل اللّه لا في مقام بيان من له الحكم و شرائطه، فلا يستفاد منها جوازه لكلّ أحد، لعدم الإطلاق من هذه الجهة.

و يرد على الثالث ما مرّ على الأوّل، فراجع.

و يرد على الرابع أنّ العلم بشي ء من قضاياهم بما هي قضاياهم «ع» يختص بالفقيه، أو منصرف إليه لما مرّ من انصراف لفظ العلم و العالم عن المقلّد التابع لغيره.

نعم، يستفاد من هذه الرواية على فرض صحّتها كفاية التجزي، فلا يعتبر كونه مجتهدا مطلقا.

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 4، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 6.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 164

و يرد على الخامس أنّها قضية في واقعة خاصّة، فلعلّ المخاطب كان مجتهدا.

و الاجتهاد في تلك الأعصار كان خفيف المؤونة و لم يكن يتوقّف على علوم و مقدّمات كثيرة كما في أعصارنا. فمن كان يقدر على استنباط أحكام اللّه- تعالى- من الروايات الصادرة عن النبيّ «ص» و الأئمّة «ع» و كان يتّصف بكونه ممّن روى حديثهم و نظر في حلالهم و حرامهم و عرف أحكامهم كان يصدق عليه أنّه فقيه مجتهد. و كثير من أصحاب النبيّ «ص» و الأئمّة «ع» كانوا كذلك. هذا.

مضافا إلى أنّه يمكن أن يكون القضاء في قوله «ع»: «اقض على هذا كما وصفت لك» بمعنى بيان الحكم الشرعي لا القضاء الاصطلاحي بمعنى إعمال الولاية و إنشاء الحكم، فتأمّل.

و أمّا السادس، أعني خبر الحلبي

فتقريب الاستدلال به أنّ الإمام- عليه السلام- ترك الاستفصال. و ترك الاستفصال يقتضي العموم، فيشمل غير المجتهد أيضا. كما أنّ حصر عدم الجواز في من يجبر على حكمه بالسيف يدلّ على جواز غيره مطلقا.

و السند صحيح رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن الحلبي. هذا.

و لكن يرد عليه أوّلا: أنّ الخبر ليس نصّا في القضاء، فلعلّ الرجل الذي كانا يتراضيان به كان يصلح بينهما بما يرتضيان به، كما هو المتعارف كثيرا في من ينتخب حكما من قبل المتنازعين في أعصارنا.

و ثانيا: أنّ قوله «ع»: «ليس هو ذاك» قرينة على كون الكلام مسبوقا بكلام لم ينقل لنا، و لعلّه كان فيه قرينة على المراد. و معه يشكل الاعتماد على ترك الاستفصال.

و ثالثا: أنّه يمكن أن يقال إنّ الخبر ليس في مقام بيان عقد الإثبات حتّى يتمسّك بالإطلاق فيه، بل عقد النفي أعني عدم صلاحية من يجبر الناس على حكمه

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 165

في تلك الأعصار لأمر القضاء.

و الحصر فيه إضافي قطعا، ضرورة عدم جواز الرجوع إلى قضاة أهل الخلاف و سائر من لا يوجد فيه شرائط القاضي و إن لم يكن من أهل السيف و السوط أيضا، فلا يدلّ الحصر على جواز غيره مطلقا.

و رابعا: أنّ العموم على فرض ثبوته يخصّص بالمقبولة و غيرها ممّا دلّ على اعتبار الاجتهاد.

و يرد على السّابع ما مرّ من كون الاجتهاد في تلك الأعصار خفيف المؤونة.

أ لا ترى أنّ رسول اللّه «ص» لمّا قال لمعاذ: «بما تقضي» قال: «بكتاب اللّه و سنّة رسول اللّه.» و الاجتهاد في تلك الأعصار لم يكن إلّا فهم الكتاب و

السنّة و الاستنباط منهما، فتدبّر.

و يرد على الثامن أنّ ظاهر المقبولة و المشهورة حصر القضاء شرعا في من وجد الصفات المذكورة، حيث إنّ الظاهر منهما كونهما في مقام التحديد و بيان شرائط القاضي و من يجوز التحاكم إليه شرعا، لا مجرّد ما اعتبره الإمام «ع» بنفسه في موضوع نصبه، فتأمّل.

و بذلك يظهر الجواب عن التاسع أيضا و سيأتي تفصيل لذلك، فانتظر.

و أمّا ما ذكره عاشرا من نفي الإجماع فلعلّه صحيح لا لوجود القائل بالخلاف فينا كما يتوهّم من نقله لكلام المبسوط، بل لأنّ الملاك في حجّيّة الإجماع كما مرّ أن يحدس منه عن قول المعصوم «ع» حدسا قطعيّا. و ثبوته هنا مشكل، لعدم تعرّض كثير من القدماء للمسألة و إن تعرض لها بعض. هذا. و لكن لا يضرّنا ذلك بعد ما مرّ من اقتضاء الأصل و كذا المقبولة اعتبار الاجتهاد.

و ليعلم أنّ ظاهر كلام المبسوط أيضا اتّفاق أصحابنا على اعتبار الاجتهاد.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 166

و القائل بعدم اعتباره إنّما هو من أهل الخلاف كأبي حنيفة و أصحابه.

قال في المبسوط:

«القضاء لا ينعقد لأحد إلّا بثلاث شرائط: أن يكون من أهل العلم، و العدالة، و الكمال. و عند قوم بدل كونه عالما أن يكون من أهل الاجتهاد. و لا يكون عالما حتّى يكون عارفا بالكتاب و السنّة و الإجماع و الاختلاف و لسان العرب، و عندهم و القياس.

فأما الكتاب فيحتاج أن يعرف من علومه خمسة أصناف: العام و الخاص، و المحكم و المتشابه، و المجمل و المفسّر، و المطلق و المقيد، و الناسخ و المنسوخ ...

و أمّا السنّة فيحتاج أيضا أن يعرف فيها خمسة أصناف: المتواتر و الآحاد، و المرسل

و المتصل، و المسند و المنقطع، و العام و الخاصّ، و الناسخ و المنسوخ ...

و في الناس من أجاز أن يكون القاضي عامّيا و يستفتي العلماء و يقضي به. و الأوّل هو الصحيح عندنا.» «1»

أقول: العالم على ما ذكره «قده» في بيان مفهومه مساوق للمجتهد المطلق، فلم يذكر في المسألة أقوالا ثلاثة على ما حكاه في الجواهر عن التنقيح بل قولين:

اعتبار الاجتهاد، و عدمه. و ظاهره اتّفاق الشيعة على الأوّل. فقوله: «و عند قوم بدل كونه عالما أن يكون من أهل الاجتهاد» ليس قولا آخر، بل تعبير آخر عن القول الأوّل.

و قوله: «و في الناس من أجاز أن يكون القاضي عامّيا» لا يراد به علماء الشيعة بل علماء أهل الخلاف كأبي حنيفة و أصحابه كما مرّ.

و كيف كان فلم نجد من قدماء الأصحاب من يصرّح بعدم اعتبار الاجتهاد في القاضي. و قد مرّ عن النهاية و كذا المقنعة ما يستفاد منه اعتبار الاجتهاد و قدرة الاستنباط من الكتاب و السنّة، من دون أن يعبّر بلفظ الاجتهاد، فراجع.

______________________________

(1)- المبسوط 8/ 99- 101.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 167

و يرد على الحادي عشر أنّه خلاف ظاهر المقبولة و المشهورة، فإنّ الظاهر منهما هو نصبه قاضيا و حاكما. و لا يصحّ القول باختصاصهما بزمان الحضور، إذ لا يمكن القول بتعطيل أمر القضاء بآثاره في عصر الغيبة و كون المسلمين محرومين من هذا الأمر الضروري المتوقّف عليه حفظ الحقوق و النظام طول غيبة الإمام الثاني عشر «ع» و إن طالت ما طالت. هذا.

كلام بعض الأساتذة في كتابه جامع المدارك:

و لكن قال بعض الأساتذة- طاب ثراه- في كتابه جامع المدارك في شرح المختصر النافع ما محصّله بتوضيح منّا:

«المعروف أنّ القضاء

منصب من المناصب الشرعية، إذ هو ولاية و سلطة على الغير في نفسه أو ماله أو أمر من أموره، كولاية الأب و الجد، و ليس هو مثل الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

و الظاهر من المقبولة بقرينة الذيل، أعني قوله: «فإن كان كلّ رجل اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما و اختلفا فيما حكما، و كلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال: الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما و أصدقهما في الحديث» كون المورد من الشبهات الحكمية و الاختلاف في الحكم. و القضاء فيها بإنشاء الحكم و الإلزام من قبل الحاكم لا يتصوّر، إذ الإلزام فيها ثابت من ناحية الشارع فلا يعقل إلزام مولوى فوق إلزامه، و لا يكون أمر الحاكم فيها إلّا إرشادا إلى حكم الشارع. نظير الأمر بالمعروف، و أوامر الفقيه في مقام بيان الأحكام، بل أوامر النبيّ «ص» و الأئمّة «ع» في مقام بيان أحكام اللّه- تعالى- أيضا.

فلو تنازع الوارث و الأجنبيّ الموهوب له في مرض الموت في كون منجّزات المريض من الثلث أو من الأصل، أو اختلف الوراث في حرمان الزوجة من أراضي غير

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 168

الرباع فحكم الحاكم بالخروج من الثلث أو الأصل أو حرمان الزوجة و عدم حرمانها ليس أزيد من بيان الحكم الإلهي الثابت له من طرف الشرع. و على هذا فالمقبولة ترتبط بباب الاستفتاء و الإفتاء لا القضاء المشتمل على إعمال الولاية.

نعم، في الاختلاف الموضوعيّ يتصوّر إعمال الولاية، كما لو اختلف المتنازعان في مال و كان أحدهما مدّعيا و الآخر منكرا فتفصل الخصومة بقضاء الحاكم بعد إقامة البيّنة أو اليمين و ينفذ القضاء فيها حتّى

في حقّ من يقطع بالخلاف، إذ الواقع غير مشخّص للقاضي و المقصود فيها رفع النزاع و التخاصم بالموازين المشروعة.

هذا مضافا إلى أنّه إذا فرضنا كون الاختلاف في الحكم الشرعي الكلّي فكيف يمكن المراجعة فيه إلى الحاكم مع اختلاف الحاكم و المحكوم عليه بحسب الاختلاف في الحجّة الشرعيّة اجتهادا أو تقليدا؟ و كيف ينفذ حكم الحاكم في حقّ من يراه باطلا بحسب اجتهاده أو تقليده؟ و المذكور في المقبولة أنّه إذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنّما استخفّ بحكم اللّه، و المحكوم عليه في الشبهة الحكميّة ربّما لا يرى الحكم حكمهم «ع» بل على خلاف حكمهم.

و يمكن أن يقرّر الإشكال بوجه ثالث، و هو أنّ الظاهر من الرواية كون الموضوع لوجوب القبول و التسليم تشخيص كون الحكم حكمهم- عليهم السلام-. و الظاهر من ذلك تشخيص المتنازعين و اعتقادهما لا تشخيص الحاكم و اعتقاده، و إذا فرض تشخيصهما لذلك كان الإلزام من هذه الناحية لا من ناحية حكم الحاكم، فلا يكون حكمه إلّا من قبيل الأمر بالمعروف لا من باب إعمال الولاية. و لا يفرّق فيه بين أن يكون الحاكم مجتهدا مطلقا أو متجزّيا أو مقلّدا، إذ المتخاصمان لا يأخذان إلّا بما ثبت كونه حكم اللّه بنظرهما و اعتقادهما. و كيف كان فالمقبولة ترتبط بباب الإفتاء لا بباب القضاء.

فإن قلت: قوله: «فإنّي قد جعلته عليكم حاكما» ظاهر في جعل المنصب، فلا يناسب باب الإفتاء.

قلت: لعلّ الجعل هنا بمعنى القول و التعريف، كما مرّ عن لسان العرب عن الزجاج في قوله- تعالى-: «وَ جَعَلُوا الْمَلٰائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبٰادُ الرَّحْمٰنِ إِنٰاثاً»،

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 169

فراجع.» «1» انتهى كلامه قدّس سرّه بتوضيح منّا.

أقول:

يمكن أن يجاب عن إشكاله- طاب ثراه- أوّلا: بأنّ الظاهر من قول السائل: «بينهما منازعة في دين أو ميراث» كون النزاع في الموضوع لا في الحكم، إذ الاختلاف و التنازع في الدين يقع بحسب الموضوع غالبا. و الظاهر من قول الإمام- عليه السلام-: «فإنّي قد جعلته عليكم حاكما» أيضا هو جعل المنصب. و احتمال كون الجعل بمعنى القول و التعريف بعيد جدّا.

فالمقبولة تشتمل على ثلاث قطعات: صدرها مرتبط بباب القضاء في الموضوعات، أو الأعمّ منها و من الأحكام. و الوسط، أعني قوله: «فإن كان كلّ رجل اختار رجلا ...» يرتبط باختلاف المجتهدين في الحكم و ترجيح أحدهما على الآخر بالأفقهية و غيرها. و الذيل يرتبط بباب اختلاف الحديثين و بيان المرجّحات للحديث من الشهرة و موافقة الكتاب و نحوها، فراجع. و كون رواية واحدة مشتملة على أحكام و مسائل متعدّدة مختلفة غير عزيز، كما يظهر بالتّتبّع.

و ثانيا: بمنع ما ذكره أخيرا، إذ ليس المراد تشخيص المتنازعين بكون حكم الحاكم حكمهم- عليهم السلام- في كلّ واقعة واقعة، بل المراد أن يكون حكم الحاكم مستندا إلى حديثهم- عليهم السلام- في قبال الأحكام المستندة إلى الأقيسة و الاستحسانات الظنّيّة، كما يشهد بذلك ردعه «ع» عن الرجوع إلى قضاة الجور، و إرجاعه إلى من روى حديثهم و نظر في حلالهم و حرامهم. فإذا كان الحاكم من شيعتهم- عليهم السلام- فلا محالة يكون حكمه كذلك.

و ثالثا: أنّ كون الأمر أو النهي في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إرشاديا أيضا قابل للمنع، بل لعلّه يكون مولويّا مؤكّدا لأمر الشارع و نهيه، كما لعلّه يشهد

______________________________

(1)- جامع المدارك 6/ 3 و ما بعدها.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2،

ص: 170

بذلك قوله- تعالى-: «وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنٰاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ.» حيث إنّه- تعالى- ذكر الأمر و النهي بعد إثبات مرتبة من الولاية لكلّ أحد على أحد حتّى يحقّ له الأمر و النهي.

و لعلّ القضاء في الشبهات الحكميّة و الاختلاف الحكمي أيضا كذلك و يكون نافذا واجب الإطاعة. فإذا فرض اختلاف الزوجة و سائر الورثة في أراضي غير الرباع بحسب الحكم الشرعي اجتهادا أو تقليدا فهل يوجد طريق لفصل الخصومة إلّا المراجعة إلى قاض عادل مجتهد يحكم بينهم و يقطع نزاعهم و إن كان فتواه مخالفا لفتوى أحد المتخاصمين أو مرجعه؟

و بالجملة فصدر المقبولة يرتبط بباب القضاء قطعا على ما هو الظاهر منها، فتدبّر.

و قد ظهر بما ذكرناه بالتفصيل إمكان الخدشة في جميع ما ذكره في الجواهر لجواز تصدّي المقلّد لأمر القضاء.

كلام للفاضل النراقي في المستند:

و في المستند- بعد ما نسب إلى المشهور اعتبار الاجتهاد و استدلّ له بالإجماع المنقول و بالأصل و باشتراط الإذن و لم يثبت لغير المجتهد- قال ما حاصله:

«إن كان مرادهم نفي قضاء غير المجتهد الذي لم يقلّد حيّا أو ميتا بتقليد حيّ بل رجع إلى ظواهر الأخبار و كتب الفقهاء من غير قوّة الاجتهاد فهو كذلك و لا ينبغي الريب فيه.

و إن كان مرادهم نفي قضاء غير المجتهد مطلقا فبعد ما علمت من عدم حجّية الإجماع المنقول يعلم ضعف الأدلّة، لأنّ المقلّد إذا علم فتوى مجتهد في جميع تفاصيل واقعة حادثة بين متنازعين من مقلّديه يعلم حكم اللّه في حقّهما، فذلك المقلّد عارف عالم بحكم الشارع في حقّهما فيكون مأذونا بالأخبار المتقدّمة عالما بالحكم خارجا من

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص:

171

تحت الأصل، إلّا أن يتحقّق إجماع على خلافه و هو غير محقّق. كيف؟! و كلمات أكثر القدماء خالية عن ذكر المجتهد أو ما يرادفه.

إلّا أنّه يمكن أن يقال: إنّ أكثر تلك الأخبار و إن كان مطلقا شاملا للمقلّد المذكور أيضا إلّا أنّ قوله «ع» في المقبولة: «ممّن قد روى حديثنا» و في التوقيع:

«فارجعوا إلى رواة أحاديثنا» مقيّد بالمجتهد، إذ المتبادر منه الراوي للحديث المستنبط المستخرج منه الأحكام على الطريق الذي ارتضاه الشارع.

و يدلّ على التخصيص أيضا المروي في مصباح الشريعة «1» المنجبر ضعفه بما ذكر أنّه قال أمير المؤمنين علي «ع» لقاض: هل تعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، قال:

فهل أشرفت على مراد اللّه- عزّ و جلّ- في أمثال القرآن؟ قال: لا، قال: إذا هلكت و أهلكت. و المفتي يحتاج إلى معرفة معاني القرآن و حقائق السنن و مواطن (بواطن خ. ل) الإشارات و الآداب و الإجماع و الاختلاف، و الاطلاع على أصول ما اجتمعوا (أجمعوا خ. ل) عليه و ما اختلفوا فيه، ثمّ إلى حسن الاختيار، ثمّ إلى العمل الصالح، ثمّ الحكمة، ثمّ التقوى. و قال الصادق «ع»: «لا يحلّ الفتيا لمن لا يستفتى (لا يصطفي خ. ل) من اللّه- عزّ و جلّ- بصفاء سرّه و إخلاص عمله و علانيته و برهان من ربّه في كلّ حال، لأنّ من أفتى فقد حكم و الحكم لا يصحّ إلّا بإذن من اللّه و برهانه.» «2»

أقول: تسليمه- قدّس سرّه- صدق عنوان العارف العالم على المقلّد بعيد من مثله و لا سيما لفظ العارف، حيث عرفت أنّ المعرفة لا تطلق إلّا مع الإحاطة بجميع خصوصيّات الشي ء و مميّزاته، و المقلّد ليس كذلك.

و أبعد من ذلك احتمال شمول

الروايات الواردة في فضل العلماء و الإرجاع إليهم المستدلّ بها للولاية و الإذن في القضاء لمن علم الحكم عن تقليد. هذا.

و أمّا ما رواه الكشي في عروة القتّات بسنده عن أحمد بن الفضل الكناسي، قال: قال

______________________________

(1)- مصباح الشريعة/ 41- 42 الباب 63 في الفتيا. (ط بيروت/ 16- 17، الباب 6 في الفتيا).

(2)- المستند 2/ 517.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 172

لي أبو عبد اللّه «ع»: «أيّ شي ء بلغني عنكم؟» قلت: ما هو؟ قال: «بلغني أنّكم أقعدتم قاضيا بالكناسة.» قال: قلت: نعم جعلت فداك، ذاك رجل يقال له: عروة القتّات و هو رجل له حظّ من عقل نجتمع عنده فنتكلّم و نتسائل ثمّ نردّ ذلك إليكم. قال:

«لا بأس.» «1» فليس دالّا على جواز تصدّى العاميّ للقضاء، بل دلالته على عدم الجواز أظهر. يظهر لك ذلك من اعتراض الإمام «ع» و من جواب الراوي، حيث يستفاد منه عدم تحقّق قضاء جازم، فتدبّر.

6- هل للفقيه أن ينصب المقلّد للقضاء؟

قد يقال إنّ الأدلّة الدالّة على الإذن كما مرّ و إن كانت تختصّ بالفقهاء و المجتهدين، و لكن يجوز للمجتهد المأذون فيه نصب مقلّده العالم بمسائل القضاء عن تقليد لأمر القضاء، بتقريب أنّ للنبيّ «ص» و الوصيّ بمقتضى الولاية المطلقة نصب كلّ أحد لذلك و إن لم يكن مجتهدا. و كلّ ما كان لهما كان للفقيه الجامع للشرائط أيضا، لعموم أدلّة الولاية و النيابة.

فإن قلت: لا نسلّم جواز نصب العاميّ من قبل النبيّ «ص» أو الوصيّ، لدلالة المقبولة على اعتبار الاجتهاد في المنصوب له.

قلت: إنّ المقبولة لا تدلّ إلّا على نصب الفقيه، و أمّا كون ذلك بإلزام شرعي و كون الفقاهة معتبرا بحكم الشرع فممنوع. فلعلّ الإمام الصادق «ع»

حيث أراد النصب بنحو عامّ راعى في نصبه جانب الاحتياط، فلم ينصب غير الفقيه حذرا من أن يتمتّع بهذا النصب بعض من لا يكون أهلا للقضاء، و على هذا فلا مانع من

______________________________

(1)- اختيار معرفة الرجال/ 371.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 173

نصب غير الفقيه أيضا بحسب الشرع و لا سيّما إذا كان لفرد خاصّ يكون تحت إشراف الوالي، كما كان شريح تحت إشراف أمير المؤمنين «ع».

هذا.

و لكن يمكن أن يقال- مضافا إلى ما مرّ من ظهور المقبولة في كون الإمام «ع» بصدد بيان شرائط القاضي و من يجوز التحاكم إليه شرعا لا شرائط المنصوب من قبله فقط- إنّ المستفاد من خبري سليمان بن خالد و إسحاق بن عمار المتقدّمين اختصاص القضاء شرعا بالنبيّ و الوصيّ، فلا أهلية لغيرهما له، غاية الأمر استثناء الفقيه الجامع للشرائط بالدليل فلا دليل على استثناء غيره. بل لعلّ الفقيه أيضا كما مرّ يكون من مصاديق الوصيّ، فإنّه وصيّ الوصيّ بمقتضى أدلّة الولاية و لا سيّما قوله: «اللّهم ارحم خلفائي»، فلا استثناء أصلا، فتأمّل.

و كيف كان فلا دليل على صحّة قضاء المقلّد و استثنائه. و لا يكفي في ذلك عموم دليل الولاية، إذ الولاية لا تتحقّق واقعا فيما لا شرعيّة له و مقتضى مفهوم الحصر في الخبرين عدم شرعيّة قضاء غير النّبيّ و الوصيّ. فبين الدليلين عموم من وجه فيتعارضان في نصب المقلّد للقضاء، إذ مقتضى عموم الولاية شرعيّته، و مقتضى عموم مفهوم الحصر عدم شرعيّته، و بعد تساقط الدليلين يرجع إلى الأصل في المسألة، و مقتضاه عدم الصحّة و الشرعيّة، فتأمّل.

7- هل يجوز للمجتهد أن يوكّل العاميّ المقلّد للقضاء؟

قد يقال سلّمنا أنّ القضاء منصب لا يصحّ جعله لغير الفقيه على ما

مرّ، و لكن يجوز للفقيه أن يوكّل المقلّد العالم بمسائل القضاء عن تقليد لذلك بإطلاق أدلة الوكالة. فهو يقضي في الوقائع نيابة عن الفقيه الذي وكّله. و لعلّ قوله «ع» في قصة

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 174

اللّصّ الوارد على المرأة و قتل ولدها: «اقض على هذا كما وصفت لك» «1» كان من هذا القبيل.

و أجيب عن ذلك بمنع الإطلاق فيما توهّم إطلاقه من أدلّة الوكالة كصحيحة معاوية بن وهب و جابر بن يزيد جميعا عن أبي عبد اللّه «ع» أنّه قال: «من وكّل رجلا على إمضاء أمر من الأمور فالوكالة ثابتة أبدا حتّى يعلمه بالخروج منها كما أعلمه بالدخول فيها» «2»

و صحيحة هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه «ع»: «في رجل وكّل آخر على وكالة في أمر من الأمور ... قال: نعم، إنّ الوكيل إذا وكّل ثمّ قام عن المجلس فأمره ماض أبدا، و الوكالة ثابتة حتّى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلغه أو يشافه بالعزل عن الوكالة.» «3»

إذ التمسّك بالإطلاق يتوقّف على كون الخبرين في مقام البيان من هذه الجهة، و ليست الروايتان في مقام بيان ما فيه الوكالة، بل بيان أنّ الوكالة بعد ثبوتها تبقى ما لم يبلغه العزل، فتدبّر.

و توهّم كون التوكيل من الأمور العقلائية غير المحتاجة إلى دليل شرعي، بل يكفي فيها عدم الردع، مدفوع أوّلا بأنّ التمسك ببناء العقلاء إنّما يصحّ فيما ثبت بناؤهم و استقرّت سيرتهم عليه حتّى في عصر النبي «ص» و الأئمة «ع»، كما في العقود و الإيقاعات المتعارفة و الوكالة في أمثالها.

و أمّا الوكالة في القضاء فلم يثبت كونها أمرا متعارفا في تلك الأعصار. و ثبوت السيرة في

بعض مصاديق الوكالة لا يكفي لإثبات السيرة و الإمضاء في غيره.

و ثانيا على فرض ثبوت السيرة فما دلّ على حصر القضاء في النبيّ و الوصيّ،

______________________________

(1)- الوسائل 19/ 45، الباب 23 من ابواب قصاص النفس، الحديث 2.

(2)- الوسائل 13/ 285، الباب 1 من أحكام الوكالة، الحديث 1.

(3)- الوسائل 13/ 286، الباب 2 من أحكام الوكالة، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 175

و كذا المقبولة و نحوها يكفي في الردع عنها.

و بالجملة قد تحصّل لك مما مرّ بطوله أنّ القضاء أوّلا و بالذات للّه- تعالى- و لرسله و للأوصياء. و ثبوته لغيرهم يحتاج إلى دليل. و الأصل عدم نفوذه إلّا من أهله.

و القدر المتيقّن ممّن ثبت له في عصر الغيبة هم الفقهاء. و يشهد لذلك المقبولة و المشهورة و غيرهما من الأدلة.

و الاحتياط الذي يحكم به العقل و الشرع في باب الدماء و الأموال و الأعراض أيضا يقتضي رعاية هذا الشرط.

و قد ترى أنّ شريحا مع سابقته في أمر القضاء اشترط عليه أمير المؤمنين «ع» أن لا ينفذ القضاء حتّى يعرضه عليه:

ففي صحيحة هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «لما ولّى أمير المؤمنين «ع» شريحا القضاء اشترط عليه أن لا ينفذ القضاء حتّى يعرضه عليه.» «1»

فهو- عليه السلام- كان يلتفت إلى أهميّة أمر القضاء، و أنّ له ارتباطا عميقا بالنفوس المحترمة و الأعراض و الأموال فتجب الدقّة و الاحتياط فيها.

و على هذا فإذا لم يوجد قضاة مجتهدون واجدون للشرائط بقدر المحاكم الدارجة كما لعلّه كذلك في عصرنا فالأحوط إن لم يكن أقوى تصدّي بعض من يقدر و يطلع على موازين القضاء إجمالا و لو عن تقليد لأمر التحقيق

و تهيّة المقدّمات، ثمّ يحال القضاء و الحكم الجازم إلى القاضي المجتهد الواجد للشرائط. و يجب على المجتهدين التصدّي لذلك و قبوله بقدر الكفاية، كما هو واضح. هذا.

و لكن لو لم يتيسّر ذلك بأيّ علة كان فلا يبعد أن يقال إنّه حيث لا يتصوّر حكومة إسلامية بدون سلطة القضاء و ربما كان ضرر تعطيل القضاء و إهماله كثيرا جدّا بحيث يخاف منه على بيضة الإسلام و كيان المسلمين ففي هذه الصورة يجوز بل يجب على الفقيه المتصدّي للحكومة الإسلامية نصب بعض الملتزمين المحتاطين ممّن

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 6، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 176

يطّلع على الموازين و لو عن تقليد أو توكيله بمقدار الضرورة، و لكن يراقب أعمالهم و على فرض الخطأ يجبر أخطاءهم. و وجه ذلك واضح بعد فرض الضرورة و الأهميّة.

و باب التزاحم باب واسع في الفقه يحلّ به كثير من الحوادث الواقعة.

و في الحديث عن الإمام الصادق «ع»: «ليس شي ء ممّا حرّم اللّه إلّا و قد أحلّه لمن اضطر إليه.» «1»

و ليس أمر القضاء بأهمّ من الإمامة الكبرى، و لو فرض عدم وجود الفقيه الواجد للشرائط لأن يتصدّى لها فلا شك في وجوب تصدّي المؤمنين العدول الواقفين على مصالح الإسلام و المسلمين لها، و لا يجوز تعطيلها أو إحالة أمور المسلمين إلى الطغاة الظالمين، فتدبّر.

8- هل يجزي التجزّي في الاجتهاد؟

على فرض اعتبار الاجتهاد في القاضي فهل يجزي التجزّي فيه، أو يعتبر كونه مجتهدا مطلقا، أو يفصّل بين وجود المطلق و عدمه؟ وجوه. و اختار التفصيل في كفاية الأحكام «2»

أقول: قد يقع الإشكال في أصل فرض التجزّي في الاجتهاد بتقريب أنّ الاجتهاد إن كان

عبارة عن الاستنباط الفعلي للأحكام بأن يستخرجها من أدلّتها التفصيلية بالفعل أمكن فيه التجزّي و التبعّض، و أمّا إذا أريد به ملكة الاستنباط و القدرة عليه فهي أمر بسيط، و أمرها دائر بين الوجود و العدم، فلا يتصوّر فيه تبعيض.

______________________________

(1)- الوسائل 16/ 137، الباب 12 من كتاب الايمان، الحديث 18.

(2)- كفاية الأحكام/ 261.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 177

اللّهم إلّا أن يقال إنّ مباني مسائل الفقه بحسب السهولة و الغموض مختلفة، و لعلّ استنباط بعض المسائل يتوقّف على إدراك بعض المباني الصعبة الدقيقة و الإحاطة بها، و بعضها يبتني على المباني السهلة الساذجة، و الأفراد بحسب مراتب الإدراك مختلفون فيمكن التجزّي و التبعيض. و تحقيق البحث موكول إلى محل آخر.

و كيف كان فاستدلّ في الكفاية لكفاية التجزّي بخبر أبي خديجة عن الصادق «ع»:

«انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا، فاجعلوه بينكم فإنّي قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه.» «1»

و لا يعارضه المقبولة الظاهرة في اعتبار الاجتهاد المطلق بمنطوقها بل بمفهومها، فيقدّم منطوق خبر أبي خديجة على مفهوم المقبولة لكونه أظهر. و إن شئت قلت: إنّه يخصّص إطلاق مفهوم المقبولة بمنطوق الخبر.

و لكن يرد على ذلك أوّلا أنّ إطلاق الخبر يقتضي كفاية التجزّي و إن تمكّنا من المجتهد المطلق.

و ثانيا أنّ خبر أبي خديجة ورد بنقل آخر و فيه: «اجعلوا بينكم رجلا ممّن قد عرف حلالنا و حرامنا، فإنّي قد جعلته قاضيا.» «2»

و ظاهره اعتبار الاجتهاد المطلق كالمقبولة.

و كون النقلين روايتين مستقلتين صادرتين حتّى يؤخذ بكلّ منهما مشكل، إذ من المحتمل قريبا كونهما رواية واحدة وقع الاختلاف فيها من ناحية الرواة.

فلا مجال للاستدلال بها للمقام، فيرجع إلى الأصل في المسألة، و

مقتضاه عدم الكفاية.

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 4، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 5.

(2)- الوسائل 18/ 100، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 6. و لفظة «عليكم» بعد قوله «جعلته» ليست في التهذيب بطبعيه و إن وجدت في الوسائل. و اعتمد في النقل على التهذيب.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 178

و ربّما يقال: إنّ الظاهر من قوله: «عرف أحكامنا» و «عرف حلالنا و حرامنا»، هو المعرفة الفعليّة التفصيليّة، و من الواضح ندرة تحقّق ذلك بالنسبة إلى جميع الأحكام فيجزي التجزّي بحسب الفعليّة قطعا.

و لا بأس بهذا القول، فتدبّر.

9- هل يتعين الأعلم مع الإمكان أو لا؟
[كلمات الأصحاب]

قال المحقق في قضاء الشرائع:

«إذا وجد اثنان متفاوتان في الفضيلة مع استكمال الشرائط المعتبرة فيهما فإن قلّد الأفضل جاز. و هل يجوز العدول إلى المفضول؟ فيه تردّد. و الوجه الجواز، لأنّ خلله ينجبر بنظر الإمام.» «1»

و قال في المسالك ما ملخّصه:

«لا إشكال في رجحان تقديم الأعلم لكن هل يتعيّن ذلك؟ فيه قولان مرتّبان على أنّ المقلّد هل يجب عليه تقليد الأعلم أم يتخيّر؟ فيه قولان للأصوليين و الفقهاء:

أحدهما: الجواز، لاشتراك الجميع في الأهليّة، و لما اشتهر من أنّ الصحابة كانوا يفتون مع اشتهارهم بالاختلاف في الأفضلية و لم ينكر عليهم أحد من الصحابة، فيكون إجماعا منهم.

و الثاني: و هو الأشهر بين الأصحاب المنع، لأنّ الظنّ بقول الأعلم أقوى، و اتباع الأقوى أولى. و لأنّ أقوال المفتين بالنسبة إلى المقلّد كالأدلّة، فكما يجب العمل بالدليل الراجح يجب تقليد الأفضل. و رواية عمر بن حنظلة عن الصادق «ع» صريحة في هذا.

و في كل واحد من أدلة الجانبين نظر ...» «2»

______________________________

(1)- الشرائع 4/ 69.

(2)- المسالك 2/ 353.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية،

ج 2، ص: 179

أقول: إن كان اختلاف المتخاصمين يرجع إلى الاختلاف في الحكم الشرعي الكلّي فترتّب اعتبار الأعلميّة في القاضي بينهما على اعتبارها في أمر التقليد واضح. و أمّا إذا كان اختلافهما في الموضوعات و كانت الشبهة موضوعيّة كما هو الغالب في الدعاوى فالترتّب على تلك المسألة غير واضح. هذا.

و لكن الأصل في المسألة يقتضي اعتبار الأعلميّة، فإنّه القدر المتيقّن.

[دليل القائل بعدم الاعتبار]

و للقائل بعدم الاعتبار أن يستدلّ بوجهين:

الأوّل: إطلاق المقبولة و المشهورة و التوقيع الشريف و نحوها ممّا استفيد منه ولاية الفقيه و الإذن له في القضاء. بل المشهورة بأحد النقلين تدلّ على كفاية التجزّي أيضا كما مرّ، فيكفي المطلق غير الأعلم بطريق أولى.

و دعوى عدم كون المقبولة و المشهورة في مقام البيان من هذه الجهة بل في مقام الردع عن الرجوع إلى قضاة الجور، مدفوعة. إذ الظاهر كونهما في مقام بيان عقد النفي و عقد الإثبات معا، و لا سيّما المقبولة فإنّها تشتمل على سؤالين و جوابين مستقلين: الأوّل: للردع عن الرجوع إليهم، و الثاني: للإرجاع إلى الفقهاء من شيعتهم، فراجع.

الثاني: استقرار السيرة في زمان النبيّ «ص» و الأئمة «ع» على الرجوع و الإرجاع إلى آحاد الصحابة من غير لحاظ الأعلميّة مع وضوح اختلافهم في الفضيلة، بل النبيّ «ص» أرجع بنفسه إلى بعض الصحابة مع وجود نفسه و وجود أمير المؤمنين «ع» الذي قال: هو «ص» في حقّه: «أقضاهم علي بن أبي طالب.» «1»

هذا.

______________________________

(1)- سنن ابن ماجة 1/ 55، المقدمة، الباب 11، الحديث 154.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 180

ما يستدلّ به على اعتبار الأعلميّة:

و يستدلّ على اعتبار الأعلميّة بأمور:

الأوّل: الأصل.

و يرد عليه أنّ الأصل لا يقاوم ما مرّ من الدليلين.

الثاني: ما في الجواهر من:

«الإجماع المحكيّ عن المرتضى في ظاهر الذريعة و المحقّق الثاني في صريح حواشي الجهاد من الشرائع على وجوب الترافع ابتداء إلى الأفضل و تقليده، بل ربّما ظهر من بعضهم أنّ المفضول لا ولاية له أصلا مع وجود الأفضل.» «1»

و يرد عليه عدم ثبوت الإجماع المفيد، بل المحقّق عدمه لعدم كون المسألة معنونة في كتب القدماء من أصحابنا. و قد مرّ

أنّ المقبولة و قد مرّ أن المقبولة و غيرها تشمل الأعلم و غيره، و عليه استقرّت السيرة أيضا.

و في الدروس:

«لو حضر الإمام في بقعة و تحوكم إليه فله ردّ الحكم إلى غيره إجماعا، فإنّ النبيّ «ع» كان يردّ الحكم إلى عليّ «ع» في مواضع.» «2»

و في الجواهر:

«لم نتحقّق الإجماع عن المحقّق الثاني، و إجماع المرتضى مبنيّ على مسألة تقليد

______________________________

(1)- الجواهر 40/ 45.

(2)- الدروس/ 171.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 181

المفضول الإمامة العظمى مع وجود الأفضل، و هو غير ما نحن فيه.» «1»

الثالث: أنّ الظنّ بقول الأعلم أقوى، و ترجيح المرجوح قبيح.

و يرد عليه مضافا إلى منع القوّة دائما إذ لعلّ المفضول يوافق كثيرا من أفاضل الأموات، أنّه لا دليل على تعيّن الأخذ بهذا الرجحان هنا بعد احتمال وجود الرجحان في تسهيل الأمر على الناس بالتخيير بين الأفضل و غيره. و إطلاق المقبولة و غيرها شاهد بذلك.

الرابع: ما في كتاب أمير المؤمنين «ع» لمالك: «ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك ممّن لا تضيق به الأمور و لا تمحكه الخصوم و لا يتمادى في الزلّة ...» «2»

و يرد عليه أنّه لا دلالة فيه على اعتبار الأعلميّة، إذ المراد بالأفضل في كلامه «ع» من اشتمل على صفات كماليّة عديدة ذكرها «ع»، كما يظهر بالمراجعة. و لو سلّم شمول إطلاقه للأعلميّة أيضا فهو في مقام بيان وظيفة الوالي، فلا يدلّ على تكليف المتخاصمين، فتأمّل.

الخامس: بعض الروايات الدالة على تقديم الأفقه على غيره:

ففي مقبولة عمر بن حنظلة السابقة: «قلت: فإن كان كلّ رجل اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما، و اختلفا فيما حكما و كلاهما اختلفا في

حديثكم؟ قال: الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما و أصدقهما في الحديث و أورعهما،

______________________________

(1)- الجواهر 40/ 45.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 1009؛ عبده 3/ 104؛ لح/ 434، الكتاب 53.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 182

و لا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر.» «1»

و روى الصدوق بإسناده عن داود بن الحصين، عن أبي عبد اللّه «ع» في رجلين اتّفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف، فرضيا بالعدلين فاختلف العدلان بينهما، عن قول ايّهما يمضى الحكم؟ قال: «ينظر إلى أفقههما و أعلمهما بأحاديثنا و أورعهما فينفذ حكمه، و لا يلتفت إلى الآخر.» و رواه الشيخ أيضا «2».

و روى الشيخ بإسناده عن موسى بن أكيل، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: سئل عن رجل يكون بينه و بين أخ له منازعة في حقّ فيتّفقان على رجلين يكونان بينهما فحكما فاختلفا فيما حكما. قال: و كيف يختلفان؟ قال: حكم كلّ واحد منهما للذي اختاره الخصمان. فقال: «ينظر إلى أعدلهما و أفقههما في دين اللّه فيمضى حكمه.» «3»

و من المحتمل رجوع الروايات الثلاث إلى قصّة واحدة، فإنّ الراوي عن عمر بن حنظلة كما مرّ هو داود بن الحصين، فلعلّ رواية الصدوق نقل بالمعنى لقطعة من الرواية الأولى و سقط عمر بن حنظلة من سندها، و موسى بن أكيل لم يكن سائلا بل كان حاضرا في المجلس حين ما سأل ابن حنظلة، فتدبّر.

نقل كلام صاحب العروة و نقده:

قال صاحب العروة في كتاب القضاء من ملحقاتها بعد اختيار تقديم الأعلم في البلد أو ما يقرب منه:

«لكون الإطلاقات مقيّدة بالأخبار الدالّة على الرجوع إلى المرجّحات عند اختلاف

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 75، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث

1. و يعتمد في النقل على الكافي 1/ 47، كتاب فضل العلم، باب اختلاف الحديث، الحديث 10.

(2)- الوسائل 18/ 80، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 20.

(3)- الوسائل 18/ 88، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 45.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 183

الحاكمين من الأفقهية و الأصدقيّة و الأعدليّة ...

و دعوى أنّ مورد أخبار المرجّحات التي هي العمدة في المقام خصوص صورة اختيار كلّ من المترافعين حاكما، أو صورة رضاهما بحكمين فاختلفا فلا دلالة فيها على وجوب الرجوع إلى الأعلم مطلقا، مدفوعة بأنّ الظاهر منها أنّ المدار على الأرجح عند التعارض مطلقا، كما هو الحال في الخبرين المتعارضين بل في صورة عدم العلم بالاختلاف أيضا، لوجوب الفحص عن المعارض.

لكنّ هذا إذا كان مدرك الحكم هو الفتوى و كان الاختلاف فيها، بأن كانا مختلفين في الحكم من جهة اختلاف الفتوى. و أمّا إذا كان أصل الحكم معلوما و كان المرجع إثبات الحقّ بالبيّنة و اليمين و الجرح و التعديل و نحو ذلك فلا دلالة في الأخبار على تعيّن الأعلم.» «1»

أقول: ما ذكره «قده» من عدم دلالة الروايات بالنسبة إلى الشبهة الموضوعيّة التي هي أكثر موارد الترافع واضح.

و أمّا ما ذكره من الدلالة في الشبهة الحكميّة مطلقا فيمكن المناقشة فيه، إذ مورد الروايات كما ذكر هو صورة اختيار كلّ منهما حاكما، أو رضاهما معا بحاكمين و اختلف الحاكمان في حكمهما. و حيث لا يرتفع التخاصم حينئذ إلّا بتعيّن أحدهما فلا محالة حكم الإمام «ع» بإعمال الترجيح و تقديم الأفقه الأعدل فلا دلالة لها على تعيّن اختياره في بادي الأمر و عدم جواز رضاهما بغير الأفقه.

بل المفروض في المقبولة اختيار أحدهما

لغير الأفقه، و لو لم يجز ذلك لكان على الإمام «ع» الردع عنه لا الاقتناع ببيان حكم اختلافهما فقط بإعمال الترجيح.

هذا مضافا إلى أنّ المستفاد من هذه الروايات هو الترجيح بالأعدليّة و الأصدقيّة و نحوهما أيضا، و لم نجد أحدا يفتي بتعيّنها في الابتداء.

نعم، لو قلنا في مسألة التقليد بتعيّن تقليد الأعلم، كما هو الأقوى في صورة

______________________________

(1)- ملحقات العروة الوثقى لآية اللّه المرحوم السيد محمد كاظم اليزدي 3/ 8 و 9، كتاب القضاء الفصل 1، المسألة 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 184

العلم باختلافهما تفصيلا أو إجمالا في المسائل المبتلى بها، فالمترافعان لو جهلا حكم المسألة و كان غرضهما تحصيل العلم بها فلا محالة يجب عليهما من أوّل الأمر الرجوع إلى الأعلم. و أمّا إذا علما بها عن اجتهاد أو تقليد صحيح و اختلفا في النظر، كما إذا كان نظر الورثة كون منجّزات المريض من الثلث و نظر الموهوب له في مرض الموت كونها من الأصل فاحتاجا إلى الترافع و القضاء، فلا دليل حينئذ على تعيّن الرجوع إلى الأعلم، بل إطلاق المقبولة و غيرها يقتضي العدم، فتأمّل.

و كيف كان فمقتضى إطلاق المقبولة و المشهورة و التوقيع الشريف ممّا دلّ على الإذن في القضاء هو كفاية الاجتهاد و عدم اعتبار الأعلميّة و لم نجد ما يوجب رفع اليد عن هذا الإطلاق، فالظاهر عدم اعتبارها. و لو سلّم فالظاهر أنّ المراد به هو الأعلم في البلد و ما يقرب منه لا مطلقا كما هو واضح. هذا كلّه في مسألة القضاء.

و أمّا مسألة التقليد فللتفصيل فيها محل آخر. و ملخّص الكلام فيها أنّه إن كان المستند للتقليد هي الروايات كالتوقيع الشريف و

رواية تفسير الإمام و نحوهما فالإطلاق فيها يقتضي العموم و عدم تعيّن الأعلم.

و أمّا إذا قلنا بكون المستند فيه هو بناء العقلاء في رجوع الجاهل في كلّ فنّ إلى أهل الخبرة فيه و أنّه ليس للشرع فيه تأسيس فالظاهر أنّ العقلاء مع العلم باختلاف أهل الخبرة كالأطبّاء مثلا تفصيلا أو إجمالا في المسائل المبتلى بها لهذا المقلّد يقدّمون الأعلم على غيره، بل لعلّهم كذلك مطلقا في المسائل المهمّة كالمريض الذي يخاف عليه التلف اللّهم إلّا إذا كان فتوى غير الأعلم مطابقا للاحتياط أو حصل منه وثوق و اطمينان أقوى.

نعم، في المسائل الساذجة غير المهمة ربّما يرجعون فيها إلى غير الأعلم أيضا، لكونه أسهل أو أقرب أو أخفّ مئونة و نحو ذلك.

و لا يخفى أنّ المسائل الدينية كلّها مهمّة عند الشارع و المتشرعة. و الاشتغال اليقيني بها يقتضي تحصيل البراءة اليقينيّة، و أصالة عدم الحجّيّة أيضا تقتضي تعيّن الأعلم، فتدبّر.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 185

10- اهتمام الإسلام بالقسط و العدل و الحكم بالحقّ:
[الآيات]

1- قال اللّه- تعالى-: «لَقَدْ أَرْسَلْنٰا رُسُلَنٰا بِالْبَيِّنٰاتِ وَ أَنْزَلْنٰا مَعَهُمُ الْكِتٰابَ وَ الْمِيزٰانَ لِيَقُومَ النّٰاسُ بِالْقِسْطِ، وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنٰافِعُ لِلنّٰاسِ.» «1»

يظهر من الآية الشريفة أنّ من الأهداف الأساسيّة لبعث الرسل و إنزال الكتب و وضع الموازين المقرّرة هو القسط، و قد جعل اللّه الحديد و السلاح ضمانة لتنفيذها و إجرائها.

2- و قال: مخاطبا للنبيّ الأكرم «ص»: «وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ، إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.» «2»

3- و قال: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّٰامِينَ لِلّٰهِ شُهَدٰاءَ بِالْقِسْطِ، وَ لٰا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلىٰ أَلّٰا تَعْدِلُوا، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوىٰ، وَ اتَّقُوا اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ خَبِيرٌ بِمٰا تَعْمَلُونَ.» «3»

4-

و قال: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّٰامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدٰاءَ لِلّٰهِ وَ لَوْ عَلىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوٰالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ، إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللّٰهُ أَوْلىٰ بِهِمٰا، فَلٰا تَتَّبِعُوا الْهَوىٰ أَنْ تَعْدِلُوا، وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللّٰهَ كٰانَ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيراً.» «4»

5- و قال: «قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ.» «5»

6- و قال: «فَإِنْ فٰاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا، إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.» «6»

______________________________

(1)- سورة الحديد (57)، الآية 25.

(2)- سورة المائدة (5)، الآية 42.

(3)- سورة المائدة (5)، الآية 8.

(4)- سورة النساء (4)، الآية 135.

(5)- سورة الأعراف (7)، الآية 29.

(6)- سورة الحجرات (49)، الآية 9.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 186

7- و قال: «وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزٰانَ بِالْقِسْطِ، لٰا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلّٰا وُسْعَهٰا، وَ إِذٰا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كٰانَ ذٰا قُرْبىٰ.» «1»

8- و قال: «وَ نَضَعُ الْمَوٰازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيٰامَةِ فَلٰا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَ إِنْ كٰانَ مِثْقٰالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنٰا بِهٰا وَ كَفىٰ بِنٰا حٰاسِبِينَ.» «2»

9- و قال: «لٰا يَنْهٰاكُمُ اللّٰهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقٰاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ، إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.» «3»

10- و قال: «إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمٰانٰاتِ إِلىٰ أَهْلِهٰا، وَ إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ، إِنَّ اللّٰهَ نِعِمّٰا يَعِظُكُمْ بِهِ، إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ سَمِيعاً بَصِيراً.» «4»

11- و قال: «إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسٰانِ وَ إِيتٰاءِ ذِي الْقُرْبىٰ، وَ يَنْهىٰ عَنِ الْفَحْشٰاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.» «5»

12- و قال: «فَلِذٰلِكَ فَادْعُ وَ اسْتَقِمْ كَمٰا أُمِرْتَ وَ لٰا تَتَّبِعْ أَهْوٰاءَهُمْ، وَ قُلْ آمَنْتُ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ مِنْ كِتٰابٍ، وَ

أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ، اللّٰهُ رَبُّنٰا وَ رَبُّكُمْ، لَنٰا أَعْمٰالُنٰا وَ لَكُمْ أَعْمٰالُكُمْ.» «6»

13- و قال: «وَ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ الْكِتٰابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتٰابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ وَ لٰا تَتَّبِعْ أَهْوٰاءَهُمْ عَمّٰا جٰاءَكَ مِنَ الْحَقِّ.» «7»

14- و قال: «يٰا دٰاوُدُ إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّٰاسِ بِالْحَقِّ وَ لٰا تَتَّبِعِ

______________________________

(1)- سورة الأنعام (6)، الآية 152.

(2)- سورة الأنبياء (21)، الآية 47.

(3)- سورة الممتحنة (60)، الآية 8.

(4)- سورة النساء (4)، الآية 58.

(5)- سورة النحل (16)، الآية 90.

(6)- سورة الشورى (42)، الآية 15.

(7)- سورة المائدة (5)، الآية 48.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 187

الْهَوىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ، إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ لَهُمْ عَذٰابٌ شَدِيدٌ بِمٰا نَسُوا يَوْمَ الْحِسٰابِ.» «1»

إلى غير ذلك من الآيات الآمرة بالعدل و القسط و الحكم بالحقّ.

[الروايات]

15- و في نهج البلاغة فيما ردّه أمير المؤمنين «ع» من قطائع عثمان: «و اللّه لو وجدته قد تزوج به النساء و ملك به الإماء لرددته، فإنّ في العدل سعة. و من ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق.» «2»

أقول: و وجهه أنّه إذا كان الحاكم على النظام هو العدل ففي ظلّه تحفظ و تصان حقوق جميع الأفراد و الطبقات، و أمّا إذا فشا الجور و الظلم صار مثله مثل النار إذا أصابت الديار يحرق بها الرطب و اليابس.

16- و في نهج البلاغة أيضا مخاطبا لزياد عامله على فارس و أعمالها: «استعمل العدل و احذر العسف و الحيف، فإنّ العسف يعود بالجلاء، و الحيف يدعو إلى السيف.» «3»

أقول: العسف: الشدّة في غير حقّ. و الجلاء: التفرّق و ترك الأوطان. و الحيف:

الميل إلى

الظلم. و ظلم الحاكم و عمّاله هو العامل الأساسي لثورة الأمّة و قيامهم بالسيف في قبال الحكومة.

17- و في أصول الكافي عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «العدل أحلى من الشهد و ألين من الزبد و أطيب ريحا من المسك.» «4»

18- و في الوسائل عن أبي إبراهيم «ع» في قول اللّه- عزّ و جلّ-:

______________________________

(1)- سورة ص (38)، الآية 26.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 66؛ عبده 1/ 42؛ لح/ 57، الخطبة 15.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 1304؛ عبده 3/ 266؛ لح/ 559، الحكمة 476.

(4)- أصول الكافي 2/ 147، كتاب الإيمان و الكفر، باب الإنصاف و العدل، الحديث 15.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 188

«يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا.»* قال: «ليس يحييها بالقطر، و لكن يبعث اللّه رجالا فيحيون العدل فتحيى الأرض لإحياء العدل.» «1»

19- و فيه عن رسول اللّه «ص»: «ساعة إمام عادل أفضل من عبادة سبعين سنة.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 2، ص: 188

و حدّ يقام للّه في الأرض أفضل من مطر أربعين صباحا.» «2»

20- و في نهج البلاغة خطابا لعثمان: «فاعلم أنّ أفضل عباد اللّه عند اللّه، إمام عادل هدي و هدى، فأقام سنّة معلومة و أمات بدعة مجهولة.» «3»

21- و في سنن الترمذي عن رسول اللّه «ص»: «إنّ أحبّ الناس إلى اللّه يوم القيامة و أدناهم منه مجلسا إمام عادل. و أبغض الناس إلى اللّه- تعالى- و أبعدهم منه مجلسا إمام جائر.» «4»

22- و فيه أيضا عنه «ص»: «اللّه مع القاضي ما لم يجر، فإذا

جار تخلّى عنه و لزمه الشيطان.» «5»

23- و في الوسائل عنه «ص»: «لسان القاضي بين جمرتين من نار حتّى يقضي بين الناس فإمّا إلى الجنّة و إمّا إلى النار.» «6»

24- و في تفسير مجمع البيان في تفسير قوله- تعالى-: «إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمٰانٰاتِ إِلىٰ أَهْلِهٰا»، قال:

«ورد في الآثار أنّ صبيّين ارتفعا إلى الحسن بن علي «ع» في خطّ كتباه و حكّماه في ذلك ليحكم أيّ الخطّين أجود، فبصر به عليّ «ع» فقال: يا بنيّ انظر كيف تحكم، فإنّ هذا حكم و اللّه سائلك عنه يوم القيامة.» «7»

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 308، الباب 1 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 3.

(2)- الوسائل 18/ 308، الباب 1 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 5.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 526؛ عبده 2/ 85؛ لح/ 234، الخطبة 164.

(4)- سنن الترمذي 2/ 394، أبواب الأحكام، الباب 4، الحديث 1344.

(5)- سنن الترمذي 2/ 395، أبواب الأحكام، الباب 4، الحديث 1345.

(6)- الوسائل 18/ 167، الباب 12 من أبواب آداب القاضي، الحديث 2.

(7)- مجمع البيان 2/ 64. (الجزء 3).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 189

25- و في الوسائل عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: «من حكم في درهمين بغير ما أنزل اللّه- عزّ و جلّ- فهو كافر باللّه العظيم.» «1»

26- و في نهج البلاغة: «و أيم اللّه لأنصفنّ المظلوم من ظالمه، و لأقودنّ الظالم بخزامته حتّى أورده منهل الحقّ و إن كان كارها.» «2»

إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة الواردة في وجوب العدل و بركات العدل و العادل، و ذمّ الجور و الجائر، فراجع مظانّها. هذا.

و ليس معنى العدالة تساوي الأفراد في المواهب و الأعمال و

المناصب، بل المراد بها إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، و تقديم الضوابط و الموازين التي شرّعها اللّه- تعالى- على أساس الطبائع و القابليات على الأهواء و العلاقات الشخصيّة، و إلّا فالمناصب و الأعمال إنّما تفوّض على أساس القابليّات. و عدم رعاية الاستعدادات و القابليّات و الاختصاصات المكتسبة فيها ظلم على الشخص و على الأمّة.

و قد مرّ عن رسول اللّه «ص»: «من استعمل رجلا من عصابة و فيهم من هو أرضى للّه منه فقد خان اللّه و رسوله و المؤمنين.» «3» و نحوه غيره.

و في نهج البلاغة في كتابه «ع» لمالك: «و لا يكوننّ المحسن و المسي ء عندك بمنزلة سواء، فإنّ في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان، و تدريبا لأهل الإساءة على الإساءة و ألزم كلّا منهم ما ألزم نفسه.» «4»

يعني أنّ المسي ء بإساءته ألزم نفسه استحقاق اللوم و العقاب، و المحسن بإحسانه ألزمها استحقاق الكرامة و الثواب. هذا.

و في ظلّ العدل الاجتماعي و إعطاء المناصب و الأعمال على أساس القابليّات

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 18، الباب 5 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 417؛ عبده 2/ 26؛ لح/ 194، الخطبة 136.

(3)- كنز العمال 6/ 25، الباب 1 من كتاب الإمارة و القضاء من قسم الأقوال، الحديث 14687.

(4)- نهج البلاغة، فيض/ 1000؛ عبده 3/ 98؛ لح/ 430، الكتاب 53.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 190

و التخصّصات تنمو القابليّة و تبرز الاستعدادات الكامنة قهرا.

نعم، جميع آحاد المجتمع و طبقاته متشاركون و متساوون أمام القانون، كما يأتي بيانه في البند الآتي.

11- المساواة أمام القانون:

يتميّز الحكم الإسلامي عن غيره بأنّه لا يفرّق فيه بين أفراد المجتمع و طبقاته في تطبيق القوانين الحقوقيّة و

الجزائيّة عليهم و إخضاعهم لها. فلا فرق فيه بين القويّ و الضعيف، و الرئيس و المرؤوس، و الراعي و الرعيّة، و العربي و الأعجمي، و الأسود و الأحمر، و الغنيّ و الفقير، بل و البرّ و الفاجر. فالقانون للجميع واحد و الحاكم واحد و المحكمة واحدة.

نعم، للتّقوى كرامتها و قداستها المعنوية كما قال اللّه- تعالى-: «يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ، إِنّٰا خَلَقْنٰاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثىٰ وَ جَعَلْنٰاكُمْ شُعُوباً وَ قَبٰائِلَ لِتَعٰارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّٰهِ أَتْقٰاكُمْ.» «1»

و عن رسول اللّه «ص»: «أيّها الناس، ألا إنّ ربّكم واحد و إنّ أباكم واحد. ألا لا فضل لعربيّ على عجميّ و لا عجميّ على عربي، و لا لأسود على أحمر و لا لأحمر على أسود إلّا بالتقوى.» «2»

كما أنّ الأعمال و المناصب لا تنال إلّا بالقابليّات و المؤهّلات و ليست جزافية كما مرّ آنفا، و لكن القوانين الحقوقيّة و الجزائية شاملة للجميع على وزان واحد، و لا يوجب الاختلاف في النسب أو اللون أو الوطن أو اللغة أو المنصب تفاوتا فيها:

1- فنرى الكتاب الكريم يقول في باب القصاص حاكيا عن التوراة: «وَ كَتَبْنٰا عَلَيْهِمْ فِيهٰا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ، وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ، وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ، وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ،

______________________________

(1)- سورة الحجرات (49)، الآية 13.

(2)- تفسير القرطبي 16/ 342. (في تفسير سورة الحجرات).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 191

وَ الْجُرُوحَ قِصٰاصٌ. فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّٰارَةٌ لَهُ، وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ.» «1»

فلم يفرّق فيه بين نفس و نفس.

2- و عن النبيّ «ص»: «الناس كأسنان المشط سواء.» «2»

3- و عنه أيضا: «لن تقدّس أمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقّه

من القويّ غير متتعتع.» «3»

4- و قد جسّد النبيّ «ص» هذه المساواة على نفسه في قصّته مع سوادة: ففي سفينة البحار: «سوادة بن قيس هو الذي قال للنبيّ «ص» في أيّام مرضه «ص»:

يا رسول اللّه، إنّك لمّا أقبلت من طائف استقبلتك و أنت على ناقتك العضباء و بيدك القضيب الممشوق فرفعت القضيب و أنت تريد الراحلة فأصاب بطني، فأمره النبيّ «ص» أن يقتصّ منه فقال: اكشف لي عن بطنك يا رسول اللّه، فكشف عن بطنه، فقال سوادة: أ تأذن لي أن أضع فمي على بطنك، فأذن له، فقال: أعوذ بموضع القصاص من رسول اللّه من النار يوم النار، فقال «ص»:

يا سوادة بن قيس، أ تعفو أم تقتص؟ فقال: بل أعفو يا رسول اللّه. فقال: اللّهم اعف عن سوادة بن قيس كما عفا عن نبيّك محمد «ص».» «4»

5- و في صحيح مسلم: «إنّ قريشا أهمّهم شأن المرأة المخزوميّة التي سرقت، فقالوا من يكلّم فيها رسول اللّه «ص»، فقالوا: و من يجتري عليه إلّا أسامة حبّ رسول اللّه «ص»، فكلّمه أسامة، فقال رسول اللّه «ص»: أتشفع في حدّ من حدود اللّه؟

ثمّ قام فاختطب فقال: أيّها الناس، إنّما أهلك الذين قبلكم أنّهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه و إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ، و أيم اللّه لو أنّ فاطمة بنت محمّد سرقت

______________________________

(1)- سورة المائدة (5)، الآية 45.

(2)- الفقيه 4/ 379، باب النوادر، الحديث 5798.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 1021؛ عبده 3/ 113؛ لح/ 439، الكتاب 53.

(4)- سفينة البحار 1/ 671. (باب السين، سوادة بن قيس.).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 192

لقطعت يدها.» «1»

6- و في صحيحة محمد بن قيس، عن

أبي جعفر «ع»، قال: «كان لأمّ سلمة زوج النبيّ «ص» أمة فسرقت من قوم، فأتى بها النبيّ «ص» فكلّمته أمّ سلمة فيها، فقال النبيّ «ص»:

يا أمّ سلمة، هذا حدّ من حدود اللّه لا يضيع، فقطعها رسول اللّه «ص».» «2»

7- و روى الحلبي، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «قال أمير المؤمنين «ع» لعمر بن الخطّاب: ثلاث إن حفظتهنّ و عملت بهنّ كفتك ما سواهنّ، و إن تركتهنّ لم ينفعك شي ء سواهنّ.

قال: و ما هنّ يا أبا الحسن؟ قال: «إقامة الحدود على القريب و البعيد، و الحكم بكتاب اللّه في الرضا و السخط، و القسم بالعدل بين الأحمر و الأسود.» قال عمر: لعمري لقد أوجزت و أبلغت.» «3»

8- و في حديث أنّ إحدى بنات أمير المؤمنين «ع» استعارت من أمين بيت المال علي بن أبي رافع عقد لؤلؤ كان فيه، عارية مضمونة، فقال له أمير المؤمنين «ع»: «أ تخون المسلمين؟» فقال: معاذ اللّه أن أخون المسلمين، فقال:

كيف أعرت بنت أمير المؤمنين العقد الذي في بيت مال المسلمين بغير إذني و رضاهم؟

فقال: يا أمير المؤمنين، إنّها ابنتك و سألتني أن أعيرها إيّاه تتزيّن به، فأعرتها إيّاه عارية مضمونة مردودة، فضمنته في مالي و عليّ أن أردّه سليما إلى موضعه.

قال: فردّه من يومك، و إيّاك أن تعود لمثل هذا فتنالك عقوبتي ثمّ أولى لابنتي لو كانت أخذت العقد على غير عارية مضمونة مردودة لكانت إذا أوّل هاشميّة قطعت يدها في سرقة.

قال: فبلغ مقالته ابنته فقالت له: يا أمير المؤمنين: أنا ابنتك و بضعة منك، فمن أحقّ بلبسه منّي؟

فقال لها أمير المؤمنين «ع»: يا بنت علي بن أبي طالب، لا تذهبنّ بنفسك عن الحقّ، أ كلّ نساء المهاجرين تتزيّن

في هذا العيد بمثل هذا؟!

______________________________

(1)- صحيح مسلم 3/ 1315، كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف و غيره، الحديث 1688.

(2)- الوسائل 18/ 332، الباب 20 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.

(3)- الوسائل 18/ 156، الباب 1 من أبواب آداب القاضي، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 193

قال: فقبضته منها و رددته إلى موضعه «1».

9- و في كتاب لأمير المؤمنين «ع» إلى بعض عمّاله حين اختطف بعض ما كان عنده من أموال المسلمين: «و اللّه لو أنّ الحسن و الحسين فعلا مثل الذي فعلت ما كانت لهما عندي هوادة و لا ظفرا منّي بإرادة حتّى آخذ الحقّ منهما و أزيل الباطل عن مظلمتهما.» «2»

10- و في البحار عن المناقب:

«بلغ معاوية أنّ النجاشي هجاه قدّس قوما شهدوا عليه عند عليّ «ع» أنّه شرب الخمر، فأخذه عليّ «ع» فحدّه، فغضب جماعة على عليّ «ع» في ذلك، منهم طارق بن عبد اللّه النهدي، فقال: يا أمير المؤمنين ما كنّا نرى أنّ أهل المعصية و الطاعة و أهل الفرقة و الجماعة عند ولاة العقل و معادن الفضل سيّان في الجزاء حتّى ما كان من صنيعك بأخي الحارث- يعني النجاشي- فأوغرت صدورنا و شتتت أمورنا، و حملتنا على الجادّة الّتي كنّا نرى أنّ سبيل من ركبها النار. فقال عليّ «ع»: «إنّها لكبيرة إلّا على الخاشعين.» يا أخا بني نهد، هل هو إلّا رجل من المسلمين انتهك حرمة من حرمة اللّه فأقمنا عليه حدّها زكاة له و تطهيرا؟ يا أخا بني نهد، إنّه من أتى حدّا فأليم (فأقيم) كان كفّارته. يا أخا بني نهد، إنّ اللّه- عزّ و جلّ- يقول في كتابه العظيم: «و لا يجرمنّكم شنآن

قوم على أن لا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى.»

فخرج طارق و النجاشي معه إلى معاوية و يقال: إنّه رجع.» «3»

فالنجاشي مع كونه من أشراف شيعة عليّ «ع» و ممّن هجا معاوية لأجله «ع» لمّا قام عليه الشهود بشرب الخمر أقام «ع» عليه الحدّ، و بذلك جسّد «ع» العدالة و المساواة أمام القانون.

11- و من أظهر مظاهر العدل و المساواة أنّ أمير المؤمنين- عليه السلام- في عصر

______________________________

(1)- تهذيب الأحكام 10/ 151، كتاب الحدود، باب من الزيادات، الحديث 37؛ و الوسائل 18/ 521، الباب 26 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 1.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 957؛ عبده 3/ 74؛ لح/ 414، الكتاب 41.

(3)- بحار الأنوار 41/ 9، تاريخ أمير المؤمنين «ع»، الباب 100، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 194

خلافته و حكومته حضر مجلس القضاء عند شريح القاضي و جلس في جنب يهودي مخاصم؛ ففي البحار أيضا، عن المناقب، عن حلية الأولياء و نزهة الأبصار:

«أنّه مضى عليّ «ع» في حكومة إلى شريح مع يهودي فقال: يا يهوديّ، الدرع درعي و لم أبع و لم أهب. فقال اليهودي: الدرع لي و في يدي، فسأله شريح البيّنة، فقال «ع»: هذا قنبر و الحسين يشهدان لي بذلك. فقال شريح: شهادة الابن لا تجوز لأبيه. و شهادة العبد لا تجوز لسيّده و إنّهما يجرّان إليك. فقال أمير المؤمنين «ع»:

ويلك يا شريح، أخطأت من وجوه: أمّا واحدة فأنا إمامك تدين اللّه بطاعتي و تعلم أنّي لا أقول باطلا، فرددت قولي و أبطلت دعواي، ثمّ سألتني البيّنة فشهد عبد، و أحد سيدي شباب أهل الجنة فرددت شهادتهما، ثمّ ادّعيت عليهما أنّهما يجرّان إلى أنفسهما. أما إنّي

لا أرى عقوبتك إلّا أن تقضي بين اليهود ثلاثة أيّام، أخرجوه. فأخرجه إلى قبا، فقضى بين اليهود ثلاثا ثمّ انصرف. فلمّا سمع اليهودي ذلك قال: هذا أمير المؤمنين جاء إلى الحاكم و الحاكم حكم عليه، فأسلم ثمّ قال: الدرع درعك سقطت يوم صفين من جمل أورق فأخذتها.» «1» هذا.

12- و في نهج البلاغة و من كلام له- عليه السلام- لمّا عوتب على التسوية في العطاء: «أ تأمرونّي أن أطلب النصر بالجور فيمن ولّيت عليه؟ و اللّه ما أطور به ما سمر سمير، و ما أمّ نجم في السماء نجما. لو كان المال لي لسوّيت بينهم، فكيف و إنّما المال مال اللّه! ألا و إنّ إعطاء المال في غير حقّه تبذير و إسراف، و هو يرفع صاحبه في الدنيا و يضعه في الآخرة و يكرمه في الناس و يهينه عند اللّه. و لم يضع امرؤ ماله في غير حقّه و لا عند غير أهله إلّا حرّمه اللّه شكرهم و كان لغيره ودّهم، فإن زلت به النعل يوما فاحتاج إلى معونتهم فشرّ خدين و ألأم خليل.» «2»

أقول: قوله «ما أطور به ما سمر سمير»، أي لا أفعله و لا أقاربه مدى الدهر. و الخدين:

الصديق.

______________________________

(1)- بحار الأنوار 41/ 56، تاريخ أمير المؤمنين «ع»، الباب 105، الحديث 6.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 389؛ عبده 2/ 10؛ لح/ 183، الخطبة 126.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 195

13- و في كنز العمّال: «إيّاكم و الإقراد، يكون أحدكم أميرا أو عاملا فتأتي الأرملة و اليتيم و المسكين فيقال: اقعد حتّى ننظر في حاجتك فيتركون مقردين لا تقضى لهم حاجة و لا يؤمروا فينفضّوا، و يأتي الرجل الغنيّ الشريف

فيقعده إلى جانبه ثمّ يقول: ما حاجتك؟ فيقول:

حاجتي كذا و كذا فيقول: اقضوا حاجته و عجّلوا.» (حل عن أبي هريرة) «1»

أقول: أقرد الرجل: إذا سكت ذلّا، كما في النهاية. «2»

14- و في خاتمة هذا البحث نذكر تفسيرا ذكره أمير المؤمنين «ع» للحقّ، و هو من أبلغ الكلمات و ألطفها في بيان أنّ جميع آحاد الناس في عرض واحد أمام الحقّ و القانون، قال «ع»:

«أمّا بعد فقد جعل اللّه- سبحانه- لي عليكم حقّا بولاية أمركم، و لكم عليّ من الحقّ مثل الذي لي عليكم. فالحقّ أوسع الأشياء في التواصف، و أضيقها في التناصف، لا يجري لأحد إلّا جرى عليه، و لا يجري عليه إلّا جرى له. و لو كان لأحد أن يجري له و لا يجرى عليه لكان ذلك خالصا للّه- سبحانه- دون خلقه، لقدرته على عباده و لعدله في كلّ ما جرت عليه صروف قضائه.» «3»

و خلاصة الكلام أنّ الإسلام جاء و البشر أجناس متفرّقون يتعادون و يتفاضلون في الأنساب و الألوان و اللغات و الأوطان، و الأديان و المذاهب و المشارب، و الشعوب و القبائل، و الحكومات و السياسات، يقاتل كلّ فريق منهم من خالفه في شي ء من هذه العلاقات البشرية، فدعاهم إلى الوحدة و التآخي و المساواة أمام القوانين العادلة الصالحة لحفظ الحقوق و إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه.

فمن الأسف عدم معرفة المسلمين لبرامج الإسلام و عدم التفاتهم إلى مزاياها، و اغترارهم بما ورد من الغرب و الشرق.

______________________________

(1)- كنز العمال 6/ 29 الباب 1 من كتاب الإمارة و القضاء من قسم الأقوال، الحديث 14705.

(2)- النهاية لابن الأثير 4/ 36.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 681؛ عبده 2/ 223؛ لح/ 332، الخطبة 216.

دراسات في ولاية الفقيه

و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 196

12- استقلال القاضي:

لا يخفى أنّ انسجام النظام و سلامة الملك و المجتمع يتوقّف على سلامة أمر القضاء و قوّته، كما مرّ.

و لا يحصل ذلك إلّا باستقلال القاضي و قوّته في السياسة و الاقتصاد حتّى لا يطمع أحد في إجباره و إخضاعه أو استمالته و إطماعه.

و قد ألفت أمير المؤمنين «ع» إلى هذه النكتة المهمّة في عهده إلى مالك، فقال عقيب الإشارة إلى مواصفات من ينتخب للقضاء: «ثمّ أكثر تعاهد قضائه و افسح له في البذل ما يزيل علّته و تقلّ معه حاجته إلى الناس. و أعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصّتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك، فانظر في ذلك نظرا بليغا.» «1»

و بالجملة، فيجب أن يكون القاضي مستقلا في الفكر و الإرادة، قويّا في التصميم و القرار، غير متأثّر بشي ء من السلطات السياسيّة و الاقتصاديّة.

و إنّما عدّت سلطة القضاء مستقلة عن سلطة التنفيذ لئلا تتأثّر عنها و لتعمّ سلطته مراتب سلطة التنفيذ فيها منها جميع الوزراء و العمّال و الأمراء، بل قد رأيت أنّ أمير المؤمنين «ع» أيضا في عصر خلافته حضر مجلس قضاء شريح مع خصمه اليهودي. فيعلم بذلك أهميّة موقعية القاضي. و لو لا ذلك لأثّرت السلطات السياسيّة أو الاقتصاديّة في أمر القضاء و القضاة، فتدبّر.

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 1010؛ عبده 3/ 105؛ لح/ 435، الكتاب 53.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 197

13- بعض آداب القضاء:

و نكتفي في هذا المجال بذكر بعض الأخبار و كلام الشيخ في النهاية، و التفصيل يطلب من محلّه:

1- روى محمد بن مسلم، عن أبي جعفر «ع»، قال: قال رسول اللّه «ص»: «إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأوّل حتّى تسمع من

الآخر، فإنّك إذا فعلت ذلك تبيّن لك القضاء.» «1»

2- و روى الصدوق بسنده، عن الرضا «ع»، عن آبائه، عن علي «ع»، قال:

قال النبيّ «ص» لمّا وجّهني إلى اليمن: «إذا تحوكم إليك فلا تحكم لأحد الخصمين دون أن تسأل من الآخر. قال: فما شككت في قضاء بعد ذلك.» «2»

3- و روى العياشي، عن الحسن، عن عليّ «ع»: أنّ النبيّ «ص» بعثه ... فقال:

«إنّ الناس سيتقاضون إليك، فإذا أتاك الخصمان فلا تقض لواحد حتّى تسمع الآخر، فإنّه أجدر أن تعلم الحقّ.» «3»

4- صحيحة هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «كان أمير المؤمنين «ع» لا يأخذ بأوّل الكلام دون آخره.» «4»

5- و روى السكوني، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: قال أمير المؤمنين «ع»: «من ابتلى

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 158، الباب 4 من أبواب آداب القاضي، الحديث 2.

(2)- الوسائل 18/ 159، الباب 4 من أبواب آداب القاضي، الحديث 6.

(3)- الوسائل 18/ 159، الباب 4 من أبواب آداب القاضي، الحديث 7.

(4)- الوسائل 18/ 158، الباب 4 من أبواب آداب القاضي، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 198

بالقضاء فليواس بينهم في الإشارة و في النظر و في المجلس.» «1»

6- و بهذا الإسناد أنّ رجلا نزل بأمير المؤمنين «ع» فمكث عنده أيّاما ثمّ تقدّم إليه في خصومة (حكومة خ. ل) لم يذكرها لأمير المؤمنين «ع» فقال له: «اخصم أنت؟» قال: نعم. قال:

«تحوّل عنّا، فإنّ رسول اللّه «ص» نهى أن يضاف الخصم إلّا و معه خصمه.» «2».

7- و روى السكوني، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: قال رسول اللّه «ص»: «من ابتلى بالقضاء فلا يقضي و هو غضبان.» «3»

8- و روى الكليني: قال

أمير المؤمنين «ع» لشريح: «لا تشاور (لا تسارّ) أحدا في مجلسك. و إن غضبت فقم، و لا تقضينّ و أنت غضبان.» قال: و قال أبو عبد اللّه «ع»: «لسان القاضي وراء قلبه، فإن كان له قال، و إن كان عليه أمسك.» «4»

9- و روى الكليني بسنده، عن سلمة بن كهيل، قال: سمعت عليّا «ع» يقول لشريح: «انظر إلى أهل المعك و المطل و دفع حقوق الناس من أهل المقدرة و اليسار ممّن يدلي بأموال الناس إلى الحكّام، فخذ للناس بحقوقهم منهم و بع فيها العقار و الديار. فإنّي سمعت رسول اللّه «ص» يقول: «مطل المسلم الموسر ظلم للمسلم» و من لم يكن له عقار و لا دار و لا مال فلا سبيل عليه. و اعلم أنّه لا يحمل الناس على الحقّ إلّا من ورعهم عن الباطل.

ثم واس بين المسلمين بوجهك و منطقك و مجلسك حتّى لا يطمع قريبك في حيفك و لا ييأس عدوّك من عدلك.

و ردّ اليمين على المدّعي مع بيّنته، فإنّ ذلك أجلى للعمى و أثبت في القضاء.

و اعلم أنّ المسلمين عدول بعضهم على بعض إلّا مجلود في حدّ لم يتب منه أو معروف بشهادة زور، أو ضنين.

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 157، الباب 3 من أبواب آداب القاضي، الحديث 1.

(2)- الوسائل 18/ 157، الباب 3 من أبواب آداب القاضي، الحديث 2.

(3)- الوسائل 18/ 156، الباب 2 من أبواب آداب القاضي، الحديث 1.

(4)- الوسائل 18/ 156، الباب 2 من أبواب آداب القاضي، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 199

و إيّاك و التضجّر و التأذّي في مجلس القضاء، الذي أوجب اللّه فيه الأجر و يحسن فيه الذخر لمن قضى بالحقّ.

و

اعلم أنّ الصلح جائز بين المسلمين إلّا صلحا حرّم حلالا أو أحلّ حراما، و اجعل لمن ادعى شهودا غيّبا أمدا بينهما (بينهم)، فإن أحضرهم أخذت له بحقّه، و إن لم يحضرهم أوجبت عليه القضية.

و إيّاك أن تنفذ قضية في قصاص أو حدّ من حدود اللّه أو حقّ من حقوق المسلمين حتّى تعرض ذلك عليّ ان شاء اللّه. و لا تقعد في مجلس القضاء حتّى تطعم.» و رواه الشيخ و الصدوق أيضا «1».

10- و في سنن أبي داود بسنده، عن عبد اللّه بن الزبير، قال: «قضى رسول اللّه «ص» أنّ الخصمين يقعدان بين يدي الحكم.» «2»

11- و فيه أيضا:

«دخل رجلان من أبواب كندة، و أبو مسعود الأنصاري جالس في حلقة، فقالا:

ألا رجل ينفّذ بيننا؟ فقال رجل من الحلقة: أنا. فأخذ أبو مسعود كفّا من حصى فرماه به و قال: مه، إنّه كان يكره التسرّع إلى الحكم.» «3»

12- و في سنن الترمذي بسنده، عن أبي هريرة، قال: «لعن رسول اللّه «ص» الراشي و المرتشي في الحكم.» «4»

13- و في الوسائل، عن سماعة، عن أبي عبد اللّه «ع»: «و أمّا الرشا في الحكم فهو الكفر باللّه.» «5»

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 155، الباب 1 من أبواب آداب القاضي، الحديث 1.

(2)- سنن أبي داود 2/ 271، كتاب الأقضية، باب كيف يجلس الخصمان بين يدي القاضي.

(3)- سنن أبي داود 2/ 269، كتاب الأقضية، باب في طلب القضاء و التسرّع إليه.

(4)- سنن الترمذي 2/ 397، أبواب الأحكام، الباب 9، الحديث 1351.

(5)- الوسائل 18/ 163، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، الحديث 8.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 200

14- و في كنز العمال، عن أمّ سلمة: «من ابتلي بالقضاء

بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه و إشارته و مقعده و مجلسه.» «1»

15- و فيه أيضا عن أمّ سلمة: «من ابتلى بالقضاء بين المسلمين فلا يرفع صوته على أحد الخصمين ما لم يرفع على الآخر.» «2»

16- و فيه أيضا عن ابن عمر: «لا يضيفنّ ذو سلطان خصما و لا يدنيه منه و لا يسمع منه إلّا و خصمه معه.» «3»

17- و فيه أيضا عن أبي سعيد: «لا يقضي القاضي بين اثنين إلّا و هو شبعان ريّان.» «4»

هذا.

18- و في نهاية الشيخ الطوسي «قده»:

«و إذا أراد أن يجلس للقضاء ينبغي أن ينجز حوائجه التي تتعلّق نفسه بها ليفرغ للحكم و لا يشتغل قلبه بغيره، ثمّ يتوضّأ وضوء الصلاة و يلبس أحسن ثيابه و أطهرها، و يخرج إلى المسجد الأعظم في البلد الذي يحكم فيه، فإذا دخله صلّى ركعتين، و يجلس مستدبر القبلة لتكون وجوه الخصم إذا وقفوا بين يديه مستقبلة القبلة.

و لا يجلس و هو غضبان و لا جائع و لا عطشان و لا مشغول القلب بتجارة و لا خوف و لا حزن و لا فكر في شي ء من الأشياء، و ليجلس و عليه هدي و سكينة و وقار ...

و إذا دخل عليه الخصمان فلا يبدأ أحدهما بالكلام. فإن سلّما أو سلّم أحدهما ردّ السلام دون ما سواه، و ليكن نظره إليهما واحدا و مجلسهما بين يديه على السواء.

و لا ينبغي للحاكم أن يسأل الخصمين بل يتركهما حتى يبدءا بالكلام.» «5»

______________________________

(1)- كنز العمال 6/ 102، الباب 2 من كتاب الإمارة و القضاء من قسم الأقوال، الحديث 15032.

(2)- كنز العمّال 6/ 102، الباب 2 من كتاب الإمارة و القضاء من قسم الأقوال، الحديث 15033.

(3)- كنز العمال 6/

103، الباب 2 من كتاب الإمارة و القضاء من قسم الأقوال، الحديث 15037.

(4)- كنز العمال 6/ 103، الباب 2 من كتاب الإمارة و القضاء من قسم الأقوال، الحديث 15040.

(5)- النهاية/ 337.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 201

14- في تكاليف القاضي و اختياراته:

قال الماوردي في الاحكام السلطانية ما ملخّصه:

«فصل: و لا تخلو ولاية القاضي من عموم أو خصوص، فإن كانت ولايته عامّة مطلقة فنظره مشتمل على عشرة أحكام:

أحدها: فصل في المنازعات و قطع التشاجر و الخصومات، إمّا صلحا عن تراض أو إجبارا بحكم باتّ.

و الثاني: استيفاء الحقوق ممّن مطل بها و إيصالها إلى مستحقّيها بعد ثبوت استحقاقها من أحد وجهين: اقرار، أو بيّنة.

و اختلف في جواز حكمه فيها بعلمه فجوزه مالك و الشافعي في أحد قوليه. و قال أبو حنيفة: يجوز أن يحكم بعلمه فيما علمه في ولايته و لا يحكم بما علمه قبلها.

و الثالث: ثبوت الولاية على من كان ممنوع التصرّف بجنون أو صغر، و الحجر على من يرى الحجر عليه لسفه أو فلس حفظا للأموال على مستحقّيها.

و الرابع: النظر في الأوقاف بحفظ أصولها و تنمية فروعها و القبض عليها و صرفها في سبلها. فإن كان عليها مستحقّ للنظر فيها راعاه، و إن لم يكن تولّاه.

و الخامس: تنفيذ الوصايا على شروط الموصي فيما أباحه الشرع و لم يحظره. فإن كان فيها وصيّ راعاه، و إن لم يكن تولّاه.

و السادس: تزويج الأيامى بالأكفاء إذا عدّ من الأولياء و دعين إلى النكاح.

و لا يجعله أبو حنيفة من حقوق ولايته لتجويزه تفرّد الأيّم بعقد النكاح.

و السابع: اقامة الحدود على مستحقيها، فإن كانت من حقوق اللّه- تعالى- تفرّد باستيفائه من غير طالب إذا ثبت بإقرار أو بيّنة، و

إن كان من حقوق الآدميّين كان موقوفا على طلب مستحقّه. و قال أبو حنيفة لا يستوفيها معا إلّا بخصم مطالب.

و الثامن: النظر في مصالح عمله من الكفّ عن التعدّي في الطرقات و الأفنية

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 202

و إخراج ما لا يستحقّ من الأجنحة و الأبنية، و له أن ينفرد بالنظر فيها و إن لم يحضره خصم. و قال أبو حنيفة: لا يجوز النظر فيها إلّا بحضور خصم مستعد.

و التاسع: تصفّح شهوده و أمنائه و اختبار النائبين عنه من خلفائه في إقرارهم و التعويل عليهم مع ظهور السلامة و الاستقامة و صرفهم و الاستبدال بهم مع ظهور الجرح و الخيانة.

و العاشر: التسوية في الحكم بين القويّ و الضعيف و العدل في القضاء بين المشروف و الشريف، و لا يتبع هواه في تقصير المحقّ أو ممايلة المبطل، قال اللّه- تعالى-: «يٰا دٰاوُدُ، إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّٰاسِ بِالْحَقِّ وَ لٰا تَتَّبِعِ الْهَوىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ. إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ لَهُمْ عَذٰابٌ شَدِيدٌ بِمٰا نَسُوا يَوْمَ الْحِسٰابِ.» «1» الخ.» «2»

و ذكر نحو ذلك أيضا أبو يعلى الفراء في الأحكام السلطانية، فراجع. «3»

أقول: فيظهر من ذلك أنّ عمل القاضي في تلك الأعصار لم يكن منحصرا في القضاء و فصل الخصومات فقط، بل كان هو المرجع أيضا في الأمور العامّة الحسبيّة التي لا مناص عن إجرائها و لا يجوز إهمالها و ليس لها مسئول خاصّ. و ربّما يصير تصدّي آحاد الناس لها و مباشرتهم لتنفيذها موجبا للتنازع و التشاجر. و كذلك المتعارف في أعصارنا أيضا كما تراه. و نحو ذلك إقامة الحدود و التعزيرات، بل و

الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

و لعلّ المراد بلفظ الحاكم المعوّل إليه الأمور الحسبيّة العامّة في كلمات فقهائنا في الأبواب المختلفة من الفقه أيضا هو الفقيه بما أنّه منصوب للقضاء.

و هو المحتمل بل المظنون أيضا في قول الإمام الصادق «ع» في المقبولة: «فإنّي قد جعلته عليكم حاكما» بقرينة مورد السؤال، و قوله في مشهورة أبي خديجة: «فإنّي

______________________________

(1)- سورة ص (38)، الآية 26.

(2)- الأحكام السلطانية/ 70.

(3)- الأحكام السلطانية/ 65.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 203

قد جعلته قاضيا.»

1- و في خبر إسماعيل بن سعد، قال: سألت الرضا «ع» عن رجل مات بغير وصية و ترك أولادا ذكرانا و إناثا و غلمانا صغارا، و ترك جواري و مماليك، هل يستقيم أن تباع الجواري؟ قال: نعم.

و عن الرجل يصحب الرجل في سفره فيحدث به حدث الموت، و لا يدرك الوصية، كيف يصنع بمتاعه و له أولاد صغار و كبار، أ يجوز أن يدفع متاعه و دوابّه إلى ولده الكبار أو إلى القاضي؟ فان كان في بلدة ليس فيها قاض كيف يصنع؟ و إن كان دفع المال إلى ولده الأكابر و لم يعلم به فذهب فلم يقدر على ردّه كيف يصنع؟

قال: إذا أدرك الصغار و طلبوا فلم يجد بدّا من إخراجه، إلّا أن يكون بأمر السلطان.

و عن الرجل يموت بغير وصية و له ورثة صغار و كبار، أ يحلّ شراء خدمه و متاعه من غير أن يتولّى القاضي بيع ذلك؟ فإن تولّاه قاض قد تراضوا به و لم يستأمروا الخليفة أ يطيب الشراء منه أم لا؟ فقال: إذا كان الأكابر من ولده معه في البيع فلا بأس به إذا رضي الورثة و قام

عدل في ذلك «1».

يظهر من هذا الخبر أيضا أنّ التصدّي لأمور الصغار في تلك الأعصار كان من شئون القضاة.

و لعلّ المراد بالسلطان في الخبر أيضا هو القاضي المتسلّط لا الخليفة، و بقوله في آخر الخبر: «قام عدل» هو العدل من القضاة لا أيّ عدل كان، فتأمّل.

2- و في خبر محمد بن إسماعيل بن بزيع، قال: مات رجل من أصحابنا و لم يوص. فرفع أمره إلى قاضي الكوفة، فصيّر عبد الحميد القيّم بماله ... قال:

فذكرت ذلك لأبي جعفر «ع» و قلت له: يموت الرجل من أصحابنا و لا يوصي إلى أحد و يخلف جواري فيقيم القاضي رجلا منّا فيبيعهنّ؟ أو قال: يقوم بذلك رجل

______________________________

(1)- فروع الكافي 7/ 66 (ط. القديم 2/ 253)، كتاب الوصايا، باب من مات على غير وصية ...، الحديث 1؛ و الوسائل 13/ 475، الباب 88 من كتاب الوصايا، الحديث 3؛ و الوسائل 12/ 270، الباب 16 من أبواب عقد البيع، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 204

منّا فيضعف قلبه لأنهنّ فروج فما ترى في ذلك؟ قال: فقال: إذا كان القيم به مثلك و مثل عبد الحميد فلا بأس «1».

يظهر من الحديث أن التصدّي لأمور من لم يوص أيضا كان من شئون القضاة في تلك الأعصار.

3- و في رواية حفص بن غياث، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع»: من يقيم الحدود؟ السلطان أو القاضي؟ فقال: «إقامة الحدود إلى من إليه الحكم.» «2»

و المراد بمن إليه الحكم هو القاضي الذي حكم في الواقعة، كما لا يخفى. هذا.

و لكن قال الكتّاني:

«قال ابن العربي في الأحكام: الحدود على قسمين: الأوّل إيجابها و ذلك للقضاة، و تناول استيفائها و قد

جعله النبيّ «ص» لقوم منهم علي بن أبي طالب و محمد بن مسلمة.» «3»

يظهر من ذلك أنّ للوالي و الإمام تفويض إقامة الحدود إلى غير من قضى بها، و هو الموافق للقاعدة أيضا فإنّ الجميع من شئون الوالي يفوّض ما شاء منها إلى من شاء ممّن يراه صالحا له. هذا.

و يتفرّع على ما ذكرنا من شئون القضاة أنّه إذا منع أئمّتنا المعصومون- عليهم السلام- من الرجوع إلى قضاة عصرهم من قضاة الجور و أرجعوا شيعتهم إلى فقهاء الشيعة كما في المقبولة و المشهورة فيمكن أن يستفاد من ذلك إرجاعهم إليهم في كلّ ما كان يرجع فيها إلى هؤلاء القضاة من فصل الخصومات و التصدّي للأمور الحسبيّة و إقامة الحدود الشرعيّة و التعزيرات و الإشراف على الوصايا و الأوقاف و نحو ذلك.

اللهم إلّا أن يجعل كون مورد السؤال هي المنازعات قرينة على إرادة خصوص فصل الخصومات، فتأمّل.

______________________________

(1)- الوسائل 12/ 270، الباب 16 من أبواب عقد البيع، الحديث 2.

(2)- الوسائل 18/ 338، الباب 28 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.

(3)- التراتيب الإدارية 1/ 313.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 205

و يظهر بما ذكر أيضا أنّ ما ذكره الأستاذ الإمام- مدّ ظلّه- في بيان مفاد المقبولة و تقريب دلالتها على نصب الفقيه للقضاء و الولاية الكبرى معا، بتقسيم المنازعات و إرجاع بعضها إلى القضاة و بعضها إلى الولاة، محلّ إشكال، فإن المنازعات و لو كانت للمطل و الظلم على الضعيف كانت إلى القضاة.

و قد مرّ تفصيل الكلام في الفصل الثالث من الباب الخامس في تقريب دلالة المقبولة على الولاية، فراجع.

15- في ولاية المظالم: [و هي المرجع الأعلى للشكايات أو لمظالم نفس القضاة]
[كلام الماوردي في ذلك]

قد عقد الماوردي في الأحكام السلطانية بعد باب القضاء بابا باسم ولاية المظالم،

و مثله أبو يعلى الفراء في كتابه. و هي- كما يظهر لك ممّا نذكر- تكون من متمّمات القضاء و تكون المرجع الأعلى للشكايات و المظالم الّتي لا يقدر القضاة على حلّها، أو لمظالم نفس القضاة.

و نظيرها في عصرنا و بلادنا- بوجه ما- مجموع الديوان العالي و المحكمة العليا، و ديوان العدالة، و إدارة التفتيش عن مظالم الموظّفين. و لعلّها بوحدتها تتضمّن جميع ذلك.

قال الماوردي ما ملخّصه:

«و نظر المظالم هو قود المتظالمين إلى التناصف بالرهبة، و زجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة، فكان من شروط الناظر فيها أن يكون جليل القدر، نافذ الأمر، عظيم الهيبة، ظاهر العفة، قليل الطمع، كثير الورع، لأنّه يحتاج في نظره إلى سطوة الحماة و ثبت القضاة، فيحتاج إلى الجمع بين صفات الفريقين، و أن يكون بجلالة القدر نافذ الأمر في الجهتين.

فإن كان ممن يملك الأمور العامّة كالوزراء و الأمراء لم يحتج النظر فيها إلى تقليد، و كان له بعموم ولايته النظر فيها.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 206

و إن كان ممّن لم يفوّض إليه عموم النظر احتاج إلى تقليد و تولية إذا اجتمعت فيه الشروط المتقدمة ...

فقد نظر رسول اللّه «ص» المظالم في الشرب الذي تنازعه الزبير بن العوّام و رجل من الأنصار، فحضره بنفسه فقال للزبير: «اسق أنت يا زبير ثمّ الأنصاري.» فقال الأنصاري: إنّه لابن عمّتك يا رسول اللّه. فغضب من قوله و قال: «يا زبير أجره على بطنه حتى يبلغ الماء إلى الكعبين.»

و إنّما قال: أجره على بطنه أدبا له لجرأته عليه. و اختلف لم أمره بإجراء الماء إلى الكعبين هل كان حقّا بيّنه لهما حكما أو كان مباحا فأمر به زجرا؟ على

جوابين.

و لم ينتدب للمظالم من الخلفاء الأربعة احد، لأنّهم في الصدر الأوّل مع ظهور الدين عليهم بين من يقوده التناصف الى الحقّ أو يزجره الوعظ عن الظلم، و انما كانت المنازعات تجري بينهم في أمور مشتبهة يوضحها حكم القضاء ...

ثمّ زاد من جور الولاة و ظلم العتاة ما لم يكفهم عنه إلّا أقوى الأيدي و أنفذ الأوامر.

فكان عمر بن عبد العزيز أوّل من ندب نفسه للنظر في المظالم، فردّها و راعى السنن العادلة و أعادها. و ردّ مظالم بني أميّة على أهلها حتّى قيل له- و قد شدّد عليهم فيها و أغلظ- إنّا نخاف عليك من ردّها العواقب، فقال: كلّ يوم أتّقيه و أخافه دون يوم القيامة لا وقيته!

ثم جلس لها من خلفاء بني العباس جماعة فكان أوّل من جلس لها المهدي، ثمّ الهادي، ثمّ الرشيد، ثمّ المأمون، فآخر من جلس لها المهتدي حتّى عادت الأملاك إلى مستحقّيها.

و قد كان ملوك الفرس يرون ذلك من قواعد الملك و قوانين العدل الذي لا يعمّ الصلاح إلّا بمراعاته، و لا يتمّ التناصف إلّا بمباشرته.

و كانت قريش في الجاهليّة حين كثر فيهم الزعماء و انتشرت فيهم الرئاسة و شاهدوا من التغالب و التجاذب ما لم يكفهم عنه سلطان قاهر عقدوا حلفا على ردّ المظالم و إنصاف المظلوم من الظالم ...

و اجتمعت بطون قريش فتحالفوا في دار عبد اللّه بن جدعان على ردّ المظالم بمكّة و أن

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 207

لا يظلم أحد إلّا منعوه و أخذوا للمظلوم حقّه.

و كان رسول اللّه «ص» يومئذ معهم قبل النبوة و هو ابن خمس و عشرين سنة فعقدوا حلف الفضول في دار عبد اللّه

بن جدعان، فقال رسول اللّه «ص» ذاكرا للحال:

لقد شهدت في دار عبد اللّه بن جدعان حلف الفضول ما لو دعيت إليه لأجبت و ما أحبّ أنّ لي به حمر النعم.» «1» و أتى بقصته و ما يزيده الإسلام إلّا شدة ...

و هذا و إن كان فعلا جاهليا دعتهم إليه السياسة فقد صار بحضور رسول اللّه «ص» له و ما قاله في تأكيد أمره حكما شرعيّا و فعلا نبويّا.

فصل: فإذا نظر في المظالم من انتدب لها جعل لنظره يوما معروفا يقصده فيه المتظلّمون و يراجعه فيه المتنازعون، ليكون ما سواه من الأيّام لما هو موكول إليه من السياسة و التدبير إلّا أن يكون من عمّال المظالم المنفردين لها فيكون مندوبا للنظر في جميع الأيّام. و ليكن سهل الحجاب، نزه الأصحاب.

و يستكمل مجلس نظره بحضور خمسة أصناف لا يستغني عنهم و لا ينتظم نظره إلّا بهم:

أحدهم: الحماة و الأعوان، لجذب القوى و تقويم الجري ء.

و الصنف الثاني: القضاة و الحكّام، لاستعلام ما يثبت عندهم من الحقوق و معرفة ما يجري في مجالسهم بين الخصوم.

و الصنف الثالث: الفقهاء، ليرجع إليهم فيما أشكل.

و الصنف الرابع: الكتّاب، ليثبتوا ما جرى بين الخصوم.

و الصنف الخامس: الشهود، ليشهدهم على ما أوجبه من حقّ و أمضاه من حكم.

و الذي يختصّ بنظر المظالم يشتمل على عشرة أقسام:

فالقسم الأوّل: النظر في تعدّي الولاة على الرعيّة و أخذهم بالعسف في السيرة.

فهذا من لوازم النظر في المظالم الذي لا يقف على ظلامة متظلّم، فيكون لسيرة

______________________________

(1)- في نهاية ابن الأثير 3/ 456 في لغة فضل: «و فيه «شهدت في دار عبد اللّه بن جدعان حلفا لو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت.» يعني حلف الفضول، سميّ به تشبيها

بحلف كان قديما بمكّة أيّام جرهم على التناصف و الأخذ للضعيف من القوي، و للغريب من القاطن، قام به رجال من جرهم كلّهم يسمى الفضل، منهم الفضل بن الحارث، و الفضل بن وداعة، و الفضل بن فضالة.»

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 208

الولاة متصفّحا و عن أحوالهم مستكشفا ليقويهم إن أنصفوا و يكفهم إن عسفوا، و يستبدل بهم إن لم ينصفوا ...

و القسم الثاني: جور العمّال فيما يجبونه من الأموال، فيرجع فيه إلى القوانين العادلة في دواوين الأئمّة فيحمل الناس عليها و يأخذ العمّال بها و ينظر فيما استزادوه، فإن رفعوه إلى بيت المال أمر بردّه و إن أخذوه لأنفسهم استرجعه لأربابه ...

و القسم الثالث: كتّاب الدواوين، لأنّهم أمناء المسلمين على ثبوت أموالهم فيما يستوفونه له و يوفونه منه، فيتصفّح أحوال ما وكّل إليهم فإن عدلوا بحقّ من دخل أو خرج إلى زيادة أو نقصان أعاده إلى قوانينه و قابل على تجاوزه ...

و هذه الأقسام الثلاثة لا يحتاج والي المظالم في تصفّحها إلى متظلّم.

و القسم الرابع: تظلّم المسترزقة من نقص أرزاقهم أو تأخّرها عنهم و إجحاف النظر بهم، فيرجع إلى ديوانه في فرض العطاء العادل فيجريهم عليه و ينظر فيما نقصوه أو منعوه من قبل فإن أخذه ولاة أمورهم استرجعه منهم، و إن لم يأخذوه قضاه من بيت المال.

كتب بعض ولاة الأجناد إلى المأمون أنّ الجند شعبوا و نهبوا. فكتب إليه: لو عدلت لم يشعبوا و لو وفيت لم ينهبوا، و عزله عنهم، و أدرّ عليهم أرزاقهم.

و القسم الخامس: ردّ الغصوب، و هي ضربان:

أحدهما: غصوب سلطانية قد تغلب عليها ولاة الجور كالأملاك المقبوضة عن أربابها إمّا لرغبة فيها و إمّا

لتعدّ على أهلها. فهذا إن علم به والي المظالم عند تصفّح الأمور أمر بردّه قبل التظلّم إليه، و إن لم يعلم به فهو موقوف على تظلّم أربابه ...

و الضرب الثاني من الغصوب ما تغلب عليها ذوو الأيدي القويّة و تصرّفوا فيه تصرّف الملّاك بالقهر و الغلبة. فهذا موقوف على تظلّم أربابه و لا ينتزع من يد غاصبه إلّا بأحد أربعة أمور: و إمّا باعتراف الغاصب، و إمّا بعلم والي المظالم، و إمّا ببيّنة تشهد على الغاصب و إمّا بتظاهر الأخبار الذي ينفي عنها التواطؤ.

و القسم السادس: مشارفة الوقوف، و هي ضربان: عامة و خاصة، فأمّا العامّة فيبدأ بتصفّحها و إن لم يكن فيها متظلّم ليجريها على سبيلها و يمضيها على شروط

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 209

واقفها ... و أمّا الوقوف الخاصّة فإنّ نظره فيها موقوف على تظلّم أهلها عند التنازع فيها لوقفها على خصوم متعيّنين ...

و القسم السابع: تنفيذ ما وقف القضاة من أحكامها، لضعفهم عن إنفاذها و عجزهم عن المحكوم عليه لتعزّزه و قوّة يده أو لعلوّ قدره و عظم خطره ...

و القسم الثامن: النظر فيما عجز عنه الناظرون من الحسبة في المصالح العامّة، كالمجاهرة بمنكر ضعف عن دفعه و التعدّي في طريق عجز عن منعه و التحيّف في حقّ لم يقدر على ردّه ...

و القسم التاسع: مراعاة العبادات الظاهرة، كالجمع و الأعياد و الحجّ و الجهاد من تقصير فيها و إخلال بشروطها، فإنّ حقوق اللّه أولى أن تستوفى و فروضه أحقّ أن تؤدّى.

و القسم العاشر: النظر بين المتشاجرين و الحكم بين المتنازعين، فلا يخرج في النظر بينهم عن موجب الحقّ و مقتضاه. و لا يسوغ أن

يحكم بينهم إلّا بما يحكم به الحكّام و القضاة، و ربّما اشتبه حكم المظالم على الناظرين فيها فيجورون في أحكامها و يخرجون إلى الحدّ الذي لا يسوغ فيها.

و الفرق بين نظر المظالم و نظر القضاة من عشرة أوجه:

أحدها: أنّ لناظر المظالم من فضل الهيبة و قوة اليد ما ليس للقضاة.

و الثاني: أنّ نظر المظالم يخرج من ضيق الوجوب إلى سعة الجواز، فيكون الناظر فيه أفسح مجالا و أوسع مقالا.

و الثالث: أنّه يستعمل من فضل الإرهاب و كشف الأسباب بالأمارات الدّالة و شواهد الأحوال ما يضيق على الحكّام، فيصل به إلى ظهور الحقّ و معرفة المبطل من المحقّ.

و الرابع: أن يقابل من ظهر ظلمه بالتأديب.

و الخامس: أنّ له من التأنّي في ترداد الخصوم عند اشتباه أمورهم ما ليس للحكّام إذا سألهم أحد الخصمين فصل الحكم.

و السادس: أنّ له ردّ الخصوم إذا أعضلوا إلى وساطة الأمناء ليفصلوا التنازع بينهم

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 210

صلحا عن تراض، و ليس للقاضي ذلك إلّا عن رضى الخصمين بالردّ.

و السابع: أن يفسح في ملازمة الخصمين إذا وضحت أمارات التّجاحد و يأذن في إلزام الكفالة فيما يسوغ فيه التكفّل لينقاد الخصوم إلى التناصف.

و الثامن: أنه يسمع من شهادات المستورين ما يخرج عن عرف القضاة في شهادة المعدلين.

و التاسع: أنّه يجوز له إحلاف الشهود عند ارتيابه بهم إذا بذلوا أيمانهم طوعا و يستكثر من عددهم ليزول عنه الشك، و ليس ذلك للحاكم.

و العاشر: أنّه يجوز أن يبتدئ باستدعاء الشهود و يسألهم عمّا عندهم في تنازع الخصوم، و عادة القضاة تكليف المدّعى إحضار البيّنة.

فهذه عشرة أوجه يقع بها الفرق بين نظر المظالم و نظر القضاء في التشاجر و التنازع، و هما فيما عداهما متساويان.» «1»

انتهى ما

أردنا نقله من كلام الماوردي، و نحو ذلك في كلام أبي يعلى، فراجع «2».

[كلام المؤلف في ذلك]

أقول: يظهر لك بالتأمّل في التكاليف العشر التي ذكرها الماوردي و أبو يعلى في البحث السابق لولاية القضاء و التكاليف العشر التي ذكراها هنا لولاية المظالم، و بالمقايسة بين التكاليف في البابين أنّ ولاية المظالم عندهم كأنّها كانت مرتبة عالية لولاية القضاء امتزج فيها كما قال الماوردي قوّة السلطنة بنصف القضاء، و كانت تفترق عن القضاء العادي بالقوّة و الشوكة الكثيرة، و كلتاهما كانتا من شئون الولاية الكبرى.

و ربّما كان الوالي الأعظم بنفسه يتصدّى لهما، كما نراه من تصدّى رسول اللّه «ص» و أمير المؤمنين «ع» كثيرا لكليهما. و أنت إذا تتبّعت كلمات أمير المؤمنين «ع» في خطبه و في كتبه إلى عمّاله تجد عنايته و اهتمامه كثيرا إلى ردّ المظالم و إحقاق الحقوق من قبل نفس الوالي، حيث إنّه بقدرته و قوّته يكون أقدر على

______________________________

(1)- الأحكام السلطانية/ 77- 84.

(2)- الأحكام السلطانية لأبي يعلى/ 73- 79.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 211

ذلك من كلّ أحد:

1- فهو «ع» بعد تصدّيه للخلافة ردّ على المسلمين ما أقطعه عثمان من أموالهم، و قال: «و اللّه لو وجدته قد تزوّج به النساء و ملك به الإماء لرددته، فإنّ في العدل سعة.» «1»

2- و قال «ع» في كتابه لمالك: «و اجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرّغ لهم فيه شخصك و تجلس لهم مجلسا عامّا، فتتواضع فيه للّه الذي خلقك، و تقعد عنهم جندك و أعوانك من أحراسك و شرطك حتّى يكلّمك متكلّمهم غير متتعتع، فإنّي سمعت رسول اللّه «ص» يقول في غير موطن: «لن تقدّس أمّة لا يؤخذ للضعيف فيها

حقّه من القوي غير متتعتع.» «2»

3- و قال أيضا: «ثمّ إنّ للوالي خاصّة و بطانة فيهم استئثار و تطاول، و قلّة إنصاف في معاملة، فاحسم مادّة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال، و لا تقطعنّ لأحد من حاشيتك و حامّتك قطيعة، و لا يطمعنّ منك في اعتقاد عقدة تضرّ بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك يحملون مئونته على غيرهم، فيكون مهنأ ذلك لهم دونك و عيبه عليك في الدنيا و الآخرة.

و ألزم الحقّ من لزمه من القريب و البعيد. و كن في ذلك صابرا محتسبا واقعا ذلك من قرابتك و خاصّتك حيث وقع.» «3»

و أنت تعلم أنّ أكثر المظالم الكبيرة تقع من خاصّة السلاطين و عمّا لهم بالاستناد إليه و القرب منه.

4- و قال في ضمن كتاب كتبه إلى بعض عمّاله حين اختطف بعض ما كان في يده من أموال المسلمين: «و اللّه لو أنّ الحسن و الحسين فعلا مثل الذي فعلت ما كانت لهما عندي هوادة و لا ظفرا منّي بإرادة حتّى آخذ الحقّ منهما و أزيل الباطل عن مظلمتهما.» «4»

إلى غير ذلك من الكلمات، و راجع في ذلك الفصل الثالث أيضا.

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 66؛ عبده 1/ 42؛ لح/ 57، الخطبة 15.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 1021؛ عبده 3/ 112؛ لح/ 439، الكتاب 53.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 1025؛ عبده 3/ 115؛ لح/ 441، الكتاب 53.

(4)- نهج البلاغة، فيض/ 957؛ عبده 3/ 74؛ لح/ 414، الكتاب 41.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 213

الفصل الخامس في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و إدارة الحسبة

اشارة

و المقصود هنا التعرض لهما و لشروطهما إجمالا، و بيان أنّ لهما مراتب: بعضها من الوظائف العامة الواجبة على كلّ مسلم بنحو الوجوب العيني على

ما قيل أو الكفائي على الأصحّ، و بعض مراتبها ممّا لا يتمكّن منه كلّ أحد بل لا يجوز له التصدّي له، و يكون من شئون الحكومة الإسلاميّة و السلطة التنفيذيّة و لا يجوز للأشخاص التصدّي لها إلّا بإذن الحاكم.

و قد اصطلحوا على تسمية المؤسّسة المفوّض إليها هذه الوظيفة بإدارة الحسبة، و الشخص المسؤول عنها بالمحتسب.

فنقول: في المسألة جهات من البحث:

الجهة الأولى: في انّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر من أهمّ الفرائض الشرعيّة،

بل يحكم بوجوبهما العقل أيضا:

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 214

اعلم أنّهما من أهم الفرائض التي حثّ عليها الكتاب و السنّة، و عليهما يبتنى بقاء أساس الدّين و استمرار الرسالة الإلهية و حفظ نظام المسلمين و كيانهم.

و لعلّ الاهتمام بهما من خصائص الشريعة الإسلامية التى شرّعت لكافّة الناس و تكون باقية طوال القرون و الأعصار إلى يوم القيامة، فجعلت كلّ واحد ممّن آمن بها مسئولا إجمالا عن بسطها و نشرها و حفظها.

و السرّ في ذلك أنّ الفرد من أفراد المجتمع ليس منعزلا عن غيره منفردا في المسير و المصير، بل الإنسان مدنيّ بالطبع و يتأثّر بعضه ببعض في العقائد و الأخلاق و الأعمال بلا إشكال، كما هو المشاهد في جميع الأجيال و الأمم. و انحراف الفرد كما يضرّ بشخصه يضرّ بالمجتمع أيضا، فيحكم العقل بلزوم الرقابة العامة و حفظ المجتمع عن الفساد مهما أمكن، و الشرع أيضا أوجب ذلك و جعلها من أهم الفرائض.

فكما أنّه لو أصيب أحد من أفراد المجتمع بمرض جسماني معدّ كالوباء و الطاعون و نحوهما يعالج فورا بإعدام الجراثيم حذرا من السراية و الشيوع في الأفراد و العائلات و يحكم العقل بحسن ذلك بل بلزومه أيضا، فكذلك الأمراض الروحيّة و التخلّفات الأخلاقيّة لو لم يقف المجتمع

في وجهها و لم يجاهد في قبالها لشاعت و أوجبت في النهاية سقوط المجتمع و فساده.

فعلى الأمّة الإسلاميّة و لا سيّما على إمامها و ممثّلها أن تراقب بجميع طاقاتها ما يقع خلال المجتمع و أن تساعد على بسط المعروف و نموّ الخير و ازدهاره و على قلع جذور الشرّ و إنكاره.

و قد بلغت هذه الفريضة من الأهميّة حدّا جعلها أمير المؤمنين «ع» فوق الجهاد و سائر أعمال البرّ بمراتب: ففي نهج البلاغة قال: «و ما أعمال البرّ كلّها و الجهاد في سبيل اللّه عند الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إلّا كنفثة في بحر لجيّ.» «1»

و السرّ في ذلك أن قوام جميع الفرائض و بقاءها بحدودها و شروطها رهين بإقامة

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 1263؛ عبده 3/ 244؛ لح/ 542، الحكمة 374.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 215

هذه الفريضة. مضافا إلى أن الجهاد كفاح خارجي، و لا أثر له و لا أهميّة ما لم يصلح الداخل، فالواجب أوّلا تطهير الداخل و إصلاحه ثمّ الإقدام على إصلاح الخارج، فتأمّل.

الجهة الثانية: في أنّ للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر درجات و مراتب:

لا يخفى أنّ الفريضتين ببعض مراتبهما ممّا يتمكّن منه كلّ مسلم عارف بأحكام الإسلام و ضروريّاته، فيستوي فيه الحاكم و غيره و المحتسب و غيره. و ذلك كالإنكار بالقلب و باللسان، فيجب على جميع الناس و منهم الولاة فعل ذلك و إعانة من يفعله، و يبدأ في الإنكار بالأسهل، فإن زال المنكر فهو، و إلّا أغلظ. فإن توقّف على الضرب و الجراح فهل يجوز لكلّ أحد التصدّي له و يجب عليه، أو يكون من شئون الإمام أو من نصبه لذلك و لا يجوز التصدّي له إلّا بإذن الحاكم؟ في المسألة قولان:

قال الشيخ

في النهاية:

«الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فرضان من فرائض الإسلام، و هما فرضان على الأعيان، لا يسع أحدا تركهما و الإخلال بهما.

و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر يجبان بالقلب و اللسان و اليد إذا تمكن المكلّف من ذلك و علم أنّه لا يؤدّي إلى ضرر عليه و لا على أحد من المؤمنين لا في الحال و لا في مستقبل الأوقات، أو ظنّ ذلك ... و قد يكون الأمر بالمعروف باليد بأن يحمل الناس على ذلك بالتأديب و الردع و قتل النفوس و ضرب من الجراحات إلّا أنّ هذا الضرب لا يجب فعله إلّا بإذن سلطان الوقت المنصوب للرئاسة. فإن فقد الإذن من جهته اقتصر على الأنواع التي ذكرناها.

و إنكار المنكر يكون بالأنواع الثلاثة التي ذكرناها، فأمّا باليد فهو أن يؤدّب فاعله بضرب من التأديب: إمّا الجراح أو الألم أو الضرب، غير أنّ ذلك مشروط

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 216

بالإذن من جهة السلطان حسب ما قدمناه. فمتى فقد الإذن من جهته اقتصر على الإنكار باللسان و القلب ...

فأمّا إقامة الحدود فليس يجوز لأحد إقامتها إلّا لسلطان الزمان المنصوب من قبل اللّه- تعالى- أو من نصبه الإمام لإقامتها، و لا يجوز لأحد سواهما إقامتها على حال.» «1»

و قال المحقّق في الشرائع:

«و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر واجبان إجماعا، و وجوبهما على الكفاية يسقط بقيام من فيه كفاية. و قيل: بل على الأعيان، و هو أشبه ... و لو لم يرتفع إلّا باليد مثل الضرب و ما شابهه جاز.

و لو افتقر إلى الجراح أو القتل هل يجب؟ قيل: نعم. و قيل: لا إلّا بإذن الإمام، و هو الأظهر.»

«2»

فالشيخ و المحقّق أفتيا باشتراط الجراح بإذن الإمام. نعم، اختلفا فيما اشتمل على الضرب فقط كما لا يخفى. و لعلّ الحقّ مع المحقّق في الضرب القليل غير المبرّح إذا مسّت الحاجة إليه، لاستقرار السيرة و إطلاق الأدلّة.

و قال العلّامة في المختلف ما ملخّصه:

«لو افتقر الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إلى ضرب من التأديب و الإيلام و الإضرار به و الجراح و إتلاف نفسه قال الشيخ في الاقتصاد: الظاهر من مذهب شيوخنا الإماميّة أنّ هذا الجنس من الإنكار لا يكون إلّا للأئمّة أو لمن يأذن له الإمام.»

ثمّ قال:

«و كان المرتضى يخالف في ذلك و يقول: يجوز ذلك بغير إذنه. و الشيخ وافق المرتضى في كتاب التبيان، و في النهاية قال بقوله في الاقتصاد. و قال سلّار: و أمّا القتل و الجراح في الإنكار فإلى السلطان و من يأمره. و أبو الصلاح لم يشترط السلطان في

______________________________

(1)- النهاية/ 299.

(2)- الشرائع 1/ 341 و 343.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 217

ذلك و به قال ابن إدريس. و ابن البرّاج اشترط إذن الإمام. و الأقرب ما قاله السيّد.» «1»

أقول: و يستدلّ للقول بعدم الاشتراط بأنّهما واجبان لمصلحة العالم، فلا يتوقّفان على شرط كغيرهما من المصالح، و بأنّهما واجبان على النبيّ «ص» و الإمام «ع» فيجبان علينا أيضا لوجوب التأسّي.

و بإطلاق الآيات و الروايات الواردة في الباب و لا سيّما ما اشتمل منها على الوجوب و لو ببسط اليد و صكّ الجباه:

ففي خبر جابر، عن أبي جعفر «ع»: «فأنكروا بقلوبكم و الفظوا بألسنتكم و صكّوا بها جباههم.» «2»

و في خبر يحيى الطويل، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «ما جعل اللّه بسط اللسان

و كفّ اليد و لكن جعلهما يبسطان معا و يكفّان معا.» «3»

و في نهج البلاغة: «و من أنكره بالسيف لتكون كلمة اللّه العليا و كلمة الظالمين السفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى.» «4»

و فيه أيضا: «فمنهم المنكر للمنكر بقلبه و لسانه و يده، فذلك المستكمل لخصال الخير.» «5»

و في تفسير الإمام العسكري «ع»: «من رأى منكم منكرا فلينكر بيده إن استطاع.» «6»

و يرد على الوجه الأوّل أنّ وجوبهما لمصلحة العالم لا ينافي اشتراطهما بإذن الإمام

______________________________

(1)- المختلف 1/ 339.

(1)- الوسائل 11/ 403، الباب 3 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 1.

(2)- الوسائل 11/ 404، الباب 3 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 2.

(3)- الوسائل 11/ 404، الباب 3 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 8.

(4)- الوسائل 11/ 405، الباب 3 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 8.

(5)- الوسائل 11/ 406، الباب 3 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 9.

(6)- الوسائل 11/ 407، الباب 3 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 12.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 218

حذرا من الهرج و المرج و اختلال النظام، فلعلّ المفسدة المترتبة عليهما حينئذ أقوى.

و يرد على الثاني أنّ التأسّي إنّما يجب في الأحكام العامّة لا في الوظائف الخاصّة، و الحكومة و شئونها من الوظائف الخاصّة، اللّهم إلّا أن يقال إنّه يجب الأخذ بإطلاق قوله: «لَقَدْ كٰانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّٰهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» «1» ما لم يقم دليل على الاختصاص.

و أمّا الروايات المذكورة فخبر جابر ضعيف بوجوه، و يحيى الطويل مجهول اللّهم إلّا أن يجبر ذلك بكون الراوي عنه ابن أبي عمير، و عبارتا نهج البلاغة لا تنفيان الاشتراط، إذ ليستا في مقام البيان من

هذه الجهة، نظير ما ورد في فضل الحج و الصلاة، حيث لا يستفاد منهما عدم اشتراط الوجوب أو الواجب بشي ء. هذا مضافا إلى أن إلقاء الخطبة الأولى كان في صفين لتحريض شيعته على القتال، و واضح أنّ قتالهم كان تحت لوائه «ع» و بأمره، فتأمّل إذ الإنصاف أنّ إطلاق الروايات و آية التأسّي ممّا يمكن التمسّك بهما لعدم الاشتراط.

و يمكن أن يستدلّ للاشتراط، بوجوب عصمة النفوس و حرمة إراقة الدماء و التصرّف في سلطة الغير إلّا بالمقدار المتيقّن جوازه.

و بأنّ الضرب و الجراح يتوقّفان على القدرة و السلطة.

و بأنّه لا يتيسّر لكلّ فرد فرد تشخيص الموارد و الشروط و الظروف المناسبة و إنّما يتيسّر ذلك لمن له إحاطة بالمجتمع و علاقاته و إمكاناته.

و بأنّ تصدّي كلّ فرد فرد لذلك يوجب اختلال النظام غالبا، حيث إنّ الضرب و الإيلام إذا لم يكونا على أساس القدرة و السلطة الخارجية يستعقبان غالبا ردّ الفعل و المقاومة من الطرف فيقع النزاع و الكفاح و الهرج و المرج و في النهاية يختلّ النظام قهرا.

و لأجل ذلك كلّه أيضا جعلت إقامة الحدود الشرعيّة و التعزيرات المعيّنة من

______________________________

(1)- سورة الأحزاب (33)، الآية 21.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 219

شئون الحاكم، و ليس لكلّ أحد التصدّي لها و إن كان عالما بالمسائل و الأحكام:

ففي خبر حفص بن غياث، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع»: من يقيم الحدود:

السلطان أو القاضي؟ فقال: «إقامة الحدود إلى من إليه الحكم.» «1» هذا.

و لا يخفى أنّ الاحتياط في باب الدماء و قاعدة السلطنة يقتضيان العمل بالاشتراط. اللّهمّ إلّا إذا لم نتمكّن من الوصول إلى الإمام و توقّف حفظ بيضة الإسلام و كيان

المسلمين على الإقدام، فإنّ الدفاع عنهما لا يشترط فيه إذن الإمام بلا إشكال، فتدبّر.

نعم، هنا شي ء يجب التّنبيه عليه، و هو أنّ ظاهر الشيخ و المحقّق و غيرهما كون إذن الإمام شرطا للوجوب، نظير اشتراط وجوب الحج بالاستطاعة، فلا يجب تحصيل الشرط، إذ الشرط للوجوب بمنزلة الموضوع له و الحكم متأخّر رتبة عن موضوعه، فلا يعقل تأثيره في إيجابه.

و لكن سبق منا في الباب الثالث عند التعرّض الإجمالي لمسألة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر استظهار كون الوجود مشروطا بالإذن لا الوجوب، نظير اشتراط وجود الصلاة بالطهارة. فالوجوب مطلق و الواجب مشروط بإذن الإمام و كونه تحت إشرافه و نظره حذرا من الهرج و اختلال النظام.

و على هذا فيجب على كلّ مسلم السعي في بسط المعروف و إشاعته و قطع جذور المنكر و الفساد و السعي في إقامة الحدود الإلهيّة بقدر المكنة و القدرة.

غاية الأمر أنّ وجود العمل فيما إذا استلزم الجراح مشروط بإذن الحاكم فيجب الاستيذان منه و إيقاع العمل تحت إشراف حكمه لئلّا يلزم الهرج و المرج و الاختلال.

و لو فرض ضعف الحكومة و قلّة أعوانها وجب إعانتها و مساعدتها في بسط المعروف و دفع المنكر. و لو فرض عدم وجود الحكومة الحقّة العادلة وجب على الجميع

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 338، الباب 28 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 220

السعي لتحقيقها لذلك و لو بتشكيل دويلة صغيرة في منطقة معيّنة، كما يشهد بذلك صحيحة زرارة التي جعل فيها الولاية أفضل الخمسة التي بني عليها الإسلام لكونها مفتاحهنّ و الوالي هو الدليل عليهن «1».

فلا يجوز للمسلمين أن يقعدوا في بيوتهم و لا يبالوا بما

يقع في مجتمعهم من الفحشاء و الفساد و إراقة الدماء و غصب الأموال و هتك النواميس و هضم الكفّار و الصهاينة لحقوق المسلمين و المستضعفين بعذر أنّ رفع هذه المفاسد كلّها من وظائف الحاكم.

و لذا قلنا في محلّه بأنّ أدلّة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بإطلاقها و بمفهومهما الوسيع من أقوى الأدلّة على وجوب تأسيس الحكومة العادلة و الدولة الحقّة، فراجع ما حررناه هناك.

الجهة الثالثة: في أنّه هل يكون وجوبهما على الأعيان أو على الكفاية؟

[كلمات الأصحاب]

قد مرّ من نهاية الشيخ أنّهما فرضان على الأعيان.

و قال في الاقتصاد:

«و اختلفوا في كيفية وجوبه: فقال الأكثر إنّهما من فروض الكفايات إذا قام به البعض سقط من الباقين. و قال قوم: هما من فروض الأعيان، و هو الأقوى عندي لعموم آي القرآن و الأخبار.» «2»

و في الشرائع أفتى أولا بوجوبهما على الكفاية، ثمّ جعل وجوبهما على الأعيان أشبه، أي أشبه بالقواعد و الإطلاقات «3».

و حكى في الجواهر عن السيّد و الحلبي و القاضي و الحلّي و الفاضل و الشهيدين

______________________________

(1)- الوسائل 1/ 7، الباب 1 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث 2.

(2)- الاقتصاد/ 147. فصل في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

(3)- الشرائع 1/ 341.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 221

و جمع آخر وجوبهما على الكفاية، و عن الشيخ و ابن حمزة و فخر الإسلام و بعض آخر وجوبهما على الأعيان «1». هذا.

و حكى في المختلف عن السيّد المرتضى أنّه احتجّ للكفاية:

«بأنّ المطلوب في نظر الشرع تحصيل المعروف و ارتفاع المنكر، و لم يتعلّق غرضه من مباشر بعينه فيكون واجبا على الكفاية «2».

قال العلامة:

«و الأقرب قول السيّد، و هو اختيار أبي الصلاح و ابن إدريس.» «2»

أقول: و الظاهر أن الحقّ مع هؤلاء لما ذكره السيّد

من الدليل.

فإن قلت: إنّ لكلّ كلام تأثيرا خاصّا في النفوس، فلعلّ الفاعل للمنكر لا يرتدع بنهي هذا و يرتدع بنهي ذاك، أو لعلّه لا يرتدع بنهي واحد و يرتدع بنهي جماعة، فما دام المنكر باقيا يجب على كلّ من اطّلع عليه النهي عنه. و ظاهر الآيات و الروايات أيضا هو العينيّة، بل هي الأصل في الوجوب على ما قيل.

قلت: نحن نفرض قيام أشخاص بالنهي بمقدار نقطع بكفايته في ارتداع الطرف لو كان ممّن يرتدع، بحيث لا يكون أثر لما زاد قطعا، فهل يجب مع ذلك شركة البقية في عرض هؤلاء مع العلم بأنّ الغرض يحصل بدونهم؟ لا أظنّ أنّ أحدا يلتزم بذلك، فالوجوب كفائي بلا إشكال، و ظاهر الآيات و الروايات إنّما يؤخذ به ما لم يظهر الخلاف. هذا.

______________________________

(1)- الجواهر 21/ 359.

(2)- المختلف 1/ 338.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 222

تصوير الوجوب الكفائي:

و قد ناسب هنا أن نتعرّض إجمالا لماهيّة الوجوب الكفائي، و الفرق بينه و بين العيني و ما يقتضيه الإطلاق منهما ليتّضح حكم المقام أيضا، فنقول: قال في الكفاية:

«و التحقيق أنّه سنخ من الوجوب و له تعلّق بكلّ واحد بحيث لو أخلّ بامتثاله الكلّ لعوقبوا على مخالفته جميعا، و إن سقط عنهم لو أتى به بعضهم.» «1»

أقول: لا يخفى أنّ ما ذكره- قدّس سرّه- تعريف له بلحاظ الخاصّة و الأثر لا بلحاظ الماهيّة.

و قال في موضع آخر:

«قضيّة إطلاق الصيغة كون الوجوب نفسيا تعيينيا عينيا، لكون كلّ واحد ممّا يقابلها يكون فيه تقيّد الوجوب و تضيّق دائرته، فإذا كان في مقام البيان و لم ينصب قرينة عليه فالحكمة تقتضي كونه مطلقا، وجب هناك شي ء آخر أولا، أتى بشي ء آخر أولا،

أتى به آخر أولا.» «2»

و ظاهر هذا الكلام أنّ العيني و الكفائي بعد اشتراكهما في توجّه الخطاب إلى الجميع يفترقان بأنّ الوجوب في العيني مطلق و في الكفائي مشروط بعدم إتيان الغير، فإن أتى به البعض لم يجب على الآخرين، و إن لم يأت به أحد وجب على الجميع لوجود شرطه في الجميع.

و قال السيّد الأستاذ آية اللّه العظمى البروجردي- طاب ثراه- ما محصّله بتوضيح منّا:

______________________________

(1)- كفاية الأصول 1/ 228.

(2)- كفاية الأصول 1/ 116.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 223

«إنّ الفرق بينهما عند القوم يكون في ناحية المكلّف، بتقريب أنّ المكلّف في العيني هو جميع الأفراد بنحو العموم الاستغراقي، فيكون كلّ فرد مكلّفا بالاستقلال. و أمّا في الكفائي فعند البعض هو المجموع من حيث المجموع، و عند آخرين أحد الأفراد.

و يرد على الأوّل أنّ المجموع من حيث المجموع أمر اعتباريّ لا حقيقة له، فلا يتصوّر تكليفه. و على الثاني أنّ أحد الأفراد إن أريد مفهومه ففيه أنّه غير قابل للتكليف، و إن أريد به مصداقه أعني الفرد المردد خارجا ففيه أنّه لا خارجية له حتّى يتوجّه إليه البعث.

فالتحقيق أن الوجوب له ثلاث إضافات: إضافة إلى الطالب، و إضافة إلى المطلوب، و إضافة إلى المطلوب منه. و الفرق بين العيني و الكفائي ليس في المكلف و المطلوب منه كما يظهر من القوم، و لا في إطلاق الوجوب و اشتراطه كما في الكفاية. بل الفرق بينهما بعد اشتراكهما في كون كلّ فرد مكلّفا مستقلا إنّما يكون في المطلوب و المكلّف به. فالمطلوب في الوجوب الكفائيّ هو نفس طبيعة الفعل بإطلاقها الذاتي، و في العيني طبيعة الفعل بقيد صدورها من هذا الفاعل الخاصّ.

و

السرّ في ذلك أنّ الأوامر تابعة للمصالح و الأغراض، فإن كانت المصلحة في صدور الفعل عن كلّ واحد من المكلّفين بحيث تترتّب المصلحة على الفعل بقيد صدوره عن الفاعل الخاصّ كما في الأمر الصلاتي حيث إنّ تكامل الشخص و ارتداعه عن الفحشاء و المنكر يترتبان على صلاة نفسه فحينئذ يكون الوجوب عينيا.

و إن كانت المصلحة في مجرد تحقق طبيعة الفعل في الخارج من غير دخالة لصدورها عن فاعل خاصّ كما في دفن الميت و تجهيزه فحينئذ يتعلّق التكليف بنفس الطبيعة بإطلاقها الذاتي و يكون الواجب كفائيا، إذ تقييدها بقيد صدورها من الشخص يكون جزافا.

و حيث إنّ كلّ واحد من المكلفين قادر على تحصيل هذه الطبيعة المطلقة أمر المولى كلّ واحد منهم بذلك، فإذا حصلت في الخارج سقط جميع الأوامر قهرا بحصول متعلّقها، و إن عصى الجميع عوقبوا جميعا.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 224

و الحاصل أنّ الفرق بين العيني و الكفائي لا يرجع إلى المكلّف، بل إلى المكلّف به.

و المكلّف به في الكفائي مطلق الطبيعة، و في العيني الطبيعة بقيد صدورها من الفاعل الخاصّ. و على هذا فإطلاق المتعلّق يقتضي الكفائيّة. نعم، لا ننكر أن توجه الخطاب و التكليف يوجب الانصراف إلى العينية، فتدبر.» «1»

انتهى ما أردنا نقله من كلام السيد الأستاذ- قدّس سرّه- و إن شئت التفصيل فراجع ما قرّرناه من أبحاثه في كتاب نهاية الأصول المطبوع سابقا.

و الظاهر أنّ ما ذكره حقّ لا مرية فيه.

نعم، ما ذكره من عدم إمكان توجّه التكليف إلى المجموع من حيث المجموع قابل للخدشة، إذ الظاهر أنّ الواجبات الاجتماعيّة و الحدود الإلهية كلّها وضعت على عاتق المجتمع بنحو العام المجموعي، غاية الأمر أنّ

المتصدّي لامتثالها هو قيّم المجتمع و ممثله، أعني الإمام و الحاكم كما فصّلنا في بعض المباحث السابقة.

و لكنّ الظاهر أنّ الواجبات الكفائيّة ليست من هذا القبيل، فتأمّل. إذ من الممكن إرجاع الواجبات الاجتماعيّة أيضا إلى الكفائيّة، و إن كان الواجب مباشرة الإمام و عمّاله لتنفيذها. فالواجب على الأمّة كفاية هو تحصيل الحكومة و تأييدها و مساعدتها، و الواجب على الحاكم تنفيذ الواجبات الاجتماعيّة كإجراء الحدود و نحوها، فتدبّر.

الجهة الرابعة: في ذكر بعض الآيات و الروايات الواردة في المسألة:

اشارة

لا يخفى أنّ الآيات و الروايات الواردة في المسألة أيضا على طائفتين، يستفاد من بعضها كون الفريضة فريضة عامّة كلّف بها كلّ مسلم و من بعضها كونها فريضة خاصّة أعني كونها من شئون الحكومة.

______________________________

(1)- نهاية الأصول 1/ 210 و 211.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 225

و محصّل الجمع بينهما أنّ العمل بهذه الفريضة كغيرها من الفرائض يتوقّف على العلم و القدرة. فمثل الإنكار بالقلب و الإرشاد باللسان في الأحكام الواضحة الضروريّة ممّا يقدر عليه كلّ مسلم، و أمّا الضرب و الجرح بل و بعض مراتب الإرشاد باللسان في بعض الأحيان فهي ممّا لا يقدر عليه كل فرد أو لا يخلو صدوره عنه من ضرر كما مرّ، فيكون على عاتق الحاكم المتسلّط و أياديه قهرا. نعم، يجب على الأمّة تأييده و مساعدته، بل و السعي لتحقيق الحكومة الحقّة أيضا كما مرّت الإشارة إليه. فلنذكر بعض آيات المسألة و رواياتها:

[الطائفة الأولى من الآيات ما دلّت على كونها فريضة عامة]

1- فمن الطائفة الأولى قوله- تعالى-: «وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنٰاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلٰاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكٰاةَ وَ يُطِيعُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ. أُولٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّٰهُ، إِنَّ اللّٰهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.» «1»

فالحكم في الآية عامّ لكلّ مؤمن و مؤمنة. و قد صرّح بخصوص المؤمنات أيضا ليكون نصّا في التعميم. و الظاهر من الولاية هو سلطة الشخص و أولويّته. فاللّه- تعالى- بولايته العامّة على عباده جعل لكلّ مؤمن و مؤمنة حقّ الولاية و السلطة على غيره ليكون له حقّ الأمر و النهي، غاية الأمر أنّ الولاية لها مراتب و الولاية هنا محدودة بمقدار جواز الأمر و النهي.

لا يقال: الأمر و النهي في باب الأمر بالمعروف و النهي

عن المنكر إرشاديّان لكونهما إرشادا إلى إطاعة أمر اللّه و نهيه، نظير أوامر الفقيه في مقام بيان الأحكام، فلا يتوقّفان على ثبوت الولاية و السلطة الشرعية.

فإنه يقال: لا نسلم ذلك و إن زعمه بعض، بل الظاهر من الأدلّة وجوب الأمر و النهي المولويّين تأكيدا لأمر اللّه و نهيه، نظير أمر الوالدين مولويّا بشي ء أمر اللّه به قبلهما فيكون التخلّف معصية للّه و للوالدين معا. و بالجملة، سبق أمر اللّه و نهيه

______________________________

(1)- سورة التوبة (9)، الآية 71.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 226

بالشي ء لا يدلّ على كونهما إرشاديّين، و ظاهر الأمر و النهي و الأصل فيهما هو المولويّة، فتأمّل.

2- و قال: «التّٰائِبُونَ الْعٰابِدُونَ الْحٰامِدُونَ السّٰائِحُونَ الرّٰاكِعُونَ السّٰاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النّٰاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ الْحٰافِظُونَ لِحُدُودِ اللّٰهِ، وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ.» «1»

فالموضوع في الآية جميع المؤمنين كما يظهر من الآية التي قبلها، أعني قوله: «إِنَّ اللّٰهَ اشْتَرىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوٰالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ.»

3- و قال: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّٰاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ.

وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتٰابِ لَكٰانَ خَيْراً لَهُمْ، مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَ أَكْثَرُهُمُ الْفٰاسِقُونَ.» «2»

و الظاهر أنّ الخطاب للمسلمين، و المراد بالناس جميع الناس من المسلمين و غيرهم. و الإخراج: الخلق و الإظهار، كقوله- تعالى-: «أَخْرَجَ الْمَرْعىٰ.» فيكون المراد- و اللّه اعلم- أنّ المسلمين بما هم مسلمون خير أمّة خلقت و أخرجت لنفع المجتمعات البشرية، و ملاك خيريّتهم بسطهم للمعروف و ردعهم عن المنكرات و إصلاح المجتمعات. و في المجمع عن النبيّ «ص»: «أنتم و فيتم سبعين أمّة، أنتم خيرها و أكرمها على اللّه.» «3»

و أمّا ما في الدر المنثور: «أخرج

ابن أبي حاتم، عن أبي جعفر «ع»: كنتم خير أمّة أخرجت للناس، قال: أهل بيت النبيّ «ص»» «4» فلا محالة يكون من الجري و التطبيق، حيث إنّهم «ع» المصاديق الكاملة من هذه الأمّة.

و الفعل في قوله: «كنتم» قيل بكونه زائدا جي ء به للتأكيد. و قيل إنّ المراد:

______________________________

(1)- سورة التوبة (9)، الآية 112.

(2)- سورة آل عمران (3)، الآية 110.

(3)- مجمع البيان 1/ 486 (الجزء 2)؛ و روى نحوه في الدر المنثور 2/ 64، حيث قال: قال النبي «ص»: «إنكم تتمون سبعين أمّة، أنتم خيرها و أكرمها على اللّه.» و لكن في المجمع طبعة صيدا- سنة 1333-: «أنتم زينتم ستين أمّة» بدل «أنتم وفيتم سبعين أمّة».

(4)- الدر المنثور 2/ 64.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 227

كنتم خير أمّة عند اللّه في اللوح المحفوظ أو مبشر بها في الكتب الماضية.

فهذه ثلاث آيات ظاهرة في كون الفريضة فريضة عامّة على حدّ سائر الفرائض.

[الطائفة الثانية من الآيات ما دلّت على كونها فريضة خاصّة]

4- و من الطائفة الثانية قوله- تعالى-: «وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.» «1»

قيل: إنّ سياق الآية يدلّ على كون الوجوب كفائيا.

أقول: الظاهر أنّ الخطاب في الآية لمّا كان موجّها إلى جميع المسلمين كان المستفاد منه أنّه يجب على الجميع السعي في تمحيض جماعة خاصّة لهذا الشأن، و هذا يؤيد ما قدّمناه من أنّ تأسيس الدولة الحقّة وظيفة عامّة خوطب بها الجميع و إن كانت إدارة شئون الحكومة و منها بعض مراتب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر وظيفة خاصّة، فتدبّر. هذا.

و يحتمل في قوله: «كنتم خير أمّة أخرجت للناس» الواقع بحسب الترتيب بعد هذه الآية أيضا إرادة أمّة

خاصّة شأنها الأمر و النهي لا جميع المؤمنين. و يؤيّد ذلك وحدة السياق و بعض الروايات الواردة في تفسير الآية و تطبيقها على الأئمة «ع».

5- و من الآيات الظاهرة في الوظيفة الخاصّة أيضا قوله- تعالى-: «الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّٰاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقٰامُوا الصَّلٰاةَ وَ آتَوُا الزَّكٰاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلّٰهِ عٰاقِبَةُ الْأُمُورِ.» «2»

فيكون الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر المذكوران في الآية من النوع الذي يتوقّف على السلطة و التمكّن في الأرض. و يشهد لذلك وقوع الآية في سياق آيات القتال و دفع الناس بعضهم ببعض.

و لا يراد بإقامة الصلاة و إيتاء الزكاة أيضا الإتيان بهما شخصيا، بل إشاعتهما

______________________________

(1)- سورة آل عمران (3)، الآية 104.

(2)- سورة الحج (22)، الآية 41.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 228

و ترويجهما و تثبيتهما في المجتمع، أعني ما يكون من شئون الحكومة الحقّة، نظير ما ورد في زيارة السبط الشهيد «ع»: «أشهد أنّك قد أقمت الصلاة و آتيت الزكاة و أمرت بالمعروف و نهيت عن المنكر.»

6- و من هذا القبيل أيضا قوله- تعالى-: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرٰاةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهٰاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبٰاتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبٰائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلٰالَ الَّتِي كٰانَتْ عَلَيْهِمْ. الآية.» «1»

[الروايات الواردة في المقام]

7- و في موثقة مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: سمعته يقول- و سئل عن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر أ واجب هو على الأمّة جميعا؟- فقال:

لا، فقيل له: و لم؟. قال: إنّما هو على القويّ المطاع العالم بالمعروف من المنكر، لا على الضعيف

الذي لا يهتدي سبيلا إلى أيّ، يقول: من الحقّ إلى الباطل. و الدليل على ذلك كتاب اللّه- عزّ و جلّ- قوله: «وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ.» فهذا خاص غير عام، كما قال اللّه- عزّ و جلّ-: «وَ مِنْ قَوْمِ مُوسىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ.» و لم يقل على أمّة موسى و لا على كلّ قومه، و هم يومئذ أمم مختلفة. و الأمّة واحد فصاعدا، كما قال اللّه- عزّ و جلّ-: «إِنَّ إِبْرٰاهِيمَ كٰانَ أُمَّةً قٰانِتاً لِلّٰهِ.» يقول: مطيعا للّه- عزّ و جلّ-. و ليس على من يعلم ذلك في هذه الهدنة من حرج إذا كان لا قوّة له و لا عدد و لا طاعة.

قال مسعدة: و سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول- و سئل عن الحديث الذي جاء عن النبي «ص»: إنّ أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر، ما معناه؟- قال: هذا على أن يأمره بعد معرفته و هو مع ذلك يقبل منه، و إلّا فلا.» «2»

فالنظر في هذه الموثقة أيضا إلى نوع خاصّ من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، أعني ما يتوقّف على القوة و السلطة خارجا، فيراد منه ما يوجب الكفاح ممّا يشتمل على الضرب و الجرح و كذا بعض مراتب اللسان و موارده، و إلّا فالأمر

______________________________

(1)- سورة الأعراف (7)، الآية 157.

(2)- الوسائل 11/ 400، الباب 2 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 1. و الكافي 5/ 59 باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، الحديث 16.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 229

و النهي الجزئيان في الموارد الجزئية العادية لا يختصّان بفرد دون فرد،

بل هما من الفرائض العامّة بلا إشكال. هذا.

و لعلّ الإمام الصادق «ع» كان مواجها لبعض الأفراد المعترضين على سكوت الأئمّة «ع» و شيعتهم في قبال المنكرات بلا ملاحظة للإمكانات و الظروف، نظير ما مرّ من سدير الصيرفي و أمثاله كما مرّ، فالموثّقة وردت في قبال هؤلاء، فتدبّر.

و بعض أخبار الباب خبر جامع يشتمل على جميع المراتب ممّا هي وظيفة خاصّة و ممّا تكون من الفرائض العامّة.

8- مثل ما في نهج البلاغة عن محمد بن جرير الطبري، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنّه قال: سمعت عليّا «ع» يقول يوم لقينا أهل الشام: «أيّها المؤمنون، إنّه من رأى عدوانا يعمل به و منكرا يدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم و برئ، و من أنكره بلسانه فقد أجر و هو أفضل من صاحبه، و من أنكره بالسيف لتكون كلمة اللّه هي العليا و كلمة الظالمين هي السفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى و قام على الطريق و نوّر في قلبه اليقين.» «1»

و إلقاء هذه الخطبة يوم لقائه «ع» أهل الشام دليل على أنّ غرضه «ع» كان تحريض جنوده على القتال في صفّين، و واضح أنّ قتالهم كان تحت لوائه و أمره، فلا يستفاد من هذا الحديث جواز الإنكار بالسيف و لو بدون إذن الإمام.

و قد مرّ منّا أنّ في الموارد التي تكون الفريضة وظيفة خاصّة و تحتاج إلى إذن الحاكم ليس الوجوب فيها مشروطا، بل الواجب مشروط و تقدّم بيان ذلك و الفرق بينهما.

9- و قال الرضي «ره»: و في كلام آخر له يجري هذا المجرى: «فمنهم المنكر للمنكر بيده و لسانه و قلبه، فذلك المستكمل لخصال الخير. و منهم المنكر بلسانه و قلبه و التارك بيده،

فذلك متمسّك بخصلتين من خصال الخير و مضيّع خصلة. و منهم المنكر بقلبه و التارك بيده و لسانه، فذلك الذي ضيّع أشرف الخصلتين من الثلاث و تمسّك بواحدة. و منهم تارك لإنكار المنكر بلسانه و قلبه

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 1262؛ عبده 3/ 243؛ لح/ 541، الحكمة 373.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 230

و يده، فذلك ميّت الأحياء.

و ما أعمال البرّ كلّها و الجهاد في سبيل اللّه عند الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إلّا كنفثة في بحر لجيّ، و إنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لا يقرّبان من أجل و لا ينقصان من رزق، و أفضل من ذلك كلّه كلمة عدل عند إمام جائر.» «1»

10- و من الروايات الجامعة في هذا الباب أيضا خبر جابر، عن أبي جعفر «ع»، قال: «يكون في آخر الزمان قوم يتبع فيهم قوم مراءون يتقرؤون و يتنسّكون، حدثاء سفهاء لا يوجبون أمرا بمعروف و لا نهيا عن منكر إلّا إذا أمنوا الضرر، يطلبون لأنفسهم الرخص و المعاذير، يتّبعون زلّات العلماء و فساد علمهم، يقبلون على الصلاة و الصيام و ما لا يكلمهم في نفس و لا مال، و لو أضرّت الصلاة بسائر ما يعملون بأموالهم و أبدانهم لرفضوها كما رفضوا أتمّ الفرائض و أشرفها.

إنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض. هنالك يتمّ غضب اللّه عليهم فيعمّهم بعقابه فيهلك الأبرار في دار الفجّار، و الصغار في دار الكبار.

إنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر سبيل الأنبياء و منهاج الصالحين، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض و تأمن المذاهب و تحلّ المكاسب و تردّ المظالم، و تعمر الأرض و ينتصف من

الأعداء و يستقيم الأمر. فأنكروا بقلوبكم و الفظوا بألسنتكم و صكّوا بها جباههم و لا تخافوا في اللّه لومة لائم، فإن اتّعظوا و إلى الحقّ رجعوا فلا سبيل عليهم، إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النّٰاسَ وَ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، أُولٰئِكَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ، هنالك فجاهدوهم بأبدانكم و أبغضوهم بقلوبكم غير طالبين سلطانا و لا باغين مالا و لا مريدين بالظلم ظفرا حتّى يفيئوا إلى أمر اللّه و يمضوا على طاعته.

قال أبو جعفر «ع»: «أوحى اللّه إلى شعيب النبيّ- عليه السلام-: إنّي لمعذّب من قومك مأئة ألف: أربعين ألفا من شرارهم، و ستّين ألفا من خيارهم. فقال: يا ربّ هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟ فأوحى اللّه- عزّ و جلّ- اليه: أنّهم داهنوا أهل المعاصي و لم يغضبوا لغضبي.» «2»

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 1263؛ عبده 3/ 243؛ لح/ 542، الحكمة 374.

(2)- تهذيب الأحكام 6/ 180، باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، الحديث 21؛ و روى نحوه في فروع الكافي 5/ 55، باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، الحديث 1. و رواه في الوسائل 11/ 394، 402 و 403، الباب 1 و 2 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 6، و الباب 3 منها، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 231

و الرواية من الروايات العالية المضامين و لكن سندها ضعيف، إذ مضافا إلى إرساله يشتمل على رجلين مجهولين و هما بشر بن عبد اللّه، و أبو عصمة قاضي مرو، فراجع.

و لا يخفى أنّ الرواية مع جامعيتها لجميع مراتب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فإن عمدة النظر فيها إلى الأمر و النهي الموجبين لإقامة الفرائض في المجتمع و

ردّ المظالم و أمن السبل و عمارة الأرض و الانتصاف من الظالمين و لو بصكّ الجباه.

و من الواضح أن هذه الأمور بسعتها لا تحصل إلّا بالقدرة الواسعة و السلطة الحاكمة، فيجب تحصيلها قهرا بإعداد مقدّماتها و شرائطها.

و من النكت المهمّة التي صرّحت بها الرواية أنّ الهدف من الأمر و النهي يجب أن يكون إقامة فرائض اللّه- تعالى- و بسط العدل و عمارة الأرض و في الأعداء إلى اللّه- تعالى-، لا تحكيم السلطة عليهم و بغي المال و تحصيل الظفر و لو بالظلم. و هذه نكتة دقيقة يجب أن يلتفت إليها كلّ من يتصدّى للجهاد و الكفاح. و قد سمّى رسول اللّه «ص» في الخبر المعروف جهاد النفس الجهاد الأكبر «1»، فنعوذ باللّه من وساوس النفس و نزغاتها.

11- و من الأخبار الجامعة أيضا ما رواه في الوسائل عن النبيّ «ص» أنّه قال:

«لا تزال أمّتي بخير ما أمروا بالمعروف و نهوا عن المنكر، و تعاونوا على البر. فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات و سلط بعضهم على بعض و لم يكن لهم ناصر في الأرض و لا في السماء.» «2»

12- و في وصية أمير المؤمنين «ع» قبيل وفاته: «لا تتركوا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فيولّى عليكم شراركم ثمّ تدعون فلا يستجاب لكم.» «3»

13- و في رواية محمد بن عرفة، قال: سمعت أبا الحسن الرضا «ع» يقول:

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 122، الباب 1 من أبواب جهاد النفس، الحديث 1.

(2)- الوسائل 11/ 398، الباب 1 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 18.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 978؛ عبده 3/ 86؛ لح/ 422، الكتاب 47.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 232

«لتأمرنّ بالمعروف و لتنهنّ

عن المنكر أو ليستعملنّ عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم.» «1»

14- و بالإسناد عنه «ع» قال: «كان رسول اللّه «ص» يقول: إذا أمّتي تواكلت الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فليأذنوا بوقاع من اللّه- تعالى-.» «2»

أقول: الوقاع: المحاربة و الإيقاع في الشرّ.

فإذا راعت الأمّة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و اهتمّت بصلاح المجتمع صارت أمّة صالحة و العلاقات بينها مبرمة، و كانت كالبنيان المرصوص يدعم بعضه بعضا فلا محالة يرأسها فئة صالحة عادلة منها.

و إذا لم تهتمّ بهذه الفريضة و اتّبع كلّ واحد منها ما يشتهيه و يهواه صارت أمّة متشتّتة متفرّقة متباغضة يلعن بعضها بعضا فيغتنم الأشرار و الكفّار هذه الفرصة و يترأسون عليها و يغتصبون حقوقها و ذخائرها و إمكاناتها، كما هو المشاهد في أعصارنا في أكثر البلاد الإسلاميّة، فلا حول و لا قوّة إلّا باللّه.

15- و من الروايات الجامعة في هذا الباب أيضا الرواية الطويلة المروية في تحف العقول عن السبط الشهيد- سلام اللّه عليه-. قال: و يروى عن أمير المؤمنين «ع»، و قد مرّت الرواية في فصل اعتبار العلم في الحاكم، فراجع «3».

و فيها قوله «ع»: «فبدأ اللّه بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فريضة منه، لعلمه بأنّها إذا أدّيت و أقيمت استقامت الفرائض كلّها، هيّنها و صعبها. و ذلك انّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام مع ردّ المظالم و مخالفة الظالم و قسمة الفي ء و الغنائم، و أخذ الصدقات من مواضعها و وضعها في حقّها. الحديث بطوله.» «4»

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 394، الباب 1 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 4.

(2)- الوسائل 11/ 394، الباب 1 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 5.

(3)- راجع الفصل

السابع من الباب الرابع.

(4)- تحف العقول/ 237.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 233

16- و في موثقة مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: قال النبيّ «ص»:

كيف بكم إذا فسدت نساؤكم و فسق شبّانكم و لم تأمروا بالمعروف و لم تنهوا عن المنكر؟ فقيل له:

و يكون ذلك يا رسول اللّه؟ فقال: نعم، و شرّ من ذلك، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر و نهيتم عن المعروف؟ فقيل له: يا رسول اللّه، و يكون ذلك؟ قال: نعم، و شرّ من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكرا و المنكر معروفا؟ «1»

17- و في خبر أبي سعيد الزهري، عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه «ع»، قال: «ويل لقوم لا يدينون اللّه بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.» «2» هذا.

18- و في كتاب الجمعة من صحيح البخاري بإسناده عن عبد اللّه بن عمر، يقول: سمعت رسول اللّه «ص» يقول: «كلّكم راع و كلّكم مسئول عن رعيّته: الإمام راع و مسئول عن رعيّته، و الرجل راع في أهله و هو مسئول عن رعيّته، و المرأة راعية في بيت زوجها و مسئولة عن رعيّتها، و الخادم راع في مال سيّده و مسئول عن رعيّته- قال: و حسبت أن قد قال-: و الرجل راع في مال أبيه و مسئول عن رعيّته، و كلّكم راع و مسئول عن رعيّته.» «3»

و الأخبار في باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر كثيرة متواترة إجمالا من طرق الفريقين، فراجع.

و لم يشكّ و لم يتردّد في وجوبهما إجمالا أحد من المسلمين، بل هو من ضروريّات الدين.

الجهة الخامسة: في وجوب إنكار العامّة على الخاصّة و تغيير المنكر عليهم إذا علموا به:

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 396، الباب 1 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 12.

(2)- الوسائل

11/ 393، الباب 1 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 1.

(3)- صحيح البخاري 1/ 160، كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى و المدن.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 234

1- روى الصدوق بإسناده عن مسعدة بن صدقة، عن جعفر بن محمّد- عليهما السلام- قال: قال أمير المؤمنين «ع»: «إنّ اللّه لا يعذّب العامّة بذنب الخاصّة إذا عملت الخاصّة بالمنكر سرّا من غير أن تعلم العامّة، فإذا عملت الخاصّة بالمنكر جهارا فلم تغيّر ذلك العامّة استوجب الفريقان العقوبة من اللّه- عزّ و جلّ-.»

قال: و قال رسول اللّه «ص»: «إنّ المعصية إذا عمل بها العبد سرّا لم يضرّ إلّا عاملها، فإذا عمل بها علانية و لم يغيّر عليه أضرّت بالعامّة.» قال جعفر بن محمد «ع»: «و ذلك أنّه يذل بعمله دين اللّه و يقتدي به أهل عداوة اللّه.» «1»

2- و بهذا الإسناد قال: قال عليّ «ع»: «إنّ اللّه لا يعذّب العامّة بذنب الخاصّة، و ذكر الحديث الأوّل ثمّ قال: و قال: لا يحضرنّ أحدكم رجلا يضربه سلطان جائر ظلما و عدوانا، و لا مقتولا و لا مظلوما إذا لم ينصره، لأنّ نصرته على المؤمن فريضة واجبة إذا هو حضره، و العافية أوسع ما لم تلزمك الحجّة الظاهرة. قال: و لما جعل التفضّل في بني إسرائيل جعل الرجل منهم يرى أخاه على الذنب، فينهاه فلا ينتهي، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله و جليسه و شريبه، حتّى ضرب اللّه- عزّ و جلّ- قلوب بعضهم ببعض و نزل فيهم القرآن حيث يقول- عزّ و جلّ-: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرٰائِيلَ عَلىٰ لِسٰانِ دٰاوُدَ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، ذٰلِكَ بِمٰا عَصَوْا وَ كٰانُوا يَعْتَدُونَ،

كٰانُوا لٰا يَتَنٰاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ. الآية.» «2»

3- و في مرفوعة محمّد بن سنان، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «ما أقرّ قوم بالمنكر بين أظهرهم لا يغيّرونه إلّا أو شك أن يعمّهم اللّه بعقاب من عنده.» «3»

4- و في مسند أحمد بسنده عن عدي، يقول: سمعت رسول اللّه «ص» يقول:

«إنّ اللّه- عزّ و جلّ- لا يعذّب العامّة بعمل الخاصّة حتّى يروا المنكر بين ظهرانيّهم و هم قادرون على

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 407، الباب 4 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 1.

(2)- الوسائل 11/ 408، الباب 4 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 2.

(3)- الوسائل 11/ 408، الباب 4 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 235

أن ينكروه فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب اللّه الخاصّة و العامّة.» «1»

إلى غير ذلك من الأخبار الواردة بهذا المضمون. و يظهر بها أنّ تكليف العامّة في قبال الفسق المتجاهر به أشدّ، و أنّه يجب عليهم القيام في قبال الخاصّة و إن كانت لهم السلطة و القدرة و أوجب ذلك الكفاح. و إطلاقها يشمل الكفاح المسلح أيضا.

و قد مرّ حكم الثورة و الكفاح المسلّح ضد أهل الجور و السلطات الطاغية الباغية في المسألة السادسة عشرة من الفصل السادس من الباب الخامس، فراجع.

الجهة السادسة: في وجوب إنكار المنكر بالقلب و تحريم الرضا به و وجوب الرضا بالمعروف:

1- قد مرّ في أخبار كثيرة الترغيب في الإنكار بالقلب و منها خبر جابر، و فيه:

«فأنكروا بقلوبكم، و ألفظوا بألسنتكم و صكّوا بها جباههم.» «2»

2- و في خبر السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن عليّ «ع»، قال: قال رسول اللّه «ص»: «من شهد أمرا فكرهه كان كمن غاب عنه. و من غاب عن أمر فرضيه كان كمن

شهده.» «3»

3- و في مرفوعة محمد بن مسلم، قال: قال أمير المؤمنين «ع»: «إنّما يجمع الناس الرضا و السخط، فمن رضي أمرا فقد دخل فيه، و من سخطه فقد خرج منه.» «4»

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 2، ص: 235

4- و في نهج البلاغة قال «ع»: «الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم، و على كلّ

______________________________

(1)- مسند أحمد 4/ 192.

(2)- الوسائل 11/ 403، الباب 3 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 1.

(3)- الوسائل 11/ 409، الباب 5 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 2.

(4)- الوسائل 11/ 411، الباب 5 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 9.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 236

داخل في باطل إثمان: إثم العمل به، و إثم الرضا به.» «1»

5- و فيه أيضا: «أيّها الناس، إنّما يجمع الناس الرضا و السخط، و إنّما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمّهم اللّه بالعذاب لمّا عمّوه بالرضا فقال- سبحانه: فعقروها فأصبحوا نادمين.» «2»

6- و فيه أيضا في خطبة يذكر فيها أصحاب الجمل: «فو اللّه لو لم يصيبوا من المسلمين إلّا رجلا واحدا معتمدين لقتله، بلا جرم جرّه، لحلّ لي قتل ذلك الجيش كلّه إذ حضروه فلم ينكروا و لم يدفعوا عنه بلسان و لا بيد، دع ما أنّهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدة التي دخلوا بها عليهم.» «3»

7- و في خبر طلحة بن زيد، عن جعفر بن محمد، عن آبائه، عن عليّ «ع»، قال:

«العامل بالظلم، و الراضي به، و المعين عليه شركاء ثلاثة.» «4»

8-

و في رواية أبي أبي عمير، رفعه، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «الساعي قاتل ثلاثة:

قاتل نفسه، و قاتل من سعى به، و قاتل من سعى إليه.» «5»

9- و في خبر عبد السلام بن صالح الهروي، قال: «قلت لأبي الحسن علي بن موسى الرضا «ع»: يا بن رسول اللّه، ما تقول في حديث روي عن الصادق «ع»، قال: إذا خرج القائم «ع» قتل ذراري قتلة الحسين «ع» بفعال آبائها؟ فقال «ع»: هو كذلك.

فقلت: قول اللّه- عزّ و جلّ-: «وَ لٰا تَزِرُ وٰازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ»*، ما معناه؟ قال: صدق اللّه في جميع أقواله، و لكن ذراري قتلة الحسين «ع» يرضون بفعال آبائهم و يفتخرون بها، و من رضي شيئا كان كمن أتاه. و لو أنّ رجلا قتل بالمشرق فرضي بقتله رجل بالمغرب لكان الراضي عند اللّه- عزّ و جلّ-

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 1163؛ عبده 3/ 191؛ لح/ 499، الحكمة 154.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 650؛ عبده 2/ 207؛ لح/ 319، الخطبة 201.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 556؛ عبده 2/ 104؛ لح/ 247، الخطبة 172.

(4)- الوسائل 11/ 410، الباب 5 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 6.

(5)- الوسائل 11/ 410، الباب 5 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 7.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 237

شريك القاتل، و إنّما يقتلهم القائم «ع» إذا خرج لرضاهم بفعل آبائهم ...» «1»

10- و بهذا الإسناد عن الرضا «ع»، قال: قلت له: لأيّ علّة أغرق اللّه- عزّ و جلّ- الدنيا كلّها في زمن نوح «ع» و فيهم الأطفال و من لا ذنب له؟ فقال: ما كان فيهم الأطفال، لأنّ اللّه- عزّ و جلّ- أعقم أصلاب قوم نوح و أرحام

نسائهم أربعين عامّا فانقطع نسلهم فغرقوا و لا طفل فيهم، ما كان اللّه ليهلك بعذابه من لا ذنب له، و أمّا الباقون من قوم نوح فأغرقوا بتكذيبهم لنبيّ اللّه نوح «ع»، و سائرهم أغرقوا برضاهم بتكذيب المكذّبين، و من غاب عن أمر فرضي به كان كمن شاهده و أتاه.» «2»

11- و عنه «ع»، عن آبائه «ع»، قال: قال رسول اللّه «ص»: «يأتي على الناس زمان يذوب فيه قلب المؤمن في جوفه كما يذوب الآنك في النار، يعني الرصاص. و ما ذاك إلّا لما يرى من البلاء و الإحداث في دينهم و لا يستطيعون له غيرا.» «3»

12- و في حديث سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «لو أنّ أهل السماوات و الأرض لم يحبّوا أن يكونوا شهدوا مع رسول اللّه «ص» لكانوا من أهل النار.» «4»

إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا المجال، فتتّبع. هذا.

و لا يخفى أنّ إنكار المنكر بالقلب بعد العلم به و إن كان من لوازم الإيمان قهرا، و لكن المؤاخذة على مجرد الرضا القلبي بالمنكر ربّما تنافي ما دلّ على أنّ العبد إذا همّ بالسيئة لم تكتب عليه «5». و إذا لم يؤاخذ بنية فعل نفسه فكيف يؤاخذ بالرضا بفعل غيره!؟ فتأمّل.

فلعلّ المقصود في هذه الروايات هو الرضا الظاهر في مقام العمل. فإنّ من سمع ارتكاب غيره للمنكر وجب عليه السعي في نهيه و رفع المنكر أو إظهار البراءة

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 409، الباب 5 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 4.

(2)- الوسائل 11/ 410، الباب 5 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 5.

(3)- الوسائل 11/ 411، الباب 5 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 8.

(4)- الوسائل 11/

411، الباب 5 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 10.

(5)- الوسائل 1/ 36 و ما بعدها، الباب 6 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث 6- 7- 8- 10 و ...

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 238

ممّن ارتكبه، فإن ترك ذلك بل ظهر منه أمارات الرضا به بل و الافتخار به أحيانا صار بهذا شريكا في ذلك المنكر، و هكذا كان قوم صالح، و أصحاب الجمل، و أولاد قتلة الحسين «ع».

و في الجواهر:

«إنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لا يعقل كونهما بالقلب وحده، ضرورة عدم كون ذلك أمرا و نهيا. كضرورة عدم كون المعرف و المنكر بالقلب آمرا و ناهيا، و إنّما هو من توابع الإيمان بما جاء به النبيّ «ص»، فلا بدّ من اعتبار أمر آخر في المرتبة الأولى به تعدّ في الأمر و النهي، و هو إظهار عدم الرضا بضرب من الإعراض و إظهار الكراهة و نحو ذلك.» «1»

الجهة السابعة: في وجوب الإعراض عن فاعل المنكر و هجره إذا لم يرتدع:

1- في خبر السكوني، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: قال أمير المؤمنين «ع»: «أمرنا رسول اللّه «ص» أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرّة.» «2»

2- و في رواية أخرى قال أمير المؤمنين «ع»: «أدنى الإنكار أن تلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرّة.» «3»

3- و في رواية الحارث بن المغيرة، قال: قال أبو عبد اللّه «ع»: «لآخذنّ البري ء منكم بذنب السقيم، و لم لا أفعل و يبلغكم عن الرجل ما يشينكم و يشينني فتجالسونهم و تحدّثونهم فيمرّ بكم المارّ فيقول: هؤلاء شرّ من هذا؟ فلو أنّكم إذا بلغكم عنه ما تكرهونه زبرتموهم و نهيتموهم كان

______________________________

(1)- الجواهر 21/ 368.

(2)- الوسائل 11/ 413، الباب 6 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 1.

(3)- الوسائل

11/ 413، الباب 6 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 1 أيضا.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 239

أبرّ بكم و بي.» «1»

4- و في رواية أخرى له أنّ أبا عبد اللّه «ع» قال له: «لأحملنّ ذنوب سفهائكم إلى (على خ. ل) علمائكم (إلى أن قال): ما يمنعكم إذا بلغكم عن الرجل منكم ما تكرهون و ما يدخل علينا به الأذى أن تأتوه فتؤنّبوه و تعذّلوه و تقولوا له قولا بليغا؟ قلت: جعلت فداك إذا لا يقبلون منّا. قال: اهجروهم و اجتنبوا مجالسهم.» «2»

5- و في رواية الشيخ- قدّس سرّه-، قال: قال الصادق «ع» لقوم من أصحابه: «إنّه قد حقّ لي أن آخذ البري ء منكم بالسقيم، و كيف لا يحقّ لي ذلك و أنتم يبلغكم عن الرجل منكم القبيح فلا تنكرون عليه و لا تهجرونه و لا تؤذونه حتّى يترك.» «3»

6- و في رواية هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «لو أنّكم إذا بلغكم عن الرجل شي ء تمشّيتم إليه فقلتم: يا هذا، إمّا أن تعتزلنا و تجتنبنا و إمّا أن تكفّ عن هذا، فإن فعل، و إلّا فاجتنبوه.» «4»

إلى غير ذلك من الأخبار في هذا المجال.

و بالجملة، يجب إنكار المنكر بالقلب و باللسان بقول ليّن بليغ أوّلا، ثمّ يغلظ عليه في ذلك إلى أن تصل النوبة إلى اليد بمراتبها، و الأحوط كونها بإذن الحاكم فإن لم يتيسّر ذلك أو لم يؤثّر فبالإعراض و الهجر و ترك المجالسة معه. كلّ ذلك ليتأثّر الفاعل و يرتدع، لا للانتقام و نحوه.

و رعاية المراتب لازمة و بها صرّح الفقهاء و هو المستفاد من الأخبار أيضا، فراجع.

و قد مرّت عبارة صاحب الجواهر في

معنى الإنكار بالقلب و أنّ المراد به هجر

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 414، الباب 7 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 2.

(2)- الوسائل 11/ 415، الباب 7 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 3.

(3)- الوسائل 11/ 415، الباب 7 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 4.

(4)- الوسائل 11/ 415، الباب 7 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 5.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 240

الفاعل و الإعراض عنه. و قصده لا محالة أن يكون ذلك في آخر الأمر أو أوّل الأمر بعد العلم بعدم تأثير اللسان و اليد أو عدم إمكانهما، فتدبّر.

الجهة الثامنة: في رفع توهّم و شبهة:

قد يتوهّم أنّ قوله- تعالى-: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ. لٰا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّٰهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» «1»

يدلّ على أنّ الإنسان إذا لزم بيته و أصلح نفسه فلا يبال بما يقع في المجتمع من الفساد و الضلال، فيعارض ظاهر الآية ما مرّ من الدليل على وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

و فيه أنّه لا يمكن رفع اليد عن الآيات الكثيرة، و الأخبار المتواترة، و إجماع المسلمين بهذا الظهور المتوهّم. بل الظاهر أنّ المقصود بالآية بيان أنّه يجب على الإنسان أن يكون مستقلّا في فكره و إرادته، و أنّه إذا فرض ضلال أفراد المجتمع أو بعضهم فليس له أن يجعل نفسه تابعا لهم و مهضوما فيهم كما هو المتعارف في أكثر المجتمعات، بل يجب على كل فرد أن يهتدي بهدى اللّه و يعمل بوظائفه المقرّرة من قبله التي من أهمّها الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بمقدار القدرة، و إذا فعل ذلك نفعه هداه قهرا و لم يضرّه ضلال من ضلّ، فإنّ

الحق حقّ يثاب عليه و إن أعرض عنه الأكثر، و الباطل باطل يعاقب عليه و إن أقبل إليه الأكثر.

و في نهج البلاغة: «أيّها الناس، لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلّة أهله، فإنّ الناس قد اجتمعوا على مائدة شبعها قصير و جوعها طويل.» «2» هذا.

______________________________

(1)- سورة المائدة (5)، الآية 105.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 649؛ عبده 2/ 207؛ لح/ 319، الخطبة 201.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 241

و في مجمع البيان في ذيل الآية ما محصّله:

«إنّ في جواب الإشكال وجوها: أحدها: أنّ الآية لا تدلّ على جواز ترك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بل توجب أنّ المطيع لربّه لا يؤاخذ بذنوب العاصي.

و ثانيها: أنّ ذلك في حال التقية أو حال لا يجوّز الإنسان تأثير إنكاره أو يتعلّق بإنكاره مفسدة.

و روي أن أبا ثعلبة سأل رسول اللّه «ص» عن هذه الآية فقال: «ايتمروا بالمعروف و تناهوا عن المنكر حتّى إذا رأيت دنيا مؤثرة و شحّا مطاعا و هوى متبعا و إعجاب كلّ ذي رأي برأيه فعليك بخويصة نفسك و ذر الناس و عوامهم.» و ثالثها: إنّ هذه أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، لأنّ اللّه- تعالى- خاطب بها المؤمنين فقال: عليكم أنفسكم، يعني عليكم أهل دينكم، كما قال: «وَ لٰا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» لا يضرّكم من ضلّ من الكفار. و هذا قول ابن عباس في رواية عطاء عنه، قال: «يريد يعظ بعضكم بعضا و ينهى بعضكم بعضا و يعلم بعضكم بعضا ما يقرّبه إلى اللّه و يبعّده من الشيطان، و لا يضرّكم من ضلّ من المشركين و المنافقين و أهل الكتاب.» «1»

الجهة التاسعة: في بيان ما ذكروه شرطا لوجوبهما:

الشرط الأول: [أن يعلمه منكرا]

قال المحقّق في الشرائع:

«و لا يجب النهي

عن المنكر ما لم يكمل شروط أربعة: الأوّل: أن يعلمه منكرا ليأمن الغلط في الإنكار. الثاني: أن يجوّز تأثير إنكاره فلو غلب على ظنّه أو علم أنّه لا يؤثر لم يجب. الثالث: أن يكون الفاعل له مصرّا على الاستمرار فلو لاح منه أمارة

______________________________

(1)- مجمع البيان 2/ 254 (الجزء 3).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 242

الامتناع أو أقلع عنه سقط الإنكار. الرابع: أن لا يكون في الإنكار مفسدة فلو ظنّ توجّه الضرر إليه أو إلى ماله أو إلى أحد من المسلمين سقط الوجوب.» «1»

و الظاهر أنّ ذكر النهي عن المنكر من باب المثال، فالشروط شروط لكلتا الفريضتين.

و قال العلّامة في الإرشاد:

«و إنّما يجبان بشرط علمهما، و تجويز التأثير، و إصرار الفاعل على المنهي أو خلاف المأمور، و انتفاء الضرر عنه و عن ماله و عن إخوانه.» «2»

و هكذا ذكر الشروط الأربعة في المنتهى و التذكرة و غيرهما.

أقول: كون الشرط الأوّل شرطا للوجوب بحيث لا يجب تحصيل العلم و كون الجاهل بالحكم و لو عن تقصير معذورا في هذا الباب لا يخلو من إشكال. إذ الموضوع هو واقع المعروف و المنكر، لا المعلوم منهما. نعم، لمّا كان العلم طريقا إلى الواقع فبدونه لا يمكن الأمر و النهي فهو شرط للوجود قهرا، و الجاهل القاصر معذور لا محالة.

و قد تعرض لهذا الإشكال المحقّق الكركي في حاشيته، و الشهيد الثاني في المسالك.

قال في المسالك:

«و قد يناقش في اعتبار الشرط الأوّل نظرا إلى ان عدم العلم بالمعروف و المنكر لا ينافي تعلّق الوجوب بمن لم يعلم، و إنّما ينافيه نفس الأمر و النهى حذرا من الوقوع في الأمر بالمنكر و النهي عن المعروف، و

حينئذ فيجب على كلّ من علم بوقوع المنكر أو ترك المعروف من شخص معيّن في الجملة بنحو شهادة عدلين أن يتعلم ما يصحّ معه الأمر و النهي ثمّ يأمر أو ينهى، كما يتعلّق بالمحدث وجوب الصلاة و يجب عليه تحصيل شروطها.

و حينئذ فلا منافاة بين عدم جواز أمر الجاهل و نهيه حالة جهله، و بين وجوبهما عليه

______________________________

(1)- الشرائع 1/ 342.

(2)- الإرشاد للعلامة، المقصد الخامس في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر؛ و المنتهى 2/ 993؛ و التذكرة 1/ 458.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 243

كما يجب الصلاة على المحدث و الكافر و لا يصحّ منهما على تلك الحالة.» «1»

و حكى في الجواهر قريبا من ذلك عن المحقّق الكركي في حاشيته «2».

و أجاب عنهما في الجواهر بقوله:

«و فيه- مع أنّه مناف لما سمعته من الأصحاب من دون خلاف فيه بينهم كما اعترف به في المنتهى- أنّه مناف أيضا لما مرّ في خبر مسعدة السابق الذي حصر الوجوب فيه على القويّ المطاع العالم بالمعروف من المنكر، بل يمكن دعوى أن المنساق من إطلاق الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر هو ما علمه المكلف من الأحكام من حيث كونه مكلّفا بها، لا أنّه يجب أن يتعلّم المعروف من المنكر زائدا على ذلك مقدّمة لأمر الغير و نهيه الذين يمكن عدم وقوعهما ممّن يعلمه من الأشخاص.

و أمّا ما ذكراه من المثال فهو خارج عمّا نحن فيه، ضرورة العلم حينئذ بتحقّق موضوع الخطاب، بخلاف من فعل أمرا أو ترك شيئا و لم نعلم حرمة ما فعله و لا وجوب ما تركه، فإنّه لا يجب تعرّف ذلك مقدّمة للأمر و النهي لو فرضنا كونهما منه،

بل أصل البراءة محكّم، و هو مراد الأصحاب بكونه شرطا للوجوب، و اللّه العالم.» «3»

و محصّل ما ذكره- قدّس سرّه- بعد ردّ الصدر من كلامه إلى الذيل، أوّلا: أنّ الموضوع هو المعروف و المنكر بوجودهما الواقعي كما هو الظاهر منهما، لا معلوم المعروفيّة و المنكريّة و لكنّ الطريق إليهما هو العلم، فإن لم يحصل العلم كان موردا للبراءة لكون الشبهة موضوعيّة وجوبيّة، و إن حصل العلم بهما و لو إجمالا كما في المثال وجب الأمر و النهي حينئذ للعلم بتحقّق الموضوع، و هو مراد الأصحاب بكون العلم شرطا للوجوب، و في خبر مسعدة أيضا حصر الوجوب على القوي المطاع العالم

______________________________

(1)- المسالك 1/ 161.

(2)- الجواهر 21/ 366.

(3)- الجواهر 21/ 367.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 244

بالمعروف من المنكر.

و ثانيا: أنّه يمكن دعوى أنّ المنساق من إطلاق الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر هو ما علمه المكلّف من الأحكام لتكليف نفسه لا أنّه يجب أن يتعلّمهما زائدا على ذلك مقدمة لأمر الغير و نهيه.

أقول: المفروض في المثال هو العلم إجمالا بوقوع المنكر أو ترك المعروف من شخص معيّن خارجا من دون أن يعلم بما هو معروف أو منكر شرعا، فلا يشمله خبر مسعدة إذ مفاده اعتبار كونه عالما بما هو المعروف شرعا، فالإشكال باق بحاله.

و أما ما ذكره من البراءة في الشبهة الموضوعيّة الوجوبيّة فهو صحيح، و لكن إجراؤها بدون الفحص مشكل. ألا ترى أنّ الأصحاب احتاطوا على من احتمل استطاعته للحج أو بلوغ ماله إلى حد النصاب للخمس و الزكاة أن يحسب ماله و يتفحّص، و لو قال المولى: أكرم علماء قم مثلا وجب الفحص عن علمائها.

و أما ما ذكره

من الدعوى فيشكل الالتزام بها، إذ لو فرض أنّه كان هنا رجل عالم بكلّ ما يبتلى به الرجال من المسائل و لم يعلم المسائل المختصّة بالنساء و كان حوله نسوة يعلم بابتلائهن بها إجمالا و لا يوجد من يعرفها منهنّ فهل لا يجب عليه تعلّمها لإرشادهنّ و أمرهنّ بالمعروف؟ هذا.

و لقائل أن يقول: أوّلا: إنّ مفاد خبر مسعدة ليس إلّا ما هو حكم العقل من توقّف العمل و تنجّز التكليف به على القدرة و العلم بالموضوع، إذ العاجز و كذا الجاهل في حال العجز و الجهل لا يمكن أن يصدر عنهما الفعل، و هذا لا ينافي وجوب تحصيل القدرة و العلم عليه لما بعد ذلك. و ثانيا: لعلّ محطّ النظر في الخبر بقرينة ذكر القويّ المطاع و نفي الوجوب عن الأمّة جميعا هو الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر الواقعين من المحتسب بولاية الحسبة، و لا ننكر أنّ المنصوب لأمر الحسبة من قبل الولاة يجب أن يكون قويا مطاعا عالما بالمعروف من المنكر. فهذه شرائط لتصدّي هذا المنصب الشريف الذي هو من شعب الولاية، و أمّا ما يجب على العامة من

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 245

الأمر و النهي في الموارد الجزئيّة فالعلم شرط لوجودهما لا لوجوبهما. هذا.

و لكن الإنصاف أن دلالة خبر مسعدة على شرطية العلم لنفس الوجوب غير قابلة للإنكار، فتأمّل و اللّه العالم.

هذا كلّه فيما يرتبط بالشرط الأوّل.

الشرط الثاني: أن يجوّز تأثير انكاره.
اشارة

و يدلّ على اعتبار هذا الشرط أخبار مستفيضة:

1- منها ما في ذيل موثقة مسعدة، قال مسعدة: و سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول- و سئل عن الحديث الذي جاء عن النبيّ «ص»: إنّ أفضل الجهاد كلمة عدل عند

إمام جائر ما معناه؟- قال: «هذا على أن يأمره بعد معرفته و هو مع ذلك يقبل منه، و إلّا فلا.» «1»

2- و منها خبر ابن أبي عمير عن يحيى الطويل، قال: قال أبو عبد اللّه «ع»: «إنّما يؤمر بالمعروف و ينهى عن المنكر مؤمن فيتعظ، أو جاهل فيتعلّم، فأمّا صاحب سوط أو سيف فلا.» «2»

3- و منها خبر أبان بن تغلب، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: كان المسيح «ع» يقول:

«إنّ التارك شفاء المجروح من جرحه شريك جارحه لا محالة (إلى أن قال): فكذلك لا تحدّثوا بالحكمة غير أهلها فتجهلوا، و لا تمنعوها أهلها فتأثموا، و ليكن أحدكم بمنزلة الطبيب المداوي إن رأى موضعا لدوائه، و إلّا أمسك.» «3»

4- و منها خبر الريان بن الصلت، قال: جاء قوم بخراسان إلى الرضا «ع» فقالوا: إنّ قوما من أهل بيتك يتعاطون أمورا قبيحة، فلو نهيتهم عنها. فقال «ع»:

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 400، الباب 2 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 1.

(2)- الوسائل 11/ 400، الباب 2 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 2.

(3)- الوسائل 11/ 401، الباب 2 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 5.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 246

لا أفعل. قيل: و لم؟ قال: لأنّي سمعت أبي «ع» يقول: «النصيحة خشنة.» «1»

5- و منها خبر الحارث بن المغيرة أنّ أبا عبد اللّه «ع» قال له: «ما يمنعكم إذا بلغكم عن الرجل منكم ما تكرهون و ما يدخل علينا به الأذى أن تأتوه فتؤنّبوه و تعذّلوه و تقولوا له قولا بليغا؟ قلت: جعلت فداك إذا لا يقبلون منّا. قال: اهجروهم و اجتنبوا مجالسهم.» «2»

6- و منها خبر داود الرقّي، قال: سمعت أبا

عبد اللّه «ع» يقول: «لا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه. قيل له: و كيف يذلّ نفسه؟ قال: يتعرّض لما لا يطيق.» «3»

إلى غير ذلك من الأخبار الدالّة على المقصود.

فروع
اشارة

و هنا فروع ينبغي الالتفات إليها:

الأول: أنّه لو لا هذه الأخبار أمكن القول بالوجوب مطلقا

حتّى مع العلم بعدم التأثير لإطلاق الأدلّة، و فائدته إتمام الحجة على الفاعل.

الثاني: يظهر بذلك أنّ الساقط مع العلم بعدم التأثير هو الوجوب لا الجواز،

اللّهم إلّا مع الضرر الذي لا يجوز تحمّله.

الثالث: مقتضى إطلاق الأدلّة عدم كفاية غلبة الظنّ في السقوط

و إن حكم به المحقّق بل الأكثر على ما قيل، اللّهم إلّا أن يريدوا بذلك خصوص الاطمينان الملحق بالعلم عادة، بل مقتضى التشبيه بالطبيب أيضا هو الوجوب حتّى مع الظن

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 402، الباب 2 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 7.

(2)- الوسائل 11/ 415، الباب 7 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 3.

(3)- الوسائل 11/ 425، الباب 13 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 247

بعدم التأثير، إذ الطبيب يعطي الدواء مع احتمال الشفاء أيضا. و لا يراد بقوله:

«يقبله» في خبر مسعدة خصوص العلم بالقبول، بل مجرد الاحتمال و المعرضية، إذ لم يقل أحد باشتراط العلم بالقبول، فتدبّر.

الرابع: قال في المنتهى:

«قد جعل أصحابنا هذا شرطا على الإطلاق، و الأولى أن يجعل شرطا للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر باليد و اللسان دون القلب.» «1»

أقول: و قد مرّ كلام صاحب الجواهر و أنّه لا يعدّ مجرد ما في القلب أمرا و نهيا ما لم يضمّ إليه إظهار عدم الرضا و لو بضرب من الإعراض و الهجر.

الخامس: الظاهر أنّه لا يتعيّن أن يكون التأثير في الحال،

فلو جوّز التأثير فيه و لو في المآل وجب الأمر و النهي، بل يمكن أن يقال: إنّه لو علم أنّ النهي لا يؤثّر في شخص الفاعل و لكنّه يؤثّر في غيره ممّن رأى أو سمع فيوجب إعراضه عن الفاعل و عمله و لو لا نهيه كان مظنّة لمتابعة الغير له و اقتدائه به فلا يبعد وجوب النهي حينئذ، بل لو كان الناهي عالما دينيا شاخصا مثلا و كان سكوته موجبا لضعف عقائد المسلمين و وهن علماء الدين، و نهيه و اعتراضه على الفاعل سببا لقوّة إيمانهم أمكن القول بالوجوب أيضا و إن لم يؤثّر في شخص الفاعل.

و يمكن أن يقال: إنّ تجويز التأثير يصدق في جميع هذه الموارد. فالمقصود بهذا الشرط إخراج صورة لغوية الإنكار بحيث لا يترتّب عليه أثر لا في الفاعل و لا في غيره، فتدبّر.

الشرط الثالث: أن يكون الفاعل له مصرّا على الاستمرار.

فلو لاح منه أمارة الامتناع أو أقلع عنه سقط الإنكار. هكذا في الشرائع «2».

______________________________

(1)- المنتهى 2/ 993.

(2)- الشرائع 1/ 342.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 248

و في الجواهر في شرح العبارة قال:

«بلا خلاف مع فرض استفادة القطع من الأمارة، بل و لا إشكال، ضرورة عدم موضوع لهما، بل هما محرمان حينئذ كما صرح به غير واحد. كما أنّه لا أشكال في عدم السقوط بعد العلم بإصراره. إنّما الإشكال في السقوط بالأمارة الظنيّة بامتناعه كما هو مقتضى المتن و غيره باعتبار إطلاق الأدلّة و استصحاب الوجوب الثابت، اللّهم إلّا أن يريد الظن الغالب الذي يكون معه الاحتمال و هما لا يعتدّ به عند العقلاء.» «1»

أقول: و ملخّص الكلام هو أنّ التعرّض للغير هتك لحرمته و مخالف لسلطته على نفسه، فلا يجوز إلّا مع

كونه فاعلا للمنكر فيجب ردعه. فمع الشك الابتدائي و الاحتمال لا يجوز التعرّض له قطعا و لا التفتيش و التجسّس، قال اللّه- تعالى-:

«وَ لٰا تَجَسَّسُوا.» «2»

و أمّا مع سبق العصيان و احتمال الإصرار و الاستمرار باستدامة العمل خارجا أو بمجرد قصد التكرار فهل يحكم بجواز النهي عن المنكر بل بوجوبه لإطلاق الأدلّة كما قيل- و إن كان الإشكال فيه واضحا، حيث إنّ موضوع الأدلّة هو المنكر و المفروض الشكّ فيه- أو لاستصحاب الوجوب ما لم يحرز الامتناع أو الندم و التوبة.

أو بعدم الجواز إلّا مع إحراز الإصرار كما عن جماعة أو ظهور أمارة الاستمرار كما عن آخرين. أو يفصّل بين كون المحتمل استدامة العمل خارجا و بين كونه مجرد القصد إذ لا حرمة لقصد المعصية حتّى ينهى عنه؟

في المسألة وجوه بل أقوال. و الاحتياط حسن على كل حال.

ثمّ هل يكفي مجرد الامتناع عن الاستمرار أو لا بدّ من التوبة؟ ربّما استظهر من

______________________________

(1)- الجواهر 21/ 370.

(2)- سورة الحجرات (49)، الآية 12.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 249

الأكثر سقوط النهي عن المنكر بمجرد الامتناع.

نعم، لمّا وجبت التوبة وجب الأمر بالمعروف إن ظهر منه إصراره على تركها بل بمجرد الاحتمال أيضا للاستصحاب. هذه بعض كلمات الأصحاب في المقام.

قال المحقّق الأردبيلي- قدّس سرّه- في مجمع الفائدة:

«و الذي يظهر أنّهم كانوا يكتفون بترك المنكر مثلا، و ما نقل تكليفهم أحدا بالتوبة بل بمجرد الترك كانوا يخلّون سبيله، و كذا في الأمر بالمعروف فإنّهم كانوا يتركون بارتكابه فقط.» «1»

أقول: و الحقّ صحّة ما ذكره، بل الظاهر استقرار السيرة في جميع الأعصار على مراقبة ظواهر الشرع المبين و المنع عن التجاهر بالمعصية، و لم يكن بناء

الأفراد و لا المحتسبين على التفتيش و التدخّل في دخائل الناس أو الأمر و النهي بمجرد الاستصحاب و نحوه. و في رواية محمد بن مسلم أو الحلبي، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «قال رسول اللّه «ص»: لا تطلبوا عثرات المؤمنين، فإنّ من تتبّع عثرات أخيه تتبّع اللّه عثراته، و من تتبّع اللّه عثراته يفضحه و لو في جوف بيته.» و بهذا المضمون روايات مستفيضة، فراجع «2» و روى مالك في حدود الموطأ عن زيد بن أسلم، عن رسول اللّه «ص» أنّه قال:

«أيّها الناس، قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود اللّه، من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر اللّه، فإنّه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب اللّه.» «3»

و روى نحوه الشيخ أيضا في كتاب الإقرار من المبسوط و في كتاب السرقة منه «4».

و في الموطأ أيضا بسنده عن سعيد بن المسيّب أنّه قال: بلغني أنّ رسول اللّه «ص»

______________________________

(1)- مجمع الفائدة، المقصد الخامس في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

(2)- راجع الكافي 2/ 355، كتاب الإيمان و الكفر، باب من طلب عثرات المؤمنين؛ و الوسائل 8/ 594، الباب 150 من أبواب أحكام العشرة.

(3)- الموطأ 2/ 169، كتاب الحدود، باب ما جاء فيمن اعترف على نفسه بالزنا.

(4)- المبسوط 3/ 2، و 8/ 40.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 250

قال لرجل من أسلم يقال له هزّال: «يا هزّال، لو سترته بردائك لكان خيرا لك.» «1»

الشرط الرابع: أن لا يكون في الإنكار مفسدة.

فلو ظنّ توجّه الضرر إليه أو إلى ماله أو إلى أحد من المسلمين سقط الوجوب. هكذا في الشرائع «2».

و أرادوا بالضرر الأعمّ ممّا في النفس أو العرض أو المال في الحال أو في المآل،

و الاكتفاء بالظنّ هنا من جهة أنّ الملاك في باب الضرر خوفه و هو يحصل مع الظنّ بل و بعض مراتب الاحتمال أيضا.

و قال في الجواهر:

«بلا خلاف أجده فيه، كما اعترف به بعضهم، لنفي الضرر و الضرار، و الحرج في الدين، و سهولة الملّة و سماحتها، و إرادة اللّه اليسر دون العسر.» «3»

ثمّ تعرّض لأخبار خاصّة في المسألة:

1- مثل ما رواه الصدوق في الخصال بإسناده، عن الأعمش، عن جعفر بن محمد «ع»، قال: «و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر واجبان على من أمكنه ذلك، و لم يخف على نفسه و لا على أصحابه.»

و رواه في العيون بإسناده، عن الفضل بن شاذان، عن الرضا «ع» في كتابه إلى المأمون نحوه و أسقط قوله: «و لا على أصحابه.» «4»

2- و مثل قول الصادق «ع» في موثّقة مسعدة السابقة: «و ليس على من يعلم ذلك في هذه الهدنة من حرج إذا كان لا قوّة له و لا عدد و لا طاعة.» «5»

3- و خبر يحيى الطويل، قال: قال أبو عبد اللّه «ع»: «إنّما يؤمر بالمعروف و ينهى عن

______________________________

(1)- الموطأ 2/ 166، كتاب الحدود، باب ما جاء في الرجم.

(2)- الشرائع 1/ 342.

(3)- الجواهر 21/ 371.

(4)- الوسائل 11/ 398، الباب 1 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 22.

(5)- الوسائل 11/ 400، الباب 2 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 251

المنكر مؤمن فيتعظ، أو جاهل فيتعلّم. فأمّا صاحب سوط أو سيف فلا.» «1»

4- و خبر مفضل بن يزيد، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: قال لي: «يا مفضّل، من تعرض لسلطان جائر فأصابته بليّة لم يؤجر عليها،

و لم يرزق الصبر عليها.» «2»

5- و خبر داود الرقي، قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: «لا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه، قيل له: و كيف يذلّ نفسه؟ قال: يتعرّض لما لا يطيق.» «3» إلى غير ذلك من الأخبار.

و استدلّ في مجمع الفائدة لذلك بقوله:

«لأنّه قبيح و الضرر أيضا قبيح، و رفع القبيح بالقبيح قبيح. و وجوب إدخال الضرر على نفسه أو المسلمين لدفع حرام غير ظاهر و إن فرض كونه أقلّ من الأوّل.

و الظاهر عدم الخلاف فيه أيضا.» «4»

و قال الشيخ في كتاب الاقتصاد:

«سواء كان ما يقع عنده من القبيح صغيرا أو كبيرا من قتل نفس أو قطع عضو أو أخذ مال كثير أو يسير، فإنّ الكلّ مفسدة» «5»

أقول: يمكن أن يقال أوّلا: إنّه ليس الغرض من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر تحصيل المثوبة مثلا، بل هما شرّعا بمفهوم وسيع لإصلاح المجتمع و قطع جذور المنكر و الفساد. و مقتضى رعاية ملاكات الأحكام و مصالحها، و اختلاف مراتب الضرر، و مراتب المنكر أن يعامل مع الدليلين معاملة التزاحم فيقدّم الأهمّ منهما ملاكا، فلربّما يريد أحد قتل واحد أو جماعة أو التجاوز على امرأة مسلمة محترمة

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 400، الباب 2 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 2.

(2)- الوسائل 11/ 401، الباب 2 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 3.

(3)- الوسائل 11/ 425، الباب 13 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 1.

(4)- مجمع الفائدة، المقصد الخامس في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

(5)- الاقتصاد/ 149، فصل في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 252

مثلا و يكون نهيه و ردعه موجبا لخسارة ما

على الناهي، فهل يمكن القول بعدم وجوب النهي عن المنكر حينئذ؟! و ربّما يكون المنكر منكرا فظيعا يتجاهر به و يكون في معرض السراية إلى المجتمع و ربّما يفسد المجتمع بسببه، أو يكون المرتكب له ذا شخصيّة اجتماعيّة أو دينيّة يقتدي به الناس طبعا، أو يكون عمله موجبا لهدم أساس الدين، أو يريد بعمله تغيير قانون من قوانين الإسلام أو تحريفه، أو يريد إقامة السلطة الظالمة الغاصبة على شئون المسلمين و سياستهم و اقتصادهم و ثقافتهم، و نحو ذلك من الأمور المهمّة التي لا يجوز السكوت في قبالها، و كان الناهي ممّن يقبل قوله، أو يوجب إقدامه و نهيه لا محالة وحشة المرتكب أو خفّته أو التزلزل في وضعه الاجتماعي، فهل لا يجب النهي و الردع بظن ضرر ماليّ أو حبس أو تضييق أو نحو ذلك؟! يشكل جدّا الالتزام بذلك، هذا.

مضافا إلى دلالة روايات كثيرة على وجوب الإقدام و القيام في قبال المنكر و الفساد و لو ترتب عليه ضرر أو شدّة:

1- ففي خبر جابر، عن أبي جعفر «ع»، قال: «يكون في آخر الزمان قوم يتبع فيهم قوم مراءون يتقرؤون و يتنسّكون، حدثاء سفهاء لا يوجبون أمرا بمعروف و لا نهيا عن منكر إلّا إذا أمنوا الضرر، يطلبون لأنفسهم الرخص و المعاذير، يتّبعون زلّات العلماء و فساد علمهم، يقبلون على الصلاة و الصيام و ما لا يكلمهم في نفس و لا مال، و لو أضرّت الصلاة بسائر ما يعملون بأموالهم و أبدانهم لرفضوها كما رفضوا أتمّ الفرائض و أشرفها ... فأنكروا بقلوبكم و ألفظوا بألسنتكم و صكّوا بها جباههم و لا تخافوا في اللّه لومة لائم.» «1»

2- و في خبر آخر لجابر، عن أبي جعفر

«ع»: «من مشى إلى سلطان جائر فأمره بتقوى اللّه و وعظه و خوّفه كان له مثل أجر الثقلين: الجنّ و الإنس و مثل أعمالهم.» «2»

و واضح أن تخويف السلطان الجائر يلازم غالبا ردّ الفعل و التضييق.

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 394، و 402 و 403 الباب 1 و 2 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 6، و الباب 3 منها، الحديث 1.

(2)- الوسائل 11/ 406، الباب 3 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 11.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 253

3- و في رواية تحف العقول عن السبط الشهيد «ع»: «و إنّما عاب اللّه ذلك عليهم لأنّهم كانوا يرون من الظلمة المنكر و الفساد فلا ينهونهم عن ذلك رغبة فيما كانوا ينالون منهم و رهبة ممّا يحذرون، و اللّه يقول: فَلٰا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِي.» «1»

4- و في رواية نهج البلاغة: «و إنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لا يقرّبان من أجل و لا ينقصان من رزق. و أفضل من ذلك كلّه كلمة عدل عند إمام جائر.» «2»

5- و في نهج البلاغة أيضا: «و من أنكره بالسيف لتكون كلمة اللّه العليا و كلمة الظالمين السفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى و قام على الطريق و نوّر في قلبه اليقين.» «3»

6- و في رواية مسعدة، عن جعفر بن محمد «ع»، قال: قال أمير المؤمنين «ع»: «إنّ اللّه لا يعذّب العامّة بذنب الخاصّة إذا عملت الخاصّة بالمنكر سرّا من غير أن تعلم العامّة، فإذا عملت الخاصّة بالمنكر جهارا فلم تغيّر ذلك العامّة استوجب الفريقان العقوبة من اللّه- عزّ و جلّ-.» «4»

7- و خطب السبط الشهيد أصحابه و أصحاب الحرّ فقال: «أيّها الناس، إنّ رسول اللّه

«ص» قال: «من رأى سلطانا جائرا مستحلّا لحرم اللّه ناكثا لعهد اللّه مخالفا لسنة رسول اللّه «ص» يعمل في عباد اللّه بالإثم و العدوان فلم يغيّر عليه بفعل و لا قول كان حقّا على اللّه أن يدخله مدخله. ألا و إنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان. الحديث.» «5»

8- و خطب «ع» أيضا بذي حسم فقال: «أ لا ترون أنّ الحقّ لا يعمل به و أنّ الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء اللّه محقّا فإنّي لا أرى الموت إلّا شهادة و لا الحياة مع الظالمين إلّا برما.» «6»

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 403، الباب 2 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 9.

(2)- الوسائل 11/ 406، الباب 3 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 9.

(3)- الوسائل 11/ 405، الباب 3 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 8.

(4)- الوسائل 11/ 407، الباب 4 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 1.

(5)- تاريخ الطبري 7/ 300، (طبعة ليدن).

(6)- تاريخ الطبري 7/ 301؛ و تحف العقول/ 245 إلّا أنّ فيه: «لا أرى الموت إلّا سعادة».

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 254

و هو «ع» إمام المسلمين و قدوتهم، و قد برّر قيامه و ثورته بما ألفت إليه في خطبتيه، و قد استشهد هو و أولاده و أصحابه في هذا الطريق، و في زيارته الشريفة:

«أشهد أنّك قد أقمت الصلاة و آتيت الزكاة و أمرت بالمعروف و نهيت عن المنكر.» فعلى المسلمين و لا سيما شيعته جميعا أن يقتدوا به و يهتدوا بهداه.

9- و في الدر المنثور عن رسول اللّه «ص»: «إنّ رحى الإسلام ستدور، فحيث ما دار القرآن فدوروا به، يوشك السلطان و القرآن أن يقتتلا و يتفرّقا.

إنّه سيكون عليكم ملوك يحكمون لكم بحكم و لهم بغيره، فإن أطعتموهم أضلّوكم و أن عصيتموهم قتلوكم». قالوا: يا رسول اللّه فكيف بنا إن أدركنا ذلك؟ قال: تكونوا كأصحاب عيسى «ع»: نشروا بالمناشير و رفعوا على الخشب. موت في طاعة خير من حياة في معصية.» «1»

10- و في نهج السعادة: قال أبو عطاء: خرج علينا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «ع» محزونا يتنفّس فقال: كيف أنتم و زمان قد أظلّكم، تعطّل فيه الحدود و يتّخذ المال فيه دولا و يعادى فيه أولياء اللّه و يوالى فيه أعداء اللّه؟ قلنا: يا أمير المؤمنين، فإن أدركنا ذلك الزمان فيكف نصنع؟ قال: كونوا كأصحاب عيسى «ع»: نشروا بالمناشير و صلبوا على الخشب، موت في طاعة اللّه- عزّ و جلّ- خير من حياة في معصية اللّه.» «2»

11- و في كنز العمّال: «سيكون عليكم أئمّة يملكون أرزاقكم، يحدثونكم فيكذبونكم، و يعملون فيسيؤون العمل، لا يرضون منكم حتّى تحسّنوا قبيحهم و تصدّقوا كذبهم، فأعطوهم الحقّ ما رضوا به فإذا تجاوزوا فمن قتل على ذلك فهو شهيد.» «3»

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة، و قد مرّ بعضها في ذيل الرواية السادسة من الفصل الرابع من الباب الثالث، و بعضها في المسألة السادسة عشرة من الفصل السادس من الباب الخامس، فراجع.

______________________________

(1)- الدر المنثور 2/ 301.

(2)- نهج السعادة 2/ 639.

(3)- كنز العمال 6/ 67، الباب 1 من كتاب الإمارة و القضاء، الحديث 14876.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 255

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ محطّ النظر في بعض هذه الروايات هو عدم إطاعة الجائر في جوره لا أمره بالمعروف و نهيه عن المنكر، فيجوز تحمّل الضرر في الأوّل دون

الثاني، فتدبّر.

12- و في أصول الكافي بسنده، عن ابن مسكان، عن اليمان بن عبيد اللّه، قال:

«رأيت يحيى بن أمّ الطويل وقف بالكناسة ثمّ نادى بأعلى صوته: معشر أولياء اللّه، إنّا برآء مما تسمعون. من سبّ عليّا «ع» فعليه لعنة اللّه، و نحن برآء من آل مروان و ما يعبدون من دون اللّه. ثمّ يخفض صوته فيقول: من سبّ أولياء اللّه فلا تقاعدوه، و من شك فيما نحن فيه فلا تفاتحوه، الحديث.» «1»

و العلامة المجلسي- قدّس سرّه- في مرآة العقول بعد ذكر جمع من أصحاب علي بن الحسين منهم يحيى بن أم الطويل قال:

«و روي عن أبي جعفر «ع» أنّ الحجّاج طلبه و قال: تلعن ابا تراب و أمر بقطع يديه و رجليه و قتله.

و أقول: كأنّ هؤلاء الأجلّاء من خواصّ أصحاب الأئمّة «ع» كانوا مأذونين من قبل الأئمّة «ع» بترك التقيّة لمصلحة خاصّة خفيّة، أو إنّهم كانوا يعلمون أنّه لا ينفعهم التقيّة و أنّهم يقتلون على كلّ حال بإخبار المعصوم أو غيره، و التقيّة إنّما تجب إذا نفعت. مع أنّه يظهر من بعض الأخبار أنّ التقية إنّما تجب إبقاء للدين و أهله، فإذا بلغت الضلالة حدّا توجب اضمحلال الدين بالكليّة فلا تقيّة حينئذ و إن أوجب القتل، كما أنّ الحسين «ع» لما رأى انطماس آثار الحقّ رأسا ترك التقيّة و المسالمة.» «2»

أقول: و هذا يؤيّد ما ذكرناه من تحكيم التزاحم بين الدليلين و اختيار الأهمّ منهما. هذا.

______________________________

(1)- أصول الكافي 2/ 379، كتاب الإيمان و الكفر، باب مجالسة أهل المعاصي، الحديث 16.

(2)- مرآة العقول 11/ 98. (ط. القديم 2/ 370).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 256

و أمّا الأخبار التي مرّت فمضافا

إلى ضعف أكثرها تحمل على صورة عدم القوّة و القدرة و هي شرط عقلي، أو تحمل على صورة عدم إعداد المقدمات بحيث يقع عمله لغوا لا يترتّب عليه أثر إلّا هلاك نفسه أو على كون المورد جزئيّا لا يجوز بسببه إيقاع النفس في المهالك أو نحو ذلك من المحامل.

و بالجملة، فالواجب في المقام إجراء باب التزاحم، و تقديم ما هو الأهمّ ملاكا، و هكذا كانت سيرة أصحاب النبيّ «ص» و الأئمة «ع» الملتزمين بالموازين الشرعيّة أمثال أبي ذرّ، و ميثم التمّار، و حجر بن عديّ، و رشيد، و مسلم، و هاني، و قيس بن مسهر، و زيد بن علي، و حسين بن علي شهيد فخّ، و قد استشهدوا في طريق الدفاع عن الحقّ، فما في الجواهر هنا من قوله:

«و ما وقع من خصوص مؤمن آل فرعون و أبي ذرّ و غيرهما في بعض المقامات فلأمور خاصّة لا يقاس عليها غيرها،» «1» كلام بلا وجه، فتدبّر.

هذا كلّه ما يقال أوّلا.

و ثانيا: إنّ الظاهر أنّ محل بحث المحقّق و أمثاله هو الأمر و النهي الصادران عن الأشخاص العاديين في الموارد الجزئيّة. و أمّا صاحب المقام المسؤول من قبل الحاكم لذلك فعليه تفويض الأمر إلى العالم بالمعروف و المنكر القادر على الأمر و النهي و لو بالقدرة الحاصلة من قبل الحكومة. و لعلّه المراد أيضا بقوله «ع» في خبر مسعدة:

«إنّما هو على القوى المطاع العالم.» و لو لم يوجد هنا حكومة عادلة ملتزمة فعلى المسلمين التعاضد و التعاون و التجمع و التشكل و تهيّة الأسباب مقدّمة لتحصيل القدرة على ذلك و القيام في قبال الطغاة، كما مرّ بيانه بالتفصيل، فلاحظ.

و في الجواهر بعد بيان الشرائط الأربعة للوجوب قال:

«و

عن البهائي- رحمه اللّه- في أربعينه عن بعض العلماء زيادة أنه لا يجب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إلّا بعد كون الآمر و الناهي متجنبا عن المحرمات

______________________________

(1)- الجواهر 21/ 373.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 257

و عدلا، لقوله- تعالى-: «أَ تَأْمُرُونَ النّٰاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ» «1» و قوله- تعالى-:

«لِمَ تَقُولُونَ مٰا لٰا تَفْعَلُونَ» و قوله: «كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّٰهِ أَنْ تَقُولُوا مٰا لٰا تَفْعَلُونَ» «2» و قول الصادق «ع» في خبر محمد بن أبي عمير المروي، عن الخصال و عن روضة الواعظين:

«إنّما يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر من كانت فيه ثلاث خصال: عامل بما يأمر به، تارك لما ينهى عنه الحديث» «3» و قول أمير المؤمنين «ع» في نهج البلاغة: «و أمروا بالمعروف و ائتمروا به، و انهوا عن المنكر و انتهوا (تناهوا- الوسائل) عنه. و إنّما أمرنا بالنهي بعد التناهي» «4» و في الخبر: «و لا يأمر بالمعروف من قد أمر أن يؤمر به، و لا ينهى عن المنكر من قد أمر أن ينهى عنه.» على أن هداية الغير فرع الاهتداء، و الإقامة بعد الاستقامة.

و فيه أنّ الأول إنّما يدلّ على ذمّ غير العامل بما يأمر به لا على عدم الوجوب عليه.

و احتمال الثاني اللوم على قول «فعلنا» أو ما يدلّ على ذلك و لا فعل. و الثالث الإشارة إلى الإمام القائم بجميع أفراد الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و التعريض بأئمّة الجور المتلبّسين بلباس أئمّة العدل. كلّ ذلك لإطلاق ما دلّ على الأمر بهما كتابا و سنّة و إجماعا من غير اشتراط للعدالة، بل ظاهر حصرهم الشرائط في الأربعة عدم اشتراط غيرها.» انتهى

كلام الجواهر. «5»

أقول: و عن إرشاد الديلمي عن رسول اللّه «ص» قال: قيل له: لا نأمر بالمعروف حتّى نعمل به كلّه و لا ننهى عن المنكر حتّى ننتهي عنه كلّه؟ فقال: «لا، بل مروا بالمعروف و إن لم تعملوا به كلّه و انهوا عن المنكر و إن لم تنتهوا عنه كلّه.» «6»

______________________________

(1)- سورة البقرة (2)، الآية 44.

(2)- سورة الصفّ (61)، الآية 2- 3.

(3)- الوسائل 11/ 419 و 403، الباب 10 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 3. و الباب 2 منها، الحديث 10.

(4)- الوسائل 11/ 420، الباب 10 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 8. لكن لم اجده في نهج البلاغة، نعم في ذيل الخطبة 105: «و انهوا عن المنكر و تناهوا عنه، فإنما أمرتم بالنهي بعد التناهي».

(5)- الجواهر 21/ 373.

(6)- الوسائل 11/ 420، الباب 10 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 10.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 258

و في معالم القربة عن ابن عباس، عن النبيّ «ص»، قال: «مروا بالمعروف و إن لم تعملوا به كلّه و انهوا عن المنكر و إن لم تنتهوا عنه كلّه.» «1»

و في كشف الغطاء في بيان شروطهما قال:

«و يجب الأمر بالواجب و النهي عن المحرم وجوبا كفائيا بشروط أربعة عشر:

احدها: التكليف بجمع وصفي البلوغ و العقل حين الأمر و النهي.

ثانيها: العلم بجهة الفعل من وجوب و حرمة. و مع الاحتمال يدخل في السنّة للاحتياط.

ثالثها: امكان التأثير. و مع عدمه يلحق بالسنّة.

رابعها: عدم التقيّة و لو بمجرد الاطلاع.

خامسها: عدم ترتّب الفساد الدنيوي على المأمور أو غيره بسببه.

سادسها: عدم مظنّة قيام الغير به.

سابعها: مظنّة الوقوع ممّن تعلّق به الخطاب.

ثامنها: ألّا يتقدم منه أو من غيره

خطاب يظنّ تأثيره.

تاسعها: عدم البعث على ارتكاب معصية أو ترك واجب للمأمور أو غيره بسببه.

عاشرها: عدم ترتّب نقص مخلّ بالاعتبار على الآمر.

حادي عشرها: فهم المأمور مراد الآمر.

ثاني عشرها: ضيق الوقت في الواجب الفوري.

ثالث عشرها: عدم معارضة واجب مضيق من صلاة و نحوها.

رابع عشرها: كون المأمور ممّن يجوز له النظر إليه أو اللمس له إذا توقّف عليهما.» «2»

______________________________

(1)- معالم القربة/ 17 (ط. مصر/ 64).

(2)- كشف الغطاء/ 420.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 259

الجهة العاشرة: في بيان مفهوم الحسبة، و شروط المحتسب، و الفرق بينه و بين المتطوّع:

من الدوائر التي كانت رائجة في أعصار الخلافة الإسلاميّة هي دائرة الحسبة، و ربّما كان يعبّر عنها بولاية الحسبة، و يرجع تاريخها إلى عصر النبيّ «ص» كما سيظهر.

و كانت وظيفتها إجمالا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بمراتبهما و مفهومهما الوسيع، و لعلّها توجد الآن أيضا في بعض البلاد الإسلاميّة بهذا الاسم أو ما يقرب منه. و قد وزّعت وظائفها في أعصارنا في أكثر البلاد على الوزارات و المؤسّسات المختلفة المنشعبة من سلطة التنفيذ، كما فوّض بعض وظائفها أيضا إلى سلطة القضاء.

و كانت في عصر بساطة الخلافة و سذاجتها تحت إشراف نفس الخليفة و الإمام الأعظم، بل ربّما كان الإمام بنفسه يتصدّى لأكثر وظائفها. فلنتعرّض لها هنا إجمالا فنقول:

1- قال ابن الأثير في النهاية:

«و الحسبة اسم من الاحتساب، كالعدّة من الاعتداد. و الاحتساب في الأعمال الصالحة و عند المكروهات: هو البدار إلى طلب الأجر و تحصيله بالتسليم و الصبر، أو باستعمال أنواع البرّ و القيام بها على الوجه المرسوم فيها طلبا للثواب المرجو منها.» «1»

2- و في الصّحاح:

«احتسبت عليه كذا: إذا أنكرته عليه. قال ابن دريد: و احتسبت بكذا [طلبت] أجرا عند اللّه، و الاسم الحسبة بالكسر و

هي الأجر.» «2»

______________________________

(1)- النهاية لابن الأثير 1/ 382.

(2)- الصحاح للجوهري 1/ 110.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 260

3- و في مجمع البحرين:

«يقال: احتسب فلان: عمله طلبا لوجه اللّه و ثوابه، و منه الحسبة بالكسر و هي الأجر ... و الحسبة: الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و اختلف في وجوبهما عينا أو كفاية.» «1»

أقول: و يحتمل أن تكون الحسبة من المحاسبة بمعنى مراقبة أحد الرجلين للآخر و حسابه عليه، و لعلّ منه أيضا الحسيب بمعنى المحاسب، قال اللّه- تعالى-: «وَ كَفىٰ بِاللّٰهِ حَسِيباً»* «2» هذا.

4- و في أول معالم القربة لابن الأخوة:

«الحسبة من قواعد الأمور الدينيّة. و قد كان أئمّة الصدر الأوّل يباشرونها بأنفسهم، لعموم صلاحها و جزيل ثوابها. و هي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه و نهى عن المنكر إذا ظهر فعله، و إصلاح بين الناس، قال اللّه- تعالى-: «لٰا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوٰاهُمْ إِلّٰا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلٰاحٍ بَيْنَ النّٰاسِ». و المحتسب: من نصبه الإمام أو نائبه للنظر في أحوال الرعيّة و الكشف عن أمورهم و مصالحهم (و بياعاتهم و مأكولاتهم و ملبوسهم و مشروبهم و مساكنهم و طرقاتهم و أمرهم بالمعروف و نهيهم عن المنكر خ. ل).

و من شرط المحتسب أن يكون مسلما حرّا بالغا عاقلا عدلا قادرا حتّى يخرج منه الصبيّ و المجنون و الكافر، و يدخل فيه آحاد الرعايا و إن لم يكونوا مأذونين، و يدخل فيه الفاسق و الرقيق و المرأة ... و أن يكون ذا رأي و صرامة و خشونة في الدّين، عارفا بأحكام الشريعة ليعلم ما يأمر به و ينهى عنه، فإنّ الحسن ما حسّنه الشّرع، و القبيح

ما قبّحه الشرع، لقوله «ص»: ما استحسنه المسلمون فهو حسن.» «3»

______________________________

(1)- مجمع البحرين/ 106.

(2)- سورة النساء (4)، الآية 6؛ و سورة الأحزاب (33)، الآية 39.

(3)- معالم القربة/ 7- 8. (ط. مصر/ 51).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 261

أقول: ما ذكره من قوله: «و يدخل فيه آحاد الرعايا ...» يريد به لا محالة من يتصدّى للحسبة تطوّعا، فلا يناقض ما قبله. و أمّا ما ذكره من مباشرة أئمّة الصدر الأوّل لأمر الحسبة فأمر يظهر لكلّ من راجع الأخبار و التواريخ، و سيأتي ذكر بعض مواردها.

5- و في التراتيب الإدارية للكتّاني عن التيسير لابن سعيد:

«اعلم أنّ الحسبة من أعظم الخطط الدينيّة، فلعموم مصلحتها و عظيم منفعتها تولّى أمرها الخلفاء الراشدون، لم يكلوا أمرها إلى غيرهم مع ما كانوا فيه من شغل الجهاد و تجهيز الجيوش للمكافحة و الجلاد.» «1»

6- و فيه أيضا عن كشف الظنون:

«علم الاحتساب علم باحث عن الأمور الجارية بين أهل البلد من معاملاتهم اللاتي لا يتمّ التمدّن بدونها من حيث إجرائها على القانون المعدّل بحيث يتمّ التراضي بين المتعاملين، و عن سياسة العباد بنهي المنكر و أمر بالمعروف بحيث لا يؤدّي إلى مشاجرات و تفاخر بين العباد بحيث ما رآه الخليفة من الزجر و المنع.

و مباديه بعضها فقهي و بعضها أمور استحسانية ناشئة من رأي الخليفة. و الغرض منه تحصيل الملكة في تلك الأمور. و فائدته إجراء أمور المدن في المجاري على الوجه الأتمّ.

و هذا أدقّ العلوم و لا يدركه إلّا من له فهم ثاقب و حدس صائب، إذ الأشخاص و الأزمان و الأحوال ليست على وتيرة واحدة، بل لا بدّ لكلّ واحد من الأزمان و الأحوال سياسة خاصّة،

و ذلك من أصعب الأمور، فلذلك لا يليق بمنصبها إلّا من له قوّة قدسيّة مجردة عن الهوى.» «2»

7- و قال القاضي أبو يعلى الفرّاء في الأحكام السلطانية في أحكام الحسبة:

«و الحسبة هي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، و نهى عن المنكر إذا ظهر فعله. و هذا

______________________________

(1)- التراتيب الإدارية 1/ 286.

(2)- التراتيب الإدارية 1/ 287.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 262

و إن صحّ من كلّ مسلم، فالفرق بين المحتسب و المتطوّع من تسعة أوجه:

أحدها: أنّ فرضه متعيّن على المحتسب بحكم الولاية، و فرضه على غيره داخل في فرض الكفاية.

الثاني: أنّ قيام المحتسب به من حقوق تصرّفه الذي لا يجوز أن يتشاغل عنه بغيره، و قيام المتطوّع به من النوافل الذي يجوز التشاغل عنه بغيره.

الثالث: أنّه منصوب للاستعداء إليه فيما يجب، و ليس المتطوّع منصوبا للاستعداء.

الرابع: أنّ على المحتسب إجابة من استعدى به، و ليس على المتطوّع إجابته.

الخامس: أنّ عليه أن يبحث عن المنكرات الظاهرة، ليصل إلى إنكارها.

و يفحص عمّا ترك من المعروف الظاهر ليأمر بإقامته، و ليس على غيره من المتطوّعة بحث و لا فحص.

السادس: أنّ له أن يتّخذ على الإنكار أعوانا، لأنّه عمل هو له منصوب و إليه مندوب ليكون له أقهر و عليه أقدر، و ليس لمتطوّع أن يندب لذلك أعوانا.

السابع: له أن يعزّر على المنكرات الظاهرة و لا يتجاوزها إلى الحدود، و ليس للمتطوّع أن يعزّر على منكر.

الثامن: أن له أن يرتزق من بيت المال على حسبته، و لا يجوز لمتطوّع أن يرتزق على إنكاره.

التاسع: أنّ له اجتهاد رأيه فيما تعلّق بالعرف دون الشرع، كالمقاعد في الأسواق، و إخراج الأجنحة، فيقرّ و ينكر من ذلك ما أدّاه

اجتهاده إليه، و ليس هذا للمتطوّع.

فيكون الفرق بين والي الحسبة و إن كانت أمرا بالمعروف و نهيا عن المنكر، و بين غيره من المتطوّعة، و إن جاز أن يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر من هذه الوجوه التسعة.

و من شروط والي الحسبة أن يكون خبيرا عدلا ذا رأي و صرامة و خشونة في الدين، و علم بالمنكرات الظاهرة. و هل يفتقر إلى أن يكون عالما من أهل الاجتهاد في أحكام الدين ليجتهد رأيه؟ يحتمل أن يكون من أهله، و يحتمل أن لا يكون ذلك

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 263

شرطا إذا كان عارفا بالمنكرات المتّفق عليها.» «1» و ذكر نحو ذلك أيضا الماوردي. «2»

أقول: و في بعض ما ذكراه من الفروق التسعة نظر بل منع و لا سيّما في الثاني و السادس، كما لا يخفى وجهه.

الجهة الحادية عشرة: في ذكر بعض الموارد التي تصدّى فيها رسول اللّه «ص» أو أمير المؤمنين «ع» لأمر الحسبة

أو أمرا بها:

1- سيأتي في فصل الاحتكار: «أنّ رسول اللّه «ص» مرّ بالمحتكرين فأمر بحكرتهم أن تخرج إلى بطون الأسواق و حيث تنظر الأبصار إليها.» «3»

2- و سيأتي أيضا في رواية حذيفة بن منصور: «أنّ رسول اللّه «ص» قال: يا فلان، إنّ المسلمين ذكروا أنّ الطعام قد نفد إلّا شي ء عندك فأخرجه و بعه كيف شئت.» «4»

3- و في خبر ابن أبي يعفور، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «جاء رجل إلى النبيّ «ص» فقال: يا رسول اللّه، إنّي سألت رجلا بوجه اللّه فضربني خمسة أسواط؟ فضربه النبيّ «ص» خمسة أسواط أخرى و قال: سل بوجهك اللئيم.» «5»

4- و في خبر سعد الإسكاف، عن أبي جعفر «ع»، قال: «مرّ النبيّ «ص» في سوق

______________________________

(1)- الأحكام السلطانية/ 284.

(2)- الأحكام السلطانية للماوردي/ 240.

(3)- الوسائل 12/

317، الباب 30 من أبواب التجارة، الحديث 1.

(4)- الوسائل 12/ 317، الباب 29 من أبواب آداب التجارة، الحديث 1.

(5)- الوسائل 18/ 577، الباب 2 من أبواب بقية الحدود و التعزيرات، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 264

المدينة بطعام فقال لصاحبه: ما أرى طعامك إلّا طيّبا، و سأله عن سعره، فأوحى اللّه- عزّ و جلّ- إليه أن يدسّ (يدير- يب) يده في الطعام ففعل فأخرج طعاما رديّا، فقال لصاحبه: «ما أراك إلّا و قد جمعت خيانة و غشّا للمسلمين.» «1»

5- و في سنن الترمذي بسنده عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه «ص» مرّ على صبرة من طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا فقال: «يا صاحب الطعام، ما هذا؟ قال:

أصابته السماء يا رسول اللّه، قال: «أ فلا جعلته فوق الطعام حتّى يراه الناس؟» ثمّ قال:

«من غشّ فليس منا.» «2»

6- و في سنن أبي داود بسنده عن أبي هريرة أن رسول اللّه «ص» مرّ برجل يبيع طعاما فسأله: «كيف تبيع؟» فأخبره، فأوحى اليه أن أن أدخل يدك فيه، فأدخل يده فيه فإذا هو مبلول، فقال رسول اللّه «ص»: «ليس منّا من غشّ.» «3»

7- و في كنز العمّال عن محمد بن راشد، قال: سمعت مكحولا يقول: مرّ رسول اللّه «ص» برجل يبيع طعاما قد خلط جيّدا بقبيح، فقال له النبيّ «ص»:

ما حملك على ما صنعت؟ فقال: أردت أن ينفق، فقال له النبيّ «ص»: «ميّز كلّ واحد منهما على حدة، ليس في ديننا غشّ.» (عب). «4»

8- و في صحيح البخاري بسنده عن ابن عمر: «إنّهم كانوا يشترون الطعام من الركبان على عهد النبيّ «ص» فيبعث عليهم من يمنعهم أن يبيعوه حيث اشتروه حتّى

ينقلوه حيث يباع الطعام.» «5»

9- و فيه أيضا بسنده عن سالم بن عبد اللّه، عن أبيه، قال: «رأيت الذين

______________________________

(1)- الوسائل 12/ 209- 210، الباب 86 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 8.

(2)- سنن الترمذي 2/ 389، أبواب البيوع، الباب 72، الحديث 1329.

(3)- سنن أبي داود 2/ 244، كتاب الإجارة، باب في النهي عن الغش.

(4)- كنز العمال 4/ 159، الباب 2 من كتاب البيوع من قسم الأفعال، الحديث 9974.

(5)- صحيح البخاري 2/ 14، كتاب البيوع، الباب 49 (باب ما ذكر في الأسواق).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 265

يشترون الطعام مجازفة يضربون على عهد رسول اللّه «ص» أن يبيعوه حتّى يؤووه إلى رحالهم.» «1»

و روى نحوه عن سالم عن ابن عمر أيضا «2».

10- و في التراتيب الإدارية للكتّاني عن ابن عبد البرّ في الاستيعاب: «استعمل رسول اللّه «ص» سعيد بن سعيد بن العاص بعد الفتح على سوق مكة.» «3»

11- و فيه أيضا عن الاستيعاب:

«سمراء بنت نهيك الأسدية أدركت النبيّ «ص» و عمّرت و كانت تمرّ في الأسواق تأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر و تنهى الناس عن ذلك بسوط معها.» «4»

أقول: قد يقال: إن حسبتها لم تكن على عهد رسول اللّه «ص» بل في عهد عمر، و عن القاضي ابن سعيد: إنّ ولايتها كانت في أمر خاصّ يتعلّق بأمر النساء.

12- و في كنز العمّال عن أبي سعيد، قال: مرّ النبيّ «ص» بسلّاخ و هو يسلخ شاة و هو ينفخ فيها فقال: «ليس منّا من غشّنا و دحس بين جلدها و لحمها و لم يمسّ ماء.» (كر) «5»

أقول: دحس القصاب: أدخل يده بين الجلد و الصفاق للسلخ.

13- و فيه أيضا عن كليب

بن وائل الأزدي، قال: رأيت علي بن أبي طالب مرّ بالقصّابين فقال: «يا معشر القصّابين، لا تنفخوا، فمن نفخ اللحم فليس منّا.» (عب) «6»

14- و أمر أمير المؤمنين «ع» مالكا بمنع التجار من الاحتكار و معاقبة من قارف الحكرة بعد نهيه. «7»

______________________________

(1)- صحيح البخاري 2/ 15، كتاب البيوع، الباب 54 (باب ما يذكر في بيع الطعام و الحكرة).

(2)- صحيح البخاري 2/ 16، كتاب البيوع، الباب 56 (باب من رأى إذا اشترى طعاما جزافا ...).

(3)- التراتيب الإدارية 1/ 285.

(4)- التراتيب الإدارية 1/ 285.

(5)- كنز العمال 4/ 158، الباب 2 من كتاب البيوع من قسم الأفعال، الحديث 9972.

(6)- كنز العمال 4/ 158، الباب 2 من كتاب البيوع من قسم الأفعال، الحديث 9969.

(7)- نهج البلاغة، فيض/ 1017؛ عبده 3/ 110؛ لح/ 438، الكتاب 53.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 266

15- و أمر «ع» رفاعة قاضيه على الأهواز بالنهي عن الاحتكار و أنّه من ركبه فأوجعه و عاقبه بإظهار ما احتكر «1».

16- و في المحلّى لابن حزم عن حبيش قال: «أحرق لي علي بن أبي طالب «ع» بيادر بالسواد كنت احتكرتها لو تركها لربحت فيها مثل عطاء الكوفة.» «2»

17- و فيه أيضا بسنده عن أبي الحكم: «أنّ علي بن أبي طالب «ع» أحرق طعاما احتكر بمائة ألف.» «3»

18- و في خبر حبابة الوالبيّة، قالت: «رأيت أمير المؤمنين «ع» في شرطة الخميس و معه درّة لها سبابتان يضرب بها بيّاعي الجرّي و المارماهي و الزمّار.» «4»

19- و في خبر رزين، قال: «كنت أتوضّأ في ميضأة الكوفة فإذا رجل قد جاء فوضع نعليه و وضع درّته فوقها، ثم دنا فتوضّأ معي، فزحمته حتّى وقع على يديه،

فقام فتوضّأ فلمّا فرغ ضرب رأسي بالدرّة- ثلاثا- ثمّ قال: إيّاك أن تدفع فتكسر فتغرم. فقلت: من هذا؟ فقالوا: أمير المؤمنين، فذهبت أعتذر إليه فمضى و لم يلتفت إليّ.» «5»

20- و في خبر طلحة بن زيد، عن أبي عبد اللّه «ع»: «أنّ أمير المؤمنين «ع» أتى برجل عبث بذكره فضرب يده حتّى احمرّت ثمّ زوجه من بيت المال.» «6»

21- و في خبر زرارة، عن أبي جعفر «ع»، قال: «إنّ عليا «ع» أتى برجل عبث

______________________________

(1)- دعائم الإسلام 2/ 36، كتاب البيوع، الفصل 6 (ذكر ما نهي عنه في البيوع)، الحديث 80.

(2)- المحلّى 6/ 65، (الجزء 9)، المسألة 1567.

(3)- المحلّى 6/ 65، (الجزء 9)، المسألة 1567.

(4)- الوسائل 16/ 332، الباب 9 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 3.

(5)- الوسائل 18/ 583، الباب 9 من أبواب بقية الحدود و التعزيرات، الحديث 1.

(6)- الوسائل 18/ 574، الباب 3 من أبواب نكاح البهائم و ...، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 267

بذكره حتى أنزل فضرب يده حتّى احمرت. قال: و لا أعلمه إلّا قال: «و زوّجه من بيت مال المسلمين.» «1»

22- و في صحيحة هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه «ع»: «أنّ أمير المؤمنين «ع» رأى قاصّا في المسجد فضربه بالدرّة و طرده.» «2»

23- و في خبر السكوني، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «أتي أمير المؤمنين «ع» برجل نصراني كان أسلم و معه خنزير قد شواه و أدرجه بريحان. قال: ما حملك على هذا؟ قال الرجل:

مرضت فقرمت إلى اللحم. فقال: أين أنت عن لحم الماعز فكان خلفا منه، ثمّ قال: لو أنّك أكلته لا قمت عليك الحدّ و لكنّي سأضربك ضربا فلا

تعد، فضربه حتّى شغر ببوله.» «3»

أقول: قرم إلى اللحم: اشتدت شهوته له حتّى لا يصبر عنه. و شغر الكلب: رفع إحدى رجليه ليبول.

24- و في خبر السكوني أيضا، عن أبي عبد اللّه «ع»: «أنّ أمير المؤمنين «ع» ألقى صبيان الكتّاب ألواحهم بين يديه ليخير بينهم، فقال: أمّا إنّها حكومة، و الجور فيها كالجور في الحكم، أبلغوا معلّمكم إن ضربكم فوق ثلاث ضربات في الأدب اقتصّ منه.» «4»

25- و عن الكليني و الشيخ بسندهما عن جابر، عن أبي جعفر «ع» قال: «كان أمير المؤمنين «ع» عندكم بالكوفة يغتدي كلّ يوم بكرة من القصر فيطوف في أسواق الكوفة سوقا سوقا، و معه الدرّة على عاتقه، و كان لها طرفان، و كانت تسمّى السبيبة فيقف على أهل كلّ سوق فينادي: يا معشر التجار، اتقوا اللّه، فإذا سمعوا صوته ألقوا ما بأيديهم و أرعوا إليه بقلوبهم و سمعوا بآذانهم فيقول: قدّموا الاستخارة، و تبرّكوا بالسهولة، و اقتربوا من المبتاعين، و تزيّنوا بالحلم، و تناهوا عن اليمين، و جانبوا الكذب، و تجافوا عن الظلم، و أنصفوا المظلومين، و لا تقربوا الربا، وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 575، الباب 3 من أبواب نكاح البهائم و ...، الحديث 2.

(2)- الوسائل 18/ 578، الباب 4 من أبواب بقية الحدود و التعزيرات، الحديث 1.

(3)- الوسائل 18/ 580، الباب 7 من أبواب بقية الحدود و التعزيرات، الحديث 1.

(4)- الوسائل 18/ 582، الباب 8 من أبواب بقية الحدود و التعزيرات، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 268

وَ الْمِيزٰانَ، وَ لٰا تَبْخَسُوا النّٰاسَ أَشْيٰاءَهُمْ وَ لٰا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. فيطوف في جميع أسواق الكوفة ثمّ يرجع فيقعد للناس.»

و عن

الصدوق بسنده عن محمد بن قيس عن أبي جعفر «ع» نحوه «1»

أقول: في حاشية فروع الكافي أنّ السبيبة بمعنى الشقّ، إذ كانت لدرّته «ع» سبابتان «2». و قوله: «و أرعوا إليه بقلوبهم.» من قولهم: «أرعيته سمعي»، أي أصغيت إليه.

26- و في الغارات بسنده عن أبي سعيد، قال: كان عليّ «ع» يأتي السوق فيقول: يا أهل السوق، اتقوا اللّه. و إيّاكم و الحلف، فإنّه ينفق السلعة و يمحق البركة فإنّ التاجر فاجر إلّا من أخذ الحقّ و أعطاه، السلام عليكم. ثمّ يمكث الأيّام ثمّ يأتي فيقول مثل مقالته فكان إذا جاء قالوا: قد جاء المردشكنبه فكان يرجع إلى سرّته فيقول: «إذا جئت قالوا: قد جاء المردشكنبه فما يعنون بذلك؟» قال: يقولون: قد جاء عظيم البطن، فيقول «ع»: «أسفله طعام و أعلاه علم.» و رواه عنه في المستدرك «3».

27- و في دعائم الإسلام عن علي «ع» أنّه كان يمشي في الأسواق و بيده درّة يضرب بها من وجد من مطفّف أو غاش في تجارة المسلمين. قال الأصبغ: قلت له يوما: أنا أكفيك هذا يا أمير المؤمنين و اجلس في بيتك. قال: ما نصحتني يا أصبغ.

و كان يركب بغلة رسول اللّه «ص» الشهباء و يطوف في الأسواق سوقا سوقا فأتى يوما طاق اللحّامين فقال: يا معشر القصّابين، لا تعجّلوا الأنفس قبل أن تزهق، و إيّاكم و النفخ في اللحم. ثمّ أتى إلى التمّارين فقال: أظهروا من رديّ بيعكم ما تظهرون من جيّده. ثم أتى السماكين، فقال: لا تبيعوا إلّا طيّبا و إيّاكم و ما طفا. ثمّ أتى الكناسة و فيها من أنواع التجارة من نخّاس و قمّاط و بائع إبل و صيرفيّ و بزّاز و خيّاط فنادى بأعلى

صوت: يا معشر التجّار، إنّ أسواقكم هذه تحضرها الإيمان فشربوا إيمانكم بالصدقة، و كفّوا عن الحلف فإنّ اللّه

______________________________

(1)- الوسائل 12/ 284، الباب 2 من أبواب آداب التجارة، الحديث 1.

(2)- الكافي 5/ 151، كتاب المعيشة، باب آداب التجارة.

(3)- الغارات 1/ 110؛ و رواه في المستدرك 2/ 463، الباب 3 من أبواب آداب التجارة، الحديث 4.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 269

- تبارك و تعالى- لا يقدّس من حلف باسمه كاذبا. «1»

28- و عن الصدوق بإسناده إلى قضايا أمير المؤمنين «ع» أنّ رجلا قال له: إنّ هذا زعم أنّه احتلم بأمّي. فقال «ع»: إنّ الحلم بمنزلة الظلّ، فإن شئت جلدت لك ظلّه.

ثمّ قال: لكنّي أؤدّبه لئلا يعود يؤذي المسلمين. «2»

و في صحيحة الحسين بن ابي العلاء، عن أبي عبد اللّه «ع» نحوه، و قال: «فضربه ضربا وجيعا.» «3»

29- و في التراتيب الإدارية للكتّاني عن عبد بن حميد في مسنده، عن مطرف، قال: «خرجت من المسجد فإذا رجل ينادي من خلفي: ارفع إزارك، فإنّه أنقى لثوبك و أبقى له. فمشيت خلفه و هو بين يديّ مؤتزر بإزار، مرتد برداء و معه الدرة كأنّه أعرابي بدويّ، فقلت: من هذا؟ فقال لي رجل: هذا علي بن أبي طالب أمير المؤمنين «ع».

حتّى انتهى إلى الإبل فقال: بيعوا و لا تحلفوا، فإنّ اليمين تنفق السلعة و تمحق البركة. ثمّ أتى إلى أصحاب التمر فإذا خادم يبكى فقال: ما يبكيك؟ قال: باعني هذا الرجل تمرا بدرهم فردّه عليّ مولاي. فقال له عليّ «ع»: خذ تمرك و أعطه درهمه، فإنّه ليس له من الأمر شي ء، فدفعه.» «4»

و روى نحوه ابن عساكر في تاريخه عن أبي المطر. و في

كنز العمال أيضا عن مسند علي «ع»، عن أبي مطر نحوه، فراجع «5».

إلى غير ذلك من الروايات الواردة في هذا المجال ممّا يعثر عليها المتتبّع.

أقول: و ليس مقتضى نقلنا لهذه الروايات الكثيرة الالتزام بصحّة الجميع و جواز

______________________________

(1)- دعائم الإسلام 2/ 538، كتاب آداب القضاة، الحديث 1613.

(2)- الوسائل 18/ 458، الباب 24 من أبواب حد القذف، الحديث 2.

(3)- الوسائل 18/ 458، الباب 24 من أبواب حد القذف، الحديث 1.

(4)- التراتيب الإدارية 1/ 289.

(5)- تاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام علي بن أبي طالب 3/ 194؛ و كنز العمال 13/ 183، باب فضائل الصحابة من كتاب الفضائل من قسم الأفعال، الحديث 36547.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 270

الاعتماد على كلّ واحدة منها بانفرادها، بل الغرض هو إثبات اهتمام النبيّ «ص» و أمير المؤمنين «ع» بأمر الحسبة إجمالا، بحيث كانا بأنفسهما يتصدّيان لها. و الظاهر تحقّق الوثوق بصدور بعض هذه الروايات إجمالا، و هذا يكفينا في مقام الاستدلال، فتدبّر.

الجهة الثانية عشرة: في وظيفة المحتسب:

اشارة

وظيفة المحتسب إجمالا هي نشر المعروف و بسطه في المجتمع، و دفع المنكر و المكروه عنه.

[المراد بالمعروف في هذا الباب]

و الظاهر أنّ المراد بالمعروف في هذا الباب مطلق ما يستحسنه العقل أو الشرع من الواجب و المندوب بل و بعض المباحات الراجحة لجهة من الجهات الراجعة إلى مصالح المجتمع. و المراد بالمنكر مطلق ما يستنكره العقل أو الشرع، محرّما كان أو مكروها أو مباحا له حزازة عرفية لجهة من الجهات، إذ ربّ أمر لا يكون بالذات محرّما و لكن مصالح المجتمع و البلاد تقتضي تحديد حرّيات الأفراد بالنسبة إليه، كما لا يخفى على أهله.

قال المحقّق في الشرائع:

«و المعروف ينقسم إلى الواجب و الندب. فالأمر بالواجب واجب، و بالمندوب مندوب. و المنكر لا ينقسم. فالنهي عنه كله واجب.» «1»

قال في الجواهر:

«و كأنّه اصطلاح، و إلّا فيمكن قسمته إليهما أيضا على معنى وجوب النهي عن الحرام و استحباب النهي عن المكروه.» «2»

______________________________

(1)- الشرائع 1/ 341.

(2)- الجواهر 21/ 365.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 271

أقول: و ما ذكره صحيح، و لذا قال ابن حمزة في الوسيلة:

«و الأمر بالمعروف يتبع المعروف في الوجوب و الندب، و النهي عن المنكر يتبع المنكر فإن كان المنكر محظورا كان النهي عنه واجبا و إن كان مكروها كان النهي عنه مندوبا.» «1»

[كلام ابن خلدون في وظائف المحتسب]

و كيف كان: فلنتعرض في المقام لبعض الكلمات المتعرضة لوظائف المحتسب:

ففي مقدّمة ابن خلدون في فصل الخطط الدينيّة الخلافيّة:

«أمّا الحسبة فهي وظيفة دينيّة من باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر الذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين، يعيّن لذلك من يراه أهلا له فيتعيّن فرضه عليه، و يتّخذ الأعوان على ذلك، و يبحث عن المنكرات، و يعزّر و يؤدّب على قدرها، و يحمل الناس على المصالح العامّة في المدينة مثل المنع من المضايقة في

الطّرقات و منع الحمّالين و أهل السفن من الإكثار في الحمل، و الحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها، و إزالة ما يتوقّع من ضررها على السابلة، و الضرب على أيدي المعلّمين في المكاتب و غيرها في الإبلاغ في ضربهم للصبيان المتعلّمين.

و لا يتوقّف حكمه على تنازع أو استعداء، بل له النظر و الحكم فيما يصل إلى علمه من ذلك و يرفع إليه، و ليس له إمضاء الحكم في الدعاوى مطلقا بل فيما يتعلّق بالغشّ و التدليس في المعايش و غيرها و في المكاييل و الموازين. و له أيضا حمل المماطلين على الإنصاف و أمثال ذلك ممّا ليس فيه سماع بيّنة و لا إنفاذ حكم.

و كأنّها أحكام ينزه القاضي عنها لعمومها و سهولة أغراضها فتدفع إلى صاحب هذه الوظيفة ليقوم بها، فوضعها على ذلك أن تكون خادمة لمنصب القضاء.» «2»

هذا.

______________________________

(1)- الجوامع الفقهية/ 733.

(2)- المقدمة/ 158، الفصل 32 من الفصل 3 من الكتاب الأوّل (طبعة أخرى/ 225، الفصل 31).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 272

[خلاصة كتاب ابن الأخوة محمد بن محمد بن أحمد القرشي «معالم القربة في أحكام الحسبة»]
اشارة

أقول: و ابن الأخوة محمد بن محمد بن أحمد القرشي- المتوفى 729 ه- قد ألّف كتابا جامعا في الحسبة سمّاه «معالم القربة في أحكام الحسبة» و عقد فيه أبوابا و فصولا كثيرة عدد أبوابه سبعون بابا، و فصّل فيها وظائف المحتسب في المجالات المختلفة.

فلنذكر بعض ما ذكره إجمالا تلخيصا من كتابه، لاشتماله على ما يعمّ نفعه و يكثر الابتلاء به، و إن كان للبحث و الإشكال في بعض ما ذكره مجال واسع كما لا يخفى على أهله. و أوصي الفضلاء بمطالعة هذا الكتاب، فإنّه كتاب وزين في موضوعه «1».

[في وجوب الأمر بالمعروف]

1- قال في الباب الثاني منه ما ملخّصه:

«أمّا بعد فإنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، و هو المهمّ الذي ابتعث اللّه به النبيّين أجمعين. و لو طوى بساطه و أهمل عمله و علمه لتعطّلت النبوّة و اضمحلّت الديانة و عمّت الفترة و فشت الضلالة و شاعت الجهالة و انتشر الفساد و اتّسع الخرق و خربت البلاد و هلك العباد ... فمن سعى في تلافي هذه الفترة و سدّ هذه الثلمة إمّا متكلّفا بعلمها أو متقلّدا لتنفيذها مجردا عزيمته لهذه السنّة الداثرة ناهضا باعتنائها و مشمّرا في إحيائها، كان مستأثرا من بين الناس باحتسابه و مستندا بقربة ينال بها درجات القرب.

و أمّا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فقد وردت فيه فضائل كثيرة: قال اللّه- تعالى-: «وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.» و قال اللّه- تعالى- «وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنٰاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلٰاةَ.» ...

و أمّا الأخبار فيها فما رواه الحسن

عن النبيّ «ص»: «من أمر بالمعروف و نهى عن المنكر فهو خليفة اللّه في أرضه و خليفة رسوله و خليفة كتابه.» و عن درّة بنت أبي لهب، قالت: جاء رجل إلى النبيّ «ص» و هو على المنبر فقال: من خير الناس

______________________________

(1)- و حيث يوجد اختلاف بين النسختين الموجودتين عندنا من الكتاب، نشير ذيل الصفحات إلى طبعتيه- طبعة دار الفنون بكيمبرج (ليدن)، و طبعة مصر-.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 273

يا رسول اللّه؟ قال: «آمرهم بالمعروف و أنهاهم عن المنكر و أتقاهم للّه و أوصلهم.» ...

و روى عن أبى ثعلبة أنّه سأل رسول اللّه «ص» عن تفسير قوله- تعالى-: «لٰا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ، فقال: يا أبا ثعلبة، مر بالمعروف و انه عن المنكر، فإذا رأيت شحّا مطاعا و هوى متّبعا و دنيا مؤثّرة و إعجاب كلّ ذي رأي برأيه فعليك بنفسك و دع العوامّ.

الحديث.» «1»

و عن ابن عباس قال: قلنا: يا رسول اللّه، إنّك لتأمرنا بالمعروف حتّى لا يبقى من المعروف شي ء إلّا عملنا به، و تنهانا عن المنكر حتّى لا يبقى من المنكر شي ء إلّا انتهينا عنه، لم نأمر بالمعروف؟ و لم ننهى عن المنكر؟ فقال «ص»: «مروا بالمعروف و إن لم تعملوا به كلّه و انهوا عن المنكر و إن لم تنتهوا عنه كلّه.» و قال علي بن أبي طالب «ع»: «أفضل الجهاد الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. فمن أمر بالمعروف شدّ ظهر المؤمنين، و من نهى عن المنكر أرغم أنف المنافقين.» ...

و قال النبي «ص»: «لا يأمر بالمعروف و لا ينهى عن المنكر إلّا رفيق فيما يأمر به، رفيق فيما ينهى عنه، حكيم فيما

يأمر به، حكيم فيما ينهى عنه، فقيه فيما يأمر به، فقيه فيما ينهى عنه.»

و هذا يدلّ على أنّه لا يشترط أن يكون فقيها مطلقا بل فيما يأمر به.

و أوصى بعض السلف بنيه و قال: إذا أراد أحدكم أن يأمر بالمعروف فليوطّن نفسه على الصبر و ليثق بالثواب من اللّه، فمن وثق بالثواب لم يجد مسّ الأذى.

فأدب من آداب الحسبة توطين النفس على الصبر، و لذلك قرن اللّه به الصبر حاكيا عن لقمان: «يٰا بُنَيَّ، أَقِمِ الصَّلٰاةَ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَ اصْبِرْ عَلىٰ مٰا أَصٰابَكَ، إِنَّ ذٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ.»

و قال رسول اللّه «ص»: «ما من عين رأت منكرا و معصية للّه فلم تغيّره إلّا أبكاها اللّه يوم القيامة و ان كان وليّا للّه.»

و قال رسول اللّه «ص»: «من رأى منكرا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه و هو أضعف الإيمان.»

______________________________

(1)- إحياء العلوم 2/ 308؛ و روى نحوه في الدر المنثور 2/ 339.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 274

و قال الحسن البصري: قال رسول اللّه «ص»: «أفضل شهداء أمّتي رجل قام إلى إمام جائر فأمره بالمعروف و نهاه عن المنكر فقتله على ذلك، فذلك الشهيد منزلته في الجنّة بين حمزة و جعفر.» «1»

[سيرة العلماء الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر]

2- و كانت سيرة العلماء و عاداتهم الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و قلّة المبالاة بسطوة الملوك، لكنّهم اتّكلوا على فضل اللّه أن يحرسهم و رضوا بحكم اللّه أن يرزقهم الشهادة، فلمّا أخلصوا للّه النيّة أثّر كلامهم في القلوب القاسية، و أمّا الآن فقد استولى عليهم حبّ الدنيا، و من استولى عليه حبّ الدنيا لم

يقدر على الحسبة على الأراذل فكيف على الملوك و الأكابر، و كانت من عادات السلف الحسبة على الولاة ...

و عن سفيان الثوري قال: «حجّ المهدي فرأيته يرمي جمرة العقبة و الناس محيطون به يمينا و شمالا يضربون الناس بالسياط فوقفت فقلت يا حسن الوجه، حدثنا أيمن بن نابل عن قدامة، قال: رأيت رسول اللّه «ص» يرمي جمرة يوم النحر على جمل لا ضرب و لا طرد و لا جلد و لا إليك إليك. و ها أنت يخبط الناس بين يديك يمينا و شمالا.» ...

و قال أبو الدرداء: «إذا كان الرجل محبّبا في جيرانه، محمودا عند إخوانه فاعلم أنّه مداهن.» «2»

[معنى المعروف]

3- و قال بعض العلماء: المعروف كلّ فعل أو قول أو قصد حسن شرعا، و المنكر كلّ فعل أو قول أو قصد قبح شرعا. و الإنكار في ترك الواجب و فعل الحرام واجب، و في ترك المندوب و فعل المكروه مندوب. و الإنكار باليد إن أمكن و إلّا باللسان و إلّا بالقلب. و على الناس و الولاة فعل ذلك و إعانة من يفعله و تقويته فإنّه حفظ الدين، و يجب الإنكار على من ترك الإنكار الواجب. و يبدأ في الإنكار بالأسهل، فإن زال و إلّا أغلظ، فإن زال و إلّا رفعه إلى الإمام. و لا ينكر على غير مكلّف إلّا

______________________________

(1)- معالم القربة/ 15 (ط. مصر/ 61).

(2)- معالم القربة/ 20 (ط. مصر/ 70).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 275

تأديبا و زجرا و لا على ذمّي لا يجهر بالمنكر. «1»

[الأمر بالمعروف ينقسم إلى ثلاثة أقسام]
اشارة

4- و أمّا الأمر بالمعروف فينقسم إلى ثلاثة أقسام:

أحدها: ما تعلّق بحقوق اللّه. و الثاني: ما تعلّق بحقوق الآدميّين. و الثالث: ما كان مشتركا بينهما.

و أمّا المتعلّق بحقوق اللّه- تعالى- فضربان:
أحدهما ما يلزم الأمر به في الجماعة دون الانفراد

كترك الجمعة في وطن مسكون، فإن كانوا عددا قد اتّفق على انعقاد الجمعة بهم كالأربعين فما زاد فواجب أن يأخذهم بإقامتها و يأمرهم بفعلها، و يؤدّب على الإخلال بها ...

فأمّا صلاة الجماعة في المساجد و إقامة الأذان فيها للصلوات فمن شعائر الإسلام و علامات متعبّداته التي فرّق النبيّ «ص» (بها خ. ل) بين دار الإسلام و دار الشرك، فإذا اجتمع أهل محلّة أو بلد على تعطيل الجماعات في مساجدهم و ترك الأذان في أوقات الصلوات كان المحتسب مندوبا إلى أمرهم بالأذان و الجماعة في الصلوات ... فأمّا من ترك صلاة الجماعة من آحاد الناس أو ترك الأذان و الإقامة لصلاته فلا اعتراض للمحتسب عليه إذا لم يجعله عادة لأنّها من الندب الذي يسقط بالأعذار إلّا أن يقترن بها استرابة أو يجعله إلفا و عادة و يخاف تعدّي ذلك إلى غيره في الاقتداء، فمراعاة حكم المصلحة في زجره عمّا استهان به من سنن عبادته و يكون وعيده على ترك الجماعة معتبرا بشواهد حاله، كالذي روى عن النبيّ «ص» أنّه قال: «لقد هممت أن آمر أصحابي أن يجمعوا حطبا و آمر بالصلاة فيؤذّن لها و تقام ثمّ أخالف إلى منازل قوم لا يحضرون الصلاة فأحرقها عليهم.» «2»

5- و أمّا ما يؤمر به آحاد الناس و أفرادهم

فكتأخير الصلاة حتّى يخرج وقتها فيذكر بها و يؤمر بفعلها و يراعى جوابه عنها فإن قال: تركتها للنسيان حثّه على فعلها بعد ذكره و لم يؤدبه، و إن تركها لتوان و اهوان أدّبه زجرا و أخذه بفعلها جبرا، و لا اعتراض على

______________________________

(1)- معالم القربة/ 22 (ط. مصر/ 72).

(2)- معالم القربة/ 22 (ط. مصر/ 73).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 276

من أخّرها و الوقت باق

... «1»

6- و أمّا الأمر بالمعروف في حقوق الآدميّين فضربان: عامّ و خاصّ.
فأمّا العامّ

فكالبلد إذا تعطّل سربه و استهدم سوره، و كذلك لو استهدم مساجدهم و جوامعهم، فأمّا إذا أعوز بيت المال كان الأمر ببناء سورهم و إصلاح سربهم و عمارة مساجدهم و جوامعهم متوجّها إلى كافّة ذوي المكنة منهم و لا يتعيّن أحدهم في الأمر به، فإن شرع ذووا المكنة في عمله و باشروا القيام به سقط عن المحتسب حقّ الأمر به.

و أمّا الخاصّ

كالحقوق إذا بطلت (مطلت خ. ل) و الديون إذا أخّرت فللمحتسب أن يأمر بالخروج منها مع المكنة إذا استعداه أصحاب الحقوق ... «2»

7- و أمّا الأمر بالمعروف فيما كان مشتركا بين حقوق اللّه- تعالى- و حقوق الآدميّين

فكأخذ الأولياء بنكاح الأيامى من أكفائهنّ إذا طلبن، و إلزام النساء أحكام العدد إذا فورقن، و له تأديب من خالف في العدّة من النساء، و ليس له تأديب من امتنع من الأولياء، و من نفى ولدا قد ثبت فراش أمّه و لحوق نسبه أخذه بأحكام الآباء جبرا و عزّره على النفي أدبا. و يأخذ السادة بحقوق العبيد و الإماء: نفقتهم و كسوتهم لقوله «ص»: للمملوك طعامه و كسوته بالمعروف. و أن لا يكلّفوا من العمل ما لا يطيقون ...

و من ملك بهيمة وجب عليه القيام بعلفها و لا يحمل عليها ما يضرّها كما في العبد و لا يحلب من لبنها إلّا ما فضل عن ولدها لأنّه خلق غذاء للولد فلا يجوز منعه منه.

و إن امتنع من الإنفاق عليها أجبر على ذلك ... «3»

8- و أمّا النهي عن المنكرات فينقسم أيضا على ثلاثة أقسام:
اشارة

أحدها: ما كان من حقوق اللّه- تعالى- و الثاني: ما كان من حقوق الآدميّين.

و الثالث: ما كان مشتركا بين الحقّين.

فأمّا النهي عنها في حقوق اللّه- تعالى- فعلى ثلاثة أقسام:
اشارة

______________________________

(1)- معالم القربة/ 24 (ط. مصر/ 75).

(2)- معالم القربة/ 26 (ط. مصر/ 76).

(3)- معالم القربة/ 26 (ط. مصر/ 77).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 277

أحدها: ما تعلّق بالعبادات. و الثاني: ما تعلّق بالمحظورات. و الثالث: ما تعلّق بالمعاملات.

فأمّا المتعلّق بالعبادات

فكالقاصد مخالفة هيئات الصلاة ... فللمحتسب إنكارها و تأديب العامل فيها و كذلك إذا أخلّ بتطهير جسده أو ثوبه أو موضع صلاته أنكر عليه إذا تحقّق ذلك منه، و لا يؤاخذه بالتهم و الظنون ... لكن يجوز له بالتهم أن يعظ و يحذّر من عذاب اللّه- تعالى- على إسقاط حقوقه و الإخلال بمفروضاته. فإن رآه يأكل في شهر رمضان لم يقدم على تأديبه إلّا بعد سؤاله عن سبب أكله إذا التبست عليه أحواله فربّما كان مريضا أو مسافرا، و يلزمه السؤال إذا ظهرت أمارات الريب، فإن ذكر في الأعذار ما يحمل حاله صدّقه و كفّ عن زجره و أمره بإخفاء أكله لئلّا يعرّض نفسه لتهمة، و لا يلزمه إحلافه عند الاسترابة بقوله لأنّه موكول الى امانته، و إن لم يكن له عذر جاهر بالإنكار عليه و ردعه و أدّبه عليه تأديب زجر ... «1»

9- فإن رأى المحتسب رجلا يتعرّض لمسألة الناس و طلب الصدقة و علم أنّه غني إمّا بمال أو عمل أنكره عليه و أدّبه فيه و كان المحتسب أخصّ بالإنكار من غيره فقد فعل عمر مثل ذلك في قوم من أهل الصدقة ... «2»

10- و هكذا لو ابتدع بعض المنتسبين إلى العلم قولا خرق الإجماع و خالف فيه النصّ و ردّ قوله علماء عصره أنكر عليه و زجره عنه، فإن أقلع و تاب و إلّا فالسلطان بتهذيب الدين أحقّ.

و إذا

تعرّض بعض المفسّرين لكتاب اللّه- تعالى- بتأويل عدل فيه عن ظاهر التنزيل إلى باطن بدعة يتكلّف له إغماض (أغمض خ. ل) معانيه أو انفرد بعض الرواة بأحاديث مناكير تنفر منها النفوس أو يفسد بها التأويل كان على المحتسب إنكار ذلك و المنع منه، و هذا إنّما يصحّ منه إنكاره إذا تميّز عنده الصحيح من الفاسد و الحقّ من الباطل ...

______________________________

(1)- معالم القربة/ 27 (ط. مصر/ 78).

(2)- معالم القربة/ 29 (ط. مصر/ 79).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 278

و المحتسب الجاهل إن خاض فيما لا يعلمه كان ما يفسده أكثر ممّا يصلحه، و لهذا قالوا: العاميّ لا يحتسب إلّا في الجليّات ... «1»

11- و أمّا ما تعلّق بالمحظورات
[منع الناس من مواقف الريب و مظانّ التّهم]

فهو أن يمنع الناس من مواقف الريب و مظانّ التّهم، فقد قال «ص»: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك.» فيقدّم الإنذار، و لا يعجّل بالتأديب قبل الإنذار.

حكى إبراهيم النخعي أنّ عمر بن الخطاب نهى الرجال أن يطوفوا مع النساء، فرأى رجلا يصلّي مع النساء فضربه بالدرّة، فقال له الرجل: و اللّه لئن كنت أحسنت لقد ظلمتني، و لئن كنت أسأت فما أعلمتني. فقال عمر: أ ما شهدت عزيمتي؟ قال: ما شهدت لك عزمة، فألقى إليه الدرّة و قال: اقتصّ. قال: لا أقتصّ اليوم، قال: فاعف. قال: لا أعفو، فافترقا على ذلك ثمّ لقيه من الغد فتغيّر لون عمر ...

و اذا رأى وقفة رجل مع امرأة في طريق سابل لم تظهر منهما أمارات الريب لم يتعرّض عليهما بزجر و لا إنكار، فما يجد الناس بدّا من هذا. و إن كانت الوقفة في طريق خال فخلوا بمكان ريبة فينكر على هؤلاء، و لا يعجّل في التأديب عليهما حذرا من

أن تكون ذات محرم، و ليقل إن كانت ذات محرم فصنها عن مواقف الريب و إن كانت أجنبية فخف اللّه- تعالى- من خلوة تؤديك إلى معصية اللّه- تعالى- ...

و يلزم المحتسب أن يتفقّد المواضع التي يجتمع فيها النسوان مثل سوق الغزل و الكتان و شطوط الأنهار و أبواب حمامات النساء و غير ذلك، فإن رأى شابّا متعرّضا بامرأة و يكلّمها في غير معاملة في البيع و الشراء أو ينظر إليها عزّره و منعه من الوقوف هناك، فكثير من الشباب المفسدين يقفون في هذه المواضع و ليس لهم حاجة غير التلاعب على النسوان، فمن وقف من الشباب في طريقهنّ بغير حاجة عزّره على ذلك «2».

______________________________

(1)- معالم القربة/ 29 (ط. مصر/ 79).

(2)- معالم القربة/ 30 (ط. مصر/ 80).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 279

[في إظهار الخمر]

12- و قال في الباب الثالث من الكتاب ما ملخّصه:

«و إذا جاهر رجل بإظهار الخمر فإن كان مسلما أراقها و أدّبه، و إن كان ذميّا أدّب على إظهارها، و اختلف الفقهاء في إراقتها عليه ... و روي عن عمر أنّه قال على منبر رسول اللّه «ص»: أيّها الناس، إنّه نزل تحريم الخمر و هي من خمس: العنب و التمر و البرّ و الشعير و الزبيب. و الخمر ما خامر العقل، أي غطّاه. و قد لعن رسول اللّه «ص» في الخمر عشرة، قال العلماء: أدخل فيه بيع العصير ممّن يتّخذ الخمر. قال الشافعي: أكره ذلك. و لا شكّ أنّه إعانة على المعصية يضاهيه بيع السلاح من قطّاع الطريق و بيع السلاح من أهل الحرب ...

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر

تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 2، ص: 279

و من شرب المسكر و هو بالغ عاقل مسلم مختار وجب عليه الحد ... و لا حدّ على الحربي و المجنون و الصّبيّ، و لا يجب على الذمّي، لأنّه لا يعتقد تحريمه، و لا يجب على المكره ...

[إظهار الملاهي المحرّمة]

فأمّا المجاهرة بإظهار الملاهي المحرّمة مثل الزمر و الطنبور و العود و الصنج و ما أشبه ذلك من آلات الملاهي فعلى المحتسب أن يفصلها حتّى تصير خشبا يصلح لغير الملاهي و يؤدّب على المجاهرة عليها و لا يكسرها إن كان خشبها يصلح لغير الملاهي، فإن لم يصلح لغير الملاهي كسرها ...

و إن كان الرضاض يعدّ مالا ففي جواز بيعها قبل الرضّ وجهان ... و يجي ء الوجهان في الأصنام و الصور المتّخذة من الذهب و الخشب و غيرهما ...

و أمّا آلة اللعب التي ليس يقصد بها المعاصي و إنّما يقصد بها إلف القينات لتربية الأولاد ففيها وجه من وجوه التدبير ... و قد دخل رسول اللّه «ص» على عائشة و هي تلعب بالبنات فأقرّها و لم ينكر عليها ...

و ليس يمتنع إنكار المجاهرة ببعض المباحات كما تنكر المجاهرة بالمباح من مباشرة الأزواج.

فأمّا ما لم يظهر من المحظورات فليس للمحتسب أن يبحث عنها و لا أن لا يهتك الأستار حذرا من الاستتار بها. قال النبي «ص»: من أتى من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر اللّه، فإنّه من يبد لنا صفحته يقم حدّ اللّه عليه.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 280

و من شرط المنكر الذي ينكره المحتسب أن يكون ظاهرا. فكلّ من ستر معصية في داره و

أغلق بابه لا يجوز له أن يتجسّس عليه إلّا أن يكون ذلك في انتهاك حرمة يفوت استدراكها، مثل أن يخبره من يثق بصدقه أنّ رجلا خلا برجل ليقتله أو بامرأة ليزني بها ...

حكى أنّ عمر بن الخطّاب دخل على قوم يتعاقرون على شراب و يوقدون في الأخصاص فقال: نهيتكم عن المعاقرة فعاقرتم، و نهيتكم عن الإيقاد في الأخصاص فأوقدتم. فقالوا: نهاك اللّه عن التجسّس فتجسّست، و عن الدخول بغير إذن فدخلت. فقال: هاتين بهاتين، و انصرف و لم يتعرّض لهم.

فإن سمع المحتسب أصوات ملاه منكرة من دار تظاهر أهلها بأصواتها أنكرها خارج الدار و لم يهجم عليها بالدخول، لأنّ المنكر ظاهر و ليس له أن يكشف عمّا سواه.» «1»

أقول: عاقر الشي ء: لازمه و أدمن عليه. و الخصّ بالضم: حانوت الخمّار.

[التساهل مع أهل الذمّة في أمور الدين]

13- و ذكر في الباب الرابع، الحسبة على أهل الذمّة فقال ما ملخّصه:

«اعلم أنّ التساهل مع أهل الذمّة في أمور الدين خطر عظيم، و قد قال اللّه- سبحانه و تعالى- في كتابه العزيز: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، لٰا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِيٰاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، وَ أَنَا أَعْلَمُ بِمٰا أَخْفَيْتُمْ وَ مٰا أَعْلَنْتُمْ، وَ مَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوٰاءَ السَّبِيلِ.»

و قد ورد في الحديث عن النبيّ «ص» أنّه قال: «لأخرجنّ اليهود و النصارى من جزيرة العرب حتّى لا أدع بها إلّا مسلما.» ...

و هذا أصل يعتمد عليه في ترك الاستعانة بالكافر، فكيف استعمالهم على رقاب المسلمين؟ فحينئذ يجب على المحتسب النظر في أهل الذّمة و أن يلزمهم بما هو مشروط عليهم و بما التزموه على أنفسهم و لا يرخّص لهم في ترك شي ء منه قولا و لا فعلا ...

و يمنعون من احداث بيع

و كنائس في دار الإسلام و قد أمر عمر بهدم كلّ كنيسة

______________________________

(1)- معالم القربة/ 32 (ط. مصر/ 84).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 281

استجدّت بعد الهجرة و لم يبق إلّا ما كان قبل الإسلام. و أرسل عروة من نجد فهدم الكنائس بصنعاء، و صانع القبط على كنائسهم بمصر و هدم بعضها و لم يبق من الكنائس إلّا ما كان قبل مبعثه «ص». أمّا إذا استهدم منها شي ء فلا يمنعون من إعادته ...

و على الإمام حفظ من كان منهم في دار الإسلام و دفع من قصدهم بالأذيّة، أي من المسلمين، و إن تحاكموا إلينا مع المسلمين وجب الحكم بينهم ...

و يأخذ منهم الجزية على قدر طاقتهم. على الفقير المعيل دينار، و على المتوسّط ديناران، و على الغني اربعة دنانير عند رأس الحول ... و يشترط مع الجزية التزام أحكام الإسلام، فإن امتنع من لزوم الأحكام أو قاتل المسلمين أو زنى بمسلمة أو أصابها باسم نكاح أو فتن مسلما عن دينه أو قطع الطريق على مسلم أو آوى المشركين أو دلّهم على عورات المسلمين أو قتل مسلما أو ذكر اللّه- تعالى- أو رسوله أو دينه بما لا يجوز فقد انتقضت ذمّته في ذلك جميعه، فقتل في الحال و غنم ماله في أصحّ القولين ... «1»

[الحسبة على أهل الجنائز و مراقبة شئونها]

14- و ذكر في الباب الخامس، الحسبة على أهل الجنائز و مراقبة شئونها من التجهيز و الغسل و التكفين و الصلاة و التدفين بمباشرة أولياء الميّت:

و لا يمكن المحتسب من يتصدّى لغسل الموتى من الرجال و النساء إلّا ثقة أمينا صالحا خبيرا قد قرأ كتاب الجنائز في الفقه و عرف واجباته و سننه و مستحباته و

يسأله المحتسب عن ذلك ... و يستر الميّت في الغسل عن العيون بأن يكون في موضع ليس فيه إلّا الغاسل و من لا بدّ منه في معونته، و لا ينظر الغاسل إلّا إلى ما لا بدّ له منه لأنّه قد يكون فيه عيب فلا يهتكه، و أولى أن يغسله في قميص، لأنّه أستر ...

و تكفين الميّت فرض على الكفاية و يجب ذلك في ماله مقدّما على الدين و الوصية و إن كانت امرأة لها زوج فعلى زوجها ...

و القبر محترم فيكره الجلوس و المشي و الاتكاء عليه و ليخرج الزائر منه إلى حدّ كان

______________________________

(1)- معالم القربة/ 38 (ط. مصر/ 92).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 282

يقرب منه لو كان حيّا، و لا يحلّ نبش القبور إلّا إذا انمحق أثر الميّت بطول الزمان أو دفن في أرض مغصوبة و طلب المالك إخراجه ...

ثمّ يتفقّد المحتسب الجنائز و المقابر، فإذا سمع نائحة أو نادية منعها و عزّرها لأنّ النوح حرام، قال رسول اللّه «ص»: النائحة و من حولها في النار ...

أمّا البكاء فجائز من غير ندب و لا نياحة و لا شق جيب و لا ضرب خدّ ...

فإذا خرجت جنازة أمر النساء أن يتأخّرن عن الرجال و لا يختلطن بهم و يمنعهنّ من كشف وجوههنّ و رءوسهنّ خلف الميّت و يأمر مناديا ينادي في البلد بالمنع من ذلك، و الأولى أن يمنعن من تشييع الجنازة، و متى سمع بامرأة نائحة أو مغنّية أو عاهر استتابها عن معصيتها، فإن عادت عزّرها و نفاها من البلد ... «1»

أقول: في إطلاق حرمة النياحة نظر.

[المعاملات المنكرة]
[لا يجوز للمحتسب تسعير البضائع على أربابها]

15- و ذكر في الباب السادس المعاملات المنكرة كالبيوع الفاسدة

و الربا و السلم الفاسد و الإجارة الفاسدة و الشركة الفاسدة، و الشروط المعتبرة في العقد و العاقد و المعقود عليه ذكرها بالتفصيل، فراجع «2»

و قال:

«و لا يجوز للمحتسب تسعير البضائع على أربابها، فإن المسعّر هو اللّه- تعالى- فلا يتصرّفن فيه الإمام و الوالي، فإن فعل ذلك إلّا في سنين القحط كان ذلك محرّما، إذ غلا السعر على عهد رسول اللّه «ص» فقالوا: يا رسول اللّه، سعّر لنا. فقال رسول اللّه «ص»: «إنّ اللّه- تعالى- هو القابض و الباسط و الرازق و المسعّر، و إنّي لأرجو أن ألقى اللّه و ليس أحد يطالبني بمظلمة في نفس و لا مال.» ...

فإذا قلنا: التسعير جائز، فإذا سعّر الإمام و باع الناس بذلك السعر فحسن، و إن خالفوه في ذلك فهل ينعقد البيع أم لا؟ الصحيح أنّه ينعقد، و يعزّرهم لمخالفة ذلك. و إذا رأى المحتسب أحدا قد احتكر من سائر الأقوات- و هو أن يشتري ذلك

______________________________

(1)- معالم القربة/ 46 (ط. مصر/ 101).

(2)- معالم القربة/ 52 (ط. مصر/ 108).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 283

في وقت الغلاء و يتربّص ليزداد في ثمنه- ألزمه بيعه إجبارا، لأنّ الاحتكار حرام و المحتكر ملعون. قال رسول اللّه «ص»: «من احتكر طعاما أربعين يوما ثمّ تصدّق بثمنه لم تكن صدقته كفّارة لاحتكاره» ...

[ترويج الدراهم المزيّفة على الناس ظلم]

ترويج الصيارف الدراهم المزيّفة على الناس ظلم يستضرّ به المعاملون، فعلى المحتسب أن يأمرهم بقصّها و تغييرها عن هيئتها و أن لا يغشّوا الناس بها ... و يحرم على التاجر أن يثني على السلعة و يصفها بما ليس فيها، فإن فعل ذلك فهو تلبيس و ظلم مع كونه كذبا ... و لا ينبغي

أن يحلف عليه البتّة، فإنّه إن كان كاذبا فقد جاء باليمين الغموس و هي من الكبائر، و إن كان صادقا فقد جعل اللّه عرضة لأيمانه ...» «1»

[حرمة لبس الحرير و الذهب على الرجال و حرمة اتخاذ الأواني من الذهب و الفضّة]

16- و تعرّض في الباب السابع لحرمة لبس الحرير و الذهب على الرجال، و حرمة اتخاذ الأواني من الذهب و الفضّة مطلقا، و المنع من تحلية الكعبة و المساجد بقناديل الذهب و الفضّة «2».

[منكرات الأسواق و الطرق]

17- و ذكر في الباب الثامن، الحسبة على منكرات الأسواق و الطرق فقال ما ملخّصه:

«أمّا الطّرقات الضيّقة فلا يجوز لأحد من السوقة الجلوس فيها و لا إخراج مصطبة دكّانه عن سمت أركان السقائف إلى الممرّ، لأنّه عدوان و يضيق على المارّة فيجب على المحتسب إزالته و المنع من فعله، و كذا إخراج الفواصل و الأجنحة و غرس الأشجار و نصب الدكّة في الطّرق الضيّقة ... و قال الجويني لا يجوز الغراس في الشارع، و الدكّة المرتفعة في معناها. و لا نظر إلى اتساع الطريق و تضايقها، فإنّ الزقاق قد تصطدم ليلا و يزدحم اسراب البهائم، و ينضمّ إليه أنّه قد يلتبس على طول الزمان محلّ البناء و الغراس و ينقطع أثر استحقاق الطرق.

و كذا كلّ ما فيه أذية و إضرار على السالكين. و كذلك ربط الدوابّ على الطرق

______________________________

(1)- معالم القربة/ 64 (ط. مصر/ 120).

(2)- معالم القربة/ 76 (ط. مصر/ 133).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 284

منكر يجب المنع منه إلّا بقدر حاجة النزول و الركوب، لأنّ الشوارع مشتركة المنفعة. و كذا طرح الكناسة على جوانب الطرق و تبديد قشور البطيخ أو رشّ الماء بحيث يخشى منه التزلّق و السقوط.

و كذا إرسال الماء من الميازيب المخرجة من الحائط إلى الطرق الضيقة، فإنّ ذلك ينجّس الثياب و يضيق الطرق. و كذا ترك مياه المطر و الأوحال في الطرق من غير كسح، فذلك كلّه منكر يجب على المحتسب

أن يكلّف الناس بالقيام بها.» «1»

[ينبغي للمحتسب أن يمنع أحمال الحطب و أعدال التبن]

18- و ينبغي للمحتسب أن يمنع أحمال الحطب و أعدال التبن و روايا الماء و شرائج السرجين و الرماد و أحمال الحلفاء و الشوك بحيث تمزق ثياب الناس، فإن أمكن العدول بها إلى موضع واسع و إلّا فلا منع لحاجة أهل البلد إليه. و يأمر حاملي الحطب و التبن و البلاط و الكبريت و اللفت و البطيخ إذا وقفوا في العراص أن يضعوها عن ظهور الدوابّ، لأنّها إذا وقفت و الأحمال عليها أضرّتها و كان ذلك تعذيبا لها، و قد نهى رسول اللّه «ص» عن تعذيب الحيوان لغير مأكله.

و يأمر أهل الأسواق بكنسها و تنظيفها من الأوساخ المجتمعة و غير ذلك ممّا يضرّ الناس، لأنّ النبيّ «ص» قال: لا ضرر و لا ضرار. «2»

أقول: الشرائج جمع الشريجة: جوالق ينسج من سعف النخل. و الحلفاء: نبت محدّدة الأطراف يشبه سعف النخل. و البلاط: صفائح الحجارة التي يفرش بها.

و اللفت بالكسر: السلجم.

[التطلّع على الجيران من السطوحات و النوافذ]

19- و لا يجوز لأحد التطلّع على الجيران من السطوحات و النوافذ، و لا أن يجلس الرجال في طرقات النساء من غير حاجة، فمن فعل شيئا من ذلك عزّره المحتسب. «3»

[معرفة القناطير و الأرطال]

20- و تعرّض في الباب التاسع و الباب العاشر لمعرفة القناطير و الأرطال و المثاقيل و الدراهم و الموازين و المكاييل و الأذرع:

______________________________

(1)- معالم القربة/ 78 (ط. مصر/ 135).

(2)- معالم القربة/ 79 (ط. مصر/ 136).

(3)- معالم القربة/ 79 (ط. مصر/ 136).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 285

حيث إنّها أصول المعاملات و بها اعتبار المبيعات، فعلى المحتسب معرفتها و تحقيقها و مراقبتها لتقع المعاملة بها على الوجه الشرعي ... و يأمر أصحاب الموازين بمسحها و تنظيفها من الأدهان و الأوساخ في كلّ ساعة، فإنّه ربّما تحمل شيئا فيضرّ ...

فيلزم المحتسب مراعاة ذلك في كلّ وقت.

و اعلم أنّك ولّيت من الكيل و الميزان أمر من هلكت فيها الأمم السالفة، فباشرهما بيدك مباشرة الاختيار و الاختبار و لا تقل لأهلهما عثرة، فإنّ الإقالة لا تنهى عن العثار، و كلّ هؤلاء من سواد الناس فمن لم يفقه نفسه و ليس همّته إلّا فرجه أو ضرسه فحدّهم التعزير.

و القبان القبطي فينبغي للمحتسب أن يختبره بعد كلّ حين، فإنّه ينفسد بكثرة استعماله في وزن الحطب و البضائع الثقيلة ...

و ينبغي أن يتّخذ الأرطال من حديد و يعيّرها المحتسب و يختم عليها بختم من عنده و لا يتّخذوها من الحجارة، لأنّها إذا قرع بعضها ببعض فتنقص ...

و ينبغي للمحتسب أن يتفقّد عيار المثاقيل و الصنج و الأرطال و الحبّات على حين غفلة من أصحابها «1».

[الحسبة على العلّافين و الطحّانين]

21- و تعرّض في الباب الحادي عشر للحسبة على العلّافين و الطحّانين فقال ما ملخّصه:

«يحرم عليهم احتكار الغلّة و لا يخلطوا رديّ الحنطة بجيّدها و لا عتيقها بجديدها، فإنّه تدليس على الناس. و يلزم الطحّانين بغربلة الغلّة من التراب و تنقيتها من

الطين و تنظيفها من الغبار قبل طحنها، و لهم أن يرشوا على الحنطة ماء يسيرا عند طحنها، فإن ذلك يزيد الدقيق بياضا، و يغيّر عليهم مناخل الدقيق في كلّ ثلاثة أشهر أو أقلّ. و يختبر المحتسب الدقيق، فإنّهم ربّما خلطوا فيه دقيق الحمص أو الفول حتّى يزيده زهرة، و هذا غش فمن وجده فعل شيئا من ذلك أنكر عليه و أدّبه، و يمنعهم أن لا يطحنوا على إثر نقر الحجر فإنّه يضرّ بالناس إذا نزل مع الدقيق، و يلزمهم

______________________________

(1)- معالم القربة/ 80 (ط. مصر/ 137).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 286

بنقاء الغلّة و كثرة دوسها.

و ينبغي لأرباب الدوابّ أن يتّقوا اللّه- سبحانه- في استعمالها و أن يريحوها في كلّ يوم و ليلة لحاجتها إلى الراحة. و يتفقّد موازينهم المرصدة لوزن الدقيق و أرطالهم ...» «1»

[الحسبة على الفرانين و الخبازين]

22- و تعرّض في الباب الثاني عشر للحسبة على الفرانين و الخبازين فقال ما ملخّصه:

«ينبغي أن يأمرهم المحتسب برفع سقائف أفرانهم، و يجعل في سقوفها منافس واسعة للدخان، و يأمرهم بكنس بيت النار في كلّ تعميرة و غسل البسليت و تنظيف مائه و غسل المعاجن و تنظيفها ... و لا يعجن العجان بقدميه و لا بركبتيه و لا بمرفقيه، لأنّ في ذلك مهانة للطعام، و ربّما قطر في العجين شي ء من عرق إبطيه أو بدنه، و لا يعجن إلّا و عليه ملعبة ضيقة الكمّين، و يكون ملثما أيضا لأنّه ربّما عطس أو تكلّم فقطر شي ء من بصاقه أو مخاطه في العجين، و يشدّ على جبينه عصابة بيضاء لئلّا يعرق فيقطر منه شي ء، و يحلق شعر ذراعيه لئلّا يسقط منه شي ء في العجين.

و إذا عجن

في النهار فليكن عنده إنسان على يده مذبّة يطرد عنه الذباب. و يعتبر عليهم المحتسب ما يغشون به الخبز من الكركم و الزعفران ... و يلزمهم أن لا يخبزوه حتّى يختمر، فإنّ الفطير يثقل في الميزان و المعدة ... و لا يخرجون الخبز من بيت النار حتّى ينضج نضجا جيّدا من غير احتراق. و المصلحة أن يجعل على كلّ حانوت وظيفة رسما يخبزونه في كلّ يوم لئلّا يختلّ البلد عند قلّة الخبز، و يتفقّد الأفران في آخر النهار ...» «2»

أقول: الفرن بالضم: بيت غير التنور معدّ لأن يخبز فيه. الملعبة: الثوب بلا كمّ أو قصير الكمّ. و الكركم كقنفذ: الزعفران أو نبات يشبهه في اللون. و لم يظهر لي

______________________________

(1)- معالم القربة/ 89 (ط. مصر/ 152).

(2)- معالم القربة/ 91 (ط. مصر/ 154).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 287

معنى البسليت، و لعلّه كان اسما لإناء ماء يستعمله الخبّاز لترطيب يده و غيره.

[الحسبة على الفرانين و الخبازين]

23- و تعرّض في الباب الثالث عشر و عدّة أبواب أخر للحسبة على صنّاع الأغذية و الحلويات: الشوائين و النقانقيين و الكبوديّين و البوارديّين و الروّاسين و الطبّاخين و الشرائحيّين و الهرايسيّين و قلائي السمك و قلائي الزلابية و الحلوانيّين بأنواعها و أصنافها المختلفة، و ذكر المواد المستعملة فيها و كيفية صنعها و أن المحتسب يراقبهم في أعمالهم ليحسنوا صنعا و يحترزوا عن الغشّ و الخيانة و يراعوا موازين السلامة و الصحّة و النظافة «1».

أقول: النقانق: اللحوم تدقّ و تخلط بغيرها و تحشى بها المصارين ثمّ تقلى.

و الشريحة: اللحم تقطع للكباب. و البوارد جمع باردة، و يعني بها الحشائش و البقول المبرّدة، و كأنّها كانت تجعل في أوراق الكرنب

و تطبخ.

[الحسبة على الجزّارين و القصّابين]

24- و تعرّض في الباب السادس عشر للحسبة على الجزّارين و القصّابين و كيفيّة الذبح و النحر و شرائطهما و آدابهما، قال:

و لا يجرّ شاة برجلها جرّا عنيفا و لا يذبح بسكّين كالّة، لأنّ في ذلك تعذيب الحيوان و قد نهى النبيّ «ص» عن تعذيب الحيوان، و لا يشرع في السلخ بعد الذبح حتّى تبرد الشاة ... و يمنعهم المحتسب من الذبح على أبواب دكاكينهم، فإنّهم يلوّثون الطريق بالدم و الروث فإنّ في ذلك تضييقا للطريق و إضرارا بالناس، و يمنعهم من إخراج توالي اللحم من حدّ مصاطب حوانيتهم و يأمرهم أن يفردوا لحوم المعز عن لحوم الضأن و لا يخلطوا بعضها ببعض و يجعلوا لها علامة و لا يخلطوا شحوم المعز بشحوم الضأن و لا اللحم السمين بالهزيل و لا الذكر بالأنثى ...

ثمّ تعرّض لأنواع الحيوان و ما يؤكل منه و ما لا يؤكل، فراجع.

ثمّ قال:

و لا يجوز أكل ما فيه ضرر كالسمّ و الزجاج و التراب و الحجر، لقوله- تبارك و تعالى-:

______________________________

(1)- معالم القربة/ 92 (ط. مصر/ 156) من الباب 13 إلى الباب 23 إلّا الباب 16.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 288

و لا تقتلوا أنفسكم، و لا يحلّ كلّ شي ء نجس لأنّه من الخبائث «1».

[الحسبة على الشرابيّين و صنّاع أنواع الأشربة]

25- و تعرّض في الباب الرابع و العشرين للحسبة على الشرابيّين، و أراد بذلك صنّاع أنواع الأشربة المتّخذة من العقاقير المختلفة للتداوي بها، و قال:

«تدليس هذا الباب كثير لا يمكن حصر معرفته على التمام، لأنّ العقاقير و الأشربة مختلفة الطبائع و الأمزجة، و التداوي على قدر أمزجتها ... فالواجب عليهم أن يراقبوا اللّه- تعالى- في ذلك، فينبغي للمحتسب أن يخوّفهم و يعظهم

و ينذرهم العقوبة و يحذرهم بالتعزير، و يعتبر عليهم أشربتهم و عقاقيرهم في كلّ وقت على حين غفلة ...

أمّا الأشربة فأسماؤها كثيرة و تزيد على سبعين اسما و نذكر ما اشتهر من أسمائها ...

أمّا المعاجين فكثير أسماؤها و كذلك الأقراص و الربوبات و اللعوقات و الجوارشيات و الحبوب و الايارجات و الفتائل و ما يعمل من المطبوخات و لو ذكرت كلّ باب من ذلك و استقصيته لطال.» «2»

أقول: ففي الحقيقة يراد بالحسبة في هذا الباب و الباب التالي الحسبة على أنواع الأدوية المستعملة للتداوي و كيفيّة صنعها و تركيباتها، و هي أمور سريّة خفية غالبا و يكثر فيها التدليس كما ذكر فيحتاج إلى مراقبة كثيرة و دقيقة جدّا.

[الحسبة على العطّارين و الشمّاعين]

26- و تعرّض في الباب الخامس و العشرين للحسبة على العطّارين و الشمّاعين و قال:

«إنّ هذا الباب من أهمّ الأشياء التي ينبغي للمحتسب الاعتناء بها و الكشف عنها و يجب على المحتسب أن لا يمكن أحدا من بيع العقاقير و أصناف العطر إلّا من له معرفة و خبرة و تجربة، و مع ذلك يكون ثقة أمينا في دينه عنده خوف من اللّه

______________________________

(1)- معالم القربة/ 98 (ط. مصر/ 162).

(2)- معالم القربة/ 115 (ط. مصر/ 185).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 289

- تعالى-، فإنّ العقاقير إنّما تشترى من العطّارين مفردة ثمّ تركّب غالبا، و قد يشتري الجاهل عقّارا من العقاقير معتمدا على أنّه هو المطلوب ثمّ يبتاعه منه جاهل آخر فيستعمله في الدواء متيقّنا منفعته فيحصل له باستعماله عكس مطلوبه و يتضرّر به.»

ثمّ تعرّض لأنواع الغشّ و طرقه في الأدوية و العقاقير المختلفة، و كذا الغشّ في الشموع و قال:

«هذا كلّه غشّ

و تدليس، فيراعي المحتسب ذلك جميعه عليهم من غير إهمال.» «1»

أقول: و هذا ما أشرنا إليه من أهميّة أمر الأدوية و لزوم مراقبة الصيادلة في صنعهم و معاملاتهم، و تحتاج إدارة الحسبة لا محالة إلى المتخصّصين في الفنون المختلفة.

[لحسبة على البيّاعين و اللبّانين و البزّازين]

27- و تعرّض في الباب السادس و العشرين و ما بعده للحسبة على البيّاعين و اللبّانين و البزّازين و أنّه يعتبر عليهم الموازين و المكاييل و الصنج و الأذرع و النظافة و سلامة الجنس و معرفة أحكام البيع و عقود المعاملات و ما يحلّ لهم و ما يحرم عليهم و صدق القول في أخبار الشراء و مقدار رأس المال. و أن يظهروا جميع عيوب السلعة خفيّها و جليّها، فإنّ الغش حرام. «2»

[الحسبة على الدلّالين]

28- و تعرّض في الباب التاسع و العشرين للحسبة على الدلّالين:

فينبغي أن لا يتصرّف أحد من الدلّالين حتّى يثبت في مجلس المحتسب ممّن يقبل شهادته من الثقات العدول من أهل الخبرة، أنّه خير ثقة من أهل الدين و الأمانة و الصدق في النداء، فإنّهم يتسلّمون بضائع الناس و يقلّدونهم الأمانة في بيعها، و لا ينبغي لأحد منهم أن يزيد في السلعة من نفسه إلّا أن يزيد فيها التاجر و لا يكون شريكا للبزّاز و لا يشتري السلعة لنفسه و يوهم صاحبها أنّ بعض الناس اشتراها

______________________________

(1)- معالم القربة/ 121 (ط. مصر/ 199).

(2)- معالم القربة/ 128 (ط. مصر/ 207).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 290

و يواطئ غيره على شرائها منه ... و متى علم المنادي في السلعة عيبا وجب عليه أن يعلم المشتري بذلك و يوقفه عليه، و على المحتسب أن يعتبر عليهم جميع ذلك ... «1»

[لحسبة على الحاكة و الخيّاطين و الرفّائين و القصّارين]

29- و تعرّض في الباب الثلاثين و الأبواب بعده للحسبة على الحاكة و الخيّاطين و الرفّائين و القصّارين و صنّاع القلانس، و الحريريين و الصبّاغين و القطّانين و الكتّانيين و الصاغة و النحّاسين و الحدّادين و الأساكفة و غيرهم من أرباب المهن و الحرف، فيؤمرون بحسن العمل و جودته و الإنصاف و ترك الغشّ و الخيانة و السرقة و حفظ الأمانة و ترك المماطلة. «2»

[الحسبة على الصيارفة]

30- و تعرّض في الباب السادس و الثلاثين للحسبة على الصيارفة و قال:

إنّ التعيّش بالصرف خطر عظيم على دين متعاطيه و على المحتسب أن يتفقّد سوقهم و يتجسّس عليهم، و إن عثر بمن رابى أو فعل في الصرف ما لا يجوز عزّره و أقامه من السوق إذا تكرّر ذلك منه ... «3»

[الحسبة على البياطرة]

31- و تعرّض في الباب الأربعين للحسبة على البياطرة و قال:

«البيطرة علم جليل سطرته الفلاسفة في كتبهم، و وضعوا فيها تصانيف، و هي أصعب علاجا من أمراض الآدميّين، لأنّ الدوابّ ليس لها نطق تعبّر به عمّا تجد من المرض و الألم، و إنّما يستدلّ على عللها بالحسّ و النظر، فيحتاج البيطار إلى حسن بصيرة بعلل الدوابّ و علاجها، فلا يتعاطى البيطرة إلّا من له معرفة و خبرة بالتهجّم على الدوابّ بفصد أو قطع أو كيّ و ما أشبهه، فمن قدم على ذلك بغير مخبرة فيؤدّي إلى هلاك الدابّة أو عطبها فيلزمه أرش ما نقص من قيمتها من طريق الشرع و يعزّره المحتسب من طريق السياسة ... و ينبغي للبيطار أن يكون خبيرا بعلل الدوابّ و معرفة ما يحدث فيها من العيوب، و يرجع الناس إليه إذا اختلفوا في الدابّة، و قد ذكر بعض الحكماء في كتاب البيطرة أنّ علل الدوابّ ثلاثمائة و عشرون

______________________________

(1)- معالم القربة/ 135 (ط. مصر/ 216).

(2)- معالم القربة/ 136 (ط. مصر/ 218)، من الباب 30 إلى الباب 39 إلّا الباب 36.

(3)- معالم القربة/ 143 (ط. مصر/ 227).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 291

علّة، و نذكر ما اشتهر من ذلك ... «1»

[لحسبة على سماسرة العبيد و الجواري و الدوابّ و الدور]

32- و تعرّض في الباب الحادي و الأربعين للحسبة على سماسرة العبيد و الجواري و الدوابّ و الدور و قال:

«ينبغي أن لا يتصرّف في سمسرة العبيد و الجواري إلّا من ثبتت عند الناس أمانته و عفّته و صيانته و أن يكون مشهور العدالة، لأنّه يتسلّم جواري الناس و غلمانهم و ربّما اختلى بهم في منزله ...

و متى علم بالمبيع عيبا وجب عليه بيانه للمشتري كما

ذكرنا، و ينبغي أن يكون بصيرا بالعيوب خبيرا بابتداء العلل و الأمراض، و يؤخذ على دلّالين العقارات و يستحلفوا ألّا يبيعوا ما يظنّ به أنّه خرج من يد صاحبه بكتابة تحبيس أو كتاب إقرار أو رهن، و لا شبهة و لا لصبيّ و لا ليتيم إلّا باذن وصيّه ...» «2»

[لحسبة على الحمّامات و قوّامها]

33- و تعرّض في الباب الثاني و الأربعين للحسبة على الحمّامات و قوّامها و قال:

«يأمرهم المحتسب بإصلاحها و نضاجة مائها. و قد ذكر عن بعض الحكماء أنّه قال:

خير الحمّامات ما قدم بناؤه و اتّسع هواؤه و عذب ماؤه، و الحمّام يشتمل على منافع و مضارّ ... و قال ابن عمر: الحمّام من النعيم الذي أحدثوه، و قد دخل أصحاب رسول اللّه «ص» الحمّامات بالشام. و ينبغي أن لا يكثر صبّ الماء بل يقتصر على قدر الحاجة ...

و ينبغي أن يأمرهم المحتسب بغسل الحمّام و كنسه و تنظيفه بالماء الطاهر غير ماء الغسالة، يفعلون ذلك مرارا في اليوم، و أن يدلكوا البلاط بالأشياء الخشنة لئلّا يتعلّق بها السدر و الخطمي فيزلق الناس عليه ...

و يلزم المحتسب أن يتفقّد الحمّام في كلّ وقت و يعتبر ما ذكرناه، و إن رأى أحدا قد كشف عورته عزّره على كشفها، لأنّ كشف العورة حرام، و قد لعن رسول اللّه «ص» الناظر و المنظور إليه، و النساء في هذا المقام أشدّ تهالكا من

______________________________

(1)- معالم القربة/ 150 (ط. مصر/ 234).

(2)- معالم القربة/ 152 (ط. مصر/ 238).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 292

الرجال.» «1»

[الحسبة على الأطباء و الكحّالين و الجرّاحين و المجبرين و الفصّادين و الحجّامين]

34- و تعرّض في الباب الرابع و الأربعين و الخامس و الأربعين للحسبة على الأطباء و الكحّالين و الجرّاحين و المجبرين و الفصّادين و الحجّامين و الختّانين، و قال في الفصد:

«ينبغي أن لا يتصدّى له إلّا من اشتهرت معرفته و أمانته و جودة علمه بتشريح الأعضاء و العروق و العضل و الشرايين و أحاط بمعرفتها و كيفيّتها ...»

و قال في الطب ما ملخّصه:

«الطبّ علم نظري و عملي أباحت الشريعة تعلّمه لما فيه

من حفظ الصحّة و دفع العلل و الأمراض عن هذه البنية الشريفة.

و قد ورد في ذلك أحاديث، فعن رسول اللّه «ص» أنّه قال: ما أنزل اللّه داء إلّا و أنزل له دواء.

و قال «ص»: يا أيّها الناس، تداووا فإنّ اللّه لم ينزل داء إلّا و أنزل له شفاء ... و هو من فروض الكفاية و لا قائم به من المسلمين، و كم من بلد ليس فيه طبيب إلّا من أهل الذمّة! ... و الطبيب هو العارف بتركيب البدن و مزاج الأعضاء و الأمراض الحادثة فيها و أسبابها و أعراضها و علاماتها و الأدوية النافعة فيها و الاعتياض عمّا لم يوجد منها ... فمن لم يكن كذلك فلا يجعل له مداواة المرضى و لا يتعرّض لما لا علم له فيه ...،

قال رسول اللّه «ص»: من تطبّب و لم يعلم منه طبّ قبل ذلك فهو ضامن.

و ينبغي أن يكون لهم مقدّم من أهل صناعتهم، فقد حكى أنّ ملوك يونان كانوا يجعلون في كلّ مدينة حكيما مشهورا بالحكمة ثمّ يعرضون عليه بقية أطباء البلد فيمتحنهم فمن وجده مقصّرا في علمه أمره بالاشتغال و قراءة العلم و نهاه عن المداواة ...

و ينبغي للمحتسب أن يأخذ عليهم عهد ابقراط الذي أخذه على سائر الأطباء

______________________________

(1)- معالم القربة/ 154 (ط. مصر/ 240).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 293

و يحلفهم أن لا يعطوا أحدا دواء مضرّا و لا يركّبوا له سمّا و لا يضعوا السمام عند أحد من العامّة، و لا يذكروا للنساء الدواء الذي يسقط الأجنّة و لا للرجال الذي يقطع النسل، و ليغضوا أبصارهم عن المحارم عند دخولهم على المرضى، و لا يفشوا الأسرار و

لا يهتكوا الأستار و لا يتعرّضوا لما ينكر عليهم فيه ...» «1»

أقول: و من الأمور المهمّة في هذا المجال في عصرنا هو أجرة الطبيب و الجرّاح، فعليهما رعاية الإنصاف و لا سيّما في معالجة الضعفاء و أن يكتفيا بالكفاف و لا يبيعا علمهما الشريف و خدمتهما الشريفة بالمتاع الفاني، و على المحتسب مراقبتهما في ذلك و منعهما من الإجحاف بالوعظ و التوبيخ و التخويف.

[لحسبة على مؤدّبي الصبيان]

35- و تعرّض في الباب السادس و الأربعين للحسبة على مؤدّبي الصبيان و قال:

«و اعلم أنّها من أجلّ المعايش، لقوله «ص»: خيركم من تعلّم القرآن و علّمه.

و في حديث آخر: خير من مشى على الأرض المعلّمون الذين كلّما خلق الدين جدّدوه.

فحينئذ يشترط في المعلّم أن يكون من أهل الصلاح و العفّة و الأمانة حافظا للكتاب العزيز حسن الخطّ و يدري الحساب، و الأولى أن يكون مزوّجا، و لا يفسح لعازب أن يفتح مكتبا لتعليم الصبيان إلّا أن يكون شيخا كبيرا و قد اشتهر بالدين و الخير، و مع ذلك فلا يؤذن له بالتعليم إلّا بتزكية مرضيّة و ثبوت أهليّته لذلك، و ينبغي للمؤدّب أن يترفّق بالصغير و أن يعلّمه السور القصار من القرآن بعد حذاقته بمعرفة الحروف ...» «2»

[الحسبة على القومة و المؤذنين]

36- و تعرّض في الباب السابع و الأربعين للحسبة على القومة و المؤذنين، فقال:

«و ينبغي أن يشرف المحتسب على الجوامع و المساجد و يأمر قومتها بكنسها و تنظيفها في كلّ يوم من الأوساخ و نفض حصرها من الغبار و مسح حيطانها و غسل قناديلها ... و يلزم بغلق أبوابها عقيب الصلوات و صيانتها من الصبيان و المجانين،

______________________________

(1)- معالم القربة/ 159 (ط. مصر/ 247).

(2)- معالم القربة/ 170 (ط. مصر/ 260).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 294

و ممّن يأكل فيها الطعام و ينام أو يعمل صناعة أو يبيع فيها سلعة أو ينشد فيها ضالّة أو يجلس فيها لحديث الدنيا فجميع ذلك قد ورد الشرع بتنزيه المساجد عنه و كراهية فعله، و يتقدّم إلى جيران كلّ مسجد بالمواظبة على صلاة الجماعة عند سماع الأذان لإظهار معالم الدين و إشهار شعائر الإسلام، لقوله «ص»: لا

صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد ...

و يشترط في الإمام أن يكون رجلا عاقلا قارئا فقيها سليم اللفظ من رثّ أو لثغ ...

و يمنع المحتسب أيضا من يتخطّى رقاب الناس يوم الجمعة بعد النداء لما فيه من الإيذاء. و إذا كان في أئمّة المساجد و الجوامع من يطيل الصلاة حتّى يعجز عنها الضعيف و ينقطع بها ذووا الحاجات عن حاجاتهم أنكر المحتسب ذلك عليه كما أنكر رسول اللّه «ص» على معاذ حين أطال الصلاة بقومه فقال: أ فتّان أنت يا معاذ؟ ...

و لا يؤذّن في المنارة إلّا عدل ثقة أمين عارف بأوقات الصلوات، لأنّ النبيّ «ص» قال: «المؤذّنون أمناء و الأئمّة ضمناء، فأرشد اللّه الأئمّة و غفر للمؤذّنين.»

و ينبغي للمحتسب أن يمتحنهم بمعرفة الأوقات فمن لم يعرف ذلك منعه من الأذان حتّى يعرفها ... فيجب عليه معرفة الوقت و يقرأ باب الأذان و الإقامة في الفقه.

و يستحبّ أن يكون المؤذّن حسن الصوت و ينهاه المحتسب عن التغنّي في الأذان و هو التمطيط الفاحش و التطريب، و يأمره إذا صعد المنارة أن يغضّ بصره عن النظر إلى حريم الناس و دورهم و يأخذ عليه العهد في ذلك، و لا يصعد إلى المنارة غير المؤذّن في أوقات الصلوات ...

و يأمر المحتسب القومة أن يقفوا على أبواب الجامع يوم الجمعة و يمنعوا الصعاليك من الدخول للكدية جملة واحدة ففي دخولهم ضرر على الناس، و يمنعونهم من الاشتغال بالذكر و العبادة فإنّهم يشوّشون عليهم في الصلاة لا سيّما من يقف و يحكي أخبارا و قصصا ما أنزل اللّه بها من سلطان ...» «1»

______________________________

(1)- معالم القربة/ 172 (ط. مصر/ 263).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص:

295

[الحسبة على الوعّاظ]

37- و تعرّض في الباب الثامن و الأربعين للحسبة على الوعّاظ فقال:

«يجب على المحتسب أن ينظر في أمر الوعّاظ و لا يمكّن أحدا يتصدّى لهذا الفنّ إلّا من اشتهر بين الناس بالدين و الخير و الفضيلة، و أن يكون عالما بالعلوم الشرعيّة و علم الأدب، حافظا للكتاب العزيز و لأحاديث النبيّ «ص» و أخبار الصالحين و حكايات المتقدّمين، و يمتحن بمسائل يسأل عنها من هذه الفنون فإن أجاب و إلّا منع كما اختبر الإمام عليّ بن أبي طالب «ع» الحسن البصري و هو يتكلّم على الناس فقال له: ما عماد الدين؟ قال: الورع. قال: فما آفته؟ قال: الطمع. قال: تكلّم الآن إن شئت ... و من لا يدري ذلك و كان جاهلا بذلك منع من الكلام، فإن لم يمتنع و دام على كلامه عزّر.

و من عرف شيئا يسيرا من كلام الوعّاظ و حفظ من الأحاديث و أخبار الصالحين قبل ذلك و قصد الكلام يسترزق به و يستعين على قوته فيبيح له بشرط أن لا يصعد المنبر بل يقف على قدميه، فإنّ رتبة صعود المنبر رتبة شريفة لا يليق أن يصعد عليه إلّا من اشتهر بما وصفناه، و كفى به علوّا و سموّا أنّ النبيّ «ص» صعد عليه و الخلفاء الراشدون من بعده و الأئمّة ... فلا يمكّن من ذلك إلّا رجلا مشهورا بالدين و الخير و الفضيلة، كما تقدّم. و من شرطه أن يكون عاملا للّه، مجتهدا، قوّالا، فعّالا ...

و مهما كان الواعظ شابّا متزيّنا للنساء في ثيابه و هيئته كثير الأشعار و الإشارات و الحركات و قد حضر مجلسه النساء فهذا منكر يجب المنع منه، فإن الفساد أكثر من الصلاح. و يبين

ذلك منه بقرائن أحواله، بل لا ينبغي أن يسلّم الوعظ إلّا لمن ظاهره الورع و هيئته السكون و الوقار و زيّه زيّ الصالحين و إلّا فلا يزداد الناس إلّا تماديا في الضلال. و يجب أن يضرب بين النساء و الرجال حائل يمنع النظر إليهنّ، فإن ذلك مظنّة الفساد ...» «1»

[الحسبة على المنجّمين و كتّاب الرسائل]

38- و تعرّض في الباب التاسع و الأربعين للحسبة على المنجّمين و كتّاب الرسائل فقال:

______________________________

(1)- معالم القربة/ 179 (ط. مصر/ 271).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 296

«أمّا المنجّمون فقد ورد في ذلك أحاديث دالّة على النهي بالاشتغال بهذا العلم، لقوله «ص»: من أتى حزّارا فصدّقه في مقاله فقد كفر بما أنزل اللّه على محمد «ص» ...

و حينئذ يؤخذ عليهم و على كتّاب الرسائل أن لا يجلسوا في درب و لا زقاق و في حانوت بل على قارعة الطريق، فإن معظم من يجلس عندهم النسوان ... و يلزمهم بالقسامة أنّهم لا يكتبون لأحد من الناس شيئا من الروحانيّات مثل محبّة و تهييج و نزيف و رمد و عقد لسان و غير ذلك، فإن السحر حرام فعله، و متى وجد أحدا يفعل ذلك عزّره ليرتدع به غيره ...» «1»

[الحسبة على الحدود و التعزيرات الشرعية]

39- و تعرّض في الباب الخمسين من الكتاب «2» للحدود و التعزيرات الشرعية، فذكر فيه ما فيه الحدّ و ما فيه التعزير أو التأديب و كيفيّة إجراء الحدود و التعزيرات و آلة إجرائهما و حكم التعزير بالمال و بالحبس و نحو ذلك من الفروع. و حيث إنّا سوف نحكي عنه بعض ذلك في فصل التعزيرات الآتي فلا نتعرّض لها هنا.

و قال في هذا الباب:

«و يمنع المحتسب من خصي الآدمي و البهائم و يؤدّب عليه و إن استحقّ فيه قودا أو دية استوفاه لمستحقّه ما لم يكن فيه تخاصم و تنازع ...

و يمنع المحتسب من التكسّب بآلة اللهو و يؤدّب عليه الآخذ و المعطي و ينهى الاضرار و أهل الكدية المقيمين عن قراءة القرآن في الأسواق و الكدية به و قد نهت الشريعة عن

ذلك.» «3»

[القضاة و الشهود]

40- و تعرّض في الباب الحادي و الخمسين «4» للقضاة و الشهود و ذكر فيه معنى القضاء و بعض الآيات و الروايات الواردة فيه و تصدّي النبيّ «ص» و الخلفاء له، و شرائط القاضي و الشهود و آداب القضاء و ذكر بعض المحرّمات الشرعيّة. و حيث مرّ منّا بحث إجمالي عن القضاء في الفصل الرابع من هذا الباب فلا نعيد هنا.

______________________________

(1)- معالم القربة/ 182 (ط. مصر/ 275).

(2)- معالم القربة/ 184 (ط. مصر/ 277).

(3)- معالم القربة/ 197 (ط. مصر/ 291).

(4)- معالم القربة/ 200 (ط. مصر/ 295).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 297

و قال في هذا الباب:

«و متى رأى المحتسب رجلا يسفه في مجلس الحكم أو يطعن على الحاكم في حكمه أو لا ينقاد إلى حكمه عزّره على ذلك. و أمّا إذا رأى القاضي قد استشاط على رجل غيظا و يشتمه أو يحقد عليه في كلامه ردعه عن ذلك و وعظه و خوّفه باللّه- عزّ و جلّ- فإنّ القاضي لا يحكم و هو غضبان و لا يقول هجرا و لا يكون فظّا غليظا.

و غلمانه الذين بين يديه و أعوانه إن كان فيهم شابّ حسن الصورة لا يبعثه القاضي لإحضار النسوان.» «1»

[الأمراء و الولاة]

41- و تعرّض في الباب الثاني و الخمسين للأمراء و الولاة فقال:

«ينبغي للمحتسب أن يقصد مجالس الأمراء و الولاة و يأمرهم بالشفقة على الرعيّة و الإحسان إليهم و يذكر لهم ما ورد في ذلك من الأحاديث عن النبيّ «ص» أنّه قال: «ما من أمير يلي أمر المسلمين و لا يجهد لهم و ينصح إلّا لم يدخل الجنّة.» و في رواية: «لم يجد ريح الجنة.» و قال رسول اللّه «ص»: «ما من

أمير يؤمّر على عشرة إلّا و هو يأتي يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه حتّى يكون عمله هو الذي يطلقه أو يوثقه.»

... و كان عمر بن الخطّاب يخرج كلّ ليلة يطوف مع العسس حتّى يرى خللا يتداركه، و كان يقول: لو ضاعت شاة بالفرات لخشيت أن أسأل عنها يوم القيامة ...

و قال مكحول الدمشقي: ينادي مناد يوم القيامة: أين الظلمة و أعوانهم، فلا يبقى أحد مدّ لهم دواة أو برى لهم قلما فما فوق ذلك إلّا حضروا فيجمعون في تابوت من نار فيلقون في جهنّم.

و في الحديث عن النّبيّ «ص» أنّه قال: «لا يقف أحدكم موقفا يضرب فيه رجل مظلوم، فإنّ اللعنة تنزل على من حضر حيث لم يدفع عنه.» ...

و خطر الولاية عظيم و خطبها جسيم، و لا يسلم الوالي إلّا بمخالطة العلماء و الصلحاء و فضلاء الدين، ليعلّموه طريق العدل و يسهّلوا عليه خطر هذا الأمر. و من أعظم

______________________________

(1)- معالم القربة/ 208 (ط. مصر/ 305).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 298

خصال الوالي و أحمدها توقعا في نفوس الخاصّة و العامّة إنصافه من خاصّته و حاشيته و أعوانه و تفقّدهم في كلّ ساعة، و يمنعهم أن يأخذوا من الغرماء فوق ما يستحقّونه ...

و ليكن في وعظه و قوله في ردعهم عن الظلم لطيفا ظريفا ليّن القول بشوشا غير جبّار و لا عبوس، قال اللّه- سبحانه-: «وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ.» ... «1»

42- و تعرّض في الباب الثالث و الخمسين لما يجب على المحتسب فعله، و نحن نذكر خلاصة ذلك مع ملخّص ما ذكره في الباب الأوّل من آداب الاحتساب و ما يجب على

المحتسب و ينبغي له في خاتمة هذا الفصل، فانتظر.

[الحسبة على أصحاب السفن و المراكب]

43- و تعرّض في الباب الرابع و الخمسين للحسبة على أصحاب السفن و المراكب، قال:

«و يؤخذ على أصحاب السفن و المراكب ألّا يحملوها فوق العادة خوف الغرق، و كذلك يمنعهم من السير وقت هبوب الرياح و اشتدادها، و إذا حملوا فيها النسوان مع الرجال حجبوا بينهما بحائل.» «2»

أقول: و ما ذكره في هذا الباب أمر خطير مهمّ يلزم رعايته و الاهتمام به في السيّارات و الطيّارات أيضا، كما لا يخفى.

[الحسبة على السدّارين]

44- و تعرّض في الباب الثالث و الأربعين بعد باب الحمّامات للحسبة على السدّارين «3».

و تعرّض في الباب الخامس و الخمسين إلى السبعين للحسبة على أمور- ففي الباب 55 على باعة قدور الخزف و الكيزان.- و في الباب 56 على الفاخرانيّين و الغضّارين.- 57 على الابّارين و المسلاتيّين.- 58 على المرادنيّين.- 59 على

______________________________

(1)- معالم القربة/ 216 (ط. مصر/ 316).

(2)- معالم القربة/ 222 (ط. مصر/ 324).

(3)- معالم القربة/ 158 (ط. مصر/ 245).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 299

الحناويّين.- 60 على الامشاطيّين.- 61 على معاصر الشيرج و الزيت.- 62 على الغرابليّين.- 63 على الدبّاغين و البططيّين.- 64 على اللبوديّين.- 65 على الفرّائين.- 66 على الحصريّين العبداني و الكركر.- 67 على التبّانين.- 68 على الخشّابين و القشّاشين.- 69 على النجّارين و النشّارين و البنّائين و الدهّانين و المبيضّين و الضببيين و الجبّاسين و الجيّارين.- 70 على الرزّازين و المراوحيين و باعة الكبريت و المكانس و الزفّاتين و سقّائي الكيزان و أرباب الروايا و القرب و الدّلاء و الغسّالين لأقمشة الناس، و الإنكار على نطاح الكباش و نقار الديوك و صياح السّمان و أمثالها «1».

و من أراد المقصود من هذه العناوين و وظيفة

المحتسب في قبالها يرجع إلى الكتاب المذكور.

و الحكم في الجميع واحد، و هو أنّه يجب على المحتسب مراقبة الأعمال و آلات العمل و الموادّ المستعملة و محالّ العمل و مقدار الأجرة و كون العامل متخصّصا في عمله و نحو ذلك، و المتخلّف يعزّر.

فهذا ما اقتبسناه من كتاب معالم القربة في بيان وظيفة المحتسب.

و قد وزّعت في أعصارنا هذه الوظائف على الدوائر و الوزارات المختلفة، و لكنّ المباشر لأكثرها الضبّاط و الحرّاس و المستخبرون.

و جلّ ما ذكره ممّا يمكن أن يستدلّ عليه بعمومات الكتاب و السنة و إن كان للإشكال في بعضها مجال، كما مرّ.

و ممّا يؤسفني أنّه لا مجال لي للتتبّع في هذا المجال لكثرة الأشغال المتفرقة، فأوصي الإخوان من الفضلاء الشبّان أن يهتمّوا بها، لكثرة الابتلاء بها في بلادنا بعد نجاح الثورة الإسلاميّة فيها، و يطبّقوا العناوين المذكورة على المصاديق و الموضوعات الرائجة في عصرنا.

______________________________

(1)- معالم القربة/ 222 (ط. مصر/ 325).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 300

و أنت ترى أنّ المتعرّض لهذه المسائل و لجلّ مسائل الدولة و الحكومة هم علماء السنّة و مؤلّفوهم. و السرّ في ذلك أنّ الشيعة و علماءهم كانوا بمعزل عن الحكم و السلطة في شتّى الأعصار إلّا في آونة قليلة، و لكنّ الروايات الدالة على هذه المسائل من ناحية العترة الطاهرة كثيرة جدّا يعثر عليها المتتبّع في خلال الأخبار المرويّة عنهم- عليهم السلام- فتتبّع.

خاتمة [في آداب المحتسب و ما يجب عليه أو ينبغي له في احتسابه]
اشارة

قد تعرّض ابن الأخوة في الباب الأوّل من معالم القربة و في الباب الثالث و الخمسين منه لآداب المحتسب و ما يجب عليه أو ينبغي له في احتسابه، فنحن نذكرها تلخيصا من كتابه تتميما للفائدة.

[أن يعمل بما يعلم]

1- فقال في الباب الأوّل منه:

«أوّل ما يجب على المحتسب أن يعمل بما يعلم، و لا يكون قوله مخالفا لفعله فقد قال- تبارك و تعالى- في ذمّ بني إسرائيل: «أَ تَأْمُرُونَ النّٰاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ؟» و روي عن النبي «ص»، قال: رأيت ليلة أسري بي رجالا تقرض شفاههم بالمقاريض فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: خطباء أمّتك الذين يأمرون الناس بالبرّ و ينسون أنفسهم. و قد قال اللّه- تعالى- مخبرا عن شعيب «ع» لما نهى قومه عن بخس الموازين و نقص المكاييل: «و ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه، إن أريد إلّا الإصلاح ما استطعت.» و لا يكون كما قيل:

لا تنه عن خلق و تأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم.»

«1» أقول: و في الوسائل بسند صحيح عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: إنّ من أعظم الناس

______________________________

(1)- معالم القربة/ 12 (ط. مصر/ 56).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 301

حسرة يوم القيامة من وصف عدلا ثمّ خالفه إلى غيره.» «1»

و في خبر قتيبة الأعشى، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «إنّ من أشدّ الناس عذابا يوم القيامة من وصف عدلا و عمل بغيره.» «2»

و في خبر أبي بصير، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال في قول اللّه- عزّ و جلّ-: فكبكبوا فيها هم و الغاوون، فقال: يا با بصير، هم قوم وصفوا عدلا بألسنتهم ثمّ خالفوه إلى غيره «3» هذا.

[أن يقصد بقوله و فعله وجه اللّه- تعالى]

2- ثمّ قال ابن الأخوة:

«و يجب على المحتسب أن يقصد بقوله و فعله وجه اللّه- تعالى- و طلب مرضاته خالص النيّة لا يشوبه في طويّته رياء و لا مراء، و يتجنّب في رئاسته منافسة الخلق و

مفاخرة أبناء الجنس، لينشر اللّه عليه رداء القبول و علم التوفيق و يقذف له في القلوب مهابة و جلالة و مبادرة إلى قبول قوله بالسمع و الطاعة، فقد قال «ص»: «من أرضى اللّه بسخط الناس كفاه شرّهم، و من أرضى الناس بسخط اللّه و كله إليهم، و من أحسن فيما بينه و بين اللّه أحسن اللّه فيما بينه و بين الناس، و من أصلح سريرته أصلح اللّه علانيته، و من عمل لآخرته كفاه اللّه أمر دنياه.» «4»

[ان يكون مواظبا على سنن رسول اللّه «ص»]

3- «و ينبغي للمحتسب ان يكون مواظبا على سنن رسول اللّه «ص» من قصّ الشارب و نتف الابط و حلق العانة و تقليم الأظافر و نظافة الثياب و تقصيرها و التعطّر بالمسك و نحوه و جميع سنن الشرع و مستحبّاته، هذا مع القيام على الفرائض و السنن الراتبة ...» «5»

[أن يكون عفيفا عن أموال الناس]

4- «و من الشروط اللازمة للمحتسب أن يكون عفيفا عن أموال الناس متورّعا عن قبول الهدية من المتعيّشين و أرباب الصناعات، فإنّ ذلك رشوة و قد قال «ص»: لعن اللّه

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 234، الباب 38 من أبواب جهاد النفس، الحديث 1.

(2)- الوسائل 11/ 234، الباب 38 من أبواب جهاد النفس، الحديث 3.

(3)- الوسائل 11/ 235، الباب 38 من أبواب جهاد النفس، الحديث 4.

(4)- معالم القربة/ 12، (ط. مصر/ 57).

(5)- معالم القربة/ 13، (ط. مصر/ 58).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 302

الراشي و المرتشي. و لأنّ التعفّف عن ذلك أصون لعرضه و أقوم لهيبته.» «1»

[من الآداب تقليل العلائق]

5- «و من الآداب تقليل العلائق. روي عن بعض المشايخ أنّه كان له سنّور و كان يأخذ له كلّ يوم من قصّاب شيئا لغذائه، فرأى على القصّاب منكرا فدخل الدار و أخرج السنّور ثمّ جاء و احتسب على القصّاب. فقال القصّاب: لا أعطيك بعد اليوم للسنّور شيئا. فقال الشيخ: ما احتسبت عليك إلّا بعد إخراج السنّور و قطع الطمع منك.

و يلزم غلمانه و أعوانه بما التزمه من هذه الشروط، فإنّ أكثر ما تتطرّق التهم إلى المحتسب من غلمانه و أعوانه ...» «2»

[ليكن سمته الرفق و لين القول]

6- «و ليكن سمته الرفق و لين القول، و طلاقة الوجه و سهولة الأخلاق عند أمره الناس و نهيه، فإنّ ذلك أبلغ في استمالة القلوب و حصول المقصود. قال اللّه- تبارك و تعالى- لنبيّه «ص»: «فَبِمٰا رَحْمَةٍ مِنَ اللّٰهِ لِنْتَ لَهُمْ، وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ». و لأنّ الإغلاظ في الزجر ربّما أغرى بالمعصية، و التعنيف في الموعظة ينفّر القلوب. حكى أنّ رجلا دخل على المأمون فأمره بمعروف و نهاه عن منكر و أغلظ له في القول. فقال له المأمون: يا هذا، إنّ اللّه أرسل من هو خير منك لمن هو شرّ منّي فقال لموسى و هارون: «فَقُولٰا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشىٰ.» ثمّ أعرض عنه و لم يلتفت إليه.

و لأنّ الرجل قد ينال بالرفق ما لا ينال بالتعنيف، كما قال «ص»: إنّ اللّه رفيق يحبّ كلّ رفيق يعطي على الرفق ما لا يعطي على التعنيف.» «3»

أقول: و عن أبي عبد اللّه «ع»: «إنّما يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر من كانت فيه ثلاث خصال: عامل بما يأمر به، تارك لما ينهى عنه، عادل فيما يأمر، عادل

فيما ينهى، رفيق فيما يأمر، رفيق فيما ينهى.» «4»

______________________________

(1)- معالم القربة/ 13، (ط. مصر/ 59).

(2)- معالم القربة/ 14، (ط. مصر/ 59).

(3)- معالم القربة/ 14، (ط. مصر/ 60).

(4)- الوسائل 11/ 419، الباب 10 من أبواب الأمر و النهي ...، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 303

[أن يكون ملازما للأسواق]

7- و قال في الباب الثالث و الخمسين:

«ينبغي أن يكون ملازما للأسواق، يركب في كلّ وقت، و يدور على السوقة و البلاغة، و يكشف الدكاكين و الطرقات، و يتفقّد الموازين و الأرطال، و يتفقّد معايشهم و أطعمتهم، و ما يغشّونه. و يفعل ذلك في النهار و الليل في أوقات مختلفة، و ذلك على غفلة منهم، و يختم في الليل حوانيت من لا يتمكّن من الكشف عليه بالنهار ...،

و ليكن معه أمين عارف ثقة يعتمد على قوله، و مع ذلك فلا يعتمد في الكشف إلّا على ما يظهر له و يباشره بنفسه. و لا يهمل كشف الأسواق، فقد ذكر أنّ علي بن عيسى الوزير وقّع إلى محتسب كان في وقت وزارته يكثر الجلوس في داره ببغداد: الحسبة لا تحتمل الحجبة، فطف الأسواق تحلّ لك الأرزاق، و اللّه إن لزمت دارك نهارا لأضر منّها عليك نارا.» «1»

[أن يتّخذ رسلا و غلمانا و أعوانا بين يديه بقدر الحاجة]

8- «و ينبغي للمحتسب أن يتّخذ رسلا و غلمانا و أعوانا بين يديه بقدر الحاجة دائما إن كان جالسا أو راكبا، فإنّ ذلك أعظم لحرمته و أوفر لهيبته، و إعانة للناس على طلب غرمائهم و خلاص الحقّ منهم. و يشترط فيهم العفة و الصيانة و النهضة و الشهامة، و يؤدّبهم و يهذّبهم و يعرفهم كيف يتصرّفون بين يديه و كيف يخرجون في طلب الغرماء، و أنّهم لا يعرفون الخصم الذي طلب، لما ذا طلب؟ لئلّا يتفكّر في حجّة يتخلّص بها فإذا طلب شخصا بعدّته و آلته فليحضروه على هيئته التي وجدوه عليها ... و لا يخرج أحد من الرسل في طلب أحد من الناس إلّا بعد مشاورة المحتسب، و إذا خرج فليخرج بعزم و قوّة نفس حادّة و يطلب الخصم

بسرعة، فإنّ ذلك ممّا يرعبه و يخوّفه و يردعه ...» «2»

______________________________

(1)- معالم القربة/ 219، (ط. مصر/ 320).

(2)- معالم القربة/ 220، (ط. مصر/ 322).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 305

الفصل السادس في البحث حول التعزيرات الشرعية

[ما يتعلق به التعذير]

قال الشيخ في أواخر كتاب الأشربة من المبسوط:

«كل من أتى معصية لا يجب بها الحدّ فإنّه يعزّر. مثل أن سرق نصابا من غير حرز، أو أقلّ من نصاب من حرز، أو وطئ أجنبيّة فيما دون الفرج أو قبّلها، أو شتم إنسانا أو ضربه، فإنّ الإمام يعزّره.» «1»

و قال المحقق في حدود الشرائع:

«كل من فعل محرما أو ترك واجبا فللإمام تعزيره بما لا يبلغ الحدّ. و تقديره إلى الإمام، و لا يبلغ به حدّ الحر في الحرّ و لا حدّ العبد في العبد.» «2»

و في الجواهر:

«لا خلاف و لا إشكال نصا و فتوى.» «3»

و قال العلامة في القواعد:

______________________________

(1)- المبسوط 8/ 69.

(2)- الشرائع 4/ 168.

(3)- الجواهر 41/ 448.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 306

«و كل من فعل محرما أو ترك واجبا كان للإمام تعزيره بما لا يبلغ الحدّ لكن بما يراه الإمام، و لا يبلغ حد الحرّ في الحر و لا حد العبد في العبد.» «1»

أقول: لا يخفى أن مراد المحقق و العلامة أيضا المحرمات التي لم يرد فيها حدود معينة.

و يدل على الحكم مضافا إلى وضوحه و عدم الخلاف فيه كما مرّ من الجواهر أولا: استقرار سيرة النبي «ص» و أمير المؤمنين «ع» على ذلك على ما مرّ منا من حسبتهما في موارد كثيرة بعد إلغاء الخصوصية، فراجع.

و ثانيا: ما دل من الأخبار على وجوب الإنكار و لو باليد كما في خبر جابر المتقدم، عن أبي جعفر

«ع»: «فأنكروا بقلوبكم و الفظوا بألسنتكم و صكّوا بها جباههم.» «2»

و في خبر يحيى الطويل، عن أبي عبد اللّه «ع»: «ما جعل اللّه بسط اللسان و كفّ اليد و لكن جعلهما يبسطان معا و يكفّان معا.» «3»

و في خبر ابن أبي ليلى، عن أمير المؤمنين «ع»: «و من أنكره بالسيف لتكون كلمة اللّه العليا و كلمة الظالمين السفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى.» «4»

و في خبر العسكري «ع»: «من رأى منكم منكرا فلينكر بيده إن استطاع.» «5»

إلى غير ذلك من الروايات الواردة بطرق الفريقين، فراجع.

و قد مرّ البحث في أن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إذا وصلت النوبة فيهما إلى الضرب و الجراح فهل يجوز أن يتصدّى له كلّ أحد أو يكون مخصوصا بالإمام أو

______________________________

(1)- القواعد 2/ 262.

(2)- الوسائل 11/ 403، الباب 3 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 1.

(3)- الوسائل 11/ 404، الباب 3 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 2.

(4)- الوسائل 11/ 405، الباب 3 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 8.

(5)- الوسائل 11/ 407، الباب 3 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 12.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 307

من نصبه؟ و عرفت أن الأحوط هو الثاني. هذا.

و لكن يمكن أن يقال إن هذا الاستدلال خلط بين باب الأمر و النهي و باب التعزيرات، إذ المقصود في هذه الروايات هو الردع و المنع عن وقوع المنكر، فلا تدلّ على جواز التعزير بعد وقوعه، فتأمل.

و ثالثا: الروايات الدالة على أن اللّه- تعالى- جعل لكل شي ء حدّا، و جعل على من تعدّى حدّا من حدود اللّه حدّا؛ و هي مستفيضة:

منها صحيحة داود بن فرقد، عن أبي عبد اللّه

«ع»، عن رسول اللّه «ص»: «إن اللّه قد جعل لكل شي ء حدّا و جعل لمن تعدّى ذلك الحدّ حدّا.» «1»

و في خبر ابن رباط، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: قال رسول اللّه «ص»: «إن اللّه- عزّ و جلّ- جعل لكل شي ء حدّا، و جعل على من تعدّى حدّا من حدود اللّه- عزّ و جلّ- حدّا.» «2»

إلى غير ذلك من الأخبار، فراجع الباب الثاني من مقدمات الحدود من الوسائل «3». و واضح أن الحد في هذه الأخبار أعم من الحدّ المصطلح، إذ هو لا يثبت إلّا في موارد خاصة، فتدبر.

و في الباب الخمسين من معالم القربة:

«التعزير اسم يختص بفعله الإمام أو نائبه في غير الحدود و التأديب. و الدليل على جواز التعزير ما روي أن النبي «ص» قال: «لا قطع في ثمر و لا كثر حتى يؤويه الجرين، فإذا آواه الجرين و بلغ ثمنه ثمن المجنّ ففيه القطع، و إن كان دون ذلك ففيه غرم مثله و جلدات نكالا».

... و كل من أتى معصية لا حدّ فيها و لا كفارة كالمباشرة المحرمة فيما دون الفرج، و السرقة فيما دون النصاب، و القذف بغير الزنا، و الخيانة بما لا يوجب القصاص، و الشهادة بالزور

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 310، الباب 2 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.

(2)- الوسائل 18/ 310، الباب 2 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 2.

(3)- الوسائل 18/ 309- 311.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 308

و ما أشبه ذلك من المعاصي عزّر. روي ذلك عن الخلفاء الراشدين، و لأن اللّه- تعالى- أباح الضرب للزوج عند نشوز الزوجة، و قسنا عليه سائر المعاصي على حسب ما يراه الإمام أو نائبه.» «1»

أقول:

ما رواه عن النبي «ص» ورد في مورد خاصّ، فلا يقاس عليه و لا على الضرب في نشوز الزوجة، لمنع حجية القياس عندنا. نعم، لو كان ذكر الموردين من باب المثال فأريد مجموع الروايات الكثيرة الواردة في موارد مختلفة و منها ما ورد من التعزير في من سبّ رجلا أو هجاه أو نسبه إلى ما ليس فيه «2» بإلغاء الخصوصية و تنقيح المناط القطعي صحّ الاستدلال بها، و صار هذا دليلا رابعا في المقام. هذا.

و في نهاية ابن الأثير:

«و في حديث الحدود: لا قطع في ثمر حتّى يؤويه الجرين، هو موضع تجفيف التمر ...

و يجمع على جرن.» «3»

و فيه أيضا:

«الكثر بفتحتين: جمّار النخل و هو شحمه الذي وسط النخلة.» «4»

و الحديث مرويّ بطرقنا أيضا، ففي الوسائل عن السكوني، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «قال رسول اللّه «ص»: لا قطع في ثمر و لأكثر. و الكثر: شحم النخل.» «5»

______________________________

(1)- معالم القربة/ 190- 191، (ط. مصر/ 284)، فصل في التعاذير.

(2)- راجع الوسائل 18/ 452- 454، الباب 19 من أبواب حدّ القذف.

(3)- النهاية 1/ 263.

(4)- النهاية 4/ 152.

(5)- الوسائل 18/ 517، الباب 23 من أبواب حدّ السّرقة، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 309

جهات البحث في المسألة

اشارة

إذا عرفت ما ذكرناه فاعلم أن هنا جهات في المسألة يجب الالتفات إليها و البحث فيها:

الجهة الأولى: في اهتمام الإسلام بإقامة الحدود و التعزيرات:

لا يخفى أن إدارة المجتمع و حفظ النظام و أمن السبل و إقامة القسط و العدل تتوقف على تحديد الحريّات و وضع المقرّرات، و على تأديب المتخلفين و مجازاة المجرمين. إذ لو لا خوف أهل الفساد من العقوبة و الخذلان لما بقي للنفوس و الأعراض و الأموال حرمة، و لاختلّ أمر الحياة و شاعت الفوضى و الهرج.

و قد استقرّت سيرة عقلاء البشر في كل عصر و زمان على وضع المقررات و تحديد الحرّيّات و على سياسة المتخلفين. فهذا أمر لا محيص عنه في كل نظام و مجتمع.

و الإسلام بجامعيته لجميع ما يحتاج إليه الإنسان في معاشه و معاده و ما به صلاحه في الدارين اهتمّ بهذا الأمر أشدّ الاهتمام:

قال اللّه- تعالى-: «لَقَدْ أَرْسَلْنٰا رُسُلَنٰا بِالْبَيِّنٰاتِ وَ أَنْزَلْنٰا مَعَهُمُ الْكِتٰابَ وَ الْمِيزٰانَ لِيَقُومَ النّٰاسُ بِالْقِسْطِ، وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنٰافِعُ لِلنّٰاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللّٰهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ بِالْغَيْبِ، إِنَّ اللّٰهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ». «1»

______________________________

(1)- سورة الحديد (57)، الآية 25.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 310

فالرسالات السماوية كلها قد تكفلت لما به صلاح الناس، و في خاتمتها شرع نبيّنا- صلّى اللّه عليه و آله-. و قد جعل اللّه الحديد و السلاح ضمانة لتنفيذ كتبه و موازينه و إقامة القسط و العدل و نصر رسله و بسط أحكامه.

و في خبر عبد الرحمن بن الحجاج، عن أبي إبراهيم «ع» في قول اللّه- عزّ و جلّ-:

«يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا»*، قال: «ليس يحييها بالقطر، و لكن يبعث اللّه رجالا فيحيون العدل فتحيى الأرض لإحياء العدل. و لإقامة

الحدّ للّه أنفع في الأرض من القطر أربعين صباحا.»

و بهذا المضمون روايات مستفيضة، فراجع الوسائل «1».

و قد مرّ الحديث عن رسول اللّه «ص»: «إن اللّه قد جعل لكل شي ء حدّا، و جعل لمن تعدّى ذلك الحدّ حدّا.» «2»

و الظاهر من الروايات و من فتاوى الأصحاب أن إقامة الحدود بحسب الطبع واجبة لا يجوز تعطيلها:

ففي خبر ميثم، عن أمير المؤمنين «ع»: «... يا محمّد، من عطّل حدّا من حدودي فقد عاندني و طلب بذلك مضادّتي.» «3»

و لمّا شفعت أمّ سلمة عند النبي «ص» لأمتها التي سرقت، قال النبي «ص»:

«يا أمّ سلمة، هذا حدّ من حدود اللّه لا يضيّع، فقطعها رسول اللّه «ص».» «4»

و في صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «إنّ في كتاب علي «ع» انّه كان يضرب بالسوط، و بنصف السوط، و ببعضه في الحدود. و كان إذا أتى بغلام و جارية لم يدركا لا يبطل حدّا من حدود اللّه- عزّ و جلّ-. قيل له: و كيف كان يضرب؟ قال: كان يأخذ السوط بيده من وسطه أو من ثلثه ثم يضرب به على قدر أسنانهم، و لا يبطل حدّا من حدود اللّه- عزّ

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 308، الباب 1 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 3 و ...

(2)- الوسائل 18/ 310، الباب 2 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.

(3)- الوسائل 18/ 309، الباب 1 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 6.

(4)- الوسائل 18/ 332، الباب 20 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 311

و جلّ-.» «1»

و في سنن أبي داود بسنده، عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص أن رسول اللّه «ص» قال: «تعافوا الحدود

فيما بينكم. فما بلغني من حدّ فقد وجب.» «2»

إلى غير ذلك من الروايات، فراجع.

نعم، لو تاب المجرم قبل قيام البينة عليه سقط الحد، كما أنّه لو كان الثبوت بالإقرار لا بالبينة كان للإمام عفوه، بل مطلقا على قول «3». و سيأتي البحث فيه إجمالا و التحقيق موكول إلى كتاب الحدود. هذا كلّه في الحدود المصطلحة.

و أما التعزيرات فهل يكون تنفيذها واجبا، أو تكون باختيار الإمام، أو فيه تفصيل؟ في المسألة وجوه.

قال الشيخ في أشربة الخلاف (المسألة 13):

«التعزير إلى الإمام بلا خلاف، إلّا أنّه إذا علم أنّه لا يردعه إلّا التعزير لم يجز له تركه. و إن علم أنّ غيره يقوم مقامه من الكلام و التعنيف كان له أن يعدل إليه، و يجوز له تعزيره، و به قال أبو حنيفة. و قال الشافعي: هو بالخيار في جميع الأحوال دليلنا ظواهر الأخبار و تناولها الأمر بالتعزير، و ذلك يقتضي الإيجاب.» «4»

و قال في أواخر الأشربة من المبسوط:

«و التعزير موكول إلى الإمام لا يجب عليه ذلك؛ فإن رأى التعزير فعل، و إن رأى تركه فعل، سواء كان عنده أنه لا يردعه غير التعزير، أو كان يرتدع بغير تعزير.

و قال بعضهم: متى كان عنده أنه يرتدع بغيره فهو بالخيار بين إقامته و تركه، و إن كان عنده أنه لا يردعه إلّا التعزير فعليه التعزير، و هو الأحوط.» «5»

و ظاهر كلام الشيخ أن التعزير عنده يختصّ بالضرب، و أن التعنيف ليس من

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 307، الباب 1 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.

(2)- سنن أبي داود 2/ 446، كتاب الحدود، باب العفو عن الحدود ما لم تبلغ السلطان.

(3)- راجع الوسائل 18/ 330- 331، الباب 18 من أبواب مقدمات الحدود.

(4)-

الخلاف 3/ 223.

(5)- المبسوط 8/ 69.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 312

مصاديقه، هذا.

و ما مرّ من الشرائع و القواعد في صدر المسألة أيضا لا ظهور لهما في الوجوب و التعيّن، كما لا يخفى.

و في المغني لابن قدامة:

«و التعزير فيما شرع فيه التعزير واجب إذا رآه الإمام، و به قال مالك و أبو حنيفة.

و قال الشافعي: ليس بواجب، لأن رجلا جاء إلى النبي «ص» فقال: إني لقيت امرأة فأصبت منها ما دون أن أطأها، فقال: «أ صلّيت معنا؟» قال: نعم. فتلا عليه: إِنَّ الْحَسَنٰاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئٰاتِ. و قال في الأنصار: «اقبلوا من محسنهم و تجاوزوا عن مسيئهم.» «1»

و لكن المستفاد من أكثر الأخبار الواردة في التعزيرات، و كذا من أكثر كلمات الأصحاب وجوب التعزير في موارده بدوا و بالطبع، و إن قلنا بسقوطه إن تاب قبل قيام البينة، و بجواز عفو الحاكم عنه إن كان الثبوت بالإقرار لا بالبينة كما هو الظاهر، نظير ما مرّ في الحدّ.

فأنت ترى روايات الباب و كلمات الأصحاب مشحونة بقولهم: عزّر، أو يعزّر، أو أدّب، أو يؤدّب، أو ضرب، أو يضرب تعزيرا، أو عليه تعزير، أو جلد، أو يجلد و نحو ذلك من الألفاظ التي تكون بصورة الاخبار و يراد بها الأمر قطعا. و قد حقّق في محلّه أن ظهور هذا النحو من التعبير في الوجوب أقوى و أوكد من ظهور الأمر فيه، لبنائه على فرض تحقق الأمر و تأثيره في المأمور و وقوع الفعل منه خارجا بامتثاله فيخبر هو عن ذلك. اللّهم إلّا أن يقال إن تعزير الغير لما كان تصرفا في سلطته و هي محرّمة بالطبع كان مفاد الأمر و ما في معناه في

مثل المقام رفع الحظر فقط فلا يدل على الوجوب، فتأمل. و بعض فقهائنا أيضا عبّروا بلفظ الوجوب. و ظاهره الوجوب الاصطلاحي. و حمله على معناه اللغوي، أعني الثبوت خلاف الظاهر:

ففي الغنية:

______________________________

(1)- المغني 10/ 348.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 313

«فصل: و اعلم أن التعزير يجب بفعل القبيح و الإخلال بالواجب الذي لم يرد من الشارع بتوظيف حدّ عليه، أو ورد بذلك فيه و لم يتكامل شروط إقامته؛ فيعزّر على مقدمات الزنا و اللواط من النوم في إزار واحد و الضم و التقبيل ...» «1»

و في آخر كتاب الحدود من التحرير:

«التعزير يجب في كل جناية لا حدّ فيها، كالوطي في الحيض للزوجة، و الأجنبية فيما دون الفرج ... و هو يكون بالضرب و الحبس و التوبيخ من غير قطع و لا جرح و لا أخذ مال. و التعزير واجب فيما يشرع فيه التعزير و لا ضمان لمن مات به.» «2»

فظاهر كلام هذين العلمين وجوب التعزير مثل الحدّ.

نعم عند العلامة «ره» لا ينحصر التعزير بالضرب، بل يعمّ الحبس و التوبيخ أيضا. و سيأتي البحث في ذلك أيضا. هذا.

و يدل على وجوب التعزير أيضا- مضافا إلى ما مرّ- صحيحة الحلبي التي مضت آنفا، إذ المراد بالحد فيها ما يشمل التعزير أيضا بقرينة ذكر الغلام و الجارية الّذين لم يدركا، إذ الثابت فيهما هو التعزير لا الحد المصطلح، بل يحتمل أن يراد بالحدّ في خبر ميثم الماضي أيضا هو الأعم لكثرة استعماله فيه، فتأمّل.

نعم، روت عائشة، قالت: قال رسول اللّه «ص»: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلّا الحدود.» «3»

و في الدعائم: روينا عن رسول اللّه «ص» أنه قال: «ادرءوا الحدود بالشبهات، و أقيلوا الكرام عثراتهم

إلّا في حدّ من حدود اللّه.» «4»

فلعله يستفاد من هذا الحديث التفاوت بين الحدود و التعزيرات في وجوب التنفيذ و عدمه.

______________________________

(1)- الجوامع الفقهية/ 562.

(2)- تحرير الأحكام 2/ 239.

(3)- سنن أبي داود 2/ 446، كتاب الحدود، باب في الحدّ يشفع فيه.

(4)- دعائم الإسلام 2/ 465، كتاب الحدود، الفصل 5 (ذكر القضايا في الحدود)، الحديث 1649.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 314

و لكن من المحتمل على فرض صحة الحديث كون المراد بالحدود فيه هو الأعم؛ فتشمل التعزيرات أيضا. فيكون المقصود أن الناس و إن تساووا في وجوب إجراء الحدود و التعزيرات عليهم و لكن بعد إجرائها ينبغي التفاوت بين ذوي الهيئات و غيرهم في كيفية العشرة معهم و هجرهم أو اجتذابهم و إظهار المودّة لهم. هذا.

و في نهج البلاغة: «أقيلوا ذوي المروءات عثراتهم، فما يعثر منهم عاثر إلّا و يد اللّه بيده يرفعه.» «1»

و نحوه في الغرر و الدرر «2». و ليس فيه استثناء الحدود.

و في تحف العقول عن النبي «ص» ورد الحديث هكذا: «أقيلوا ذوي الهناة عثراتهم.» «3» و الهناة هي الداهية و المصيبة. هذا.

و الظاهر جواز عفو الإمام عما كان من حقوق اللّه و لم يرد فيه حدّ خاص إذا رأى ذلك صلاحا و لم يوجب تجرأ المجرم.

و يمكن أن يستفاد هذا من إطلاق الآيات و الروايات الكثيرة الواردة في العفو و إقالة العثرات. و سيأتي التعرض لها في الجهة العاشرة، فانتظر.

الجهة الثانية: في عموم الحكم للصغائر أيضا:

ظاهر ما مرّ من المبسوط و الشرائع و القواعد عموم الحكم لكل محرم، صغيرا كان أو كبيرا. و لكن في الجواهر:

«قد يقال باختصاص التعزير بالكبائر دون الصغائر ممن كان يجتنب الكبائر، فإنّها

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 1095؛ عبده

3/ 155؛ لح/ 471، الحكمة 20.

(2)- الغرر و الدّرر 2/ 260، الحديث 2550.

(3)- تحف العقول/ 58.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 315

حينئذ مكفّرة لا شي ء عليها، أمّا إذا لم يكن مجتنبا لها فلا يبعد التعزير لها أيضا.» «1»

أقول: نظره «ره» إلى قوله- تعالى-: «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ، وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً.» «2»

فإن قلت: إذا لم يثبت التعزير في الصغائر مع اجتناب الكبائر أمكن القول بعدمه فيها مطلقا، لعدم القول بالفصل.

قلت: لا دليل على حجية ذلك ما لم يرجع إلى القول بعدم الفصل، و المسألة لم تكن معنونة في كلمات القدماء من أصحابنا حتى يحرز هذا القول. هذا.

و يمكن الإشكال في أصل الاختصاص بالكبائر، لأن المفروض كون الصغيرة أيضا محرمة مبغوضة شرعا، و الآية إنّما تدل على التكفير و العفو عنها في العقبى فلا ينافي جواز التعزير عليها فعلا ردعا للفاعل عن تكرارها و لغيره عن الإتيان بمثلها. و عموم قوله «ص»: «إنّ اللّه قد جعل لكل شي ء حدّا، و جعل لمن تعدّى ذلك الحد حدّا» «3»، يشملها أيضا، فتدبر.

الجهة الثالثة: في بيان مفهوم التعزير بحسب اللغة:

1- قال في الصحاح:

«التعزير: التعظيم و التوقير، و التعزير أيضا: التأديب، و منه سمّي الضرب دون الحدّ

______________________________

(1)- الجواهر 41/ 448.

(2)- سورة النساء (4)، الآية 31.

(3)- الوسائل 18/ 310، الباب 2 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 316

تعزيرا.» «1»

2- و في القاموس:

«العزر: اللوم. عزره يعزره و عزروه، التعزير: ضرب دون الحد أو هو أشدّ الضرب.

و التفخيم و التعظيم. ضدّ.» «2»

3- و في لسان العرب:

«العزر: اللوم. و عزره يعزره عزرا و عزّره: ردّه. و العزر و التعزير:

ضرب دون الحدّ لمنعه الجاني من المعاودة و ردعه عن المعصية ... و قيل: هو أشدّ الضرب. و عزّره:

ضربه ذلك الضرب. و العزر: المنع. و العزر: التوقيف على باب الدين ... و التعزير:

التوقيف على الفرائض و الأحكام. و أصل التعزير: التأديب، و لهذا يسمّى الضرب دون الحد تعزيرا، إنّما هو أدب، يقال: عزرته و عزّرته. فهو من الأضداد. و عزّره: فخّمه و عظّمه.» «3»

4- و قال الراغب في المفردات:

«التعزير: النصرة مع التعظيم، قال: وَ تُعَزِّرُوهُ، و عزّرتموهم. و التعزير: ضرب دون الحدّ و ذلك يرجع إلى الأول، فإنّ ذلك تأديب، و التأديب نصرة ما لكن الأوّل نصرة بقمع ما يضرّه عنه، و الثاني نصرة بقمعه عمّا يضرّه، فمن قمعته عمّا يضرّه فقد نصرته. و على هذا الوجه قال «ص»: انصر أخاك ظالما أو مظلوما. قال: أنصره مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ فقال: كفّه عن الظلم.» «4»

5- و في نهاية ابن الأثير:

«التعزير: الإعانة و التوقير و النصر مرّة بعد مرّة. و أصل التعزير: المنع و الردّ؛ فكأنّ من نصرته فقد رددت عنه أعداءه و منعتهم من أذاه، و لهذا قيل للتأديب الّذي هو دون الحدّ تعزير لأنه يمنع الجاني أن يعاود الذنب.» «5» هذا.

______________________________

(1)- صحاح اللغة 2/ 744.

(2)- القاموس/ 278.

(3)- لسان العرب 4/ 561- 562.

(4)- مفردات الراغب/ 345.

(5)- النهاية 3/ 228.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 317

6- و قال المحقق في الشرائع:

«كل ماله عقوبة مقدرة يسمّى حدّا، و ما ليس كذلك يسمّى تعزيرا.» «1»

و لا يخفى وجود مسامحة ما في عبارته؛ فإن الحد و التعزير اسمان لنفس العقوبة لا لما فيه العقوبة.

7- و في المسالك:

«التعزير لغة: التأديب، و شرعا عقوبة أو إهانة

لا تقدير لها بأصل الشرع غالبا.» «2»

أقول: و قيد بالغالب ليشمل مثل تعزير من أتى زوجته الصائمة أو أتى البهيمة، حيث قدر بخمسة و عشرين سوطا، فراجع.

8- و في الأحكام السلطانية للماوردي:

«و التعزير: تأديب على ذنوب لم تشرع فيها الحدود. و يختلف حكمه باختلاف حاله و حال فاعله.» «3» و نحو ذلك في الأحكام السلطانية لأبي يعلى الفرّاء، فراجع «4».

9- و في معالم القربة:

«التعزير: اسم يختص بفعله الإمام أو نائبه في غير الحدود و التأديب ... فأما ضرب الزوج زوجته و المعلم الصبي فذاك يسمّى تأديبا. و اصله العزر و هو المنع و الزجر، يقال: عزّره إذا رفعه. و هو من الأسماء الأضداد، و منه سمّي النصر تعزيرا لأنه يدفع العدو و يمنعه، و إليه الإشارة بقوله: «وَ تُعَزِّرُوهُ وَ تُوَقِّرُوهُ.» «5»

10- و في المغني لابن قدامة الحنبلي:

«التعزير هو العقوبة المشروعة على جناية لا حدّ فيها ... و الأصل في التعزير:

المنع، و منه التعزير بمعنى النصرة لأنه منع لعدوّه من أذاه.» «6»

______________________________

(1)- الشرائع 4/ 147.

(2)- المسالك 2/ 423.

(3)- الأحكام السلطانيّة/ 236.

(4)- الأحكام السلطانيّة/ 279.

(5)- معالم القربة/ 190- 191 (ط. مصر/ 284)، الباب 50، فصل في التعازير.

(6)- المغني 10/ 347.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 318

أقول: لا يخفى أن ظاهر أكثر كلمات أهل اللغة و فقهاء الفريقين اختصاص التعزير بالضرب و العقوبة البدنية، و ربما يظهر من بعضها شموله لمثل الإهانة و التهديد و التوبيخ و نحوها أيضا. و سيأتي تفصيل ذلك، فانتظر.

الجهة الرابعة: في أن التعزير يراد به الضرب و الإيلام، أو مطلق التأديب؟
[التعزير في الكلمات]

قد عرفت في الجهة الثالثة أن العزر و التعزير في كلمات أهل اللغة فسّرا بالتوقير، و بالمنع، و الردّ، و اللوم، و التأديب، و التوقيف.

و في الصحاح:

«التعزير أيضا:

التأديب، و منه سمّي الضرب دون الحدّ تعزيرا.»

و في لسان العرب:

«و العزر و التعزير: ضرب دون الحدّ، لمنعه الجاني من المعاودة ... و أصل التعزير: التأديب، و لهذا يسمّى الضرب دون الحد تعزيرا، إنما هو أدب.»

فيظهر من تتبع أكثر كلمات أهل اللغة أن اللفظ بحسب الوضع لم يوضع للضرب، بل للمنع و التأديب و نحوهما، و إنما استعمل في الضرب بعناية كونه من مصاديق المفهوم الذي وضع له اللفظ.

نعم، يظهر من أكثر كلمات الفقهاء كونه بمعنى الضرب الذي دون الحدّ، كما أنه الظاهر من بعض كلمات أهل اللغة كالقاموس أيضا، و لعله المفهوم منه في الاستعمالات العرفية في أعصارنا.

و لكن يظهر من بعض الفقهاء و لا سيما فقهاء السنة كونه بحسب الاصطلاح أيضا بمعنى مطلق ما يتحقق به المنع و التأديب؛ فيشمل التوبيخ و التهديد و الحبس و المجازاة المالية. فليس في المقام نقل و لا حقيقة شرعية، بل الملحوظ نفس المفهوم

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 319

اللغوي بعمومه، و الضرب ليس إلّا مصداقا شائعا من مصاديقه، و لعل اختياره من بين المصاديق غالبا كان من جهة كونه أشدّ تأثيرا و أعم نفعا فيما يترقّب منه و أسهل تناولا.

كما أنه يظهر من بعض آخر أن المراد باللفظ خصوص الضرب و لكنه لا يتعين اختياره، بل يكون بحسب الرتبة متأخرا عن مثل التوبيخ و الهجر و نحوهما، فلا تصل النوبة إليه إلّا بعد عدم تأثير غيره.

و كيف كان، فهل يتعين الضرب و العقوبة البدنية في من تخلف مطلقا، أو يكون مشروطا بما إذا لم ينته بالنهي و التوبيخ و التهديد و الهجر و نحو ذلك، أو يكون الإمام

مخيرا بين الضرب و بين غيره؟ وجوه بل أقوال:

ظاهر أكثر الكلمات و منها ما مرّ من الشرائع و القواعد هو الأول.

و لكن: 1- قال الشيخ في أشربة المبسوط:

«إذا فعل إنسان ما يستحقّ به التعزير مثل أن قبل امرأة حراما، أو أتاها فيما دون الفرج، أو أتى غلاما بين فخذيه- عندهم لأن عندنا ذلك لواط- أو ضرب إنسانا، أو شتمه بغير حق فللإمام تأديبه؛ فإن رأى أن يوبّخه على ذلك و يبكّته أو يحبسه فعل، و إن رأى أن يعزّره فيضربه ضربا لا يبلغ به أدنى الحدود- و أدناها أربعون جلدة- فعل، فإذا فعل فإن سلم منه فلا كلام، و إن تلف منه كان مضمونا عند قوم.

و قال قوم: إن علم الإمام أنه لا يردعه إلّا التعزير وجب عليه أن يعزّره، و إن رأى أنه يرتدع بغيره كان التعزير إليه: إن شاء عزّره و إن شاء تركه، فإن فعل ذلك فلا ضمان على الإمام، سواء عزّره تعزيرا واجبا أو مباحا. و هو الذي يقتضيه مذهبنا.» «1»

و ظاهره كون التأديب أعم من التعزير، و التعزير ينحصر في الضرب، و لكن

______________________________

(1)- المبسوط 8/ 66.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 320

الإمام مخيّر بين الضرب و غيره. و قد مرّ في الجهة الأولى كلام آخر من الشيخ من أواخر أشربة المبسوط، و كلام منه من أشربة الخلاف (المسألة 13) يناسبان المقام، فراجع.

2- و في آخر كتاب الحدود من التحرير:

«التعزير يجب في كلّ جناية لا حدّ فيها ... و هو يكون بالضرب و الحبس و التوبيخ، من غير قطع و لا جرح و لا أخذ مال.» «1»

و ظاهره كون التعزير أعمّ، و كون الإمام مخيرا

بين أفراده.

3- و في كشف اللثام في شرح ما قدمناه من القواعد قال:

«ثم وجوب التعزير في كل محرّم من فعل أو ترك إن لم ينته بالنهي و التوبيخ و نحوهما فهو ظاهر لوجوب إنكار المنكر، و أمّا إن انتهى بما دون الضرب فلا دليل إلّا في مواضع مخصوصة ورد النصّ فيها بالتأديب أو التعزير. و يمكن تعميم التعزير في كلامه و كلام غيره لما دون الضرب من مراتب الإنكار.» «2»

أقول: ظاهر كلامه الخلط بين باب التعزير و باب النهي عن المنكر، و كأنه توهّم أن التعزير إنما يقع للردع عما وجد من المنكر، فإذا حصل الارتداع بدون ذلك فلا يبقى مجال له.

و لكن يمكن أن يقال: إن الحكمة في تشريعه ارتداع الفاعل في المستقبل، و كذا ارتداع غيره ممن قد رأى أو سمع، كما هو الحكمة في جعل الحدود أيضا، فتدبر.

و أما ما احتمله من تعميم التعزير لمثل النهي و التوبيخ فكأنه أخذه من تحرير العلامة و نحوه.

و يمكن أن يورد عليه أولا بكونه خلاف ظاهر كلمات أصحابنا و إن اختاره كثير من مصنّفي السنة، كما سيجي ء. و ثانيا بأن المذكور في كثير من أخبار الباب

______________________________

(1)- تحرير الأحكام 2/ 239.

(2)- كشف اللثام 2/ 235.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 321

ليس لفظ التعزير حتى يحمل على الأعم، بل الضرب مطلقا أو بمقدار خاص، أو فسّر في النهاية بالضرب كما في خبر إسحاق بن عمار و صحيحة حماد بن عثمان، الواقع فيهما السؤال عن مقدار التعزير «1». و اما ما وقع فيه لفظ التعزير بنحو الإطلاق فاللفظ و إن كان بحسب اللغة يعم الضرب و غيره و لكن تعارف الضرب خارجا

في مقام العمل في عصر صدور الأخبار لعله كان يوجب انصراف المطلقات إلى خصوص الضرب. هذا.

و لكن الأقوى كما سيأتي هو التعميم، فتدبر.

4- و في الأحكام السلطانيّة للماوردي:

«و يختلف حكمه باختلاف حاله و حال فاعله؛ فيوافق الحدود من وجه و هو أنّه تأديب استصلاح و زجر يختلف بحسب اختلاف الذنب، و يخالف الحدود من ثلاثة أوجه: أحدها أن تأديب ذوي الهيأة من أهل الصيانة أخفّ من تأديب أهل البذاء و السفاهة، لقول النبي «ص»: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم.»

فتدرج في الناس على منازلهم و ان تساووا في الحدود المقدّرة؛ فيكون تعزير من جلّ قدره بالإعراض عنه، و تعزير من دونه بالتعنيف له، و تعزير من دونه بزواجر الكلام، و غايته الاستخفاف الذي لا قذف فيه و لا سبّ، ثم يعدل بمن دون ذلك إلى الحبس الذي يحبسون فيه على حسب ذنبهم و بحسب هفواتهم؛ فمنهم من يحبس يوما، و منهم من يحبس أكثر منه إلى غاية مقدّرة.» «2» و ذكر أبو يعلى الفراء أيضا قريبا من ذلك «3».

5- و في معالم القربة:

«و يختلف حكمه باختلاف حاله و حال فاعله؛ فيوافق الحدود من وجه: و هو أنّه تأديب استصلاح و زجر يختلف بحسب اختلاف الذنب، و يخالف الحدود من وجه:

و هو أنّ تأديب ذوي الهيأة من أهل الصيانة أخفّ من تأديب أهل البذاءة و السفاهة.

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 583- 584، الباب 10 من أبواب بقيّة الحدود و التعزيرات، الحديث 1 و 3.

(2)- الأحكام السلطانية/ 236.

(3)- الأحكام السلطانية لأبي يعلى/ 279.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 322

فيتدرج في الناس على منازلهم و إن تساووا في الحدود المقدرة؛ فيكون تعزير من جلّ قدره بالإعراض

عنه، و تعزير من دونه بزواجر الكلام، و غايته الاستخفاف الذي لا قذف فيه و لا سبّ، ثم يعدل بمن دون ذلك إلى الحبس الذي ينزلون فيه على حسب رتبهم بحسب هفواتهم، فمنهم من يحبس يوما، و منهم من يحبس أكثر إلى غاية مقدورة، و قال أبو عبد اللّه الزبيري من أصحاب الشافعي تقدر غايته شهرا للاستبراء و الكشف، و ستة أشهر للتأديب و التقويم. و إن رأى الإمام أو نائبه أن يجلده جلده، و لا يبلغ أدنى الحدّ لقوله «ص»: «من بلغ ما ليس بحدّ فهو من التعزير.»

و لأن هذه المعاصي دونها، فلا يجب فيها ما يجب في ذلك ...» «1»

6- و في المنهاج للنووي في فقه الشافعية:

«فصل: يعزّر في كل معصية لا حدّ لها و لا كفارة بحبس، أو ضرب، أو صفع، أو توبيخ. و يجتهد الامام في جنسه و قدره. و قيل: إن تعلق بآدمي لم يكف توبيخ.» «2»

7- و في المغني لابن قدامة الحنبلي:

«فصل: و التعزير يكون بالضرب و الحبس و التوبيخ.» «3»

8- و في إحياء العلوم للغزالي:

«الركن الرابع: نفس الاحتساب. و له درجات و آداب: أما الدرجات فأوّلها التعرف، ثمّ التعريف، ثمّ الوعظ و النصح، ثمّ السبّ و التعنيف، ثمّ التغيير باليد، ثمّ التهديد بالضرب، ثمّ إيقاع الضرب و تحقيقه، ثمّ شهر السلاح، ثمّ الاستظهار فيه بالأعوان و جمع الجنود.»

ثمّ شرع في شرح هذه العناوين و بيان خصوصياتها بالتفصيل، فراجع «4».

9- و في بدائع الصنائع للكاشاني في فقه الحنفية:

«و من مشايخنا من رتّب التعزير على مراتب الناس فقال: التعازير على أربعة

______________________________

(1)- معالم القربة/ 191 (ط. مصر/ 285)، الباب 50، فصل في التعازير.

(2)- المنهاج/ 535.

(3)- المغني 10/ 348.

________________________________________

نجف آبادى،

حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 2، ص: 322

(4)- إحياء العلوم 2/ 329.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 323

مراتب: تعزير الأشراف و هم الدهاقون و القوّاد، و تعزير أشراف الأشراف و هم العلوية و الفقهاء، و تعزير الأوساط و هم السوقة، و تعزير الأخسّاء و هم السفلة؛ فتعزير أشراف الأشراف بالإعلام المجرّد، و هو أن يبعث القاضي أمينه إليه فيقول له: بلغني أنك تفعل كذا و كذا، و تعزير الأشراف بالإعلام و الجرّ إلى باب القاضي و الخطاب بالمواجهة، و تعزير الأوساط الإعلام و الجر و الحبس، و تعزير السفلة الإعلام و الجرّ و الضرب و الحبس، لأن المقصود من التعزير هو الزجر و أحوال الناس في الانزجار على هذه المراتب.» «1»

10- و في الفقه على المذاهب الأربعة:

«و بالجملة، فإن التعزير باب واسع يمكن الحاكم أن يقضي به على كلّ الجرائم التي لم يضع الشارع لها حدّا أو كفّارة، على أن يضع العقوبة المناسبة لكل بيئة و لكل جريمة من سجن، أو ضرب، أو نفي، أو توبيخ أو غير ذلك.» «2»

11- و في الفقه الإسلامي و أدلّته:

«و التعزير يكون إما بالضرب، أو بالحبس، أو الجلد، أو النفي، أو التوبيخ، أو التغريم المالي و نحو ذلك مما يراه الحاكم رادعا للشخص بحسب اختلاف حالات الناس حتى القتل سياسة، كما قرّر فقهاء الحنفية و المالكيّة.

و التعزير مفوّض للدولة في كل زمان و مكان؛ تضع للقضاة أنظمة يطبّقونها بحسب المصلحة.» «3»

أقول: فيظهر من هؤلاء المصنفين من علماء السنة أن

مفهوم التعزير عندهم بحسب الاصطلاح أيضا يكون أعمّ من الضرب و الإيلام، كما يكون كذلك بحسب اللغة؛ فيشمل التوبيخ و الهجر و نحوهما فضلا عن مثل النفي و الحبس. و لا يبعد ما ذكروه، و إنما شاع ذكر الضرب و إجراؤه خارجا لكونه أظهر أفراد التعزير و أشدّها

______________________________

(1)- بدائع الصنائع 7/ 64.

(2)- الفقه على المذاهب الأربعة 5/ 400.

(3)- الفقه الإسلاميّ و أدلّته 4/ 287.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 324

تأثيرا في الغالب و أعمّها نفعا و أسهلها تناولا، كما لا يخفى.

ما ورد في التأديب بغير الضرب و الإيلام أو معه:

1- و قد نفى رسول اللّه «ص» الحكم بن أبى العاص إلى الطائف، لكونه حاكاه في مشيته و في بعض حركاته، فسبّه و طرده و قال له: «كذلك فلتكن.» فكان الحكم متخلجا يرتعش «1».

2- و هجر هو «ص» هلال بن أميّة، و مرارة بن الربيع، و كعب بن مالك و نهى عن مكالمتهم، و أمر نساءهم باعتزالهم حتى ضاقت عليهم. الأرض بما رحبت، حينما تخلفوا عن رسول اللّه «ص» في سفره إلى تبوك، إلى أن تاب اللّه عليهم و ورد في حقّهم آية من سورة التوبة، فراجع «2».

3- و في سنن أبي داود بسنده عن أبي هريرة «أن النبي «ص» أتى بمخنث قد خضب يديه و رجليه بالحناء، فقال النبي «ص»: «ما بال هذا؟» فقيل:

يا رسول اللّه، يتشبه بالنساء، فأمر به فنفي إلى النقيع، فقالوا، يا رسول اللّه، ألا نقتله؟

فقال: «إني نهيت عن قتل المصلّين.» قال أبو أسامة: و النقيع ناحية عن المدينة و ليس بالبقيع.» «3»

4- و فيه أيضا بسنده عن ابن عباس أن النبي «ص» لعن المخنّثين من الرجال، و المترجلات من النساء و قال: «أخرجوهم

من بيوتكم و أخرجوا فلانا و فلانا»، يعني المخنّثين «4».

______________________________

(1)- التراتيب الإداريّة 1/ 301.

(2)- راجع مجمع البيان 3/ 79- 80 (الجزء 5) و غيره من التفاسير، ذيل الآية 118 من سورة التوبة.

(3)- سنن أبي داود 2/ 580، كتاب الأدب، باب الحكم في المخنّثين.

(4)- سنن أبي داود 2/ 580، كتاب الأدب، باب الحكم في المخنّثين.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 325

5- و في الوسائل عن مكارم الأخلاق: «و لعن رسول اللّه «ص» المخنثين و قال:

أخرجوهم من بيوتكم.» «1»

6- و في التاج الجامع للأصول عن ابن عمر، قال:

إن النبي «ص» ضرب و غرّب، و أن أبا بكر ضرب و غرّب، و إن عمر ضرب و غرّب.

رواه الترمذي و الحاكم و ابن خزيمة و صحّحه «2».

7- و في الغرر و الدرر عن أمير المؤمنين «ع»: «ربّ ذنب مقدار العقوبة عليه إعلام المذنب به.» «3»

8- و روى الصدوق بإسناده عن البرقي، عن أبيه، عن عليّ «ع»: قال: «يجب على الإمام أن يحبس الفسّاق من العلماء، و الجهال من الأطبّاء، و المفاليس من الأكرياء.» قال:

و قال «ع»: «حبس الإمام بعد الحدّ ظلم.» «4»

9- و في خبر طلحة بن زيد، عن جعفر، عن أبيه «ع»: أنه رفع إلى أمير المؤمنين «ع» رجل وجد تحت فراش امرأة في بيتها، فقال: هل رأيتم غير ذلك؟ قالوا: لا، قال: «فانطلقوا به إلى مخرؤة فمرّغوه عليها ظهرا لبطن ثم خلّوا سبيله.» «5»

10- و في خبر حفص بن البختري، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «أتي أمير المؤمنين «ع» برجل وجد تحت فراش رجل آخر، فأمر أمير المؤمنين «ع»، فلوّث في مخرؤة.» «6»

و المخرؤة: مكان الخرء، أي الغائط. و لا يخفى

التناسب بين اللواط و بين هذه المجازاة، و كونها أوفى بالردع عن مثل الضرب و نحوه.

______________________________

(1)- الوسائل 14/ 259، الباب 22 من أبواب النكاح المحرم، الحديث 6.

(2)- التاج 3/ 32، كتاب الحدود، التعزير بالضرب و الحبس و النفى.

(3)- الغرر و الدرر 4/ 73، الحديث 5342.

(4)- الوسائل 18/ 221، الباب 32 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 3.

(5)- التهذيب 10/ 48، باب حدود الزّنا، الحديث 175.

(6)- الوسائل 18/ 424، الباب 6 من أبواب حدّ اللّواط، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 326

11- و في خبر غياث بن إبراهيم، عن جعفر، عن أبيه «أنّ عليّا «ع» كان إذا أخذ شاهد زور فإن كان غريبا بعث به إلى حيّه، و إن كان سوقيا بعث به إلى سوقه فطيف به ثمّ يحبسه أياما ثمّ يخلّى سبيله.» «1»

12- و في خبر السكوني، عن أبي عبد اللّه «ع» أن أمير المؤمنين «ع» أتى برجل اختلس درّة من أذن جارية، فقال: «هذه الدغارة المعلنة، فضربه و حبسه.» «2»

13- و في خبر عباد بن صهيب، قال: سئل أبو عبد اللّه «ع» عن نصرانيّ قذف مسلما فقال له: يا زان؟ فقال: «يجلد ثمانين جلدة لحق المسلم، و ثمانين سوطا إلا سوطا لحرمة الإسلام، و يحلق رأسه، و يطاف به في أهل دينه لكي ينكل غيره» «3»

14- و في نهج السعادة، مستدرك نهج البلاغة بعد ما فرّ العدوّ من يد المسيب إلى معاوية:

«و قدم المسيّب على عليّ «ع» و قد بلغه الخبر فحجبه أياما ثم دعا به فوبّخه و قال له:

نابيت قومك و داهنت و ضيّعت؟ فاعتذر إليه و كلّمه وجوه أهل الكوفة بالرضا عنه فلم يجبهم و ربطه إلى

سارية من سواري المسجد و يقال: إنه حبسه، ثم دعا به ...» «4»

و لعل المتتبع يقف على موارد كثيرة من هذا القبيل. و هذه كلها من باب التعزير قطعا، إذ لا ثالث للحد و التعزير، فيكون مفهومه أعم من الضرب و هو المطلوب فتأمّل. هذا.

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 244، الباب 15 من أبواب الشهادات، الحديث 3.

(2)- الوسائل 18/ 503، الباب 12 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 4.

(3)- الوسائل 18/ 450، الباب 17 من أبواب حدّ القذف، الحديث 3.

(4)- نهج السعادة 2/ 578، الخطبة 320.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 327

ما يستدل به لتعين الضرب و الإيلام:
اشارة

و يمكن أن يستدل لتعين الضرب بوجوه:

الأول: إطلاق ما دل على الضرب في موارد خاصة،

كوطي الحائض و الصائمة و نحوهما.

الثاني: عموم ما دل على أن اللّه جعل لكل شي ء حدّا،

و جعل على من تعدّى حدّا من حدود اللّه حدّا.

و هذه الروايات كانت عمدة دليلنا على ثبوت التعزير في كل معصية كما مرّ، و حيث إن الحدّ المصطلح يكون من سنخ الضرب فلا محالة يكون التعزير أيضا من سنخه، و قد أطلق عليهما لفظ الحدّ بعناية واحدة.

الثالث: أن الأصل و قاعدة السلطنة يقتضيان عدم التصرف في سلطة الغير إلّا فيما أجازه الشرع،

و الضرب مجاز من قبله بالدليل و غيره مشكوك فيه فلا يجوز.

و بعبارة أخرى: الأمر يدور بين التعيين و التخيير في مقام الامتثال، و العقل في مثله يحكم بالتعيّن.

و يمكن أن يجاب عن الأول:

أوّلا: بأنا نسلّم تعيّن الضرب في الموارد التي ورد فيها الضرب بخصوصه، كوطي الصائمة أو الحائض؛ حيث ورد فيهما خمس و عشرون جلدة، و ككون الرجلين أو المرأتين أو الرجل و المرأة الأجنبية تحت لحاف واحد مجردين؛ حيث ورد فيها من ثلاثين إلى تسع و تسعين جلدة. و إنما الكلام في غيرها من التخلفات التي لم يذكر لها بخصوصها شي ء في الأخبار.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 328

و ثانيا: أنه في مسألة الرجلين و الرجل و المرأة أيضا ورد ما مرّ من أمير المؤمنين «ع» من الأمر بالتلويث في المخرؤة.

و عن الثاني بأن الحدّ في هذه الروايات لا يراد به الحد المصطلح قطعا

كما هو مبنى الاستدلال، فلا محالة يراد به معناه اللغوي، و بعنايته استعمل اللفظ، و هو في اللغة بمعنى المنع و الكف و الصرف؛ فيراد به في هذه الروايات كل ما يوجب تحديد فاعل المنكر و منعه في قبال كون الشخص مطلق العنان لا يعترض عليه أحد، فيشمل الحدود المصطلحة و كذا التعزيرات بأنواعها، كما أنه في الجملة الأولى، أعني قوله: «إن اللّه جعل لكل شي ء حدّا»، لا يراد به إلا محدودية الأفعال و التروك و منع الإطلاق فيها. و بهذه العناية أيضا استعمل اللفظ في قوله- تعالى- بعد بيان سهام المواريث: «تِلْكَ حُدُودُ اللّٰهِ، وَ مَنْ يُطِعِ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ ...* وَ مَنْ يَعْصِ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ» «1» و في قول أمير المؤمنين «ع»: «إن اللّه حد حدودا فلا تعتدوها.» «2»

و بالجملة، فلفظ الحد في هذه الروايات التي هي محط الاستدلال لا يراد به معناه المصطلح، بل استعمل في كلتا الجملتين بلحاظ معناه اللغوي، أعني المنع و الصرف، فيشمل مثل التوبيخ و التهديد و نفي البلد

و الحبس أيضا لحصول المنع بسببها و إن فرض عدم إطلاق التعزير عليها، و يكون التعيين بحسب الجنس و المقدار لا محالة مفوضا إلى الحاكم على حسب ما يراه صلاحا.

ثم لو سلّم ظهور الأخبار و عبارات الأصحاب في اعتبار المسانخة بين الحد المصطلح و بين التعزيرات فنقول: إن الحدّ المصطلح أيضا لا ينحصر في العقوبة و الإيلام، لثبوت النفي في بعض موارد الزنا مع الجلد، و كذا في القيادة. و في حدّ المحارب يكون النفي أحد أفراد التخيير.

و في الوسائل عن تفسير العياشي، عن أبي جعفر الثاني «ع» في حديث طويل:

______________________________

(1)- سورة النساء (4)، الآية 13 و 14.

(2)- الوسائل 18/ 312، الباب 3 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 5.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 329

«فإن كانوا أخافوا السبيل فقط و لم يقتلوا أحدا و لم يأخذوا ما لا أمر بإيداعهم الحبس، فإن ذلك معنى نفيهم من الأرض بإخافتهم السبيل.» «1»

فيظهر بذلك أن النفي و الحبس أيضا من مصاديق الحدّ المصطلح.

و يجاب عن الثالث

أولا: بمنع كون الدوران بين التعيين و التخيير في المقام، في مقام الامتثال و السقوط بل يكون في مقام ثبوت التكليف، حيث لا يعلم أن الوجوب تعلق بخصوص الضرب أو بالأعم منه و من غيره، و الحق في مثله هو البراءة لا الاشتغال، فتأمّل.

و ثانيا: بمنع كون المورد من موارد دوران الأمر بين التعيين و التخيير، إذ لا نسلّم جواز الضرب مطلقا بل من المحتمل وجوب رعاية المراتب من التوبيخ و التعنيف و الهجر و التهديد إلى أن تصل النوبة إلى الضرب؛ فالمعاصي مختلفة، و الناس متفاوتون، و البيئات متفاوتة، و قد ورد من طرق الفريقين أن الحدود تدرأ بالشبهات،

و الظاهر إرادة الأعم بها فلا يجوز الضرب إذا كان الذنب حقيرا و فرض حصول الارتداع و المنع بالأخف منه. و المسألة مشكلة جدّا.

و بما ذكرناه يظهر حكم المجازاة المالية و لكن لأهميتها نبحث فيها بحثا مستقلا في الجهة التالية.

الجهة الخامسة: في التعزير المالي:
هل يجوز التعزير بالمال أيضا بإتلافه أو أخذه منه أم لا؟

فيه وجهان: من أن الغرض ردع فاعل المنكر و ربّما يكون التعزير المالي أوفى بالمقصود و أردع و أصلح له

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 536، الباب 1 من أبواب حدّ المحارب، الحديث 8.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 330

و للمجتمع، فيدل على جوازه إطلاق أدلّة الحكومة و ربما يستأنس له أيضا ببعض الأخبار الواردة في موارد خاصة.

و من أن أحكام الشرع توقيفيّة، فلا يجوز التعدّي عما ورد في باب الحدود و التعزيرات. و المسألة من المسائل المهمة التي كثر الابتلاء بها في عصرنا.

قال ابن الأخوة في الباب الخمسين من معالم القربة:

«فصل: و أما التعزير بالأموال فجائز عند مالك، و هو قول قديم عند الشافعي بدليل أنه أوجب على من وطئ زوجته الحائض في إقبال الدم دينارا، و في إدباره نصف دينار، رواه ابن عباس.

و في من غلّ الزكاة تؤخذ منه و يؤخذ شطر ماله عقوبة له، و استدل بحديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده أن النبي «ص» قال: «و في كلّ أربعين من الإبل السائمة بنت لبون، من أعطاها مرتجزا فله أجرها، و من منعها فأنا آخذها، و شطر ماله، عزمة من عزمات ربنا، ليس لآل محمد فيها شي ء.» و قد روي أن سعيد بن المسيّب (سعد بن أبي وقّاص خ. ل) أخذ سلب رجل قتل صيدا بالمدينة و قال: سمعت رسول اللّه «ص» يقول: «من رأى رجلا يصطاد

بالمدينة فله سلبه.» و المراد هاهنا بالسلب الثياب فحسب. و هذا ما أورده الإمام. و قد روي أنهم كلّموا سعدا في هذا السلب فقال: ما كنت أردّ طعمة أطعمنيها رسول اللّه «ص».

و روي أن عمر أراق لبنا مغشوشا.

و عن عليّ «ع»: أنه أحرق طعاما محتكرا بالنار.

قال الغزالي: للوالي أن يفعل ذلك اذا رأى المصلحة فيه. و أقول: و له أن يكسر الظروف التي فيها الخمور زجرا، و قد فعل ذلك في زمن رسول اللّه «ص» تأكيدا للزجر و لم يثبت نسخه، و لكن كانت الحاجة إلى الزجر و الفطام شديدة، و إذا رأى الوالي باجتهاده مثل تلك الحاجة جاز مثل ذلك، فإن كان هذا منوطا بنوع اجتهاد دقيق لم يكن ذلك لآحاد الرعية.» «1» انتهى ما أردنا نقله من معالم القربة.

______________________________

(1)- معالم القربة/ 194- 195، (ط. مصر/ 287- 288).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 331

أقول: أما حديث الكفارة في وطي الحائض فقد استفاضت الروايات على ذلك من طرقنا أيضا، و حملها بعضهم على الاستحباب و هو الأقوى، فراجع الوسائل «1».

ففي خبر محمد بن مسلم، قال: «سألت أبا جعفر «ع» عن الرجل يأتي المرأة و هي حائض. قال: يجب عليه في استقبال الحيض دينار، و في استدباره نصف دينار. قال: قلت جعلت فداك يجب عليه شي ء من الحدّ؟ قال: نعم، خمس و عشرون سوطا، ربع حد الزاني ...» «2»

و أما حديث بهز بن حكيم فرواه أبو داود في السنن، و فيه: «من أعطاها مؤتجرا بها» «3» و هو الصحيح ظاهرا.

و روى أيضا في السنن بسنده عن سليمان بن أبي عبد اللّه، قال: رأيت سعد بن أبي وقاص أخذ رجلا يصيد في

حرم المدينة الذي حرّم رسول اللّه «ص» فسلبه ثيابه، فجاء مواليه فكلموه فيه، فقال: إن رسول اللّه «ص» حرّم هذا الحرم و قال:

«من وجد احدا يصيد فيه فليسلبه (ثيابه).» و لا أردّ عليكم طعمة أطعمنيها رسول اللّه «ص» و لكن إن شئتم دفعت إليكم ثمنه «4».

و رواه أحمد في مسنده أيضا إلّا أنه قال: «من رأيتموه يصيد فيه شيئا فله سلبه.» «5»

و في السنن أيضا بسنده عن مولى لسعد أن سعدا وجد عبيدا من عبيد المدينة يقطعون من شجر المدينة، فأخذ متاعهم و قال- يعني لمواليهم-: سمعت رسول اللّه «ص» ينهى أن يقطع من شجر المدينة شي ء و قال: «من قطع منه شيئا فلمن

______________________________

(1)- راجع الوسائل 2/ 574، الباب 28 من أبواب الحيض؛ و 18/ 586، الباب 13 من أبواب بقية الحدود.

(2)- الوسائل 18/ 586، الباب 13 من أبواب بقيّة الحدود، الحديث 1.

(3)- سنن أبي داود 1/ 363، كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة.

(4)- سنن أبي داود 1/ 470، كتاب المناسك (الحج)، باب في تحريم المدينة.

(5)- مسند أحمد 1/ 170.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 332

أخذه سلبه.» «1»

أقول: قال ابن الأثير في النهاية:

«و فيه: من قتل قتيلا فله سلبه. و قد تكرّر ذكر السلب في الحديث، و هو ما يأخذه أحد القرنين في الحرب من قرنه مما يكون عليه و معه من سلاح و ثياب و دابّة و غيرها. و هو فعل بمعنى مفعول، أي مسلوب.» «2»

و على هذا فهو أعم من الثياب، كما لا يخفى. و ما هو المناسب في الصيد الممنوع أخذ آلة الصيد، و في قطع الشجر الممنوع أخذ آلة القطع. هذا.

و رواية إحراق عليّ «ع»

للطعام، رواها ابن حزم في المحلّى بسنده عن أبي الحكم: «أن علي بن أبي طالب أحرق طعاما احتكر بمائة ألف.» و عن حبيش، قال: «أحرق لي عليّ بن أبي طالب «ع» بيادر بالسواد كنت احتكرتها لو تركها لربحت فيها مثل عطاء الكوفة.» «3»

و في الفقه على المذاهب الأربعة:

«و أجاز بعض الحنفية التعزير بالمال على أنه إذا تاب يردّ له. فإذا استثنينا من العقوبات حدّ السرقة و حدّ القذف، و استثنينا القصاص و بعض الأشياء التي جعل الشارع لها كفّارة كالحلف بأقسامه و إتيان الزوجة و هي حائض، فإن عقوبات الجرائم الخلقية و الماليّة و سائر المعاصي منوطة بتقدير الحاكم و اجتهاده، فعليه أن يضع جميع العقوبات التي تقضى على الرذائل و تزجر المجرمين.» «4» هذا.

و لكن في المغني لابن قدامة الحنبلي:

«فصل: و التعزير يكون بالضرب و الحبس و التوبيخ، و لا يجوز قطع شي ء منه و لا جرحه و لا أخذ ماله، لأن الشرع لم يرد بشي ء من ذلك عن أحد يقتدى به،

______________________________

(1)- سنن أبي داود 1/ 470، كتاب المناسك (الحج) باب في تحريم المدينة.

(2)- النهاية 2/ 387.

(3)- المحلّى 9/ 65 (المجلد 6)، المسألة 1567.

(4)- الفقه على المذاهب الأربعة 5/ 401.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 333

و لأن الواجب أدب، و التأديب لا يكون بالإتلاف.» «1»

و بالجملة، فالتعزير بالمال كان معنونا في كلمات الفقهاء من السنة، و قد رأيت حكاية جوازه عن مالك و الشافعي في القديم و بعض الحنفية، و استدلوا على جوازه بما مرّ من الروايات الواردة في أخذ سلب الصائد في حرم المدينة أو القاطع لشجرها، أو أخذ شطر المال، مضافا إلى الزكاة ممن منعها، أو إحراق

أمير المؤمنين «ع» طعام المحتكر، أو أخذ الكفارة ممن وطئ الحائض.

ما يمكن أن يستدل به للتعزير بالمال بإتلافه أو بأخذه:
اشارة

أقول: و يمكن أن يستدل لذلك مضافا إلى ما مرّ بأمور اخر و إن كان بعضها قابلا للمناقشة:

الأول: تحريق موسى «ع» للعجل المتّخذ إلها:

ففي سورة طه: «وَ انْظُرْ إِلىٰ إِلٰهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عٰاكِفاً؛ لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً.» «2»

و أحكام الشرائع السابقة يجوز استصحابها ما لم يثبت نسخها، و العجل كان قيّما جدّا؛ صنعه السامري من مجموع حليّ بني إسرائيل.

و بذلك يظهر أن إفناء مظاهر الفساد التي ربما ينجذب إليها أهواء البسطاء و أهل الزيغ أولى من إبقائها في المتاحف.

الثاني: هدم مسجد الضرار و تحريقه مع ماليّته:

______________________________

(1)- المغني 10/ 348.

(2)- سورة طه (20)، الآية 97.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 334

ففي مجمع البيان:

«فوجّه رسول اللّه «ص»- عند قدومه من تبوك- عاصم بن عوف العجلاني، و مالك بن الدخشم ... فقال لهما: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه و حرّقاه. و روي: أنه بعث عمّار بن ياسر، و وحشيّا فحرّقاه، و أمر بأن يتّخذ كناسة يلقى فيها الجيف.» «1» و راجع الدر المنثور «2».

الثالث: تهديد رسول اللّه «ص» بتحريق بيوت التاركين للجماعات:

ففي صحيحة ابن سنان، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: سمعته يقول: إن أناسا كانوا على عهد رسول اللّه «ص» أبطئوا عن الصلاة في المسجد فقال رسول اللّه «ص»: «ليوشك قوم يدعون الصلاة في المسجد أن نأمر بحطب فيوضع على أبوابهم فيوقد عليهم نار فتحرق عليهم بيوتهم.» «3»

و في حديث آخر عنه «ص»: «لينتهين أقوام لا يشهدون الصلاة أو لآمرنّ مؤذّنا يؤذّن ثم يقيم ثم آمر رجلا من أهل بيتي، و هو عليّ، فليحرقنّ على أقوام بيوتهم بحزم الحطب، لأنهم لا يأتون الصلاة.» «4»

الرابع: ما ورد من تهديد النبي «ص» بإحلال سلب من كان يسترزق بالدفّ

و استأذنه في الغناء:

فقال له: «قم عنّي، و تب إلى اللّه. أما إنّك إن فعلت بعد التقدمة إليك ضربتك ضربا وجيعا، و حلقت رأسك مثلة، و نفيتك من أهلك، و أحللت سلبك نهبة لفتيان أهل المدينة.» «5»

______________________________

(1)- مجمع البيان 3/ 73 (الجزء 5).

(2)- الدر المنثور 3/ 277.

(3)- الوسائل 5/ 377، الباب 2 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 10.

(4)- الوسائل 5/ 376، الباب 2 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 6.

(5)- سنن ابن ماجة 2/ 872، كتاب الحدود، باب المخنثين، الحديث 2613.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 335

الخامس: ما ورد من أمر النبيّ «ص» بكسر دنان الخمر و شق ظروفها:

1- ففي سنن الترمذي بسنده عن أبي طلحة أنه قال: يا نبي اللّه، إنّي اشتريت خمرا لأيتام في حجري. قال: «اهرق الخمر و اكسر الدنان.» «1»

2- و في مسند أحمد بسنده عن عبد اللّه بن عمر، قال: «أمرني رسول اللّه «ص» أن آتيه بمدية، و هي الشفرة، فأتيته بها، فأرسل بها فأرهفت «2» ثم أعطانيها و قال: اغد عليّ بها، ففعلت، فخرج بأصحابه إلى أسواق المدينة، و فيها زقاق خمر قد جلبت من الشام، فأخذ المدية منّي فشقّ ما كان من تلك الزقاق بحضرته ثمّ أعطانيها و أمر أصحابه الذين كانوا معه أن يمضوا معى و أن يعاونوني، و أمرني أن آتي الأسواق كلها فلا أجد فيها زقّ خمر إلّا شققته، ففعلت فلم أترك في أسواقها زقّا إلّا شققته.» «3»

و روى نحو ذلك في موضع آخر من مسنده، فراجع «4».

3- و في رواية أخرى: «كان عبد اللّه يحلف باللّه أن التي أمر بها رسول اللّه «ص» حين حرّمت الخمر أن تكسر إناءه و أن تكفأ لمن التمر و الزبيب.» «5» هذا.

و لكن الذي وجدته

في رواياتنا أنه بعد ما نزل تحريم الخمر خرج رسول اللّه «ص» فقعد في المسجد ثم دعا بآنيتهم التي كانوا ينبذون فيها فأكفأها كلها، و ليس فيها اسم الكسر و الشقّ للظروف. و ورد نحو ذلك أيضا في روايات السنة، فراجع ما ورد في تفسير قوله- تعالى-: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ

______________________________

(1)- سنن الترمذي 2/ 379، أبواب البيوع، الباب 58، الحديث 1311.

(2)- أرهف المدية: رقّق حدّه.

(3)- مسند أحمد 2/ 132.

(4)- مسند أحمد 2/ 71.

(5)- نيل الأوطار 5/ 330، كتاب الغصب و الضمانات، باب ما جاء في كسر أواني الخمر، عن الدارقطني، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 336

الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.» «1» و راجع الأشربة من صحيح مسلم «2».

السادس: ما قيل من أمره «ص» بكسر قدور لحوم الحمر يوم خيبر:

ففي البخاري في حديث: فقال النبي «ص»: «ما هذه النيران؟ على أيّ شي ء توقدون؟» قالوا: على لحم. قال: «على أيّ لحم؟» قالوا: لحم الحمر الإنسية. قال النبي «ص»: «أهريقوها و اكسروها.» فقال رجل: يا رسول اللّه أ و نهريقها و نغسلها؟

قال: «او ذاك.» «3» هذا.

و لكن حرمة لحم الحمر عندنا غير واضحة، نعم هي مكروهة. و أضعف من ذلك نجاسته كما تستفاد من تقريره لغسل الأوعية، و من الحكم بكونه رجسا في رواية أنس من هذا الباب فراجع «4». نعم، يحتمل الحكم بالحرمة الموقتة لمصلحة موقتة، فتدبّر.

السابع: ما ورد من أمر النبي «ص» بتحريق الثوبين المعصفرين:

ففي سنن النسائي عن عبد اللّه بن عمرو أنه أتى النبيّ «ص» و عليه ثوبان معصفران، فغضب النبي «ص» و قال: «اذهب فاطرحهما عنك.» قال: أين يا رسول اللّه؟ قال: «في النار.» «5»

الثامن: ما ورد في إحراق متاع الغالّ:

ففي كتاب الجهاد من سنن أبي داود عن النبيّ «ص»: «إذا وجدتم الرجل قد غلّ

______________________________

(1)- سورة المائدة (5)، الآية 90. راجع تفسير البرهان 1/ 497؛ و الدّر المنثور 2/ 316، و غيرهما.

(2)- صحيح مسلم 3/ 1570، الباب 1 (باب تحريم الخمر و ...).

(3)- صحيح البخاري 3/ 49، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر.

(4)- صحيح البخاري 3/ 49، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر.

(5)- سنن النسائي 8/ 203، كتاب الزينة، ذكر النهي عن لبس المعصفر.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 337

فأحرقوا متاعه و اضربوه.» «1»

و في رواية أخرى: «أن رسول اللّه «ص» و أبا بكر و عمر حرّقوا متاع الغالّ و ضربوه.» «2»

التاسع: ما ورد في هدم أمير المؤمنين «ع» و تحريقه دور من فارقه

و لحق بمعاوية، أو ببعض البلاد:

1- ففي كتاب وقعة صفين بعد ما ذكر اعتراض مالك الأشتر على جرير بعد رجوعه من الشام، قال: «فلما سمع جرير ذلك لحق بقرقيسيا، و لحق به أناس من قسر (قيس خ. ل) من قومه ... و خرج عليّ «ع» إلى دار جرير فشعّث منها و حرّق مجلسه، و خرج أبو زرعة بن عمر بن جرير فقال: أصلحك اللّه إن فيها أرضا لغير جرير، فخرج منها إلى دار ثوير بن عامر فحرّقها و هدم منها. و كان ثوير رجلا شريفا، و كان قد لحق بجرير.» «3»

2- و فيه أيضا في قصة لحوق ابن المعتم و حنظلة بن الربيع الصحابي الكاتب و قومهما بمعاوية، قال: «و أما حنظلة فخرج بثلاثة و عشرين رجلا من قومه و لكنهما لم يقاتلا مع معاوية و اعتزلا الفريقين جميعا ... فلما هرب حنظلة أمر عليّ «ع» بداره فهدمت، هدمها عريفهم بكر بن تميم و شبث بن ربعي.» «4» و

رواه عنه ابن أبي الحديد «5».

3- و في شرح ابن أبي الحديد: «و يذكر أهل السير أن عليّا «ع» هدم دار جرير و دور قوم ممن خرج معه، حيث فارق عليّا «ع» منهم أبو أراكة بن مالك بن عامر القسري، كان ختنه على ابنته. و موضع داره بالكوفة كان يعرف بدار أبي أراكة قديما.» «6»

______________________________

(1)- سنن أبي داود 2/ 63، كتاب الجهاد، باب عقوبة الغالّ.

(2)- سنن أبي داود 2/ 63، كتاب الجهاد، باب عقوبة الغالّ.

(3)- وقعة صفّين/ 60.

(4)- وقعة صفّين/ 97.

(5)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3/ 176- 177.

(6)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3/ 118.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 338

4- و في المستدرك عن كتاب الغارات في قصة مصقلة بن هبيرة الشيباني بعد ما فرّ و لحق بمعاوية و قال فيه أمير المؤمنين ما قال: «ثم سارع «ع» إلى داره فهدمها.» «1»

العاشر: ما عن أمير المؤمنين «ع» من تحريق المكان الذي كان يباع فيه الخمر «2».
الحادي عشر: جميع موارد الكفارات الواردة

من عتق الرقبة أو التصدق بمال أو إطعام مسكين بمدّ أو إطعام ستّين مسكينا أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، حيث إنّها بأجمعها تتضمن صرف المال و تكون نوعا من التأديب و التعزير و إن كانت أمورا عبادية يشترط فيها القربة، فيستأنس منها إمكان التعزير بالمال، فتأمّل.

الثاني عشر: ما ورد في ذبح البهيمة الموطوءة و إحراقها بالنار، «3» فتأمّل.

الثالث عشر: ما حكم به أمير المؤمنين «ع» بالنسبة إلى منذر بن الجارود،

عامله على إصطخر، حيث كتب إليه: «أما بعد فإن صلاح أبيك غرّني منك، فإذا أنت لا تدع انقيادا لهواك ... فاقبل إليّ حين تنظر في كتابي و السلام.» فأقبل فعزله و أغرمه ثلاثين ألفا.» «4» و قد ذكر الكتاب في نهج البلاغة بتفاوت، فراجع «5».

الرابع عشر: الروايات الواردة في تغريم المتاع مرّتين:

______________________________

(1)- مستدرك الوسائل 3/ 207، الباب 24 من أبواب كيفيّة الحكم، الحديث 6.

(2)- كتاب الحسبة لابن تيمية/ 59.

(3)- راجع الوسائل 18/ 570، الباب 1 من أبواب نكاح البهائم و ...

(4)- تاريخ اليعقوبي 2/ 179.

(5)- نهج البلاغة، فيض/ 1073؛ عبده 3/ 145؛ لح/ 461، الكتاب 71.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 339

فروى السكوني بسند لا بأس به عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «قضى النبيّ «ص» فيمن سرق الثمار في كمّه «1»: فما أكل منه فلا شي ء عليه، و ما حمل فيعزر و يغرم قيمته مرّتين.» «2»

و الاستدلال به مبنيّ على كون تغريم القيمة مرّتين بيانا للتعزير، فيكون العطف تفسيريا أو كونه متمما له. و ظاهر قوله: قضى النبي «ص» أن الحكم كان حكما ولائيا منه «ص»، لا حكما فقهيا. هذا.

و لكن من المحتمل أن يكون ذلك من جهة أن الثمر الموجود في الغلاف قابل للنموّ و النّضج بحيث تضاعف قيمته قهرا، و يشهد لذلك أن الظاهر من التغريم في الرواية هو التغريم لصاحب الثمر، و لو كان من باب التعزير كان الأنسب جعله في بيت المال. هذا.

و لكن الإفتاء بهذا المضمون مما لم ينقل من أحد و يشكل الالتزام به، إذ الملاك في تقويم التالف أو المتلف و تضمينه هو لحاظ فعليته لا إمكانه و مآله؛ فلو أتلف الزرع أو الأشجار الصغار أو الأسماك الصغار

في حياضها أو سائر الحيوانات في حال صغرها فهل يلتزم أحد بتقويمها بلحاظ استعدادها و المآل المترقب منها في الأشهر أو السنوات الآتية؟ لا أظنّ ذلك، اللهم إلا أن يفرّق بين القوة القريبة من الفعلية كما في المقام، و بين غيرها كما في الأمثلة المذكورة، فتدبّر.

و قال العلامة المجلسي «ره» في مرآة العقول في شرح هذه الرواية:

«و لم يعمل بظاهره أحد من الأصحاب فيما رأينا، قال الوالد العلّامة «ره»: يمكن أن يكون المرّتان لما أكل و لما حمل، لأن جواز الأكل مشروط بعدم الحمل.» «3»

أقول: ما ذكره والده خلاف ظاهر الرواية، إذ الظاهر منها أنه لا شي ء عليه لما أكل و إن اجتمع مع الحمل. هذا.

______________________________

(1)- كمّ الثمر: غلافه.

(2)- الوسائل 18/ 516، الباب 23 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 2.

(3)- مرآة العقول 4/ 178، (ط. القديم).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 340

و نظير رواية السكوني ما رواه أحمد في المسند بسنده عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص أنه سأل النبي «ص» عن الثمار و ما كان في أكمامه، فقال: «من أكل بفمه و لم يتّخذ خبنة فليس عليه شي ء، و من وجد قد احتمل ففيه ثمنه مرّتين و ضرب نكال.» «1»

أقول: و الخبنة بالضم على ما في النهاية: «معطف الإزار و طرف الثوب.» «2»

و لكن في سنن أبي داود بسنده عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص، عن رسول اللّه «ص» أنه سئل عن التمر المعلّق فقال: «من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متّخذ خبنة فلا شي ء عليه، و من خرج بشي ء منه فعليه غرامة مثليه و العقوبة. و من سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ

ثمن المجنّ فعليه القطع، و من سرق دون ذلك فعليه غرامة مثليه و العقوبة.» «3»

و رواه النسائي أيضا في السنن ثم روى رواية أخرى عن عبد اللّه بن عمرو: «أن رجلا من مزينة أتى رسول اللّه «ص» فقال: يا رسول اللّه، كيف ترى في حريسة الجبل؟ فقال: هي و مثلها و النكال، و ليس في شي ء من الماشية قطع إلّا فيما آواه المراح فبلغ ثمن المجنّ ففيه قطع اليد، و ما لم يبلغ ثمن المجنّ ففيه غرامة مثليه و جلدات نكال. قال:

يا رسول اللّه، كيف ترى في الثمر المعلّق؟ قال: هو و مثله معه و النكال، و ليس في شي ء من الثمر المعلّق قطع إلّا فيما آواه الجرين؛ فما أخذ من الجرين فبلغ ثمن المجنّ ففيه القطع، و ما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثليه و جلدات نكال.» «4»

أقول: الجرين على ما في النهاية: موضع تجفيف التمر. و المراد بحريسة الجبل:

المحروسة في الجبال في قبال المحروسة في مراحها. و المراح بالضم: الموضع الذي

______________________________

(1)- مسند أحمد 2/ 207.

(2)- النهاية لابن الأثير 2/ 9.

(3)- سنن أبي داود 2/ 449، كتاب الحدود، باب ما لا قطع فيه.

(4)- سنن النسائي 8/ 85- 86، كتاب قطع السارق، الثمر يسرق بعد أن يؤويه الجرين.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 341

تروح إليه الماشية و تأوي إليه ليلا. و المراد بالثمر المعلّق: ما يكون معلّقا بالأشجار.

و لا يخفى عدم تطرق الاحتمال الذي ذكرناه في خبر السكوني في هاتين الروايتين فيكون التغريم من باب التعزير و إن أدّى إلى صاحب المال.

و المتحصل من مجموع هذه الروايات و أشباهها هو أن التعزير المالي بإتلاف المال أو أخذه مما

قد ثبت في الشرع إجمالا، فلا وجه لاستيحاش البعض منه، و النفس تطمئن بصدور بعض هذه الروايات إجمالا، و إنما لم يتعرض فقهاؤنا الإمامية لهذه المسألة لكونها من شئون الحكومة و هم كانوا بمعزل منها، كما لا يخفى.

الخامس عشر: ما ورد في تغريم من عذب عبده قيمة العبد:

ففي خبر مسمع بن عبد الملك، عن أبي عبد اللّه «ع»: «أن أمير المؤمنين «ع» رفع إليه رجل عذّب عبده حتى مات فضربه مأئة نكالا و حبسه سنة و أغرمه قيمة العبد فتصدق بها عنه.» «1»

و في رواية أخرى عن أبي عبد اللّه «ع»: «في رجل قتل مملوكه أنه يضرب ضربا وجيعا و تؤخذ منه قيمته لبيت المال.» «2»

و في رواية يونس عنهم «ع» قال: سئل عن رجل قتل مملوكه؟ قال: «إن كان غير معروف بالقتل ضرب ضربا شديدا و أخذ منه قيمة العبد و يدفع إلى بيت مال المسلمين.» «3»

السادس عشر: الاعتبار العقلي الموجب للوثوق بالحكم.

بتقريب أن التعزير ليس أمرا عباديا تعبّديا محضا شرّع لمصالح غيبيّة لا نعرفها، بل الغرض منه هو تأديب الفاعل و ردعه و كذا كل من رأى و سمع فيصلح بذلك الفرد و المجتمع، و لأجل ذلك فوّض تعيين حدوده و مقداره إلى الحاكم المشرف على

______________________________

(1)- الوسائل 19/ 68، الباب 37 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 5.

(2)- الوسائل 19/ 69، الباب 37 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 10.

(3)- الوسائل 19/ 69، الباب 38 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 342

المجتمع، و ربما يكون التعزير المالي أشدّ تأثيرا في النفوس و أصلح بحال الفاعل و بحال المجتمع أيضا، و بالعكس يكون الضرب و الإيلام مضرّا و منفّرا، فتأمّل.

السابع عشر: الأولوية القطعية.

فإن الإنسان كما يكون مسلّطا على ماله بحكم العقل و الشرع فلا يجوز التصرف في ماله بدون أذنه، فكذلك يكون مسلطا على نفسه و بدنه، بل هي ثابتة بالأولوية القطعية، حيث إن السلطة على المال من شئون السلطة على النفس و من لواحقها؛ فإذا جاز نقض سلطته على بدنه و هتك حريمه بضربه و إيلامه بداعي الردع و التأديب فليجز نقض السلطة المالية بطريق أولى و لكن بهذا الداعي و بمقدار لا بدّ منه لذلك، و يكون الأمر في التعيين مفوّضا إلى الحاكم العالم بمصالح المجتمع.

و لقد كان في شرع يوسف النبي «ص» أن من وجد متاع السرقة في رحله فهو جزاؤه يسترقّ لذلك، فهل يصحّ عند العقل استرقاق الشخص و تملك ذاته و نفسه لذلك و لا يصحّ مصادرة بعض أمواله لذلك؟

و إنما شاع التعزير البدني خارجا و في الأخبار و الروايات لكونه أسهل

تناولا و أعم موردا و أشد تأثيرا في الغالب. نعم الحدود الشرعية المقدرة يتساوى فيها جميع الأفراد، و لا شفاعة فيها و لا تعطيل و لا تعويض و لا تبعيض، كما هو واضح. هذا.

و يؤيد ما ذكرناه استقرار سيرة العقلاء في الأعصار المختلفة على التغريم المالي في كثير من الخلافات و لا سيما إذا كان المورد خلافا ماليّا. و قد شاع هذا في عصرنا في تخلفات السيّارات و الكمارك و الضرائب و الاحتكارات و الإجحافات، فتدبّر.

الثامن عشر: إطلاقات أدلة الحكومة و ولاية الفقيه الجامع للشرائط.

فإن الغرض من تأسيس الدولة و الحكومة الحقّة ليس إلّا تنظيم المجتمع و إصلاحه و جبر نقائصه و انحرافاته و إشاعة المعروف فيه و قطع جذور المنكر و الفساد، فيجوز للحاكم المشرف على المجتمع بل يجب عليه الحكم بكل ما رآه صلاحا لهم و لنظامهم. و من هذا القبيل أنواع التعزيرات لتأديب المجرمين و إصلاحهم. و يسمّى

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 343

هذا الصنف من الأحكام أحكاما ولائية و سلطانية، و قد قال اللّه- تعالى-: «النَّبِيُّ أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ.» «1» فإذا كان للإنسان أن يتصرف في نفسه و ماله بعض التصرفات كان النبي «ص» بولايته عليه أولى به في هذه التصرفات و قد عرفت أن مقتضى ولاية الفقيه في عصر الغيبة أن له كل ما كان للنبي «ص» بحق الولاية الشرعية، فراجع.

هذا مضافا إلى أن إدارة المجتمع تتوقف على صرف الأموال كثيرا، و من منابعها المهمّة الموافقة لحكم العقل و العرف التغريمات المالية، فيجب أخذها لوجوب المقدمة بوجوب ذيها.

و مضافا إلى أن الولاية إذا كانت بانتخاب المجتمع للوالي فالمجازاة الماليّة و غيرها من المقررات يجوز اعتبارها و اشتراطها في ضمن عقد الولاية

للحاكم المنتخب، بل يكون انتخاب الحاكم على أساس تنفيذها و بداعي إجرائها، فتأمّل.

و لكن يمكن أن يناقش بأن وظيفة الحاكم الإسلامي ليس إلّا تنظيم المجتمع و إصلاحه على أساس ما أنزله اللّه و بيّنه، لا على أساس ما اقترحه و ابتدعه. و ليس الفقيه بأولى في هذا الأمر من نفس النبي «ص» و قد خاطبه اللّه- تعالى- بقوله: «إِنّٰا أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ الْكِتٰابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّٰاسِ بِمٰا أَرٰاكَ اللّٰهُ» «2»، و بقوله: «وَ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ الْكِتٰابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتٰابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ، فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ وَ لٰا تَتَّبِعْ أَهْوٰاءَهُمْ عَمّٰا جٰاءَكَ مِنَ الْحَقِّ.» «3»

و كما أن الحدود الشرعية أمور مقدرة معينة لا يجوز التخلف عنها و لا تعويضها بشي ء آخر، فكذلك التعزيرات. فإن عمدة الدليل على تعميم التعزير في كل معصية كما مرّ هي الروايات الحاكمة بأن اللّه- تعالى- جعل لكل شي ء حدّا، و جعل على من تعدّى حدّا من حدود اللّه حدّا، و لعل الظاهر منها كون التعزيرات أيضا من سنخ الحدود المقررة المعينة، أعني الجلد و الضرب فيشكل التعدّي عنه.

______________________________

(1)- سورة الأحزاب (33)، الآية 6.

(2)- سورة النساء (4)، الآية 105.

(3)- سورة المائدة (5)، الآية 48.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 344

و بالجملة، فالأمر يدور بين الأخذ بإطلاق لفظي الحدّ و التعزير بلحاظ مفهومهما اللغوي الوسيع أعني المنع و التأديب فيشملان كل ما يوجب منع الفاعل و تأديبه و لو كان بالمال، أو الأخذ بما ينصرف إليه إطلاقهما العرفي فعلا من الضرب و الجلد، و قد مرّ تفصيل ذلك في الجهة الرابعة، فراجع.

[في تقسيم العقوبات المالية]
اشارة

و في الخاتمة من هذه الجهة نذكر ما ذكره بعض

في تقسيم العقوبات المالية تتميما للبحث:

ففي كتاب «الفقه الإسلامي و أدلّته» نقلا عن بعض:

«تقسم العقوبات الماليّة إلى ثلاثة أقسام: الإتلاف، و التغيير، و التمليك:

1- الإتلاف:

هو إتلاف محل المنكرات من الأعيان و الصفات تبعا لها. مثل إتلاف مادة الأصنام، بتكسيرها و تحريقها، و تحطيم آلات الملاهي عند أكثر الفقهاء، و تكسير و تخريق أوعية الخمر، و تحريق الحانوت الذي يباع فيه الخمر، على المشهور في مذهب أحمد و مالك و غيرهما، عملا بما فعله عمر من تحريق حانوت خمّار، و بما فعله عليّ «ع» من تحريق قرية كان يباع فيها الخمر، لأن مكان البيع مثل الأوعية. و مثل إراقة عمر اللبن المخلوط بالماء للبيع، و به أفتى طائفة من الفقهاء. و مثله إتلاف المغشوشات في الصناعات كالثياب الرديئة النسج.

2- التغيير:

قد تقتصر العقوبة المالية على تغيير الشي ء. مثل نهي النبي «ص» عن كسر العملة الجائزة بين المسلمين، كالدراهم و الدنانير إلّا إذا كان بها بأس، فإذا كان فيها بأس كسرت. و مثل فعل النبي «ص» في التمثال الذي كان في بيته، و الستر الذي به تماثيل، إذ أمر بقطع رأس التمثال فصار كهيئة الشجرة، و بقطع الستر فصار وسادتين توطآن.

و هكذا اتفق العلماء على إزالة و تغيير كل ما كان من العين أو التأليف المحرم، مثل تفكيك آلات الملاهي و تغيير الصور المصوّرة.

لكنّ العلماء اختلفوا في جواز إتلاف محلّ هذه الأشياء تبعا للشي ء الحالّ فيها، قال:

و الصواب جوازه كما دلّ عليه الكتاب و السنة و إجماع السلف، و هو ظاهر مذهب

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 345

مالك و أحمد و غيرهما.

3- التمليك:

مثل ما روى أبو داود و غيره من أهل السنن عن النبي «ص» فيمن سرق من الثمر المعلّق، قبل أن يؤويه إلى الجرين، أن عليه جلدات نكال، و غرمه مرّتين. و في من سرق من الماشية قبل أن تؤوى إلى المراح أن عليه جلدات نكال، و غرمه مرّتين. و كذلك قضاء عمر بن الخطّاب في الضالّة المكتومة أن يضعّف غرمها على كاتمها، و قال بهذا طائفة من العلماء مثل أحمد و غيره. و أضعف عمر و غيره الغرم في ناقة أعرابي أخذها مماليك جياع؛ أضعف الغرم على سيدهم و درأ عنه القطع. و أضعف عثمان بن عفان في المسلم إذا قتل الذمّي عمدا؛ أضعف عليه الدية، فتجب عليه الدية الكاملة. إذ أن دية الذمي نصف دية المسلم، و أخذ به أحمد بن حنبل.» «1»

أقول: و بعض ما ذكره

لا يوافق ما ذهب إليه أصحابنا، و إنما ذكرناه من أجل استيفاء الآراء.

الجهة السادسة: في حدّ التعزير البدني و مقداره قلّة و كثرة:
[كلمات العلماء في بيان الأقوال في المسألة]

1- قال الشيخ «ره» في أشربة الخلاف (المسألة 14):

«لا يبلغ بالتعزير حدّ كامل، بل يكون دونه. و أدنى الحدود في جنب الأحرار ثمانون؛ فالتعزير فيهم تسعة و سبعون جلدة. و أدنى الحدود في المماليك أربعون؛ و التعزير فيهم تسعة و ثلاثون. و قال الشافعيّ: أدنى الحدود في الأحرار أربعون: حدّ الخمر، و لا يبلغ بتعزير حرّ أكثر من تسعة و ثلاثين جلدة. و أدنى الحدود في العبيد

______________________________

(1)- الفقه الإسلاميّ و أدلّته 6/ 202- 204.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 346

عشرون في الخمر، و لا يبلغ تعزيرهم أكثر من تسعة عشر. و قال أبو حنيفة: لا يبلغ بالتعزير أدنى الحدود، و أدناها عنده أربعون في حدّ العبد في القذف و في شرب الخمر، فلا يبلغ بالتعزير أبدا أربعين. و قال ابن أبي ليلى و أبو يوسف: أدنى الحدود ثمانون، فلا يبلغ به التعزير، و أكثر ما يبلغ تسعة و سبعون. و هذا مثل ما قلناه. و قال مالك و الأوزاعي هو إلى اجتهاد الإمام؛ فإن رأى أن يضربه ثلاثمائة و أكثر فعل، كما فعل عمر بمن زوّر عليه الكتاب فضربه ثلاثمائة.» «1»

أقول: لا يخفى أن ما ذكره الشيخ في الخلاف لا يوافق الحق، و لا ما اختاره في بعض كتبه، إذ على فرض اعتبار كون التعزير دون أدنى الحدود فأدناها خمس و سبعون: حد القيادة، كما في خبر عبد اللّه بن سنان «2»، بل اثنا عشر و نصف: حدّ من تزوج أمة على حرّة أو ذمية على مسلمة، كما في خبر منصور بن حازم «3»، بناء على

عدّ هذا القبيل أيضا من الحدود لتقديره شرعا.

2- و قال الشيخ في نهايته:

«و متى وجد رجلان في إزار واحد مجردين أو رجل و غلام و قامت عليهما بذلك بيّنة أو اقرا بفعله ضرب كل واحد منهما تعزيرا من ثلاثين سوطا إلى تسعة و تسعين سوطا بحسب ما يراه الإمام.» «4»

فعلى م تحمل عبارة الشيخ في أشربة الخلاف، حيث جعل الملاك ثمانين؟

3- قال ابن ادريس في السرائر:

«و الوجه في ذلك أنّه إن كان الفعال مما يناسب الزنا و اللواط و السحق فإن الحد في هذه الفواحش مأئة جلدة فيكون التعزير دونها و لا يبلغها؛ فللحاكم أن يعزّر من

______________________________

(1)- الخلاف 3/ 224.

(2)- الوسائل 18/ 429، الباب 5 من أبواب حدّ السحق و القيادة، الحديث 1.

(3)- الوسائل 18/ 415، الباب 49 من أبواب حدّ الزّنا، الحديث 1.

(4)- النهاية/ 705.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 347

ثلاثين إلى تسعة و تسعين فينقص عن المائة سوطا، فأمّا إذا كان التعزير على ما يناسب فيماثل الحد الذي هو الثمانون، و هو حدّ شارب الخمر عندنا و حدّ القاذف، فيكون التعزير لا يبلغه بل من الثلاثين إلى تسعة و سبعين. فهذا معنى ما يوجد في بعض المواضع من الكتب تارة تسعة و تسعون، و تارة تسعة و سبعون.»

ثم قال:

«و الذي يقتضيه أصول مذهبنا و أخبارنا أن التعزير لا يبلغ الحد الكامل الذي هو المائة أيّ تعزير كان، سواء كان ما يناسب الزنا أو القذف. و إنما هذا الذي لوّح به شيخنا من أقوال المخالفين، و فرع من فروع بعضهم و من اجتهاداتهم و قياساتهم الباطلة.» «1»

أقول: لازم كلامه الأخير أن القاذف يضرب ثمانين، و من يشبهه

و يكون عمله أخف منه يجوز أن يضرب إلى تسعة و تسعين، و لا أظن أن يلتزم بذلك أحد. هذا.

4- و قال المحقق في الشرائع:

«و لا يبلغ به حدّ الحرّ في الحر، و لا حدّ العبد في العبد.»

و نحوه في القواعد و قد مرّا «2».

5- و في الجواهر فسّر حدّ الحرّ بالمائة، و حدّ العبد بالأربعين- و لم يظهر لنا وجه تفسيره حد الحرّ بالأكثر، و حدّ العبد بالأقلّ- ثمّ قال:

«بل قد يقال بعدم بلوغه أدنى الحدّ في العبد مطلقا. كما أنه قيل: يجب أن لا يبلغ به أقل الحدّ؛ ففي الحر خمسة و سبعون، و في العبد أربعون. و قيل: إنه فيما ناسب الزنا يجب أن لا يبلغ حدّه، و فيما ناسب القذف أو الشرب يجب أن لا يبلغ حدّه، و فيما لا مناسب له أن لا يبلغ أقل الحدود و هو خمسة و سبعون حدّ القوّاد. و حكاه في المسالك عن الشيخ و الفاضل في المختلف.» «3»

______________________________

(1)- السرائر/ 450.

(2)- الشرائع 4/ 168؛ و القواعد 2/ 262.

(3)- الجواهر 41/ 448.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 348

6- و في المنهاج للنووي في فقه الشافعية:

«فإن جلد وجب أن ينقص في عبد عن عشرين جلدة، و حرّ عن أربعين. و قيل:

عشرين. و يستوي في هذا جميع المعاصي في الأصحّ.» «1»

7- و في المغني لابن قدامة الحنبلي:

«و اختلف عن أحمد في قدره: فروي عنه أنه لا يزاد على عشر جلدات. نصّ أحمد على هذا في مواضع، و به قال إسحاق، لما روى أبو بردة، قال: سمعت رسول اللّه «ص» يقول: «لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلّا في حدّ من حدود اللّه-

تعالى-.» متفق عليه.

و الرواية الثانية: لا يبلغ به الحدّ، و هو الذي ذكره الخرقي ... و يحتمل كلام أحمد و الخرقي أنه لا يبلغ بكل جناية حدّا مشروعا في جنسها، و يجوز أن يزيد على حدّ غير جنسها. و روي عن أحمد ما يدل على هذا. فعلى هذا ما كان سببه الوطي جاز أن يجلد مأئة إلّا سوطا لينقص عن حدّ الزنا، و ما كان سببه غير الوطي لم يبلغ به أدنى الحدود ...

و قال مالك: يجوز أن يزاد التعزير على الحدّ إذا رأى الإمام، لما روي أن معن بن زائدة عمل خاتما على نقش خاتم بيت المال ثمّ جاء به صاحب بيت المال فأخذ منه مالا، فبلغ عمر فضربه مأئة و حبسه، فكلّم فيه، فضربه مأئة أخرى، فكلّم فيه من بعد، فضربه مأئة و نفاه.» «2»

8- و في بدائع الصنائع للكاشاني في فقه الحنفية:

«فالتعزير فيه (قذف الصبي أو المجنون) بالضرب، و يبلغ أقصى غاياته و ذلك تسعة و ثلاثون في قول أبي حنيفة. و عند أبي يوسف: خمسة و سبعون، و في رواية النوادر عنه تسعة و سبعون.» «3»

9- و في المحلّى لابن حزم:

______________________________

(1)- المنهاج/ 535.

(2)- المغني 10/ 347.

(3)- بدائع الصنائع 7/ 64.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 349

«اختلف الناس في مقدار التعزير: [1]- فقالت طائفة: ليس له مقدار محدود و جائز أن يبلغ به الإمام ما رآه و أن يجاوز به الحدود بالغا ما بلغ، و هو قول مالك و أحد أقوال أبي يوسف، و هو قول أبي ثور و الطحاوي من أصحاب أبي حنيفة.

[2]- و قال طائفة: التعزير مأئة جلدة فأقل. [3]- و قالت طائفة: أكثر التعزير

مأئة جلدة إلّا جلدة. [4]- و قالت طائفة: أكثر التعزير تسعة و سبعون سوطا فأقلّ، و هو أحد أقوال أبي يوسف. [5]- و قالت طائفة: أكثر التعزير خمسة و سبعون سوطا فأقلّ، و هو قول ابن أبي ليلى و أحد أقوال أبي يوسف. [6]- و قال طائفة: أكثر التعزير ثلاثون سوطا. [7]- و قالت طائفة: أكثر التعزير عشرون سوطا. [8]-

و قالت طائفة: لا يتجاوز بالتعزير تسعة، و هو قول بعض أصحاب الشافعي. [9]-

و قالت طائفة: أكثر التعزير عشرة أسواط فأقل لا يجوز أن يتجاوز به أكثر من ذلك، و هو قول الليث بن سعد و قول أصحابنا.» «1»

10- و في معالم القربة:

«و لا يبلغ به أدنى الحدّ، لقوله «ص»: «من بلغ ما ليس بحدّ فهو من التعزير» و لأن هذه المعاصي دونها فلا يجب فيها ما يجب في ذلك، فإن كان حرّا لم يبلغ به أربعين جلدة، و إن كان عبدا لم يبلغ به عشرين جلدة.

و قال أبو حنيفة: أكثره تسعة و ثلاثون في الحرّ و العبد. و قال أبو يوسف: خمسة و سبعون. و قال مالك و الأوزاعي: الضرب إلى الإمام يضربه ما يرى.

و دليلنا ما روي أنّ النبي «ص» قال: «لا تجلدوا أحدا فوق عشرة (عشرين) جلدة إلّا في حدّ من حدود اللّه- تعالى-.» و ظاهره أنه لا يجوز الزيادة على العشرة (العشرين) بحال إلّا ما دلّ عليه الدليل. و لأنّ النبي «ص» جعل الحدود عقوبة لمعاص مقدّرة، فلا يجوز أن يعاقب على ما دون المعاصي عقوبتها بل لا بد أن ينقص منها.» «2»

______________________________

(1)- المحلّى 8/ 401 (الجزء 11)، المسألة 2305.

(2)- معالم القربة/ 192 (ط. مصر/ 285) الباب 50، فصل في التعازير.

دراسات في

ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 350

فهذه بعض كلمات علمائنا و علماء السنة في بيان الأقوال في المسألة.

[الأقوال في المسألة]
اشارة

و المتحصل مما ذكرنا أن الأقوال في المسألة كثيرة:

الأول: أن لا يبلغ حد الحرّ في الحرّ و حد العبد في العبد،

كما في الشرائع و القواعد.

و لا يخفى أن في عبارتهما نحو إجمال، لاحتمال أكثر الحد و أقله. و قد مرّ تفسير الجواهر حد الحرّ بالمائة أعني الأكثر، و حدّ العبد بالأربعين أعني الأقل. و لعل غرضه كان شمول هذا المقياس للمائة إلّا سوطا التي أفتى بها الأصحاب و دلّت عليها الأخبار في الرجلين أو المرأتين أو الرجل و المرأة الأجنبية إذا وجدا مجرّدين تحت لحاف واحد، فراجع الباب العاشر من أبواب حدّ الزنا من الوسائل «1».

الثاني: أن لا يبلغ أدنى حدّ الحر في الحرّ، و أدنى حد العبد في العبد،

و فسّر أدنى الحدّ فيهما تارة بالثمانين و بالأربعين كما في الخلاف و إن ناقشناه، و أخرى بالخمسة و السبعين و بالأربعين كما حكاه في الجواهر، و ثالثة بالأربعين و بالعشرين كما عن الشافعي و غيره.

الثالث: أن لا يبلغ أدنى حدّ العبد مطلقا،

و فسّر تارة بالأربعين كما هو الظاهر مما حكاه في الجواهر و كذا مما عن أبي حنيفة، و أخرى بالعشرين كما هو الظاهر مما في المنهاج و معالم القربة.

الرابع: أن لا يبلغ أكثر الحدّ و الحد الكامل أعني المائة مطلقا،

كما هو الظاهر من السرائر.

______________________________

(1)- راجع الوسائل 18/ 363.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 351

الخامس: أن يفصّل بين المعاصي؛ فيلاحظ في كل منها ما يناسبها،

كما وجّهه في السرائر، و نسبه في المسالك إلى الشيخ و الفاضل في المختلف، و حكاه في المغني عن أحمد أيضا.

السادس: أن الأكثر خمسة و سبعون،

كما عن ابن أبي ليلى و أبي يوسف.

السابع: أن التعزير مأئة فأقلّ،

على ما حكاه المحلّى و يشهد له بعض الأخبار الواردة في المجردين تحت لحاف واحد، فراجع الباب العاشر من أبواب حدّ الزنا من الوسائل.

الثامن: أن أكثره ثلاثون سوطا.
التاسع: أن أكثره تسعة،

حكاهما في المحلّى.

العاشر: أن لا يزاد على عشر جلدات،

كما عن أحمد في إحدى الروايتين عنه.

الحادي عشر: أنه إلى اجتهاد الإمام،

فلا حدّ له كما عن مالك و الأوزاعي.

فهذه ما عثرنا عليه من الأقوال في المسألة.

ثم لا يخفى أن ما ذكر من الأقوال إنما هو فيما إذا لم يرد من قبل الشرع تقدير مخصوص، و إلّا وجبت رعاية ما قدّره، اللهم إلّا أن يقال إنه بالتقدير يخرج عن كونه تعزيرا، و يصير من مصاديق الحدود.

قال في المسالك:

«و أما التعزير فالأصل فيه عدم التقدير، و الأغلب في أفراده كذلك، و لكن

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 352

قد وردت الروايات بتقدير بعض أفراده، و ذلك في خمسة مواضع.

الأول: تعزير المجامع زوجته في نهار رمضان؛ مقدّر بخمسة و عشرين سوطا.

الثاني: من تزوّج أمة على حرّة و دخل بها قبل الإذن؛ ضرب اثنى عشر سوطا و نصفا، ثمن حدّ الزاني.

الثالث: المجتمعان تحت إزار واحد مجردين؛ مقدر بثلاثين إلى تسعة و تسعين على قول.

الرابع: من افتض بكرا بإصبعه؛ قال الشيخ: يجلد من ثلاثين إلى سبعة و سبعين، و قال المفيد: من ثلاثين إلى ثمانين، و قال ابن إدريس: من ثلاثين الى تسعة و تسعين.

الخامس: الرجل و المرأة يوجدان في لحاف واحد و إزار مجردين؛ يعزران من عشرة إلى تسعة و تسعين. قاله المفيد، و أطلق الشيخ التعزير، و قال في الخلاف: روى أصحابنا فيه الحدّ.» «1»

أقول: و كان عليه إضافة وطي الحائض و البهيمة، حيث ورد فيهما خمسة و عشرون جلدة اللهم إلّا أن يدرجا في الحدود المصطلحة. و لم أعثر على ما حكاه عن الشيخ فيمن افتض بكرا، بل في النهاية: «جلد من ثلاثين سوطا إلى تسعة و تسعين سوطا.» «2»

اذا عرفت هذا فلنذكر اخبار المسألة، و

هي على قسمين: القسم الأوّل ما ورد لجرائم خاصة بتقدير خاص، و قد مرّ موارده من المسالك. القسم الثاني ما ورد لتحديد التعزير بنحو الإطلاق و هو محل الكلام هنا:

الأخبار الواردة في مقدار التعزير:

1- فمنها صحيحة حماد بن عثمان، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «قلت له: كم

______________________________

(1)- المسالك 2/ 423.

(2)- النهاية/ 699.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 353

التعزير؟ فقال: دون الحدّ. قال: قلت: دون ثمانين؟ قال: لا، و لكن دون أربعين، فإنّها حدّ المملوك. قلت: و كم ذاك؟ قال: على قدر ما يراه الوالي من ذنب الرجل و قوّة بدنه.» «1»

و ظاهر الحديث انحصار التعزير في الضرب، اللهم إلّا أن يقال إنه تحديد للفرد الغالب الرائج، لا لمطلق التعزير. و الحديث دليل على القول الثالث، أعني اعتبار أن لا يبلغ أدنى حدّ العبد مطلقا: في الحر و العبد و في جميع المعاصي. و في ناحية القلة لا حدّ له، بل هي إلى الوالي. و عموم مفاده يخصص بسبب الموارد الخاصة التي مرّت من المسالك.

و كان في ذهن حماد كون الثمانين أدنى حدّ الأحرار، و لعل ظاهر الحديث تقرير الإمام لذلك مع ما مرّ من كون الخمسة و السبعين، أعني حدّ القيادة أدناه. فهذا مما يشكل في الحديث.

2- و منها موثقة إسحاق بن عمّار، قال: سألت أبا إبراهيم «ع» عن التعزير كم هو؟ قال: «بضعة عشر سوطا؛ ما بين العشرة إلى العشرين.» «2»

و روى نحوها في المستدرك عن نوادر أحمد بن محمد بن عيسى، عن إسحاق بن عمار. «3»

و مفاد هذه الموثقة يخالف لمفاد الصحيحة في ناحية الكثرة و القلة معا، كما لا يخفى. و أفتى بمضمونها ابن حمزة في الوسيلة في

تعزير القذف إذا لم يتحقق فيه شرائط الحدّ «4».

3- و منها مرسلة الصدوق «ره»، قال: قال رسول اللّه «ص»: «لا يحلّ لوال يؤمن باللّه و اليوم الآخر أن يجلد أكثر من عشرة أسواط إلّا في حدّ. و أذن في أدب المملوك من ثلاثة إلى خمسة.» «5»

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 584، الباب 10 من أبواب بقيّة الحدود، الحديث 3.

(2)- الوسائل 18/ 583، الباب 10 من أبواب بقيّة الحدود، الحديث 1.

(3)- مستدرك الوسائل 3/ 248، الباب 6 من أبواب بقيّة الحدود، الحديث 2.

(4)- راجع الجوامع الفقهية/ 783.

(5)- الوسائل 18/ 584، الباب 10 من أبواب بقيّة الحدود، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 354

و إسناد الصدوق الحديث إلى رسول اللّه «ص» بنحو البتّ يدل على ثبوت مضمون الحديث عنده و العلم بصدوره عنه «ص». و مفاده موافق للقول العاشر الذي مرّ عن أحمد في إحدى الروايتين عنه.

4- و في المستدرك عن الجعفريات بسنده، عن عليّ «ع»، قال: قال رسول اللّه «ص»: «لا يحلّ لأحد يؤمن باللّه و اليوم الآخر أن يزيد على عشرة أسواط إلّا في حدّ.» «1»

5- و في صحيح البخاري بسنده، عن أبي بردة، قال: كان النبي «ص» يقول:

«لا يجلد فوق عشر جلدات إلّا في حدّ من حدود اللّه.»

و في رواية أخرى فيه عنه «ص»: «لا عقوبة فوق عشر ضربات إلّا في حدّ من حدود اللّه.»

و في رواية ثالثة عنه «ص»: «لا تجلدوا فوق عشرة أسواط إلّا في حدّ من حدود اللّه.» «2»

أقول: أبو بردة بضم الباء هو ابن نيار الأنصاري؛ شهد العقبة الثانية مع السبعين و بدرا و أحدا و المشاهد كلها مع رسول اللّه «ص» و مع

أمير المؤمنين «ع» في جميع حروبه.

و توافق مضامين هذه الروايات لمضمون مرسلة الصدوق، كما ترى.

6- و في المستدرك عن فقه الرضا، قال:

«التعزير ما بين بضعة عشر سوطا إلى تسعة و ثلاثين، و التأديب ما بين ثلاثة إلى عشرة.» «3»

______________________________

(1)- مستدرك الوسائل 3/ 248، الباب 6 من أبواب بقيّة الحدود، الحديث 3.

(2)- صحيح البخاري 4/ 183، كتاب المحاربين ...، باب كم التعزير و الأدب.

(3)- مستدرك الوسائل 3/ 248، الباب 6 من أبواب بقيّة الحدود، الحديث 1، عن فقه الرضا/ 309.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 355

أقول: و كأنّه جمع بين أخبار الباب، فحمل اخبار العشر على تأديب من تصدّى أمرا فيه حزازة و لم يصل إلى حد الحرمة، فتكون الأخبار في مقام بيان أكثر التأديب. و يشهد لذلك ذيل المرسلة، و يحمل الحد المذكور فيها على الأعم من الحد المصطلح و من التعزير. و حمل الموثقة على تحديد التعزير في جانب القلة، و صحيحة حماد على تحديده في جانب الكثرة، و المقصود بالبضعة عشر أحد عشر فما فوق.

هذا، و لكن ذكر الوالي في المرسلة ربما يبعد حملها على التأديب، إذ التأديب لا يختص بالوالي فقط فتأمّل، و لكن لا يجري هذا الإشكال في سائر أخبار العشر.

7- و في رواية عبيد بن زرارة، قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: «لو أتيت برجل قذف عبدا مسلما بالزنا لا نعلم منه إلّا خيرا لضربته الحدّ حدّ الحرّ إلّا سوطا.» «1»

و المراد بالحدّ فيه هو التعزير، إذ يشترط في حدّ القذف المصطلح أن يكون المقذوف حرّا، كما يشهد بذلك موثقة أبي بصير، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «من افترى على مملوك عزّر لحرمة

الإسلام.» «2»

و تشعر رواية عبيد بل تدلّ- و لا سيما بضميمة ما ورد في مقدمات الزنا من جلد مأئة إلا سوطا- على القول الخامس، أعني التفصيل بين المعاصي، فيلاحظ في كل منها ما يناسبها، فالتعزير في مقدمات الزنا مثلا يكون دون حدّ الزنا، و التعزير فيما يناسب القذف يكون دون حدّ القذف. و قد مرّ عن المسالك نسبة هذا القول إلى الشيخ و الفاضل. و قوله: «لضربته الحد حدّ الحرّ إلّا سوطا» لا يدل على تعيّن ذلك، بل هو في مقام بيان الحد الأكثر و أنه- عليه السلام- يختار ذلك بالنسبة إلى المورد الذي ذكره.

هذا ما وجدناه من الأخبار في هذا المجال. و إنما الإشكال في الجمع بينها و رفع التعارض الموجود فيها.

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 434، الباب 4 من أبواب حدّ القذف، الحديث 2.

(2)- الوسائل 18/ 436، الباب 4 من أبواب حدّ القذف، الحديث 12.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 356

و لأحد أن يقول: إن خبر عبيد بن زرارة يقتصر فيه على مورده، أعني قذف العبد المسلم بالزنا. فوزانه وزان سائر الأخبار الواردة في الموارد الخاصة التي تعرّض لها في المسالك كما مرّ، فنفتي بكل منها في مورده.

و على هذا فالأمر في التعزيرات العامّة يدور بين كونها دون الأربعين بلا حدّ في ناحية القلة كما في صحيحة حمّاد، أو بين بضعة عشر إلى تسعة و ثلاثين كما في فقه الرضا، أو بين بضعة عشر إلى عشرين كما في الموثقة، أو لا تزيد على عشرة كما في مرسلة الصدوق و ما بمضمونها.

فإن قلت: قد أشرنا إلى أن خبر عبيد بضميمة الأخبار الواردة في مقدمات الزنا ربما يدل على أن التعزير فيما

يناسب الزنا يكون دون حدّ الزنا، و فيما يناسب القذف يكون دون حدّ القذف، فلتحمل الأخبار العامّة على المعاصي التي لا تناسب الزنا و اللواط و السحق و القذف.

قلت: مورد خبر عبيد هو خصوص قذف العبد المسلم الخيّر بالزنا، فلا يعمّ جميع موارد القذف و لا الشتم و السبّ و الهجاء و الإيذاء، و اختيار الإمام الصادق «ع» في مقام العمل أيضا لمرتبة خاصة لا يدل على تعيّن هذه المرتبة للجميع.

و الأخبار المشار إليها وردت في خصوص تجردهما تحت لحاف واحد، فلا تدل على حكم التقبيل و اللمس و نحوهما، و إن استدل بها بعضهم لذلك أيضا.

فالأولى هو ما أشرنا إليه من حمل الأخبار الخاصة على مواردها الخاصة، و الحكم بكون غيرها مشمولا للأخبار العامّة. و على هذا فالمهم هو رفع التعارض بين هذه الأخبار، و هو في غاية الإشكال.

و يمكن أن يقال: إن مرسلة الصدوق و ما بمضمونها، أعني ما دل على عدم جواز الزيادة على العشرة، لم نجد من يفتي بها من أصحابنا الإمامية، و إنما أفتى بمضمونها بعض فقهاء السنة كما مرّ عن أحمد في إحدى الروايتين عنه. و قد مرّ احتمال حملها

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 357

على التأديب بقرينة ذيل المرسلة و حمل الحدّ فيها على الأعم من الحد المصطلح و من التعزير.

و يرد على الموثقة أيضا أولا أنا لم نجد من يفتي بها إلّا ابن حمزة في الوسيلة في خصوص ما يناسب القذف. نعم، أفتى الشافعي في إحدى الروايتين عنه بعدم جواز الزيادة على العشرين، كما مرّ عن المنهاج.

و ثانيا بأنها ظاهرة في كون الأكثر عشرين أو تسعة عشر، و لعل ظهور الصحيحة

في جواز الأكثر إلى تسعة و ثلاثين أقوى منه، مضافا إلى صحة السند، فتقدم الصحيحة عليها.

و يمكن حمل مفاد الموثقة على كونه من باب المثال و تعيين بعض المصاديق.

و يؤيد ذلك إطلاقات التعزير الواردة في أخبار كثيرة في الأبواب المختلفة في مقام البيان من غير ذكر المقدار.

فبذلك يجمع بين الصحيحة و بين الموثقة، و تصير عبارة فقه الرضا شاهدة لهذا الجمع.

و الظاهر عندي على ما تتبعت أن فقه الرضا هو رسالة علي بن بابويه القمي التي كانت مرجعا لأصحابنا الإمامية عند اعواز النصوص في المسألة. و كان هو «ره» فقيها بصيرا بفقه أهل البيت- عليهم السلام-.

فتلخّص مما ذكرناه أن الأخبار المتضمنة لتعزيرات خاصة تحمل على مواردها الخاصة، و الجمع بين الأخبار العامة يقتضي الأخذ بما في فقه الرضا، أعني ما بين بضعة عشر سوطا إلى تسعة و ثلاثين. هذا.

و ربما يحمل اختلاف الأخبار في المقام على تفاوت الجرائم و كذا المجرمين بحسب الموقعية و السوابق الحسنة أو السيئة، و اختلاف مراتب التعزير و الشرائط الزمانية و المكانية و نحو ذلك. و ليس التعزير أمرا تعبديا محضا يقتصر فيه على مقدار خاص نظير الحدّ، بل الغرض منه تأديب الشخص و تنبيه المجتمع فيختلف باختلاف الجهات المذكورة، و على ذلك تحمل الاخبار المختلفة. و كأن الأمر في كلّ منها إرشاد

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 358

إلى مرتبة خاصة منها. و قد يشعر بذلك قوله «ع» في صحيحة حماد: «على قدر ما يراه الوالي من ذنب الرجل و قوّة بدنه.» «1»

نعم، لا يجوز تجاوزه عن الحد بل بلوغه إلى حدّه أيضا كما يدل عليه معتبر السكوني، عن أبي عبد اللّه «ع»، عن

آبائه، قال: قال رسول اللّه «ص»: «من بلغ حدّا في غير حدّ فهو من المعتدين.» «2» و رواه البيهقي أيضا بسنده، عن الضحاك، عن النبيّ «ص» «3».

الجهة السابعة: في مقدار الضرب التأديبي:

لا يخفى أن تأديب الصبي أو المملوك المتخلف غير تعزير المجرم، فإن التعزير يكون في قبال العمل المحرم ذاتا بخلاف التأديب، فإنه يقع في قبال ما لا ينبغي صدوره عادة و لم يصل إلى حدّ الحرمة الشرعية ذاتا. و مقدار الضرب فيه أيضا لا يبلغ مقدار الضرب في التعزير.

قال الشيخ في آخر الحدود من كتاب النهاية:

«و الصبي و المملوك إذا أخطآ أدبا بخمس ضربات إلى ستّ، و لا يزاد على ذلك.» «4»

و قال المحقق في الشرائع:

«يكره أن يزاد في تأديب الصبي على عشرة أسواط، و كذا المملوك.» «5»

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 584، الباب 10 من أبواب بقيّة الحدود، الحديث 3.

(2)- الوسائل 18/ 312، الباب 3 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 6.

(3)- سنن البيهقي 8/ 327 كتاب الأشربة و الحد فيها، باب ما جاء في التعزير و أنه لا يبلغ به أربعين.

(4)- النهاية/ 732.

(5)- الشرائع 4/ 167.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 359

أقول: و الأصل في المسألة أخبار مستفيضة:

1- ففي خبر حماد بن عثمان، قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع» في أدب الصبي و المملوك، فقال: «خمسة أو ستّة، و ارفق.» «1»

2- و في خبر زرارة، قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع» ما ترى في ضرب المملوك؟

قال: «ما أتى فيه على يديه فلا شي ء عليه، و أما ما عصاك فيه فلا بأس.» قلت: كم أضربه؟

قال: «ثلاثة أو أربعة أو خمسة.» «2»

3- و في خبر السكوني، عن أبي عبد اللّه «ع» أن أمير المؤمنين «ع» ألقى

صبيان الكتاب ألواحهم بين يديه ليخير بينهم، فقال: «أما إنها حكومة، و الجور فيها كالجور في الحكم. أبلغوا معلّمكم إن ضربكم فوق ثلاث ضربات في الأدب اقتصّ منه.» «3»

4- و في موثق إسحاق بن عمار، قال: «قلت لأبي عبد اللّه «ع»: ربما ضربت الغلام في بعض ما يجرم؟ قال: و كم تضربه؟ قلت: ربما ضربته مأئة، فقال: مأئة؟! مأئة؟! فأعاد ذلك مرّتين ثم قال: حدّ الزنا؟! اتّق اللّه. فقلت: جعلت فداك فكم ينبغي لي أن أضربه؟ فقال: واحدا. فقلت: و اللّه لو علم أني لا أضربه إلا واحدا ما ترك لي شيئا إلا أفسده. قال: فاثنين. فقلت: هذا هو هلاكي. قال: فلم أزل أماكسه حتى بلغ خمسة، ثمّ غضب، فقال: يا إسحاق، إن كنت تدري حدّ ما أجرم فأقم الحدّ فيه و لا تعدّ حدود اللّه.» «4»

5- و في خبر علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر «ع»، قال: «سألته عن رجل هل يصلح له أن يضرب مملوكه في الذنب يذنبه؟ قال: يضربه على قدر ذنبه؛ إن

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 581، الباب 8 من أبواب بقيّة الحدود، الحديث 1.

(2)- الوسائل 18/ 582، الباب 8 من أبواب بقيّة الحدود، الحديث 3.

(3)- الوسائل 18/ 582، الباب 8 من أبواب بقيّة الحدود، الحديث 2.

(4)- الوسائل 18/ 339، الباب 30 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 360

زنى جلده، و إن كان غير ذلك فعلى قدر ذنبه: السوط و السوطين و شبهه، و لا يفرط في العقوبة.» «1»

6- و في المستدرك عن فقه الرضا: «و التأديب ما بين ثلاثة إلى عشرة.» «2»

إلى غير ذلك من الأخبار في هذا الباب

و قد مرّ في الجهة السادسة حمل أخبار العشر جلدات كلها على التأديب أيضا، فراجع.

و لا يخفى كما أشرنا إليه انصراف الأخبار المذكورة عن صورة ارتكاب المملوك المكلف لواحدة من المعاصي الشرعية التي شرّع فيها الحدّ أو التعزير، بل انصرافها أيضا عن صورة ارتكاب الصبي المميّز لواحدة منها كاللواط و السرقة و نحوهما، إذ الظاهر أن الثابت حينئذ هو التعزير لا التأديب.

فمورد التأديب هو التخلفات العادية لا الشرعية و لا سيما الفظيعة منها، فتدبّر.

و هل يجب التأديب في موارده أم لا؟ فنقول: إن حصرنا مورده في التخلفات العادية كما هو الظاهر فلا وجه للوجوب، و إن قلنا بكونه أعم منها و من بعض المحرمات الشرعية ذاتا ففيه تفصيل: فإن ترتب الفساد على تركه وجب و إلّا فلا.

و لو كان تأديب المملوك لتضييعه حق سيده كان العفو أرجح، كما يشهد بذلك سيرة الأئمّة «ع» في تخلفات عبيدهم.

و في الجواهر:

«ينبغي أن يعلم أن مفروض الكلام في التأديب الراجع إلى مصلحة الصبيّ مثلا لا ما يثيره الغضب النفساني، فإن المؤدّب حينئذ قد يؤدّب.» «3» هذا.

و لم نجد لما في الشرائع دليلا واضحا، إذ لا دلالة لما مرّ عن فقه الرضا من قوله: «و التأديب ما بين ثلاثة إلى عشرة» على ما أفتى به من الكراهة، مضافا إلى عدم نجيته. و ما مرّ من مرسلة الصدوق يشكل حملها على الكراهة، لظهورها قويا في الحرمة. و لعلّ موردها أيضا بقرينة ذكر الوالي هو التعزير لا التأديب. نعم، مفاد خبر

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 340، الباب 30 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 8.

(2)- مستدرك الوسائل 3/ 248، الباب 6 من أبواب بقيّة الحدود، الحديث 1، عن فقه الرضا/ 310.

(3)- الجواهر 41/ 446.

دراسات

في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 361

أبي بردة و نحوه هو الأعمّ، فيمكن حمله على التأديب جمعا، كما مرّ.

و كيف كان، فالأحوط في المسألة هو الأخذ بما في النهاية و إن أمكن القول بجواز التعدّي عن الستّ مع الاحتياج إذا لم يفرط، إذ الغرض هو حصول الأدب، و ليس أمثال التعزيرات و التأديبات كما مرّ أمورا تعبدية صرفة و لذا أمر بها في مواردها بنحو الإطلاق الظاهر في إحالة مقاديرها إلى المعزّر أو المؤدّب بحسب ما يراه من المقتضيات و الشرائط.

و حيث إن بحثنا في وظائف الحكّام، و ليس التأديبات من هذا القبيل أدرجنا البحث فيها.

الجهة الثامنة: في حكم من قتله الحد أو التعزير أو التأديب:
[كلمات العلماء في المسألة]

1- قال الشيخ «ره» في أشربة الخلاف (المسألة 9):

«إذا ضرب الإمام شارب الخمر ثمانين فمات لم يكن عليه شي ء. و قال الشافعي:

يلزمه نصف الدية. دليلنا أنا قد بيّنا أن الحدّ ثمانون، و الشافعي بنى هذا على أن الحدّ له أربعون، فلأجل هذا ضمّنه ديته على بيت المال.»

و (المسألة 10):

«إذا عزّر الإمام من يجب تعزيره أو من يجوز تعزيره و إن لم يجب فمات منه لم يكن عليه شي ء، و به قال أبو حنيفة. و قال الشافعي: يلزمه ديته. و أين تجب؟ فيه قولان: أحدهما- و هو الصحيح عندهم- على عاقلته. و الثاني في بيت المال. دليلنا أن الأصل براءة الذمّة و شغلها يحتاج إلى دليل ...» «1»

______________________________

(1)- الخلاف 3/ 222.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 362

2- و قال في أشربة المبسوط:

«إذا عزّر الإمام رجلا فمات من الضرب ففيه كمال الدية لأنه ضرب تأديب.

و أين تجب الدية؟ قال قوم: في بيت المال و هو الذي يقتضيه مذهبنا. و قال قوم:

على

عاقلته، و هو أصحهما عندهم. و إن قلنا نحن: لا ضمان عليه أصلا كان قويّا، لما روي عن أمير المؤمنين «ع» أنه قال: «من أقمنا عليه حدّا من حدود اللّه فمات فلا ضمان.» و هذا حدّ و إن كان غير معيّن.» «1»

3- و في أشربة المبسوط أيضا:

«فإن فعل ذلك فلا ضمان على الإمام، سواء عزّره تعزيرا واجبا أو مباحا، و هو الذي يقتضيه مذهبنا. فمن قال: مضمون أين ضمّنه (يضمّنه خ. ل) على ما مضى، عند قوم: في بيت المال، و عند آخرين: على عاقلته، و فيه الكفارة على ما مضى القول فيه.

فأما إن ضرب الأب أو الجدّ الصبيّ تأديبا فهلك، أو ضربه الإمام أو الحاكم أو أمين الحاكم أو الوصيّ، أو ضربه المعلّم تأديبا فهلك منه فهو مضمون، لأنه إنما أبيح بشرط السلامة. و يلزم عندنا في ماله، و عندهم على عاقلته.» «2»

4- و قال المحقق في حدود الشرائع:

«من قتله الحدّ أو التعزير فلا دية له، و قيل: تجب على بيت المال، و الأول مروي.» «3»

5- و في أواخر الحدود منه أيضا:

«الثامنة: إذا أدّب زوجته تأديبا مشروعا فماتت، قال الشيخ: عليه ديتها لأنه مشروط بالسلامة. و فيه تردّد، لأنه من جملة التعزيرات السائغة. و لو ضرب الصبي أبوه أو جده لأبيه (تأديبا خ. ل) فمات فعليه ديته في ماله.» «4»

6- و في المغني لابن قدامة الحنبلي:

______________________________

(1)- المبسوط 8/ 63.

(2)- المبسوط 8/ 66.

(3)- الشرائع 4/ 171.

(4)- الشرائع 4/ 192.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 363

«فصل: و إذا مات من التعزير لم يجب ضمانه، و بهذا قال مالك و أبو حنيفة. و قال الشافعي: يضمنه، لقول عليّ «ع»: ليس أحد أقيم

عليه الحد فيموت فأجد في نفسي شيئا، إن الحق قتله إلّا حدّ الخمر، فإن رسول اللّه «ص» لم يسنّه لنا. و أشار «ع» على عمر بضمان التي أجهضت جنينها حين أرسل إليها.

و لنا أنها عقوبة مشروعة للردع و الزجر، فلم يضمن من تلف بها كالحدّ.» «1»

أقول: ما حكاه عن أمير المؤمنين «ع» من عدم سنّ رسول اللّه «ص» حدّ الخمر معارض بما في الخصال عنه «ع» أن رسول اللّه «ص» ضرب في الخمر ثمانين «2».

و في المصنف لعبد الرزاق بسنده عن الحسن أن النبي «ص» ضرب في الخمر ثمانين.

و فيه أيضا بسنده عن الحسن، قال: «همّ عمر بن الخطاب أن يكتب في المصحف أن رسول اللّه «ص» ضرب في الخمر ثمانين، و وقّت لأهل العراق ذات عرق.» «3»

و أما ضمان الجنين فلا يدل على الضمان في المقام، إذ الجنين لم تصدر منه جناية، و لا تعزير عليه، فتدبّر.

7- و في المغني أيضا:

«فصل: و ليس على الزوج ضمان الزوجة إذا تلفت من التأديب المشروع في النشوز، و لا على المعلّم إذا أدّب صبيه الأدب المشروع، و به قال مالك. و قال الشافعي و أبو حنيفة: يضمن. و وجه المذهبين ما تقدم في التي قبلها.

قال الخلال: إذا ضرب المعلم ثلاثا كما قال التابعون و فقهاء الأمصار و كان ذلك ثلاثا فليس بضامن. و إن ضربه ضربا شديدا مثله لا يكون أدبا للصبي ضمن، لأنه قد تعدى في الضرب.

قال القاضي: و كذلك يجي ء على قياس قول أصحابنا إذا ضرب الأب أو الجد

______________________________

(1)- المغني 10/ 349.

(2)- الوسائل 18/ 468، الباب 3 من أبواب حدّ المسكر، الحديث 8.

(3)- المصنّف 7/ 379، باب حد الخمر، الحديث 13547 و 13548.

دراسات في

ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 364

الصبي تأديبا فهلك أو الحاكم أو أمينه أو الوصي عليه تأديبا فلا ضمان عليهم كالمعلم.» «1»

8- و قال الماوردي في الوجوه الفارقة بين الحدّ و التعزير:

«و الوجه الثالث أن الحدّ و إن كان ما حدث عنه من التلف هدرا فإن التعزير يوجب ضمان ما حدث عنه من التلف، قد أرهب عمر بن الخطاب امرأة فأخمصت بطنها فألقت جنينا ميّتا، فشاور عليّا «ع» و حمل دية جنينها.» «2»

9- و في معالم القربة:

«و إذا عزر الإمام رجلا فمات وجب الضمان عليه. و قيل: لا يجب. و المذهب الأول، لأنه روي ذلك عن عمر و عليّ «ع» و لا مخالف لهما، و لأنه ضرب غير محدود فكان مضمونا كضرب الزوج زوجته و المعلم الصبي. و إنما ضمنّا التعزير لأنه تأديب مشروط فيه السلامة، فإذا أفضى فيه إلى التلف تبينا أنه لم يكن مأذونا فيه فوجب ضمانه.

و قال أبو حنيفة: إذا رأى الإمام أنه لا يصلحه إلا الضرب لزمه أن يضربه، و إن رأى أنه يصلحه غير الضرب فهو بالخيار في ذلك، و أيّ الأمرين فعل فمات فلا ضمان عليه.» «3» هذا.

10- و لكن في الأحكام السلطانية لأبي يعلى الفرّاء:

«و التعزير لا يوجب ضمان ما حدث عنه من التلف، و كذلك المعلم إذا ضرب صبيا أدبا معهودا في العرف فأفضى إلى تلفه، و كذلك الزوج إذا ضرب عند النشوز و تلفت فلا ضمان عليه.

و قد نصّ على ذلك في رواية أبي طالب و قد سئل هل بين المرأة و زوجها قصاص؟

فقال: «إذا كان في أدب بضربها فلا.» و كذلك نقل بكر بن محمد: «في الرجل يضرب امرأته، فيكسر يدها أو

رجلها أو يعقرها على وجه الأدب فلا قصاص

______________________________

(1)- المغني 10/ 349.

(2)- الأحكام السلطانيّة/ 238.

(3)- معالم القربة/ 193 (ط. مصر/ 286) الباب 50، فصل في التعازير.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 365

عليه.» و ذكر ابو بكر الخلال في كتاب الأدب فقال: «إذا ضرب المعلم الصبيان ضربا غير مبرّح و كان ذلك ثلاثا فليس بضامن.» و على قياس هذا، الأب إذا أدّب ابنه.» «1»

فهذه بعض كلمات العلماء و المصنفين من الفريقين في هذه المسألة، و يظهر منهم التسالم على عدم الضمان في الحدود المقدرة إلا مع التعدي، و إنما وقع النزاع في التعازير و التأديبات.

و الفارق بينهما كما يظهر من بعض الكلمات أيضا هو أن الحدّ المصطلح له مقدار معين مشروع من قبل اللّه- تعالى-، فإذا أجراه الحاكم المأمور بإجرائه بلا تعدّ و تفريط فلا يتصور وجه لضمانه، لأن الحكم من قبل اللّه- تعالى-، و هو ممتثل لأمره- تعالى-.

و أما التعزير و التأديب فحيث لم يقدر لهما مقدار خاص بل الحاكم أو الولي هو الذي يعين حدّهما و مقدارهما و الغرض هو الأدب مع حفظ موضوعه و سلامته فيمكن أن يقال فيهما إن الموت مستند إلى خطأه و اشتباهه في تعيين المقدار، فيثبت الضمان و إن كان استقرار ضمان الحاكم على بيت مال المسلمين لا على نفسه كما يشهد بذلك خبر الأصبغ بن نباتة: قال: قضى أمير المؤمنين «ع»: «أن ما أخطأت القضاة في دم أو قطع فهو على بيت مال المسلمين.» «2»

و نحوه ما رواه في الكافي بسند موثوق به عن أبي مريم، عن أبي جعفر «ع» قال: «قضى أمير المؤمنين ...» «3» هذا.

و أمّا أخبار المسألة فهي طائفتان:
اشارة

______________________________

(1)- الأحكام السلطانيّة/ 282.

(2)- الوسائل 18/

165، الباب 10 من أبواب آداب القاضي، الحديث 1.

(3)- الوسائل 19/ 111، الباب 7 من أبواب دعوى القتل، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 366

الأولى: ما دلت على عدم الدية فيما قتله الحدّ أو القصاص مطلقا:

1- فمنها صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «أيّما رجل قتله الحدّ أو القصاص فلا دية له.» «1»

2- و منها خبر الكناني، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: سألته عن رجل قتله القصاص له دية؟ فقال: «لو كان ذلك لم يقتص من أحد.» و قال: «من قتله الحدّ فلا دية له.» و نحو ذلك خبر الشحام، عن أبي عبد اللّه «ع». «2»

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 2، ص: 366

3- و منها خبر معلّى بن عثمان، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «من قتله القصاص أو الحدّ لم يكن له دية.» «3»

4- و في المستدرك عن دعائم الإسلام، عن أمير المؤمنين «ع» أنّه قال: «من أقيم عليه حدّ فمات فلا دية و لا قود.» «4»

5- و فيه أيضا، عن الدعائم، عنه «ع» أنه قال: «من مات في حدّ أو قصاص فهو قتيل القرآن، فلا شي ء عليه.» «5»

و لعل الحدّ في هذه الأخبار و أمثالها هو الأعم من الحدّ المصطلح و من التعزير بتقريب أنّ اللفظان إذا اجتمعا افترقا، و إذا افترقا اجتمعا، فتأمّل.

فإن قلت: الظاهر من الحدّ في هذه الروايات بقرينة المرادفة مع القصاص هو خصوص حدّ القتل، فلا يعمّ الضرب الذي ربما يصادف الموت فضلا عن مثل التعزيرات.

______________________________

(1)- الوسائل 19/ 47، الباب 24 من أبواب القصاص

في النفس، الحديث 9.

(2)- الوسائل 19/ 46، الباب 24 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 1.

(3)- الوسائل 19/ 47، الباب 24 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 6.

(4)- مستدرك الوسائل 3/ 255، الباب 22 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 2، عن الدعائم 2/ 466.

(5)- مستدرك الوسائل 3/ 255، الباب 22 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 3، عن الدعائم 2/ 427.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 367

قلت: لا نسلم ذلك، بل المراد بالقصاص أيضا هو الأعمّ من قصاص النفس و قصاص الأعضاء، فتدبّر.

الطائفة الثانية من الأخبار: ما دل على التفصيل بين حدود اللّه و حدود الناس:

6- كخبر الحسن بن محبوب، عن الحسن بن صالح بن حيّ الثوري، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: سمعته يقول: «من ضربناه حدّا من حدود اللّه فمات فلا دية له علينا، و من ضربناه حدّا من حدود الناس فمات فإنّ ديته علينا.» «1»

7- و قال الصدوق «ره»: قال الصادق «ع»: «من ضربناه حدّا من حدود اللّه فمات فلا دية له علينا، و من ضربناه حدّا من حدود الناس فمات فإنّ ديته علينا.» «2»

و الظاهر اتحاد الخبرين. و إسناد الصدوق المتن إلى الإمام «ع» بنحو البتّ يدلّ على ثبوته عنده، و إلّا لم يجز هذا التعبير لحرمة القول و النسبة بغير علم و لا سيّما إلى الإمام «ع».

هذا مضافا إلى أن السند إلى الثوري صحيح، و ابن محبوب من أصحاب الإجماع، و لعل هذا كلّه يكفي في الاعتماد على الخبر، و إن كان الثوري بنفسه من الزيدية البترية و لم تثبت وثاقته.

و ظاهر الشيخ في الاستبصار «3» أيضا أنه اعتمد على الخبر و حمل الأخبار الأول عليه، و نتيجته الأخذ بالتفصيل.

و كيف كان، فالأحوط في باب الحدود

هو الأخذ بهذا التفصيل جمعا بين الأخبار فتأمّل. و مثال حدود الناس حد القذف. و الظاهر أن المراد بكون ديته علينا كون ديته عليهم بما هم حكام المسلمين، فتكون على بيت مال المسلمين كما دلّ عليه خبر الأصبغ الذي مرّ.

______________________________

(1)- الوسائل 19/ 46، الباب 24 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 3.

(2)- الوسائل 18/ 312، الباب 3 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 4.

(3)- الاستبصار 4/ 279، باب من قتله الحدّ، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 368

و أما التعازير و التأديبات فالقاعدة الأولية تقتضي الضمان فيها، لقوله «ع»:

«لا يبطل دم امرئ مسلم.» «1»

و يمكن أن يستدل لعدم الضمان فيها بأصالة البراءة، و بقاعدة الإحسان، و بالأخبار التي مرّت بناء على عموم الحدّ لهما بتقريب أن لفظ الحد كلما ذكر منفردا فلا يراد به إلّا كلّ ما شرّع لتحديد الجاني و منعه. هذا مضافا إلى ظهور اتحاد الحكم في الجميع بنظر العرف أيضا.

و لكن الأحوط هو الحكم بالضمان و لا سيما في التأديبات، فإن الأصل لا يقاوم الدليل. و الضمان في التعازير على بيت المال لا على الحاكم المحسن. و كون المراد بالحدّ في الأخبار المذكورة هو الأعم قابل للمنع. و قد مرّ الفرق بين الحدود و بين التعازير و التأديبات بأن الموت في الحد مستند إلى حكم اللّه و أما فيهما فيحتمل استناده إلى خطأ الحاكم أو الوليّ في تعيين المقدار. نعم، لا يجري هذا في الإمام المعصوم.

[حكم ما إذا تعدّى المنفذ للحكم عن وظيفته]

ثمّ إنّ هذا كلّه فيما إذا لم يتعدّ المنفذ للحكم عن وظيفته، و إلّا فهو ضامن قطعا و استقر الضمان على نفسه:

1- ففي خبر سماعة، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال:

«إن لكل شي ء حدّا، و من تعدّى ذلك الحد كان له حدّ.»

2- و قال الصدوق: خطب أمير المؤمنين «ع» فقال: «إنّ اللّه حدّ حدودا فلا تعتدوها.»

3- و في خبر السكوني، عن أبي عبد اللّه «ع» عن آبائه «ع»، قال: قال رسول اللّه «ص»: «من بلغ حدّا في غير حدّ فهو من المعتدين.»

4- و في صحيحة حمران بن أعين، عن أبي جعفر «ع» قال: «من الحدود ثلث جلد،

______________________________

(1)- الوسائل 19/ 112، الباب 8 من أبواب دعوى القتل، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 369

و من تعدى ذلك كان عليه حدّ.»

5- و في خبر الحسن بن صالح الثوري، عن أبي جعفر «ع»، قال: إن أمير المؤمنين «ع» أمر قنبرا أن يضرب رجلا حدّا فغلط قنبر فزاده ثلاثة أسواط، فأقاده عليّ «ع» من قنبر بثلاثة أسواط.»

إلى غير ذلك من الأخبار، فراجع الوسائل «1».

و إذا ثبت كون الشخص معتديا صار مصداقا لقوله- تعالى-: «فَمَنِ اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ.» «2»

و هل تنصّف الدية على الحدّ و على الزيادة مطلقا لكون الموت مستندا إلى كليهما عرفا و القود و الدية يقسطان على عدد الجانين لا على مقدار الجنايات، أو تقسّط بينهما بحسب الأسواط كما في الجواهر، أو يستقر الجميع على الحدّاد لكونه معتديا، و الزيادة هي الجزء الأخير من العلة، و المعلول يستند عرفا بل عقلا إلى الجزء الأخير من العلّة لأنه الذي يستعقب المعلول كما لو ضرب المشرف على الموت بعلل أخرى فمات بضربه أو ألقى حجرا في سفينة مثقلة فغرقت؟ في المسألة وجوه. و نحيل التحقيق فيه إلى محل آخر، و الأظهر عندي هو

الأخير.

قال المحقق في الشرائع في آخر حد الخمر:

«الثالثة: لو أقام الحاكم الحدّ بالقتل فبان فسوق الشاهدين كانت الدية في بيت المال و لا يضمنها الحاكم و لا عاقلته. و لو أنفذ الى حامل لإقامة الحد فأجهضت خوفا قال الشيخ: دية الجنين في بيت المال. و هو قويّ لأنه خطأ، و خطأ الحاكم في بيت المال. و قيل: يكون على عاقلة الإمام، و هي قضية عمر مع عليّ «ع».

و لو أمر الحاكم بضرب المحدود زيادة عن الحدّ فمات فعليه نصف الدية في ماله إن لم يعلم الحدّاد لأنه شبيه العمد، و لو كان سهوا فالنصف على بيت المال. و لو أمر بالاقتصار على الحدّ فزاد الحدّاد عمدا فالنصف على الحدّاد في ماله، و لو زاد سهوا

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 311- 313، الباب 3 من أبواب مقدّمات الحدود.

(2)- سورة البقرة (2)، الآية 194.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 370

فالدية على عاقلته، و فيه احتمال آخر.» «1»

أقول: قضية عمر مع علي «ع» قد مرّت في كلمات علماء السنة و رواها في الوسائل «2».

و قوله: «فيه احتمال آخر»، قال في الجواهر:

«و هو تقسيط الدية على الأسواط التي حصل بها الموت و هي جميع ما ضرب بها من أسواط الحد و الزيادة.» «3»

و نحن احتملنا كون الجميع على الحدّاد لكون الزيادة هي الجزء الأخير من العلّة، فتدبّر.

الجهة التاسعة: في إشارة إجمالية إلى ما تثبت به موجبات الحدود و التعزيرات:
[في موجبات الحدود و التعزيرات من كتاب الشرائع]

نذكرها من كتاب الشرائع للمحقق الحلّي. و محل البحث التفصيلي فيه كتاب الحدود، فراجع:

قال في الشرائع:

«يثبت الزنا بالإقرار أو البينة: أما الإقرار فيشترط فيه بلوغ المقر و كماله و الاختيار و الحرّيّة و تكرار الإقرار أربعا في أربعة مجالس. و لو أقر دون الأربع لم يجب الحدّ و

وجب التعزير. و لو أقر أربعا في مجلس واحد قال في الخلاف و المبسوط: لا يثبت و فيه تردّد ...

و أما البينة فلا تكفي أقل من أربعة رجال، أو ثلاثة و امرأتين. و لا تقبل شهادة

______________________________

(1)- الشرائع 4/ 171.

(2)- الوسائل 19/ 200، الباب 30 من أبواب موجبات الضمان، الحديث 1.

(3)- الجواهر 41/ 475.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 371

النساء منفردات، و لا شهادة رجل و ستّ نساء. و تقبل شهادة رجلين و أربع نساء، و يثبت به الجلد لا الرجم. و لو شهد ما دون الأربع لم يجب، و حدّ كل منهم للفرية.» «1»

و فيه أيضا:

«في اللواط و السحق و القيادة: أما اللواط فهو وطي الذكران بإيقاب و غيره.

و كلاهما لا يثبتان إلا بالإقرار أربع مرّات، أو شهادة أربعة رجال بالمعاينة.

و يشترط في المقر البلوغ و كمال العقل و الحرّيّة و الاختيار فاعلا كان أو مفعولا.

و لو أقرّ دون أربع لم يحدّ و عزّر. و لو شهد بذلك دون الأربعة لم يثبت، و كان عليهم الحد للفرية. و يحكم الحاكم فيه بعلمه إماما كان أو غيره على الأصحّ.» «2»

أقول: و لم يذكر هنا ما يثبت به السحق، و في كتاب الشهادات جعله مثل اللواط.

و فيه أيضا في القيادة:

«و تثبت بالإقرار مرتين مع بلوغ المقرّ و كمال عقله (كما له خ. ل) و حرّيّته و اختياره، أو شهادة شاهدين.» «3»

و فيه أيضا في القذف:

«و يثبت القذف بشهادة عدلين أو الإقرار مرّتين. و يشترط في المقرّ التكليف و الحرية و الاختيار.» «4»

و فيه أيضا في المسكر:

«و يثبت بشهادة عدلين مسلمين، و لا تقبل فيه شهادة النساء منفردات و لا منضمات، و

بالإقرار دفعتين، و لا يكفي المرة (الواحدة خ. ل) و يشترط في المقر البلوغ و كمال العقل و الحرية و الاختيار.» «5»

______________________________

(1)- الشرائع 4/ 151- 152.

(2)- الشرائع 4/ 159.

(3)- الشرائع 4/ 161.

(4)- الشرائع 4/ 167.

(5)- الشرائع 4/ 169.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 372

و فيه أيضا في السرقة:

«و تثبت بشهادة عدلين أو بالإقرار مرتين، و لا يكفي المرّة. و يشترط في المقرّ البلوغ و كمال العقل و الحرية و الاختيار.» «1»

و فيه أيضا في المحارب:

«و تثبت هذه الجناية بالإقرار و لو مرّة، و بشهادة رجلين عدلين. و لا تقبل شهادة النساء فيه منفردات و لا مع الرجال.» «2»

و فيه في وطي البهائم:

«و يثبت هذا بشهادة رجلين عدلين، و لا يثبت بشهادة النساء انفردن أو انضممن، و بالإقرار و لو مرّة إن كانت الدابّة له و إلّا يثبت التعزير حسب و إن تكرر الإقرار.

و قيل: لا يثبت إلّا بالإقرار مرّتين، و هو غلط.» «3»

و فيه في الاستمناء:

«و يثبت بشهادة عدلين أو الإقرار و لو مرة. و قيل: لا يثبت بالمرة، و هو وهم.» «4»

و فيه أيضا في ذيل القذف:

«الخامسة: كل ما فيه التعزير من حقوق اللّه- سبحانه- يثبت بشاهدين أو الإقرار مرّتين على قول.» «5»

هذا ما أردنا نقله من الشرائع.

و لا يخفى أن مقتضى العمومات الأوّلية كفاية شهادة العدلين أو الإقرار مرة واحدة إلّا فيما دلّ الدليل على خلافه. نعم، لا يعتبر الإقرار فيما إذا كان على غيره بوجه كإقرار العبد، فإنه يرجع إلى ضرر مولاه، فتدبّر. و لعل القول باعتبار التعدد في الإقرار في التعزير و أمثاله وقع بقياسها على باب الزنا و أمثاله، حيث اعتبر في

______________________________

(1)- الشرائع 4/

176.

(2)- الشرائع 4/ 180.

(3)- الشرائع 4/ 188.

(4)- الشرائع 4/ 189.

(5)- الشرائع 4/ 167.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 373

الإقرار فيها عدد الشهود فيها، فتدبّر.

[الكلام فيما إذا وجد الاتهام و لم يثبت بعد بالدليل]
اشارة

بقي الكلام فيما إذا وجد الاتهام و لم يثبت بعد بالدليل؛ فهل يجوز بمجرد ذلك مزاحمة المتهم و حبسه أو تعزيره للكشف؟ في المسألة تفصيل يطول البحث بالتعرض له، فلنكتف بنقل ما ذكره الماوردي في المقام ملخصا ثم نتعرض لنكت من البحث بنحو الإجمال و نحيل التفصيل إلى الفضلاء المتتبعين.

[كلام الماوردي في الأحكام السلطانيّة]

قال الماوردي في الأحكام السلطانيّة ما ملخصه:

«الجرائم محظورات شرعية زجر اللّه- تعالى- عنها بحدّ أو تعزير. و لها عند التهمة حال استبراء تقتضيه السياسة الدينية، و لها عند ثبوتها و صحتها حال استيفاء توجبه الأحكام الشرعية.

فأما حالها بعد التهمة و قبل الثبوت فمعتبر بحال الناظر فيها: فإن كان حاكما رفع إليه رجل قد اتهم بسرقة أو زنا، لم يكن للتهمة تأثير عنده و لم يجز له أن يحبسه لكشف و لا استبراء، و لا أن يأخذه بأسباب الإقرار إجبارا، و لم يسمع الدعوى في السرقة إلّا من خصم مستحق، و راعى ما يبدو من إقرار المتهوم أو إنكاره. و إن اتهم بالزنا لم يسمع الدعوى عليه إلّا بعد أن يذكر المرأة التي زنى بها و يصف ما فعله بها بما يوجب الحدّ، فإن أقرّ حدّه، و إن أنكر و كانت بينة سمعها عليه، و إلّا أحلفه في حقوق الآدميّين إذا طلب الخصم دون حقوق اللّه.

و إن كان الناظر الذي دفع إليه المتهوم أميرا أو من ولاة الأحداث كان له من أسباب الكشف و الاستبراء ما ليس للقضاة و الحكّام، و ذلك من تسعة أوجه يختلف بها حكم النظرين:

الأول: أنه يجوز للأمير أن يسمع قرف المتهوم من أعوان الإمارة من غير تحقيق للدعوى المقررة، و يرجع إلى قولهم في الإخبار عن حال المتهوم و هل هو

من أهل الريب؟ و هل هو معروف بمثل ما قرف أم لا؟ فإن برؤوه من مثل ذلك خفت التهمة و وضعت و عجل إطلاقه، و إن قرفوه بأمثاله غلظت التهمة و قويت و استعمل فيها من حال الكشف. و ليس هذا للقضاة.

و الثاني: أن للأمير أن يراعي شواهد الحال و أوصاف المتهوم في قوّة التهمة

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 374

و ضعفها، فإن كانت التهمة زنا و كان المتهوم مطيعا للنساء ذا فكاهة و خلابة قويت التهمة، و إن كان بضدّه ضعفت. و ليس هذا للقضاة.

و الثالث: أن للأمير أن يعجّل حبس المتهوم للكشف و الاستبراء. و اختلف في مدّة حبسه لذلك، فذكر عبد اللّه الزبيري من أصحاب الشافعي أن حبسه لذلك مقدر بشهر واحد. و قال غيره: ليس هو بمقدر بل هو موقوف على رأي الإمام و اجتهاده. و ليس للقضاة أن يحبسوا أحدا إلّا بحقّ وجب.

و الرابع: أنّه يجوز للأمير مع قوّة التهمة أن يضرب المتهوم ضرب التعزير لا ضرب الحدّ ليأخذه بالصدق عن حاله فيما قرف به و اتّهم. فإن أقرّ و هو مضروب اعتبرت حاله فيما ضرب عليه، فإن ضرب ليقرّ لم يكن لإقراره تحت الضرب حكم، و إن ضرب ليصدق عن حاله و أقرّ تحت الضرب قطع ضربه و استعيد إقراره، فإذا أعاده كان مأخوذا بالإقرار الثاني دون الأول، فإن اقتصر على الإقرار الأول و لم يستعده لم يضيق عليه ان يعمل بالإقرار الأول و إن كرهناه.

و الخامس: أنه يجوز للأمير فيمن تكرّرت منه الجرائم و لم ينزجر منها بالحدود أن يستديم حبسه إذا استضرّ الناس بجرائمه حتى يموت بعد أن يقوم بقوته و

كسوته من بيت المال، و إن لم يكن ذلك للقضاة.

و السادس: أنه يجوز للأمير إحلاف المتهوم استبراء لحاله و تغليظا عليه في الكشف عن أمره في التهمة بحقوق اللّه- تعالى- و حقوق الآدميّين، و لا يضيق عليه أن يجعله بالطلاق و العتاق و الصدقة. و ليس للقضاة إحلاف أحد على غير حقّ و لا أن يجاوزوا الإيمان باللّه إلى الطلاق أو العتق.

و السابع: أن للأمير أن يأخذ أهل الجرائم بالتوبة إجبارا و يظهر من الوعيد ما يقودهم إليها طوعا، و لا يضيق عليه الوعيد بالقتل فيما لا يجب فيه القتل لأنه وعيد إرهاب و تعزير.

و الثامن: أنه يجوز للأمير أن يسمع شهادات أهل الملل و من لا يجوز أن يسمع منه القضاة، إذا كثر عددهم.

و التاسع: أن للأمير النظر في المواثبات و إن لم توجب غرما و لا حدّا، فإن لم يكن

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 375

بواحد منهما أثر سمع قول من سبق بالدعوى، و إن كان بأحدهما أثر فقد ذهب بعضهم إلى أنه يبدأ بسماع دعوى من به الأثر و لا يراعي السبق. و الذي عليه أكثر الفقهاء أنه يسمع قول أسبقهما بالدعوى. و يكون المبتدي بالمواثبة أعظمهما جرما و أغلظهما تأديبا ...

فهذه أوجه يقع بها الفرق في الجرائم بين نظر الأمراء و القضاة في حال الاستبراء و قبل ثبوت الحدّ، لاختصاص الأمير بالسياسة، و اختصاص القضاة بالأحكام.» «1»

و ذكر قريبا من ذلك أبو يعلى «2».

أقول: ربما يخطر بالبال أن الماوردي و أبا يعلى كانا فيما ذكراه من الاعتماد على أعوان الإمارة من غير تحقيق و جواز ضرب المتهمين لذلك، بصدد تبرير ما استقرّت عليه سيرة الخلفاء

و الأمراء في الأعصار المختلفة من تعزير المتّهمين و تعذيبهم بمجرد الاتّهام،

[تفصيل الكلام في ضمن مسائل]

و لنا في ذلك بحث نتعرض له إجمالا بعقد مسائل:

المسألة الأولى: [ضرب المتّهم و تعزيره بمجرد الاتهام ظلم في حقّه]

الظاهر أن ضرب المتّهم و تعزيره بمجرد الاتهام لكشف ما يحتمل أن يطّلع عليه من فعل نفسه أو فعل غيره أو الحوادث و الوقائع الخارجية ظلم في حقّه و اعتداء عليه، و يخالف هذا حكم الوجدان و سلطة الناس على أنفسهم، و أصالة البراءة عن التهم إلّا أن تثبت بالدليل، و ما دلّ من الأخبار على حرمة ضرب الناس و تعذيبهم:

1- ففي صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «قال رسول اللّه «ص»: «إن أعتى الناس على اللّه- عزّ و جلّ- من قتل غير قاتله، و من ضرب من لم يضربه.» «3»

______________________________

(1)- الأحكام السلطانيّة للماوردي/ 219- 221؛ و الأحكام السلطانية لأبي يعلى/ 257- 260.

(2)- الأحكام السلطانيّة للماوردي/ 219- 221؛ و الأحكام السلطانية لأبي يعلى/ 257- 260.

(3)- الوسائل 19/ 11، الباب 4 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 376

2- و في رواية الوشاء، قال: سمعت الرضا «ع» يقول: قال رسول اللّه «ص»:

«لعن اللّه من قتل غير قاتله، أو ضرب غير ضاربه ...» «1» و نحوهما أخبار أخر، فراجع.

3- و في خبر جابر، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «لو أن رجلا ضرب رجلا سوطا لضربه اللّه سوطا من نار.» «2»

4- و في خبر السكوني، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: قال رسول اللّه «ص»: «إن أبغض الناس إلى اللّه- عزّ و جلّ- رجل جرّد ظهر مسلم بغير حقّ.» «3»

و بمجرد الشك و الاتهام لم يثبت حقّ، فتأمّل.

5- و في صحيح مسلم بسنده، عن عروة أن هشام بن حكيم وجد رجلا و هو على حمص

يشمّس ناسا من النبط في أداء الجزية، فقال: ما هذا؟ إني سمعت رسول اللّه «ص» يقول: «إنّ اللّه يعذّب الّذين يعذّبون الناس في الدنيا.» «4»

و في خبر آخر عن هشام بن حكيم بن حزام، قال: مرّ بالشام على أناس، و قد أقيموا في الشمس و صبّ على رءوسهم الزيت، فقال: ما هذا؟ قيل: يعذّبون في الخراج، فقال: أما إنّي سمعت رسول اللّه «ص» يقول: «إنّ اللّه يعذّب الّذين يعذّبون في الدنيا.» «5» و نحوها أخبار أخر.

و روى نحو ذلك أحمد في مسنده، فراجع «6». هذا.

و في الكامل لابن الأثير:

«و قال أبو فراس: خطب عمر الناس فقال: أيّها الناس إنّي ما أرسل إليكم عمّالا

______________________________

(1)- الوسائل 19/ 11، الباب 4 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 3.

(2)- الوسائل 19/ 12، الباب 4 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 7.

(3)- الوسائل 18/ 336، الباب 26 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.

(4)- صحيح مسلم 4/ 2018، كتاب البرّ و الصلة و الآداب، الباب 33 (باب الوعيد الشديد لمن عذّب الناس بغير حقّ)، ذيل الحديث 2613.

(5)- صحيح مسلم 4/ 2017، كتاب البرّ و الصلة و الآداب، الباب 33، الحديث 2613.

(6)- مسند أحمد 3/ 404.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 377

ليضربوا أبشاركم و لا ليأخذوا أموالكم و إنّما أرسلهم إليكم ليعلّموكم دينكم و سنّتكم، فمن فعل به شي ء سوى ذلك فليرفعه إليّ، فوالذي نفس عمر بيده لأقصّنّه منه. فوثب عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين أ رأيتك إن كان رجل من أمراء المسلمين على رعيّة فأدّب بعض رعيّته إنّك لتقصّه منه؟ قال: أي و الذي نفس عمر بيده إذن لأقصّنه منه، و كيف لا

أقصّه منه و قد رأيت النبي «ص» يقصّ من نفسه! ألا لا تضربوا المسلمين فتذلّوهم و لا تحمدوهم فتفتنوهم، و لا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم، و لا تنزلوهم الغياض فتضيّعوهم» «1».

أقول: و التعرّض للناس و ضربهم و تعذيبهم بمجرد الاتهام يوجب تزلزل الناس و عدم إحساسهم بالأمن الاجتماعي حتى الناس البرءاء الأعفّاء. و قد نهى الكتاب و السنة عن التجسّس ليكون الناس في حياتهم آمنين مطمئنين. و هذا من أعظم المصالح التي اهتم به الشرع المبين:

قال اللّه- تعالى-: «وَ لٰا تَجَسَّسُوا.» «2»

و في سنن البيهقي بسنده، عن جمع من الصحابة، عن النبي «ص»، قال: «إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم.» «3»

و عنه «ص»: «إنك إن اتبعت عورات الناس أو عثرات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم.» «4»

و الاخبار في هذا المجال كثيرة يأتي بعضها في فصل الاستخبارات.

اللهم إلّا أن يقال: إن الموضوع إذا كان في غاية الأهميّة كحفظ النظام مثلا، بحيث يتنجز مع الاحتمال أيضا و إن كان ضعيفا، و فرض توقفه على تعزير المتّهم

______________________________

(1)- الكامل 3/ 56.

(2)- سورة الحجرات (49)، الآية 12.

(3)- سنن البيهقي 8/ 333، كتاب الأشربة و الحدّ فيها، باب ما جاء في النهي عن التجسس.

(4)- سنن البيهقي 8/ 333، كتاب الأشربة و الحدّ فيها، باب ما جاء في النهي عن التجسس.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 378

للكشف، أمكن القول بجوازه على أساس باب التزاحم؛ حيث يتزاحم الواجب الأهمّ و الحرام الذي ليس في حدّه، فتدبّر.

المسألة الثانية: لا إشكال في أن الاعتراف مع التعذيب و التشديد لا اعتبار به شرعا

في المحاكم الشرعية. و يدلّ على ذلك- مضافا إلى ما ورد من رفع ما استكرهوا عليه- أخبار مستفيضة:

1- ففي خبر أبي البختري، عن أبي عبد اللّه «ع» أنّ أمير

المؤمنين «ع» قال: «من أقرّ عند تجريد، أو تخويف، أو حبس، أو تهديد فلا حدّ عليه.» «1»

2- و في خبر إسحاق بن عمّار، عن جعفر، عن أبيه أنّ عليّا «ع» كان يقول:

«لا قطع على أحد يخوّف من ضرب و لا قيد و لا سجن و لا تعنيف. و إن لم يعترف سقط عنه لمكان التخويف.» «2»

أقول: قوله: «و إن لم يعترف»، أي بإرادته و اختياره كما هو واضح.

3- و في صحيحة سليمان بن خالد، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن رجل سرق سرقة فكابر عنها فضرب، فجاء بها بعينها هل يجب عليه القطع؟ قال: «نعم.

و لكن لو اعترف و لم يجئ بالسرقة لم تقطع يده، لأنه اعترف على العذاب.» «3»

4- و في دعائم الإسلام، عن عليّ «ع»: «من أقرّ بحدّ على تخويف أو حبس او ضرب لم يجز ذلك عليه و لا يحدّ.» «4»

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 497، الباب 7 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 2.

(2)- الوسائل 18/ 498، الباب 7 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 3.

(3)- الوسائل 18/ 497، الباب 7 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 1.

(4)- دعائم الإسلام 2/ 466، كتاب الحدود، الفصل 5 (ذكر القضايا في الحدود)، الحديث 1655.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 379

5- و فيه أيضا، عن عليّ «ع»: «أنّه اتي برجل اتّهم بسرقة- أظنّه خاف عليه أن يكون إذا سأله تهيّب بسؤاله فأقرّ بما لم يفعل- فقال له عليّ «ع»: أ سرقت؟ قل: لا، إن شئت، فقال: لا. و لم تكن عليه بيّنة، فخلّى سبيله.» «1» و رواهما عنه في المستدرك «2».

6- و في مسند زيد بن علي: «حدثني زيد بن عليّ، عن أبيه،

عن جدّه، عن عليّ «ع»، قال: «لمّا كان في ولاية عمر أتى بامرأة حامل فسألها عمر، فاعترفت بالفجور، فأمر بها عمر أن ترجم، فلقيها عليّ بن أبي طالب، فقال: ما بال هذه؟

قالوا: أمر بها عمر أن ترجم، فردّها عليّ «ع» فقال: أمرت بها أن ترجم؟ فقال: نعم، اعترفت عندي بالفجور، فقال عليّ «ع»: هذا سلطانك عليها فما سلطانك على ما في بطنها؟

قال: ما علمت أنها حبلى. قال أمير المؤمنين «ع»: إن لم تعلم فاستبرئ رحمها. ثم قال «ع»: فلعلك انتهرتها أو أخفتها؟ قال: قد كان ذلك، فقال: أو ما سمعت رسول اللّه «ص» يقول: «لا حدّ على معترف بعد بلاء، إنه من قيّدت أو حبست أو تهددت فلا إقرار له.» قال: فخلّى عمر سبيلها ثم قال: عجزت النساء أن تلد مثل عليّ بن أبي طالب، لو لا عليّ لهلك عمر.» «3» و روى في البحار، عن كشف الغمة، عن مناقب الخوارزمي، عن الزمخشري مرفوعا إلى الحسن نحو ذلك «4».

7- و في الجعفريات بسنده، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جدّه أنه سئل عن الرجل يقرّ على نفسه بقتل أو حدّ؟ فقال أبو عبد اللّه «ع»: «لا يجوز على رجل قود و لا حدّ بإقرار بتخويف و لا حبس و لا بضرب و لا بقيد.» «5»

______________________________

(1)- دعائم الإسلام 2/ 469، كتاب السّراق و المحاربين، الفصل 1، الحديث 1669.

(2)- مستدرك الوسائل 3/ 236، الباب 7 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 1 و 2.

(3)- مسند زيد/ 299، كتاب الحدود، باب حدّ الزّاني.

(4)- بحار الأنوار 40/ 277، تاريخ أمير المؤمنين «ع»، الباب 97 (باب قضاياه ...)، الحديث 41.

(5)- الجعفريات (المطبوع مع قرب الإسناد)/ 122.

دراسات في ولاية الفقيه و

فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 380

8- و في سنن أبي داود بسنده:

«إن قوما من الكلاعيين سرق لهم متاع، فاتّهموا أناسا من الحاكة، فأتوا النعمان بن بشير صاحب النبي «ص» فحبسهم أيّاما ثم خلّى سبيلهم، فأتوا النعمان فقالوا: خلّيت سبيلهم بغير ضرب و لا امتحان؟ فقال النعمان ما شئتم؛ إن شئتم أن أضربهم، فإن خرج متاعكم فذاك و إلّا أخذت من ظهوركم مثل ما أخذت من ظهورهم. فقالوا: هذا حكمك؟ فقال: هذا حكم اللّه و حكم رسوله.» «1» و رواه النسائي أيضا في سننه «2».

و الظاهر أن المشار اليه بلفظ: «هذا» هو القصاص إن ضرب، لا أصل جواز الضرب فلا يعارض ما تقدّم. و لا أقلّ من وجود الإجمال فيه، مضافا إلى عدم اعتمادنا على سنده، فلاحظ.

9- و في كنز العمّال عن ابن مسعود، قال:

«لا يحلّ في هذه الأمّة التجريد و لا مدّ و لا غلّ و لا صفد.» (عب.) «3»

10- و في البحار، عن العلل، عن أبي جعفر «ع»، قال: «إن أوّل ما استحل الأمراء العذاب لكذبة كذبها أنس بن مالك على رسول اللّه «ص»: «أنه سمر يد رجل إلى الحائط.» و من ثمّ استحلّ الأمراء العذاب.» «4»

11- و في كتاب «عليّ إمام المتقين» لعبد الرحمن الشرقاوي:

«وضع الإمام «ع» أصولا كثيرة ... من ذلك أنه نهى عن ضرب المتهم، و رفض الوصول إلى الاعتراف من ضرب المتهم أو تعذيبه، في عصر جعل التعذيب أسلوبا

______________________________

(1)- سنن أبي داود 2/ 448، كتاب الحدود، باب في الامتحان بالضرب.

(2)- سنن النسائي 8/ 66، كتاب قطع السارق، باب امتحان السارق بالضرب و الحبس.

(3)- كنز العمال 5/ 404، كتاب الحدود من قسم الأفعال، فصل في أحكامها، الحديث 13435.

(4)- بحار

الأنوار 76/ 203 (طبعة إيران 79/ 203)، كتاب النواهي، الباب 94 (باب النهي عن التعذيب ...)، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 381

للتحقيق، و كان يقول في حماية ضمانات المتهم: «إن يثبت عليه الجرم بإقرار أو بيّنة أقمت عليه الحد و إلّا لم أعترضه.» «1»

أقول: و لعل المتتبع يعثر على أزيد من ذلك في هذا الباب.

و بالجملة، فتعزير المتهم و تعذيبه بمجرد الاحتمال مشكل. و ترتيب الأثر على الاعتراف المبتنى عليه أشكل.

و بما ذكرنا يظهر عدم جواز اعتماد الإمام و القضاة على أقارير المتهمين التي ينتزعها بعض أجهزة التحقيق و التجسس بواسطة الحبس و التخويف و التعذيب و الخداع و أمثالها، و أنه لا قيمة لها في المحاكم الشرعية، فتدبّر.

و في دستور الجمهورية الإسلامية في إيران:

«يمنع أيّ نوع من التعذيب لانتزاع الاعتراف أو كسب المعلومات. و من غير الجائز إجبار الشخص على أداء الشهادة، أو الإقرار، أو اليمين. و مثل هذه الشهادة أو الإقرار أو اليمين يكون فاقدا لقيمته و اعتباره. المخالف لهذه المادة يجازى وفق القانون.» «2»

المسألة الثالثة: الظاهر أنه يجوز حبس المتهم لكشف الحق أو أدائه في حقوق الناس

و لا سيما الدم مع احتمال فراره و عدم التمكن منه:

1- ففي الوسائل بسند لا بأس به، عن السكوني، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال:

«إن النبيّ «ص» كان يحبس في تهمة الدم ستة أيّام؛ فإن جاء أولياء المقتول بثبت، و إلّا خلّى

______________________________

(1)- كتاب «عليّ إمام المتقين» 2/ 369.

(2)- دستور الجمهورية الإسلاميّة في إيران، المادّة 38.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 382

سبيله.» «1»

2- و في سنن الترمذي بسنده، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جدّه: «إن النبي «ص» حبس رجلا في تهمة ثم خلّى عنه.»

«2» و روى نحوه أبو داود «3».

3- و في التراتيب الإدارية «ذكر بعضهم أن رسول اللّه «ص» سجن في المدينة في تهمة. رواه عبد الرزاق و النسائي في مصنفيهما من طريق بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جدّه. و ذكر أبو داود عنه في مصنفه، قال: «حبس رسول اللّه «ص» ناسا من قومي في تهمة بدم.» ... و في غير المصنف عن عبد الرزاق بهذا السند: أن النبي «ص» حبس رجلا في تهمة ساعة من نهار ثم خلّى عنه.» «4»

4- و في دعائم الإسلام، عن عليّ «ع» أنه قال: «لا حبس في تهمة إلّا في دم.

و الحبس بعد معرفة الحق ظلم.» «5» و رواه عنه في المستدرك «6».

5- و في سنن البيهقي بسنده، عن أبي جعفر «ع» أن عليّا «ع» قال: «إنّما الحبس حتى يتبين للإمام؛ فما حبس بعد ذلك فهو جور.» «7»

6- و في كتاب الغارات، عن أمير المؤمنين «ع» أنه قال: «إني لا آخذ على التهمة، و لا أعاقب على الظنّ، و لا أقاتل إلّا من خالفني و ناصبني و أظهر لي العداوة ...» «8»

و رواه عنه ابن أبي الحديد «9»، و الطبري في تاريخه «10».

______________________________

(1)- الوسائل 19/ 121، الباب 12 من أبواب دعوى القتل، الحديث 1.

(2)- سنن الترمذي 2/ 435، أبواب الديات، الباب 19، الحديث 1438.

(3)- سنن أبي داود 2/ 282، كتاب الأقضية، باب في الحبس في الدين و غيره.

(4)- التراتيب الإدارية 1/ 296.

(5)- دعائم الإسلام 2/ 539، كتاب آداب القضاة، الحديث 1916.

(6)- مستدرك الوسائل 3/ 262، الباب 10 من أبواب دعوى القتل، الحديث 1.

(7)- سنن البيهقي 6/ 53، كتاب التفليس، باب حبسه إذا اتّهم ...

(8)- الغارات 1/ 371.

(9)- شرح نهج البلاغة

لابن أبي الحديد 3/ 148.

(10)- تاريخ الطبري 6/ 3443.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 383

7- و فيه أيضا في قصّة خروج الخرّيت بن راشد من بني ناجية على أمير المؤمنين «ع» و اعتراض عبد اللّه بن قعين عليه بعدم استيثاقه، قال: «فقلت:

يا أمير المؤمنين «ع» فلم لا تأخذه الآن فتستوثق منه؟ فقال «ع»: إنا لو فعلنا هذا لكلّ من نتّهمه من الناس ملأنا السجون منهم. و لا أراني يسعني الوثوب على الناس و الحبس لهم و عقوبتهم حتى يظهروا لنا الخلاف.» «1» و رواه عنه ابن أبي الحديد «2».

إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا المجال، و ستأتي في الطائفة الأولى من الجهة الحادية عشرة من فصل السجون.

أقول: مقتضى الأصل الأوّلي عدم جواز التعرّض للشخص بمجرد التهمة، فإنه مخالف لحريّته و سلطته على نفسه، و لأصالة البراءة. فالجواز يحتاج إلى دليل متقن.

و مورد معتبرة السكوني هو خصوص الدم فلا تدلّ على الجواز في غيره. و رواية بهز بن حكيم على فرض صدورها قضية في واقعة خاصّة فلا إطلاق لها و لا نعرف موردها، و لعل المورد كان هو الدم. و مقتضى خبر الدعائم عدم الجواز في غير تهمة الدم.

و مقتضى روايتي الغارات عدم الجواز مطلقا اللهم إلّا أن يقال: إن موردهما النشاطات السياسية كما هو الظاهر. و كيف كان فجواز القبض و الحبس بمجرد الاتهام في غير الدم في غاية الإشكال. هذا.

و لكن يمكن أن يقال: إن حفظ نظام المسلمين و كيانهم، و كذلك حفظ أموالهم و حقوقهم أمران مهمان عند الشارع و هما يتوقفان كثيرا على القبض على المتّهمين و حبسهم بداعي الكشف و التحقيق إذا كانوا في

معرض الفرار. فالقول بعدم الجواز لذلك يوجب ضياع الحقوق و الأموال و اختلال النظم، و لا سيما إذا غلب الفساد على الزمان و أهله.

فالظاهر هو الجواز إذا كان الأمر مهمّا معتنى به بحيث يكون احتماله أيضا

______________________________

(1)- الغارات 1/ 335.

(2)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3/ 129. و فيه: «بكلّ من يتّهم» بدل «لكلّ من نتّهمه»، و «لى» بدل «لنا».

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 384

منجزا عند العقلاء، و لكن مع رعاية الدقة و الاحتياط و حفظ شئون الأشخاص مهما أمكن.

نعم، لا يجوز التعرض و الحبس بمجرد الوهم و الاتهامات الموهومة التافهة، و على مثل هذا ينبغي أن يحمل بعض الأخبار المانعة. و أمّا خبر الدعائم فمضافا إلى عدم ثبوت صدوره فالحصر فيه يمكن أن يكون إضافيا بالنسبة إلى هذا السنخ من الأمور أيضا، و نظير ذلك كثير في المحاورات. فلعل الحبس بسبب الأمور الجزئية التافهة القابلة للإغماض كان رائجا في تلك الأعصار كما في عصرنا أيضا فأريد نفيه.

و بالجملة، فالمقام من قبيل سائر موارد التزاحم التي يؤخذ فيها بأهمّ الأمرين.

هذا.

و لكن بعد اللتيا و الّتي فإن القبض على المسلم و حبسه بمجرد الاتهام و الاحتمال في غير الدم لا يخلو من إشكال، لشدّة اهتمام الشرع بحريم المسلمين و شئونهم، اللهم إلّا أن يكون المورد في الأهمية في حدّ الدم، فتدبّر.

قال المحقق في قصاص الشرائع:

«الرابعة: إذا اتهم و التمس الوليّ حبسه حتى يحضر ببينة ففي إجابته تردّد، و مستند الجواز ما رواه السكوني، عن أبي عبد اللّه «ع»: أن النبي «ص» كان يحبس في تهمة الدم ستة ايام، فإن جاء الأولياء بثبت و إلّا خلّى سبيله. و في السكوني

ضعف.» «1»

و عقّب ذلك في الجواهر بقوله:

«يمنع من العمل به فيما خالف أصل البراءة و غيره، إذ هو تعجيل عقوبة لا مقتضى له، و لذا كان خيرة الحلّي و الفخر و جدّه و غيرهم على ما حكى العدم.

و في محكى المختلف: «التحقيق أن نقول: إن حصلت التهمة للحاكم بسبب لزم الحبس ستة أيام، عملا بالرواية و تحفظا للنفوس عن الإتلاف، و إن حصلت لغيره فلا، عملا بالأصل.» ...

و على كل حال فلا يخلو العمل بالخبر المزبور هنا من قوة لاعتضاده بعمل من

______________________________

(1)- الشرائع 4/ 227، و الرواية في الوسائل 19/ 121، الباب 12 من أبواب دعوى القتل.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 385

عرفت، و حكاية الإجماع على العمل بأخبار الراوي المزبور ...

نعم، الظاهر اختصاص الحكم بالقتل دون الجراح، اقتصارا فيما خالف الأصل على المتيقن من الخبر المزبور.» «1»

المسألة الرابعة: [إذا علم الحاكم أنه يوجد عند الشخص معلومات نافعة في حفظ النظام و رفع الفتنة]

ما ذكرناه كلّه كان مع التّهمة و الاحتمال، و أمّا إذا علم الحاكم أنه يوجد عند الشخص معلومات نافعة في حفظ النظام و رفع الفتنة، أو في تقوية الإسلام و رفع شرّ الأعداء، أو في إحقاق حقوق المسلمين بحيث يحكم العقل و الشرع بوجوب الإعلام عليه و كان الوجوب بيّنا واضحا له أيضا، بحيث يعتقد هو أيضا بوجوبه و أهميّته شرعا و لا يكون في شبهة و لكنه مع ذلك يكتم الشهادة و الإعلام عنادا و فرارا من الحق جاز حينئذ تعزيره للكشف و الإعلام فقط، من دون أن يترتب عليه المجازاة إلّا مع علم الحاكم و جواز حكمه بعلمه.

و ذلك لما عرفت من جواز التعزير على ترك الواجب مطلقا، و قد قال اللّه- تعالى-: «وَ لٰا تَكْتُمُوا الشَّهٰادَةَ وَ مَنْ

يَكْتُمْهٰا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ.» «2»

و لعلّ ما ورد في بعض الروايات من التعذيب أو التهديد بداعي الكشف على فرض صحتها كان من هذا القبيل، أي كان في صورة العلم باطلاع الشخص و كتمانه، أو كان من جهة كونه مهدور الدم شرعا:

1- فمن ذلك قصّة كنانة بن أبي الحقيق، حيث صالح رسول اللّه «ص» أهل خيبر على حقن دمائهم و ترك جميع أموالهم للمسلمين، و كنز كنانة حليّ آل أبي الحقيق و كتمها، فلما ظهر الكنز و أخرج، أمر رسول اللّه «ص» الزبير بن العوّام أن يعذّب

______________________________

(1)- الجواهر 42/ 277 (بتصحيح آخر ص 260).

(2)- سورة البقرة (2)، الآية 283.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 386

كنانة حتى يستخرج كل ما عنده، فعذّبه الزبير حتّى جاءه بزند يقدحه في صدره «1».

2- و في سيرة ابن هشام: «انه «ص» اتي بكنانة، و كان عنده كنز بني النضير، فسأله عنه فجحد أن يكون يعرف مكانه ... فأمر رسول اللّه «ص» بالخربة، فحفرت فأخرج منها بعض كنزهم، ثم سأله عما بقي فأبى أن يؤدّيه، فأمر رسول اللّه «ص» الزبير بن العوّام، فقال: عذّبه حتّى تستأصل ما عنده، فكان الزبير يقدح بزند في صدره حتى أشرف على نفسه، ثم دفعه رسول اللّه «ص» إلى محمد بن مسلمة فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة.» «2» و في تاريخ الطبري نحو ذلك «3».

أقول: بعد ما صالحهم النبي «ص» على أن يصير أموالهم للمسلمين صار الكنز من أموالهم، و ادّعى كنانة أنه لم يبق منه شي ء و أنه برئت منه ذمة اللّه و ذمة رسوله و حلّ دمه إن كان بقي منه شي ء، فلما ظهر الكنز انكشف كذبه و

صار بذلك حلال الدم، فلا يقاس عليه المسلم المحقون دمه و حريمه، هذا مضافا إلى أن الظاهر حصول العلم بعلم كنانة و كتمانه عنادا، فتدبّر.

3- و في بدر أتوا رسول اللّه «ص» بغلامين و هو قائم يصلي، فقالا: نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء، فكره القوم خبرهما و رجوا أن يكونا لأبي سفيان فضربوهما، فلمّا أذلقوهما قالا: نحن لأبي سفيان فتركوهما، و ركع رسول اللّه «ص» و سجد سجدتيه ثم سلّم و قال: إذا صدقاكم ضربتموهما و إذا كذباكم تركتموهما؟ صدقا، و اللّه إنهما لقريش. «4»

و روى نحوه البيهقي في سننه بسنده عن أنس «5»، و الواقدي في المغازي «6».

______________________________

(1)- المغازي للواقدي 2/ 672.

(2)- سيرة ابن هشام 3/ 351.

(3)- تاريخ الطبري 3/ 1582.

(4)- سيرة ابن هشام 2/ 268.

(5)- سنن البيهقي 9/ 148، كتاب السير، باب الأسير يستطلع منه خبر المشركين.

(6)- المغازي 1/ 52.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 387

و الاستدلال بالرواية مبنيّ على استفادة تقرير النبي «ص» لأصل الضرب للكشف و لكنه ممنوع، مضافا إلى عدم حرمة الغلامين لكونهما من أهل الحرب.

4- و بعد ما كتب حاطب بن أبي بلتعة من المدينة كتابا إلى قريش يخبرهم بما أجمع عليه رسول اللّه «ص»، و أعطاه امرأة تبلغه قريشا فجعلته في رأسها و فتلت عليه قرونها، و أتى رسول اللّه «ص» الخبر من السماء بعث هو «ص» علي بن أبي طالب و الزبير، فخرجا فأدركاها فالتمساه في رحلها فلم يجدا شيئا، فقال لها علي «ع»: إنّي أحلف باللّه ما كذب رسول اللّه «ص» و ما كذبنا، لتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنّك ... «1»

و لا يخفى أن كشف المرأة و تجريدها

في تلك الأعصار كان تعذيبا لها. هذا.

و يؤيد ذلك كله ما ورد من التعذيب أو التهديد في قبال ترك الفرائض و الواجبات و الاستنكاف عن الإتيان بها:

1- ففي الوسائل، عن الرضا «ع»، عن آبائه، عن عليّ «ع»، قال: قال رسول اللّه «ص»: «ليّ الواجد بالدين يحلّ عرضه و عقوبته ما لم يكن دينه فيما يكره اللّه- عزّ و جلّ-.» «2»

و فيه أيضا، عن حماد بن عثمان، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «المولى إذا أبى أن يطلّق، قال: كان أمير المؤمنين «ع» يجعل له حظيرة من قصب و يجعله (يحسبه- التهذيب) فيها و يمنعه من الطعام و الشّراب حتى يطلّق.» «3»

2- و فيه أيضا، عن تفسير علي بن إبراهيم، قال: روي عن أمير المؤمنين «ع» أنه بنى حظيرة من قصب و جعل فيها رجلا آلى عن امرأته بعد أربعة أشهر و قال له:

«إمّا أن ترجع إلى المناكحة و إمّا أن تطلّق، و إلّا أحرقت عليك الحظيرة.» «4»

______________________________

(1)- راجع سيرة ابن هشام 4/ 41.

(2)- الوسائل 13/ 90، الباب 8 من أبواب الدين و القرض، الحديث 4.

(3)- الوسائل 15/ 545، الباب 11 من أبواب الإيلاء، الحديث 1.

(4)- الوسائل 15/ 546، الباب 11 من أبواب الإيلاء، الحديث 6.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 388

3- و فيه أيضا عن النبي «ص»: «لينتهينّ أقوام لا يشهدون الصلاة أو لآمرن مؤذنا يؤذّن ثمّ يقيم ثمّ آمر رجلا من أهل بيتي، و هو عليّ، فليحرقنّ على أقوام بيوتهم بحزم الحطب لأنهم لا يأتون الصلاة.» «1»

و قد مرّ في باب الحسبة موارد كثيرة من حسبة النبي «ص» و أمير المؤمنين «ع» أو أمرهما بها و كان في كثير

منها الضرب و التعذيب، فراجع. هذا.

و بالجملة، ففيما يرتبط بحفظ النظام و تقوية الإسلام و صيانة الحقوق يحكم العقل و الشرع بوجوب الإعلام على من له علم و اطلاع، فإذا علم الحاكم استنكاف الشخص عن العمل بهذه الوظيفة المهمة جاز له تعزيره لذلك كسائر الواجبات الشرعية.

المسألة الخامسة: [لا يجب على مرتكب حقوق اللّه إظهارها]

قد كان ما ذكرناه في الحقوق العامة، و حقوق الناس المهمة. و أمّا في مثل الزنا و اللواط و شرب الخمر و نحو ذلك من حقوق اللّه فلا يجب على المرتكب إظهارها، و ليس للحاكم أيضا تهديده أو تعزيره لذلك، بل الأولى في مثلها هو الستر و التوبة إلى اللّه- عزّ و جلّ-. و الأحاديث في هذا المجال كثيرة:

1- ففي خبر أبي العباس، قال: قال أبو عبد اللّه «ع»: «أتى النبيّ «ص» رجل فقال: إني زنيت (إلى أن قال) فقال رسول اللّه «ص»: لو استتر ثمّ تاب كان خيرا له.» «2»

2- و في خبر الأصبغ بن نباتة، قال: «أتى رجل أمير المؤمنين «ع» فقال:

يا أمير المؤمنين، إني زنيت فطهّرني، فأعرض عنه بوجهه، ثم قال له: اجلس، فقال:

______________________________

(1)- الوسائل 5/ 376، الباب 2 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 6.

(2)- الوسائل 18/ 328، الباب 16 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 5.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 389

أ يعجز أحدكم إذا قارف هذه السيئة أن يستر على نفسه كما ستر اللّه عليه؟ فقام الرجل فقال:

يا أمير المؤمنين، إني زنيت فطهّرني. فقال: و ما دعاك إلى ما قلت؟ قال: طلب الطهارة.

قال: و أيّ طهارة أفضل من التوبة. ثم أقبل على أصحابه يحدّثهم، فقام الرجل فقال:

يا أمير المؤمنين إني زنيت فطهّرني. فقال له: أ تقرأ شيئا من القرآن؟ قال:

نعم. قال:

اقرأ، فقرأ فأصاب. فقال له: أ تعرف ما يلزمك من حقوق اللّه في صلاتك و زكاتك؟ قال:

نعم. فسأله فأصاب. فقال له: هل بك مرض يعروك أو تجد وجعا في رأسك أو بدنك؟

قال: لا. قال: اذهب حتى نسأل عنك في السرّ كما سألناك في العلانية، فإن لم تعد إلينا لم نطلبك ...» «1»

3- و في مرسل البرقي، عن أمير المؤمنين «ع» في حديث الزاني الذي أقرّ أربع مرّات أنه قال لقنبر: «احتفظ به، ثم غضب و قال: ما أقبح بالرجل منكم أن يأتي بعض هذه الفواحش فيفضح نفسه على رءوس الملأ! أ فلا تاب في بيته؟ فو اللّه لتوبته فيما بينه و بين اللّه أفضل من إقامتي عليه الحد.» «2»

4- و في حدود الموطأ لمالك، عن زيد بن أسلم، عن رسول اللّه «ص» أنّه قال:

«أيها الناس، قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود اللّه. من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر اللّه، فإنّه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب اللّه.» «3» و روى نحوه الشيخ أيضا في كتاب الإقرار و كتاب السرقة من المبسوط «4».

5- و في الموطأ أيضا بسنده، عن سعيد بن المسيّب أنه قال: بلغني أن رسول اللّه «ص» قال لرجل من أسلم يقال له هزّال: «يا هزّال لو سترته بردائك لكان خيرا لك.» «5»

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 328، الباب 16 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 6.

(2)- الوسائل 18/ 327، الباب 16 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 2.

(3)- الموطّأ 2/ 169، كتاب الحدود، باب ما جاء فيمن اعترف على نفسه بالزّنا.

(4)- راجع المبسوط ج 3/ 2؛ و ج 8/ 40.

(5)- الموطّأ 2/ 166، كتاب الحدود، باب ما جاء في الرجم.

دراسات في ولاية

الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 390

إلى غير ذلك من الروايات.

نعم، لو كان مع حق اللّه- تعالى- حق الناس أيضا. كما إذا ادّعى عليه أنه لاط بغلام مكرها له فجرحه، أو زنى بامرأة مكرها لها كان حكمه حكم ما سبق من حقوق الناس، كما هو واضح.

و قد تحصل لك مما ذكرناه في المقام خمس مسائل:

الأولى: عدم جواز التعزير بمجرد الاتهام و أنه ظلم.

الثانية: عدم الاعتبار شرعا بالاعتراف المنتزع عن تعذيب.

الثالثة: جواز حبس المتهم لكشف الحق أو أدائه في حقوق الناس و لا سيما الدم حذرا من الفرار.

الرابعة: جواز تعزير من يعلم الحاكم باطلاعه على معلومات مهمة نافعة في حفظ النظام أو في إحقاق حقوق المسلمين.

الخامسة: عدم جواز ذلك في مثل الزنا و أمثاله من حقوق اللّه المحضة.

الجهة العاشرة: في إشارة إجمالية إلى فروع أخرى في المسألة:
اشارة

لا يخفى أن هنا فروعا كثيرة تعرض لها الأصحاب في كتاب الحدود، و الظاهر اتحاد حكم الحدود و التعزيرات في أكثرها. و البحث فيها هنا بالتفصيل لا يناسب وضع هذا الكتاب، فلنذكر بعض الروايات الواردة فيها و نحيل التفصيل إلى الكتب الفقهية الباحثة في مسائل الحدود. و نوصى قضاة المحاكم الإسلامية و منفذّي الأحكام فيها إلى الالتفات إلى هذه الروايات، و إلى ما مرّ منا في مبحث السلطة القضائيّة من آداب الحكم و القضاء:

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 391

الأوّل- ليس في الحدود بعد ثبوتها نظر ساعة:

1- روى السكوني، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن عليّ «ع»، قال: «ليس في الحدود نظر ساعة.» «1»

2- و روى الصدوق، عن أمير المؤمنين «ع»، قال: «إذا كان في الحدّ لعلّ أو عسى فالحدّ معطّل.» «2»

الثاني- الحدود تدرأ بالشبهات و لا شفاعة و لا يمين فيها:

1- عن الصدوق «ره»، قال: قال رسول اللّه «ص»: «ادرءوا الحدود بالشبهات.

و لا شفاعة و لا كفالة و لا يمين في حدّ.» «3»

2- و روى الترمذي بسنده، عن رسول اللّه «ص»: «ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام ان يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة.» «4»

3- و في سنن ابن ماجة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه «ص»: «ادفعوا الحدود ما وجدتم له مدفعا.» «5»

4- و في خبر مثنى الحناط، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: قال رسول اللّه «ص» لأسامة بن زيد: «لا يشفع في حدّ.» «6»

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 336، الباب 25 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.

(2)- الوسائل 18/ 336، الباب 25 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 2.

(3)- الوسائل 18/ 336، الباب 24 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 4.

(4)- سنن الترمذي 2/ 438، أبواب الحدود، الباب 2، الحديث 1447.

(5)- سنن ابن ماجة 2/ 850، كتاب الحدود، الباب 5 (باب الستر على المؤمن ...)، الحديث 2545.

(6)- الوسائل 18/ 333، الباب 20 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 392

5- و روى السكوني بسند معتبر، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: قال أمير المؤمنين «ع»: «لا يشفعنّ أحد في حدّ إذا بلغ الإمام، فإنّه لا يملكه. و اشفع فيما لم يبلغ الإمام إذا رأيت الندم. و اشفع عند

الإمام في غير الحدّ مع الرجوع من المشفوع له. و لا يشفع في حق امرئ مسلم و لا غيره إلّا بإذنه.» «1»

و في عدم جواز الشفاعة في الحد أخبار أخر أيضا، فراجع.

6- و في خبر إسحاق بن عمار، عن جعفر بن محمد، عن أبيه «ع»: «انّ رجلا استعدى عليّا «ع» على رجل فقال: إنه افترى عليّ «ع» فقال عليّ «ع» للرجل: أ فعلت ما فعلت؟

فقال: لا، ثمّ قال عليّ «ع» للمستعدي أ لك بيّنة؟ قال: فقال: مالي بيّنة فأحلفه لي، قال عليّ «ع»: ما عليه يمين.» «2»

الثالث- حرمة ضرب المسلم بغير حقّ و عند الغضب، و وجوب الدفاع عن المظلوم:

1- روى السكوني بسند معتبر، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: قال رسول اللّه «ص»:

«إنّ أبغض الناس إلى اللّه- عزّ و جلّ- رجل جرّد ظهر مسلم بغير حقّ.» «3»

2- و في مرسل ابن أسباط: «نهى رسول اللّه «ص» عن الأدب عند الغضب.» «4»

3- و في موثقة مسعدة بن صدقة، عن جعفر، عن أبيه «ع»، قال: «لا يحضرنّ أحدكم رجلا يضربه سلطان جائر ظلما و عدوانا، و لا مقتولا و لا مظلوما إذا لم ينصره، لأن نصرة المؤمن على المسلم فريضة واجبة إذا هو حضره، و العافية أوسع ما لم تلزمك الحجة الظاهرة.» «5»

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 333، الباب 20 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 4.

(2)- الوسائل 18/ 335، الباب 24 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 3.

(3)- الوسائل 18/ 336، الباب 26 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.

(4)- الوسائل 18/ 337، الباب 26 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 2.

(5)- الوسائل 18/ 313، الباب 4 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 393

4- و في المستدرك، عن دعائم الإسلام، عن النبي «ص»

أنه قال: «ظهر المؤمن حمى اللّه إلّا من حدّ.» «1»

5- و فيه أيضا، عن الدعائم، عن أمير المؤمنين «ع» أنه كتب إلى رفاعة: «دار عن المؤمنين ما استطعت، فإن ظهره حمى اللّه، و نفسه كريمة على اللّه، و له يكون ثواب اللّه، و ظالمه خصم اللّه فلا يكون خصمك.» «2»

6- و فيه أيضا، عن مناقب ابن اشوب آشوب، عن أمير المؤمنين «ع»، قال: لمّا أدرك عمرو بن عبد ودّ لم يضربه فوقع في عليّ «ع» فردّ عنه حذيفة فقال النبي «ص»: مه يا حذيفة، فإن عليّا سيذكر سبب وقفته. ثمّ إنّه ضربه، فلمّا جاء سأله النبي «ص» عن ذلك، فقال: «قد كان شئتم أمّي و تفل في وجهي، فخشيت أن أضربه لحظّ نفسي، فتركته حتى سكن ما بي ثمّ قتلته في اللّه.» «3»

الرابع- في عفو الإمام عن الحدود و التعزيرات:
[أخبار المسألة]

1- خبر ضريس الكناسي، عن أبي جعفر «ع»، قال: «لا يعفي عن الحدود التي للّه دون الإمام. فأمّا ما كان من حق الناس في حدّ فلا بأس بأن يعفى عنه دون الإمام.» «4»

و السند إلى ضريس صحيح. و ضريس الكناسي مجهول الحال، اللهم إلّا أن يجبر ذلك بأن ابن محبوب في السند و هو من أصحاب الاجماع.

و ما يكون الخبر في مقام بيانه هو عقد السلب، أعني عدم جواز عفو غير الإمام لحقوق اللّه، لا عقد الإيجاب أعني جواز عفو الإمام له. نعم، هو مفهوم الكلام إجمالا و لكن لا إطلاق له، فيمكن أن يحمل على خصوص صورة الإقرار بقرينة الأخبار

______________________________

(1)- مستدرك الوسائل 3/ 220، الباب 23 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 2.

(2)- مستدرك الوسائل 3/ 220، الباب 23 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 3.

(3)- مستدرك الوسائل 3/ 220، الباب 23 من

أبواب مقدمات الحدود، الحديث 5.

(4)- الوسائل 18/ 331، الباب 18 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 394

الأخر. و على فرض الإطلاق أيضا يجب تقييده بها.

2- مرسل البرقي، عن بعض الصادقين «ع»، قال: «جاء رجل إلى أمير المؤمنين «ع» فأقرّ بالسرقة، فقال له: أ تقرأ شيئا من القرآن؟ قال: نعم، سورة البقرة. قال: قد وهبت يدك لسورة البقرة. قال: فقال الأشعث: أ تعطّل حدّا من حدود اللّه؟ فقال: ما يدريك ما هذا؟ إذا قامت البيّنة فليس للإمام أن يعفو، و إذا أقرّ الرجل على نفسه فذاك إلى الإمام: إن شاء عفا، و إن شاء قطع.» «1»

و نحوه خبر طلحة بن زيد، عن جعفر بن محمد «ع» «2».

و السند إلى طلحة صحيح. و طلحة و إن كان بتريّا على ما قيل و لكن قال الشيخ إن كتابه معتمد «3».

و مفاد الخبر هو التفصيل بين البينة و بين الإقرار. و أفتى بذلك الشيخ في النهاية، كما يأتي.

3- و عن تحف العقول، عن أبي الحسن الثالث «ع» في حديث قال: «و أمّا الرّجل الذي اعترف باللواط فإنه لم يقم عليه البينة، و إنما تطوّع بالإقرار من نفسه. و إذا كان للإمام الذي من اللّه أن يعاقب عن اللّه كان له أن يمنّ عن اللّه. أما سمعت قول اللّه: «هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب.» «4».

و ظاهر الرواية أيضا هو التفصيل، و إن كان المترائى من التعليل المستفاد من الكلام الأخير جواز العفو في كلتا الصورتين. هذا.

و أمّا الأقوال في المسألة

فقال المفيد في المقنعة:

«و من زنى و تاب قبل أن تقوم الشهادة عليه بالزنا درأت عنه التوبة الحدّ، فإن تاب بعد قيام

الشهادة عليه كان للإمام الخيار في العفو عنه أو إقامة الحدّ عليه- حسب

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 331، الباب 18 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 3.

(2)- الوسائل 18/ 331، الباب 18 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 3.

(3)- الفهرست للشيخ/ 86 (ط. أخرى/ 112).

(4)- الوسائل 18/ 331، الباب 18 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 4.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 395

ما يراه من المصلحة في ذلك له و لأهل الإسلام- فإن لم يتب لم يجز العفو عنه في الحدّ بحال.» «1»

و قال الشيخ في النهاية:

«و من زنى و تاب قبل قيام البيّنة عليه بذلك درأت التوبة عنه الحدّ. فإن تاب بعد قيام الشهادة عليه وجب عليه الحدّ و لم يجز للإمام العفو عنه. فإن كان أقرّ على نفسه عند الإمام ثمّ أظهر التوبة كان للإمام الخيار في العفو عنه أو إقامة الحدّ عليه حسب ما يراه من المصلحة في ذلك. و متى لم يتب لم يجز للإمام العفو عنه على حال.» «2»

و قال أبو الصلاح الحلبي في الكافي:

«فإن تاب الزاني أو الزانية قبل قيام البينة عليه، و ظهرت توبته و حمدت طريقته سقط عنه الحدّ. و إن تاب بعد قيام البيّنة فالإمام العادل مخيّر بين العفو و الإقامة، و ليس ذلك لغيره إلّا بإذنه. و توبة المرء سرّا أفضل من إقراره ليحدّ.» «3»

و قال ابن زهرة في الغنية:

«و إن تاب بعد ثبوت الزنا عليه فلإمام العفو عنه، و ليس ذلك لغيره.» «4»

فموضوع العفو عند المفيد الثبوت بالشهادة، و عند الحلبي الثبوت بالبينة، و عند الشيخ الثبوت بالإقرار، و عند ابن زهرة مطلق. و لعل المفيد و الحلبي أيضا قائلان بالإطلاق، إذ لو

جاز العفو عند البينة جاز عند الإقرار بطريق أولى، بل يمكن أن يقال: إن الشهادة في كلام المفيد تعم البينة و الإقرار، فإن الإقرار أيضا شهادة و لكنها على النفس.

و جميعهم اشترطوا التوبة، و ظاهرهم عدم جواز العفو بدونها. و ليس في الروايات التي مرّت اسم منها، اللهم إلّا أن يقال إن الظاهر من المقرّ تطوعا أنّه تاب و إلّا

______________________________

(1)- المقنعة/ 123.

(2)- النهاية/ 696.

(3)- الكافي/ 407.

(4)- الجوامع الفقهيّة/ 560.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 396

لم يقرّ، مضافا إلى عدم الوجه للعفو مع إصرار المرتكب و عدم توبته.

و لكن كلا الوجهين ممنوعان، إذ لعل عمله كان في معرض الثبوت بالشهادة فأقرّ برجاء العفو أو التخفيف، و لعل الإمام رأى أن عفوه يوجب حسن ظنه بالإسلام فيعود إلى الإسلام و تكاليفه أو أنه توقّع منه عملا مهما نافعا للإسلام و المسلمين فيعفو عنه و إن لم يتب ترغيبا له في هذا العمل.

و كيف كان فمقتضى الجمع بين الروايات في المقام هو التفصيل بين ما ثبت بالبيّنة، و ما ثبت بالإقرار. و لو أجزنا إجراء الحدود بعلم الحاكم فهل يلحق ذلك بالبينة أو بالإقرار؟ و جهان. و لعل المستفاد من عموم التعليل في رواية تحف العقول جواز العفو فيه أيضا، فتدبّر.

و المقصود بالإمام في أمثال المقام هو المتصدّي للحكومة الحقة العادلة في كل عصر و زمان، لا خصوص الإمام المعصوم. و ذلك واضح لكل من ثبت له بما حققناه في هذا الكتاب لزوم وجود الحكومة و ضرورتها في جميع الأعصار، و يطلق على قائد المسلمين في كل عصر لفظ الإمام، فراجع المباحث السابقة.

ثمّ إن الظاهر أن مورد عفو الإمام هو الحدود التي

تكون للّه و ليس فيها حق الناس، و أمّا الحد الذي يغلب عليه جانب حق الناس كحدّ القذف فالعفو فيه دائر مدار عفو من له الحقّ. و وجهه واضح، فتدبّر.

العفو عن التعزيرات:
اشارة

هذا كله في الحدود الشرعية المقدرة. و أمّا التعزيرات المفوضة إلى الإمام و الحاكم فإن كانت في قبال حق الناس فالظاهر أن العفو فيها أيضا دائر مدار عفو من له الحق. و أما ما كانت في قبال حقوق اللّه- تعالى- فالمستفاد من إطلاق الآيات و الروايات الكثيرة الواردة في العفو و الإغماض، و من سيرة النبي «ص» و أمير المؤمنين «ع» و غيرهما جواز عفو الإمام عنها إذا رآه صلاحا و لم يوجب تجرّي المرتكب:

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 397

[الآيات]

1- قال اللّه- تبارك و تعالى-: «وَ الْكٰاظِمِينَ الْغَيْظَ، وَ الْعٰافِينَ عَنِ النّٰاسِ، وَ اللّٰهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.» «1»

2- و قال: «وَ لٰا تَزٰالُ تَطَّلِعُ عَلىٰ خٰائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلّٰا قَلِيلًا مِنْهُمْ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اصْفَحْ، إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.» «2»

3- و قال: «خُذِ الْعَفْوَ، وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ، وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجٰاهِلِينَ.» «3»

4- و قال: «فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ.» «4»

5- و قال: «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ. نَحْنُ أَعْلَمُ بِمٰا يَصِفُونَ.» «5»

6- و قال: «وَ اصْبِرْ عَلىٰ مٰا يَقُولُونَ، وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا.» «6»

[الروايات]

7- و في أصول الكافي بسنده، عن السكوني، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: قال رسول اللّه «ص»: «عليكم بالعفو، فإن العفو لا يزيد العبد إلّا عزّا، فتعافوا يعزّكم اللّه.» «7»

8- و فيه بسنده، عن حمران، عن أبي جعفر «ع»، قال: «النّدامة على العفو أفضل و أيسر من الندامة على العقوبة.» «8»

9- و فيه أيضا بسنده، عن زرارة، عن أبي جعفر «ع»، قال: «إن رسول اللّه «ص»، اتي باليهودية التي سمّت الشاة للنبيّ «ص» فقال لها: ما حملك على ما صنعت؟

______________________________

(1)- سورة آل عمران (3)، الآية 134.

(2)- سورة المائدة (5)، الآية 13.

(3)- سورة الأعراف (7)، الآية 199.

(4)- سورة الحجر (15)، الآية 85.

(5)- سورة المؤمنين (23)، الآية 96.

(6)- سورة المزّمّل (73)، الآية 10.

(7)- الكافي 2/ 108، كتاب الإيمان و الكفر، باب العفو، الحديث 5.

(8)- الكافي 2/ 108، كتاب الإيمان و الكفر، باب العفو، الحديث، 6.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 398

فقالت: قلت: إن كان نبيّا لم يضرّه، و إن كان ملكا أرحت الناس منه، قال: فعفا رسول اللّه «ص» عنها.» «1»

10- و في نهج البلاغة في كتابه «ع» للأشتر النخعي

لمّا ولّاه مصر: «و أشعر قلبك الرحمة للرعية و المحبّة لهم و اللطف بهم، و لا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم. فإنّهم صنفان: إمّا أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق. يفرط منهم الزلل و تعرض لهم العلل، و يؤتى على أيديهم في العمد و الخطأ، فأعطهم من عفوك و صفحك مثل الّذي تحبّ أن يعطيك اللّه من عفوه و صفحه. فإنك فوقهم، و والي الأمر عليك فوقك، و اللّه فوق من ولّاك ... و لا تندمنّ على عفو، و لا تبجحنّ بعقوبة.» «2»

11- و فيه أيضا: «أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة.» «3»

12- و فيه أيضا: «أقيلوا ذوي المروءات عثراتهم. فما يعثر منهم عاثر إلّا و يد اللّه بيده يرفعه.» «4»

و نحوه في الغرر و الدرر «5». و قد مرّ في آخر الجهة الأولى قريب من ذلك أيضا عن الدّعائم، و عن أبي داود، فراجع «6».

13- و في شرح ابن أبي الحديد: «و حاربه أهل البصرة، و ضربوا وجهه و وجوه أولاده بالسيوف، و شتموه و لعنوه. فلمّا ظفر بهم رفع السيف عنهم و نادى مناديه في أقطار العسكر: ألا لا يتبع مولّ و لا يجهز على جريح و لا يقتل مستأسر. و من ألقى سلاحه فهو آمن، و من تحيّز إلى عسكر الإمام فهو آمن. و لم يأخذ أثقالهم، و لا سبى ذراريهم و لا غنم شيئا من أموالهم.

و لو شاء أن يفعل كل ذلك لفعل، و لكنه أبي إلّا الصفح و العفو، و تقيّل سنة رسول اللّه «ص» يوم

______________________________

(1)- الكافي 2/ 108، كتاب الإيمان و الكفر، باب العفو، الحديث، 9.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 993؛ عبده 3/ 93- 94؛

لح 427- 428، الكتاب 53.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 1112؛ عبده 3/ 164؛ لح/ 478، الحكمة 52.

(4)- نهج البلاغة، فيض/ 1095؛ عبده 3/ 155؛ لح/ 471، الحكمة 19.

(5)- الغرر و الدرر 2/ 260، الحديث 2550.

(6)- راجع ص 313 من الكتاب.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 399

فتح مكّة، فإنه عفا و الأحقاد لم تبرد و الإساءة لم تنس.» «1»

أقول: تقيّل زيد أباه: أشبهه.

14- و في الخصال، عن علي بن الحسين «ع» في رسالة الحقوق: «و أمّا حقّ رعيتك بالسلطان فإن تعلم أنهم صاروا رعيتك لضعفهم و قوّتك، فيجب أن تعدل فيهم و تكون لهم كالوالد الرحيم، و تغفر لهم جهلهم و لا تعاجلهم بالعقوبة و تشكر اللّه- عزّ و جلّ- على ما آتاك من القوّة عليهم.» «2»

15- و في تحف العقول، عن الإمام الصادق «ع»: «ثلاثة تجب على السلطان للخاصّة و العامّة: مكافأة المحسن بالإحسان ليزدادوا رغبة فيه، و تغمّد ذنوب المسي ء ليتوب و يرجع عن غيّه، و تألّفهم جميعا بالإحسان و الإنصاف.» «3»

16- و في البحار، عن مصباح الشريعة، قال الصادق «ع»: «العفو عند القدرة من سنن المرسلين و المتقين. و تفسير العفو أن لا تلزم صاحبك فيما أجرم ظاهرا و تنسى من الأصل ما أصبت منه باطنا، و تزيد على الاختيارات إحسانا.» «4»

17- و في الغرر و الدرر للآمدي، عن أمير المؤمنين «ع»: «العفو زكاة القدرة.» «5»

18- و فيه أيضا: «المبادرة إلى العفو من أخلاق الكرام.» «6»

19- و فيه: «أقل العثرة، و ادرء الحدّ، و تجاوز عمّا لم يصرّح لك به.» «7»

______________________________

(1)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1/ 23.

(2)- الخصال/ 567 (الجزء 2).

(3)- تحف العقول/ 319.

(4)- بحار الأنوار 68/

423 (طبعة إيران 71/ 423)، كتاب الإيمان و الكفر- مكارم الأخلاق، الباب 93، الحديث 62.

(5)- الغرر و الدرر 1/ 230، الحديث 924.

(6)- الغرر و الدرر 2/ 4، الحديث 1566.

(7)- الغرر و الدرر 2/ 197، الحديث 2364.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 400

20- و فيه: «تجاوز عن الزلل و أقل العثرات ترفع لك الدرجات.» «1»

21- و فيه: «لا تعاجل الذنب بالعقوبة، و اترك بينهما للعفو موضعا تحرز به الأجر و المثوبة.» «2»

22- و فيه: «اقبل أعذار الناس تستمتع بإخائهم، و القهم بالبشر تمت أضغانهم.» «3»

23- و فيه: «أعرف الناس باللّه أعذرهم للناس و إن لم يجد لهم عذرا.» «4»

24- و فيه: «شرّ الناس من لا يقبل العذر و لا يقيل الذنب.» «5»

25- و فيه: «قبول عذر المجرم من مواجب الكرم و محاسن الشيم.» «6»

26- و فيه: «ما أقبح العقوبة مع الاعتذار.» «7»

27- و فيه: «شرّ الناس من لا يعفو عن الزلّة و لا يستر العورة.» «8»

28- و فيه: «المروءة العدل في الإمرة، و العفو مع القدرة، و المواساة في العشرة.» «9»

29- و فيه: «جمال السياسة العدل في الإمرة، و العفو مع القدرة.» «10»

______________________________

(1)- الغرر و الدرر 3/ 314، الحديث 4566.

(2)- الغرر و الدرر 6/ 306، الحديث 10343.

(3)- الغرر و الدرر 2/ 215، الحديث 2420.

(4)- الغرر و الدرر 2/ 444، الحديث 3230.

(5)- الغرر و الدرر 4/ 165، الحديث 5685.

(6)- الغرر و الدرر 4/ 517، الحديث 6815.

(7)- الغرر و الدرر 6/ 68، الحديث 9541.

(8)- الغرر و الدرر 4/ 175، الحديث 5735.

(9)- الغرر و الدرر 2/ 142، الحديث 2112.

(10)- الغرر و الدرر 3/ 375، الحديث 4792.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2،

ص: 401

30- و فيه: «ظفر الكرام عفو و إحسان. ظفر اللئام تجبّر و طغيان.» «1»

31- و فيه: «عند كمال القدرة تظهر فضيلة العفو.» «2»

32- و فيه: «كفى بالظفر شافعا للمذنب.» «3»

33- و فيه: «من عفا عن الجرائم فقد أخذ بجوامع الفضل.» «4»

34- و فيه: «من الدين التجاوز عن الجرم.» «5»

35- و فيه: «جاز بالحسنة و تجاوز عن السيئة ما لم يكن ثلما في الدين أو وهنا في سلطان الإسلام.» «6»

36- و فيه: «لا يقابل مسي ء قطّ بأفضل من العفو عنه.» «7»

37- و فيه: «ربّ ذنب مقدار العقوبة عليه إعلام المذنب به.» «8» و قد مرّ.

38- و في البحار، عن الحسن بن عليّ «ع»: «لا تعاجل الذنب بالعقوبة و اجعل بينهما للاعتذار طريقا.» «9» هذا.

و الأخبار في هذا المجال كثيرة جدا يعثر عليها المتتبع في مظانّها.

______________________________

(1)- الغرر و الدرر 4/ 273- 274، الحديث 6044 و 6045.

(2)- الغرر و الدرر 4/ 324، الحديث 6215.

(3)- الغرر و الدرر 4/ 579، الحديث 7052.

(4)- الغرر و الدرر 5/ 307، الحديث 8499.

(5)- الغرر و الدرر 6/ 37، الحديث 9400.

(6)- الغرر و الدرر 3/ 373، الحديث 4788.

(7)- الغرر و الدرر 6/ 427، الحديث 10880.

(8)- الغرر و الدرر 4/ 73، الحديث 5342.

(9)- بحار الأنوار 75/ 115 (طبعة إيران 78/ 115)، كتاب الروضة، الباب 19 (باب مواعظ الحسن «ع»)، الحديث 11.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 402

39- و في سنن البيهقي بسنده، عن ابن مسعود أن رجلا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي «ص» فذكر ذلك له فأنزلت: «وَ أَقِمِ الصَّلٰاةَ طَرَفَيِ النَّهٰارِ وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ، إِنَّ الْحَسَنٰاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئٰاتِ، ذٰلِكَ ذِكْرىٰ لِلذّٰاكِرِينَ.» «1» قال الرجل: يا

رسول اللّه، ألي هذه؟ قال: «لمن عمل بها من أمّتي.» رواه البخاري في الصحيح عن مسدّد، و أخرجه مسلم عن أبي كامل و غيره «2».

40- و فيه أيضا بسنده، عن عبد اللّه، قال: جاء رجل إلى النبي «ص» فقال:

يا رسول اللّه، إنّي عالجت امرأة في أقصى المدينة، و إني أصبت منها ما دون أن أمسّها. فأنا هذا، فاقض فيّ ما شئت. فقال له عمر: لقد سترك اللّه لو سترت نفسك. قال: و لم يردّ عليه النبي «ص» شيئا، فقام الرجل فانطلق، فأتبعه النبي «ص» رجلا دعاه، فتلا عليه هذه الآية: «أَقِمِ الصَّلٰاةَ طَرَفَيِ النَّهٰارِ وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ، إِنَّ الْحَسَنٰاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئٰاتِ، ذٰلِكَ ذِكْرىٰ لِلذّٰاكِرِينَ.» فقال رجل من القوم: يا نبي اللّه، هذا له خاصّة؟ قال: بل للناس كافة. رواه مسلم في الصحيح «3».

أقول: و يستفاد من هذين الحديثين رجحان العفو بالنسبة إلى من كان متدينا ملازما للصلوات، و لعلّ المراد بذوي الهيئات في الحديث السابق أيضا أهل الدين و الفضائل و السوابق الحسنة، لا أهل الملابس و الأموال و الميزات الكاذبة. و يشهد لذلك خبر سيف بن عميرة، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «أجيزوا (أقيلوا خ. ل) لأهل المعروف عثراتهم.» «4»

و من موارد العفو بالسوابق الحسنة قصة حاطب بن أبي بلتعة، الذي أرسل كتابا إلى قريش يخبرهم بما أجمع عليه رسول اللّه من الوقوع عليهم بغتة، فعفا

______________________________

(1)- سورة هود (11)، الآية 114.

(2)- سنن البيهقي 8/ 241، كتاب الحدود، باب من أصاب ذنبا دون الحدّ ثمّ تاب ...

(3)- سنن البيهقي 8/ 241، كتاب الحدود، باب من أصاب ذنبا دون الحدّ ثمّ تاب ...

(4)- الوسائل 11/ 535، الباب 6 من أبواب فعل المعروف، الحديث

3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 403

عنه «ص» بسابقة كونه بدريا، فقال: «قد شهد بدرا و ما يدريك لعلّ اللّه اطلع على أهل بدر.» «1» هذا.

و بالجملة، فيصح العفو بل يستحسن فيما إذا كان التعزير لحقّ اللّه- تعالى-، و كان الشخص صالحا للعفو و الإغماض. و أمّا إذا كان لحق آدمي فهل يجوز عفو الحاكم بدون إذن من له الحق أم لا؟ وجهان بل قولان. و إن استظهرنا نحن عدم العفو فيها ما لم يتجاوز صاحب الحق، اللهم إلّا في المعارك العامّة:

قال الماوردي في الأحكام السلطانية في وجوه الفرق بين الحد و التعزير:

«الوجه الثاني أن الحد و إن لم يجز العفو عنه و لا الشفاعة فيه فيجوز في التعزير العفو عنه و تسوغ الشفاعة فيه. فإن تفرد التعزير بحق السلطنة و حكم التقويم، و لم يتعلق به حق الآدمي جاز لولي الأمر أن يراعي الأصلح في العفو أو التعزير، و جاز أن يشفع فيه من سأل العفو عن المذنب. روي عن النبي «ص» أنه قال: «اشفعوا إليّ و يقضي اللّه على لسان نبيه ما يشاء.»

و لو تعلق بالتعزير حقّ لآدمي كالتعزير في الشتم و المواثبة، ففيه حقّ للمشتوم و المضروب و حق السلطنة للتقويم و التهذيب. فلا يجوز لوالي الأمر أن يسقط بعفوه حقّ المشتوم و المضروب، و عليه أن يستوفي له حقه من تعزير الشاتم و الضارب، فإن عفا المضروب و المشتوم كان وليّ الأمر بعد عفوهما على خياره في فعل الأصلح من التعزير تقويما و الصفح عنه عفوا.

فان تعافوا عن الشتم و الضرب قبل الترافع اليه سقط التعزير الآدمي، و اختلف في سقوط حق السلطنة عنه و

التقويم على الوجهين ...» «2»

و في الباب الخمسين من معالم القربة:

«و إن رأى الإمام أو نائبه ترك التعزير جاز. هذا نقل الشيخ أبي حامد. من غير فرق بين أن يتعلّق به حقّ آدمي أو لا يتعلّق، لقوله «ص»: «أقيلوا ذوي الهيئات

______________________________

(1)- سنن أبي داود 2/ 45، كتاب الجهاد، باب في حكم الجاسوس إذا كان مسلما.

(2)- الأحكام السلطانية/ 237.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 404

عثراتهم إلّا في الحدود.» و أدنى درجات الأمر الإباحة، لأنه ضرب غير محدود فلم يكن واجبا كضرب الزوجة.

و قال في المهذّب: ليس له تركه إذا تعلّق به حق الآدمي. و قال الغزالي: إذا تعلّق به حقّ الآدمي فليس له الإهمال مع الطلب، لكن هل يجوز الاقتصار على التوبيخ باللسان؟ فيه وجهان. و على المتولي أن يستوفي له حقه من تعزير الشاتم و الضارب؛ فإن عفا المشتوم أو المضروب كان وليّ الأمر بعد عفوهما على خياره في فعل المصلحة و تعزيره تقويما، لأن التقويم من حقوق المصالح العامة، أو الصفح عنه عفوا. فإن تعافوا عن الشتم و الضرب قبل الترافع اليه سقط من التعزير حق الآدمي.» «1»

أقول: و مما يدلّ على جواز العفو أيضا استقرار سيرة النبي «ص» و الأئمة «ع» على العفو و الإغماض في كثير من موارد التخلف الموجبة للتعزير، كما يظهر ذلك لمن تتبع التاريخ.

فإن قلت: إذا كان للإمام و نائبه العفو في التعزيرات مطلقا أو فيما كان لحق اللّه- تعالى- فما هو المحمل للروايات و الفتاوى الظاهرة في الوجوب، و لا سيّما ما عبّر فيها بلفظ الوجوب؟

قلت: يتعين لا محالة حمل الوجوب على مفهومه اللغوي، أعني الثبوت، أو يراد به الوجوب بحسب طبع

الفعل مع قطع النظر عن كون المحل محلا للإغماض و العفو.

و يسمى وجوبا اقتضائيا. كما قد يشعر بذلك لفظ العفو أيضا، أو يراد به موارد كون الحق للآدمي إذا لم يرض بعفوه، فتدبّر.

الخامس- لا تضرب الحدود في شدّة الحرّ أو البرد:

1- ما رواه الكليني بسنده، عن هشام بن أحمر، عن العبد الصالح «ع»، قال:

______________________________

(1)- معالم القربة/ 192، (ط. مصر/ 286).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 405

كان جالسا في المسجد و أنا معه، فسمع صوت رجل يضرب صلاة الغداة في يوم شديد البرد، فقال: ما هذا؟ قالوا: رجل يضرب. فقال: «سبحان اللّه، في هذه الساعة؟

إنّه لا يضرب أحد في شي ء من الحدود في الشتاء إلّا في أحرّ ساعة من النهار، و لا في الصيف إلّا في أبرد ما يكون من النهار.» «1»

2- ما رواه بسنده، عن أبي داود المسترق، عن بعض أصحابنا، قال: مررت مع أبي عبد اللّه «ع» و اذا رجل يضرب بالسياط. فقال أبو عبد اللّه «ع»: «سبحان اللّه، في مثل هذا الوقت يضرب؟» قلت له: و للضرب حدّ؟ قال: نعم، إذا كان في البرد ضرب في حرّ النهار، و إذا كان في الحرّ ضرب في برد النهار.» و رواهما الشيخ أيضا «2».

3- ما رواه بسنده، عن سعدان بن مسلم، عن بعض أصحابنا، قال: خرج أبو الحسن «ع» في بعض حوائجه فمرّ برجل يحدّ في الشتاء، فقال: «سبحان اللّه، ما ينبغي هذا.» فقلت: و لهذا حدّ؟ قال: نعم، ينبغي لمن يحدّ في الشتاء أن يحدّ في حرّ النهار، و لمن حدّ في الصيف أن يحدّ في برد النهار.» «3»

أقول: إطلاق الروايات يشمل جميع الحدود حتى حدّ الزنا الذي يطلب فيه الشدّة. و ظاهر الروايتين الأوليين الحرمة،

و ربما تحملان على الكراهة بقرينة لفظ «ينبغي» في الأخيرة. و لكن نقول إن اللفظ بحسب اللغة لا ينافي الحرمة. نظير لفظ الكراهة في اللغة و إن صارا في اصطلاحنا ظاهرين في الكراهة الاصطلاحية. هذا مضافا إلى احتمال اتحاد الواقعة في الأولى و الأخيرة، فتكون إحداهما أو كلاهما نقلا بالمعنى، فتدبّر.

قال في الجواهر:

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 2، ص: 405

«ثمّ إنّ ظاهر النص و الفتوى كما اعترف به في المسالك كون الحكم على الوجوب

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 315، الباب 7 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.

(2)- الوسائل 18/ 315، الباب 7 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 2.

(3)- الوسائل 18/ 316، الباب 7 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 406

دون الندب. و حينئذ فلو أقامه على غير الوجه المزبور ضمن.» «1» هذا.

و الظاهر استفادة حكم الضرب التعزيري أيضا من هذه الروايات بالمناط و الأولوية، كما لا يخفى.

السادس- لا تجري الحدود على من به قروح أو يكون مريضا حتى تبرأ، أو يرفق به في الضرب:

1- روى الكليني بسنده، عن السكوني، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «أتي أمير المؤمنين «ع» برجل أصاب حدّا و به قروح في جسده كثيرة، فقال أمير المؤمنين «ع»: أقرّوه حتى تبرأ. لا تنكئوها «2» عليه فتقتلوه.» و رواه الصدوق أيضا «3».

2- و روى بسنده، عن أبي العباس، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «أتي رسول اللّه «ص» برجل دميم قصير قد سقى بطنه و قد درّت عروق بطنه قد فجر بامرأة، فقالت المرأة:

ما علمت به إلّا و قد دخل عليّ. فقال له

رسول اللّه «ص»: أ زنيت؟ فقال له: نعم- و لم يكن أحصن- فصعد رسول اللّه «ص» بصره و خفضه، ثم دعا بعذق فقدّه مأئة، ثم ضربه بشماريخه.» «4»

3- و في موثقة سماعة، عن أبي عبد اللّه «ع»، عن أبيه، عن آبائه- عليهم السلام-، عن النبي «ص» «أنه أتي برجل كبير البطن قد أصاب محرما، فدعا رسول اللّه «ص» بعرجون فيه مأئة شمراخ، فضربه مرّة واحدة، فكان الحدّ.» «5»

4- و روى الصدوق بإسناده، عن موسى بن بكر، عن زرارة، قال: قال أبو جعفر «ع»: «لو أنّ رجلا أخذ حزمة من قضبان أو أصلا فيه قضبان فضربه ضربة واحدة

______________________________

(1)- الجواهر 41/ 344.

(2)- نكأ القرحة: قشرها قبل أن تبرأ.

(3)- الوسائل 18/ 321، الباب 13 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 4.

(4)- الوسائل 18/ 322، الباب 13 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 5.

(5)- الوسائل 18/ 322، الباب 13 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 7.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 407

أجزأه عن عدّة ما يريد أن يجلد من عدة القضبان.» «1»

و في هذا الباب روايات أخر أيضا تقرب مضامينها مما ذكر، فراجع.

أقول: حمل الأصحاب روايات الشماريخ على المريض الذي لا يرجى شفاؤه أو اقتضت المصلحة التعجيل في حدّه.

قال الشيخ في النهاية:

«و من وجب عليه الجلد و كان عليلا، ترك حتى يبرأ ثم يقام عليه الحدّ. فإن اقتضت المصلحة تقديم الحدّ عليه أخذ عرجون فيه مأئة شمراخ أو ما ينوب منابه و يضرب به ضربة واحدة، و قد أجزأه.» «2»

و في الشرائع:

«و إن اقتضت المصلحة التعجيل ضرب بالضّغث المشتمل على العدد، و لا يشترط وصول كلّ شمراخ إلى جسده.» «3» هذا.

و ظاهر الرواية الأخيرة التي رواها

الصدوق كفاية هذه الكيفية مطلقا و لو في حال الصحة و الاختيار. و لكن لا أظنّ أن أحدا يلتزم بذلك. فتحمل لا محالة على المريض، بقرينة ما سبق.

و لا يخفى أن المتفاهم من أخبار هذا الفرع و الفرع السابق أن الشارع المقدّس لا يرضى بإيذاء المجرم و إيلامه بأكثر مما يقتضيه طبع الجلد في الحالة العادية، فتدبّر.

و يستفاد حكم الضرب التعزيري أيضا من هذه الأخبار بتنقيح المناط و الأولوية.

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 323، الباب 13 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 8.

(2)- النهاية/ 701.

(3)- الشرائع 4/ 156.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 408

السابع- كيفيّة إجراء الحدود و التعزيرات:
[الروايات]

1- فعن الكافي بسند موثوق به، عن زرارة، عن أبي جعفر «ع»، قال: «يضرب الرجل الحدّ قائما، و المرأة قاعدة. و يضرب على كل عضو، و يترك الرأس و المذاكير.» و رواه الصدوق أيضا إلّا أنّه قال: «و يترك الوجه و المذاكير.» «1»

2- موثق إسحاق بن عمار، قال: سألت أبا إبراهيم «ع» عن الزاني كيف يجلد؟ قال: «أشدّ الجلد.» قلت: فمن فوق ثيابه؟ قال: «بل تخلع ثيابه.» قلت:

فالمفتري؟ قال: «يضرب بين الضربين جسده كلّه فوق ثيابه.» «2»

3- موثقة الآخر، قال: سألت أبا إبراهيم «ع»: عن الزاني كيف يجلد؟ قال:

أشدّ الجلد. فقلت: من فوق الثياب؟ فقال: «بل يجرّد.» «3»

أقول: المقصود غير ما يستر العورة، و المرأة كلّها عورة. و وجهه واضح.

4- موثق سماعة، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «حدّ الزاني كأشدّ ما يكون من الحدود.» «4»

5- خبر حريز، عمن أخبره، عن أبي جعفر «ع» أنّه قال: «يفرّق الحدّ على الجسد كله، و يتقى الفرج و الوجه. و يضرب بين الضربين.» قال في الوسائل: «لعلّه مخصوص بغير الزنا.» «5»

6- خبر

مسمع بن عبد الملك، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: قال

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 369، الباب 11 من أبواب حدّ الزّنا، الحديث 1.

(2)- الوسائل 18/ 369، الباب 11 من أبواب حدّ الزّنا، الحديث 2.

(3)- الوسائل 18/ 369، الباب 11 من أبواب حدّ الزّنا، الحديث 3.

(4)- الوسائل 18/ 370، الباب 11 من أبواب حدّ الزّنا، الحديث 4.

(5)- الوسائل 18/ 370، الباب 11 من أبواب حدّ الزّنا، الحديث 6.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 409

رسول اللّه «ص»: «الزاني أشدّ ضربا من شارب الخمر، و شارب الخمر أشدّ ضربا من القاذف.

و القاذف أشدّ ضربا من التعزير.» «1»

7- و خبر أبي البختري، عن جعفر، عن أبيه، عن عليّ «ع»، قال: «حدّ الزاني أشدّ من حدّ القاذف، و حدّ الشارب أشدّ من حدّ القاذف.» «2»

8- و عن الصدوق في العيون و العلل بأسانيده، عن محمد بن سنان، عن الرضا «ع» فيما كتب إليه: «و علّة ضرب الزاني على جسده بأشدّ الضرب لمباشرته الزنا و استلذاذ الجسد كله به، فجعل الضرب عقوبة له، و عبرة لغيره. و هو أعظم الجنايات.» «3»

9- و روى الشيخ، عن طلحة بن زيد، عن جعفر، عن أبيه «ع»، قال: «لا يجرّد في حدّ و لا يشنّج.»- يعني: يمدّ- و قال: «و يضرب الزاني على الحال التي يوجد عليها: إن وجد عريانا ضرب عريانا، و إن وجد و عليه ثيابه ضرب و عليه ثيابه.» «4»

و السند إلى طلحة صحيح. و طلحة بن زيد و إن قالوا أنّه بترىّ، و لكن قال الشيخ «إنّ كتابه معتمد» «5» و الاصحاب يأخذون برواياته.

10- و في دعائم الإسلام، عن عليّ «ع» أنه قال في قول اللّه

«وَ لٰا تَأْخُذْكُمْ بِهِمٰا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّٰهِ» «6» قال: إقامة الحدود. إن وجد الزاني عريانا ضرب عريانا، و إن وجد و عليه ثياب ضرب و عليه ثيابه. و يجلد أشدّ الجلد. و يضرب الرجل قائما، و المرأة قاعدة. و يضرب كلّ عضو منه و منها ما خلا الوجه و الفرج و المذاكير كأشدّ ما يكون من الضرب.» «7» و رواه عنه في المستدرك «8».

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 449، الباب 15 من أبواب حدّ القذف، الحديث 5.

(2)- الوسائل 18/ 370، الباب 11 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 9.

(3)- الوسائل 18/ 370، الباب 11 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 8.

(4)- الوسائل 18/ 370، الباب 11 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 7.

(5)- الفهرست للشيخ/ 86 (ط. اخرى/ 112).

(6)- سورة النور (24)، الآية 2.

(7)- دعائم الإسلام 2/ 451، كتاب الحدود، الفصل 2، الحديث 1580.

(8)- مستدرك الوسائل 3/ 223، الباب 9 من أبواب حدود الزنا، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 410

أقول: قال في الشرائع:

«و يجلد الزاني مجرّدا. و قيل: على الحال التي وجد عليها.» «1»

و يمكن أن يؤيد القول الأول بأن مفهوم الجلد هو ضرب الجلد. نظير قولهم:

ظهره و بطنه و رأسه، أي ضرب ظهره و بطنه و رأسه. فهي أفعال مأخوذة من الأسماء.

و لكن الأحوط هو القول الثاني، إذ الحدود و كذا خصوصياتها تدرأ بالشبهات.

و إطلاق قوله: «و تخلع ثيابه»، أو «يجرّد» في موثقة اسحاق بن عمار يحمل على التفصيل في خبر طلحة حمل كلّ مطلق على المفصّل و المقيّد. و لعل الأغلب في الزاني أن يوجد مجردا، فيحمل الإطلاق على الغالب، فتدبّر. هذا.

11- و في سنن أبي داود بسنده، عن أبي

هريرة، عن النبي «ص»، قال: «إذا ضرب أحدكم فليتّق الوجه.» «2»

12- و في سنن البيهقي بسنده، عن هنيدة بن خالد أنه شهد عليا «ع» أقام على رجل حدّا فقال للجالد: «اضرب و أعط كلّ عضو حقه، و اتق وجهه و مذاكيره.» «3»

و روى نحوه عبد الرزاق في المصنف، عن عكرمة بن خالد «4».

13- و في سنن البيهقي أيضا بسنده، عن عليّ «ع» أنه أتي برجل في خمر فقال:

«دع له يديه يتقي بهما.» «5»

و روى نحوه عبد الرزاق في المصنف أيضا «6».

______________________________

(1)- الشرائع 4/ 157.

(2)- سنن أبي داود 2/ 476، كتاب الحدود، باب في ضرب الوجه في الحدّ.

(3)- سنن البيهقي 8/ 327، كتاب الأشربة و الحد فيها، باب ما جاء في صفة السوط و الضرب.

(4)- المصنف 7/ 370، باب ضرب الحدود ...، الحديث 13517.

(5)- سنن البيهقي 8/ 326، كتاب الأشربة و الحدّ فيها، باب ما جاء في صفة السوط و الضرب.

(6)- المصنف 7/ 370، باب ضرب الحدود ...، الحديث 13518.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 411

14- و في المصنف لعبد الرزاق، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير: أنّ رجلا جاء إلى النبي «ص» فقال: يا رسول اللّه، إني أصبت حدّا فأقمه عليّ، فدعا رسول اللّه «ص» بسوط جديد عليه ثمرته. فقال: لا، سوط دون هذا. فأتي بسوط مكسور العجز (الفجر). فقال: لا، سوط فوق هذا. فاتي بسوط بين السوطين. فأمر به فجلد، ثمّ صعد المنبر و الغضب يعرف في وجهه فقال: «أيها الناس، إنّ اللّه- تعالى- حرّم عليكم الفواحش ما ظهر منها و ما بطن. فمن أصاب منها شيئا فليستتر بستر اللّه. فإنّه من يرفع إلينا من ذلك شيئا نقمه.»

«1»

و روى نحو ذلك البيهقي في السنن بسنده، عن زيد بن أسلم، فراجع «2».

أقول: ثمرة السوط: طرفه الذي في أسفله و يكون فيه عقدة.

[نقل كلام من معالم القربة في كيفية إجراء الحدود و التعزيرات]

و قد ناسب هنا نقل كلام من معالم القربة في كيفية إجراء الحدود و التعزيرات، ذكرها في أول الباب الخمسين من كتابه، قال:

«فمن ذلك السوط و الدّرّة: أمّا السّوط فيتخذ وسطا، لا بالغليظ الشديد و لا بالرقيق اللين، بل يكون من وسطين حتّى لا يؤلم الجسم، لما روى زيد بن أسلم أن رجلا اعترف عند النبيّ «ص» بالزنا فدعا له بالسوط. فأتى بسوط مكسور، فقال: فوق هذا. فأتى بسوط جديد، فقال: دون هذا. فأتى بسوط قد لان، فضرب به.

و أما الدّرّة فتكون من جلد البقر أو الجمل مخروزة. و تكون هذه الآلة معلقة على دكّة المحتسب ليشاهدها الناس فترعد منها قلوب المفسدين و ينزجر بها أهل التدليس. فإذا أتى له بمن زنى و هو بكر جلده مأئة جلدة في ملأ من الناس، كما قال اللّه- تعالى-: «وَ لْيَشْهَدْ عَذٰابَهُمٰا طٰائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.» ...

و يضرب الرجل في الحد و التعزير قائما. و لا يمدّ و لا يربط، لأنّ لكل عضو قسطا من الضرب. و يتوقى الوجه و الرأس و الفرج و الخاصرة و سائر المواضع المخوفة، لما روي أنّ عليّا «ع» قال للجلّاد: اضربه و أعط كلّ عضو حقّه، و اتق وجهه و مذاكيره.

______________________________

(1)- المصنف 7/ 369، باب ضرب الحدود ...، الحديث 13515.

(2)- سنن البيهقي 8/ 326، كتاب الأشربة و الحدّ فيها، باب ما جاء في صفة السوط و الضرب.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 412

و اعلم أنّ أكثر أصحاب الشافعي قالوا: لا يتقى الرأس، لأن أبا

بكر قال للجلاد:

اضرب الرأس، فإن الشيطان في الرأس، و لأنه يكون مغطّى في العادة فلا يخاف إفساده. و الخاصرة كالرأس.

و قال أبو حنيفة: يلزمه اتّقاؤه. و هو أشبه، لأن الضرب عليه أخوف.

و لا يجرّد بل يكون عليه قميص. فإن كان عليه جبّة محشوّة أو فروة جرّد منها، لأنها تقيه الضرب. و لا يتولى الضرب غير الرجال، لأنهم أبصر به. و لا يبلغ بالضرب ما يجرح و ينهر الدم.

و أمّا المرأة فتضرب جالسة في إزارها، لأنها عورة؛ فإذا كانت قائمة ربما تكشفت. و تشدّ عليها ثيابها لتستر بها. قال الشافعي: و يلي ذلك منها امرأة، يعني شدّ الثياب عليها ...

و أمّا صفات الضرب في التعزير فيجوز أن يكون بالعصا و بالسوط الذي كسرت ثمرته، لا يجوز أن يبلغ بتعزيره كما تقدم إنهار الدم.

و ضرب الحدّ يجوز أن يفرّق في البدن كله بعد توقّي مواضع المقاتل، ليأخذ كل عضو نصيبه من الحدّ. و لا يجوز أن يجمع في موضع واحد من الجسد.

و اختلف في ضرب التعزير، فأجراه جمهور أصحاب الشافعي مجرى ضرب الحدّ في التفريق. و جوّز عبد اللّه الزبيري جمعه في موضع واحد من الجسد.

و يجوز في مكان التعزير أن يجرّد من ثيابه إلّا قدر ما يستر عورته. و يشهّر في الناس و ينادى عليه بذنبه إذا تكرر منه و لم يقلع عنه. و يجوز أن يحلق شعر رأسه و لا تحلق لحيته. و اختلف في جواز تسويد وجهه، فجوّزه الأكثرون. أمّا ركوبه الدابّة مستدبرا فنقل الخلف عن السلف و الحكام أنهم يفعلونه. و يجوز أن يصلب في التعزير حيّا. و لا يمنع من طعام أو شراب. و لا يمنع من الوضوء للصلاة و يصلي مؤميا

و يعيد إذا أرسل و لا يجاوز بصلبه ثلاثة أيّام.» «1» هذا.

و قال الماوردي في الأحكام السلطانية:

______________________________

(1)- معالم القربة/ 184- 185 و 193- 194 (ط. مصر/ 277- 278 و 287).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 413

«و أمّا صفة الضرب في التعزير فيجوز أن يكون بالعصا و بالسوط الذي كسرت ثمرته، كالحدّ. و اختلف في جوازه بسوط لم تكسر ثمرته، فذهب الزبيري إلى جوازه، و إن زاد في الصفة على ضرب الحدود و أنّه يجوز أن يبلغ به إنهار الدم.

و ذهب جمهور أصحاب الشافعي إلى حظره بسوط لم تكسر ثمرته، لأن الضرب في الحدود أبلغ و أغلظ، و هو كذلك محظور، فكان في التعزير أولى أن يكون محظورا، و لا يجوز أن يبلغ بتعزير إنهار الدم.

و ضرب الحدّ يجب أن يفرّق في البدن كلّه بعد توقّي المواضع القاتلة، ليأخذ كلّ عضو نصيبه من الحدّ و لا يجوز أن يجمع في موضع واحد من الجسد.

و اختلف في ضرب التعزير، فأجراه جمهور أصحاب الشافعي مجرى الضرب في الحدّ في تفريقه و حظر جمعه. و خالفهم الزبيري، فجوّز جمعه في موضع واحد من الجسد، لأنه لمّا جاز إسقاطه عن جميع الجسد جاز إسقاطه عن بعضه بخلاف الحدّ.

و يجوز أن يصلب في التعزير حيّا. قد صلب رسول اللّه «ص» رجلا على جبل يقال له أبو ناب. و لا يمنع إذا صلب أداء طعام و لا شراب. و لا يمنع من الوضوء للصلاة، و يصلّي مؤميا و يعيد إذا أرسل و لا يجاوز بصلبه ثلاثة أيّام. و يجوز في نكال التعزير أن يجرّد من ثيابه إلّا قدر ما يستر عورته. و يشهر في الناس و ينادى

عليه بذنبه إذا تكرّر منه و لم يتب. و يجوز أن يحلق شعره و لا يجوز أن تحلق لحيته. و اختلف في جواز تسويد وجوههم، فجوّزه الأكثرون و منع منه الأقلّون.» «1»

أقول: و لا يخفى أن إقامة الدليل على بعض ما ذكروه في المقام مشكل، و أكثرها أمور استحسانية، و بعضها يخالف مضامين الأخبار التي مضت. و الاحتياط حسن على كل حال، و طريق الاحتياط واضح.

______________________________

(1)- الأحكام السلطانية/ 238- 239.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 414

الجهة الحادية عشرة: عود الى البدء: [في تكميل بحث التعزيرات]

قد مرّ في أوّل بحث التعزيرات عن المبسوط:

«أنّ كل من أتى معصية لا يجب بها الحد فإنّه يعزّر.» «1»

و عن الشرائع و القواعد:

«أنّ كل من فعل محرّما أو ترك واجبا فللإمام تعزيره بما لا يبلغ الحدّ.» «2»

و هذه الكلية مما أفتى به فقهاء الفريقين من الشيعة و السنة، ثم تعرّض كل منهم لمصاديق لها من باب المثال.

و ممن تعرّض لها و ذكر لها مصاديق كثيرة أبو الصلاح الحلبي، من أعاظم فقهاء الشيعة الإمامية، المتوفى في 447 من الهجرة النبوية، فلنذكر كلامه في المقام تكميلا لبحث التعزيرات الشرعية:

قال في كتابه المسمى بالكافي:

«التعزير تأديب تعبّد اللّه- سبحانه- به لردع المعزّر و غيره من المكلفين. و هو مستحق للإخلال بكل واجب و إيثار كل قبيح لم يرد الشرع بتوظيف الحدّ عليه.

و حكمه يلزم بإقرار مرّتين أو شهادة عدلين.

فمن ذلك أن يخلّ ببعض الواجبات العقلية كردّ الوديعة و قضاء الدين، أو الفرائض الشرعية كالصلاة و الزكاة و الصوم و الحج إلى غير ذلك من الواجبات و الفرائض المبتدئة و المسببة و المشترطة. فيلزم سلطان الإسلام تأديبه بما يردعه و غيره عن

______________________________

(1)- المبسوط 8/ 69.

(2)- الشرائع 4/ 168؛

و القواعد 2/ 262.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 415

الإخلال بالواجب و يحمله و سواه على فعله.

و من ذلك أن يفعل بعض القبائح. و هي على ضروب: منها وجود الرجل و المرأة لا عصمة بينهما في إزار واحد أو بيت واحد، إلى غير ذلك من ضمّ أو تقبيل فما فوقهما، فيعزّرا بحسب ما يراه وليّ التأديب من عشرة أسواط إلى تسعة و تسعين سوطا.

و كذلك حكم الرجلين في شعار واحد مجردين، و المرأتين كذلك، و الرجل و الغلام في بيت واحد و في شعار واحد مع الريبة على كل حال، إلى غير ذلك مع (من. ظ) ضمّ و تقبيل يوجب التعزير.

و يعزّر الصبي المتلوّط به، و الناقص العقل، و الصبيان المتلاوطان، و الصغيرتان المتفاعلتان، و الصبي العابث بالمرأة، و الصغير و الصبيّة، و المئوفة المفعول بها، و الأمة إذا ادعت إكراه السيدة لها على السحق، و العبد المفعول به إذا ادّعى إكراه السيد له على التلوّط به، و يعزّر مالك الأمة إذا أكرهها على البغاء و تحدّ هي (و لا تحدّ هي. ظ).

و يعزّر من أقرّ على نفسه بزنا أو لواط أو سحق أقلّ من أربع مرّات مع الإقامة عليه. و يعزّر من أقر مرّتين أو شهد عليه شاهدان بوطء دون الفرج.

و يعزّر واطئ الأمة المشتركة بالابتياع أو الغنيمة، و الأمة المكاتبة إذا تحرّر بعضها.

و كذلك حكم من عقد نكاح شبهة و وطئ معه. و يعزّر من افتضّ بكرا بإصبعه و يغرم مهر مثلها.

و يعزّر من استمنى بكفّه أو أتى بهيمة أو جامع بعض حلائله بعد الموت أو بعض المحرمات بعد الحدّ.

و يعزّر من عرّض بغيره بما يفيد القذف بالزنا

أو اللواط، كقوله يا ولد خبث، أو حملت أمّك بك في حيضها، أو أتيت بهيمة أو استمنيت أو سرقت أو قدت أو شربت خمرا، أو أكلت محرما أو كذبت، و للمرأة يا ساحقة، أو نبزه بما يقتضي النقص كقوله: يا سفلة، أو يا ساقط أو يا سفيه أو يا أحمق أو فاسق أو مجرم أو كافر أو تارك الصلاة أو الصوم، و هو غير مشهور بما يقتضي ذلك. فإن كان مشهورا به

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 416

لم يعزّر من قرنه بفعله أو وصفه بما يقتضيه. كالمجاهرين بشرب الخمر أو الفقاع أو بيعهما أو ضرب العود و غيره من الملاهي، أو ترك الصلاة و الإفطار في الصوم.

لا تأديب على من قال لمن هذه حاله: يا فاسق أو ساقط أو مجرم أو عاص. كما لا حدّ على من قال لمعترف بالزنا: يا زان، و باللواط: يا لائط.

و إذا تقاذف العاقلان عزّرا جميعا. و إذا قذف الحرّ المسلم أو المسلمة الحرّة عبدا أو أمة أو ذمّيّا أو ذمّيّة أو صبية أو مجنونا أو مجنونا أو مجنونة، عزّر. و يعزّر العبيد و الإماء و أهل الذمّة إذا تقاذفوا.

و إذا قذف المسلم أو الكافر غيره بما هو مشهور به و معترف بفعله من كفر أو فسق فلا شي ء عليه، بل المسلم عابد بذلك.

و إذا عيّر المسلم ببعض الآفات كالعمى و العرج و الجنون و الجذام و البرص عزّر.

و إن عيّره بذلك كافر أنهك عقوبة. و إن كان المعيّر كافرا من مسلم فلا شي ء عليه. و حكم تعريض الواحد بالجماعة بما يوجب التعزير بلفظ واحد أو لكل منهم بتعريض يخصه ما قدمناه في القذف.

و اذا قذف المرء ولده أو عبده أو أمته عزّر.

و يعزّر من سرق ما لا يوجب القطع لاختلال بعض الشروط: كسرقة العبد من سيّده، و الوالد من ولده، و من تجب نفقته ممن تجب عليه، و الشريك من شريكه، و المتأوّل، و ما نقص عن ربع دينار، و ما بلغه فما فوقه من غير حرز مأذون فيه (من غير حرز أو من حرز مأذون فيه. ظ) أو منه و لمّا يخرجه عنه أو من مال مشترك كالمغنم، أو اختلس أو مكر، أو بنّج غيره، أو طفّف عليه. و يرجع عليه بما أخذه.

و يعزّر من أكل أو شرب أو باع أو ابتاع أو تعلّم أو علم أو نظر أو سعى أو بطش أو أصغى أو آجر أو استأجر أو أمر أو نهى على وجه قبيح.

فإن كان من أتى ما يوجب التعزير عاقلا (عاملا. ظ) في يوم أو ليلة معظمين كيوم الجمعة و العيد و زمان الصوم أو ليلته، أو مكان معظم كالمسجد الحرام أو مسجد الرسول «ص» أو مسجد الكوفة أو بعض مشاهد الأئمة «ع» أو مسجد الجامع أو المحلّة غلظت عليه العقوبة. و ان كان ذلك مما يوجب الحدّ أضيف إليه لحرمة

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 417

الزمان أو المكان تعزير مغلظ.

فإن رجع من وجب عليه التأديب بإقراره عنه أو تاب قبل رفعه إلى السلطان و كان من حقوق اللّه سقط عنه فرض إقامته، و إن كان من حقوق الآدميين لم تؤثر التوبة و لا الرجوع عن الإقرار في إسقاطه، و كان ذلك إلى وليّ الاستيفاء و العفو.

و التعزير لما يناسب القذف من التعريض و النبز و التلقّب من

ثلاثة أسواط إلى تسعة و سبعين سوطا، و لما عدا ذلك من ثلاثة إلى تسعة و تسعين سوطا. و حكمه يلزم القاصد العالم أو المتمكن من العلم دون الساهي بفعله، و الطفل الذي لا يصح منه القصد، و المجنون المطبق.

و إذا عاود المعزّر إلى ما يوجبه عزّر ثانية و ثالثة و رابعة و استتيب، فإن أصرّ و عاود بعد التوبة قتل صبرا.» «1»

انتهى كلام الكافي، و قد ذكرناه بطوله لجامعيته في الجملة، فلاحظ.

الجهة الثانية عشرة: في الفروق التي ذكرها بعض المصنفين بين أحكام الحد و التعزير:
قال المحقق في أول الحدود من الشرائع:

«كلّ ماله عقوبة مقدرة يسمى حدّا، و ما ليس كذلك يسمى تعزيرا.» «2»

و ربما يعترض على الأوّل بعدم الطرد، و على الثاني بعدم العكس. إذ كل من القصاص و الديات عقوبة مقدرة و ليسا بحدّ. و كذلك الكفارات، و عقوبة وطي الصائمة و الحائض و نحوها مقدرة و مع ذلك تسمى تعزيرا.

______________________________

(1)- الكافي لأبي الصلاح/ 416- 420.

(2)- الشرائع 4/ 147.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 418

و ربما يجاب عن الأوّل بالتقييد بكونه حق اللّه ليخرج القصاص و الديات، و عن الثاني بالتقييد بقولهم: «غالبا» كما في بعض الكلمات ليشمل التعزيرات المقدرة أيضا.

و لكن يرد على الأوّل- مضافا إلى بقاء إشكال الكفارات- النقض بحدّ القذف فانه حدّ بلا إشكال مع كونه من حقوق الناس، و على الثاني بتداخل حدّ الحدّ و التعزير حينئذ. هذا.

و قال الشهيد الأوّل في كتابه المسمى بالقواعد و الفوائد:

«فائدة: يفرق بين الحد و التعزير من وجوه عشرة:

الأوّل: عدم التقدير في طرف القلّة لكنه مقدر في طرف الكثرة بما لا يبلغ الحدّ.

و جوّزه كثير من العامة، لأنّ عمر جلد رجلا زوّر كتابا عليه و نقش خاتما مثل خاتمه، فشفع فيه قوم فقال: أذكرني الطعن و كنت ناسيا، فجلده مأئة أخرى، ثم جلده بعد ذلك مأئة أخرى.

الثاني: استواء الحرّ و العبد فيه.

الثالث: كونه على وفق الجنايات في العظم و الصغر بخلاف الحدّ، فإنه يكفي فيه مسمى الفعل. فلا فرق في القطع بين سرقة ربع دينار و قنطار، و شارب قطرة من الخمر و شارب جرّة مع عظم اختلاف مفاسدها.

الرابع: أنه تابع للمفسدة و إن لم يكن معصية كتأديب الصبيان و البهائم و المجانين استصلاحا لهم. و بعض الأصحاب يطلق على هذا التأديب. أمّا الحنفي فيحدّ بشرب النبيذ

و إن لم يسكر، لأن تقليده لإمامه فاسد، لمنافاته النصوص عندنا مثل:

«ما أسكر كثيرة فقليله حرام» «1»، و القياس الجلي عندهم، و تردّ شهادته، لفسقه.

الخامس: إذا كانت معصية حقيرة لا تستحق من التعزير إلّا الحقير و كان لا أثر له البتة فقد قيل: لا يعزّر، لعدم الفائدة بالقليل و عدم إباحة الكثير.

السادس: سقوطه بالتوبة، و في بعض الحدود الخلاف. و الظاهر أنّه إنّما يسقط

______________________________

(1)- الوسائل 17/ 222، الباب 1 من أبواب الأشربة المحرمة، الحديث 5.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 419

بالتوبة قبل قيام البينة.

السابع: دخول التخيير فيه بحسب أنواع التعزير، و لا تخيير في الحدود إلّا في المحاربة.

الثامن: اختلافه بحسب الفاعل و المفعول و الجناية، و الحدود لا تختلف بحسبها.

التاسع: لو اختلفت الإهانات في البلدان روعي في كل بلد عادته.

العاشر: أنّه يتنوع إلى كونه على حق اللّه- تعالى- كالكذب، و على حق العبد محضا كالشتم، و على حقّهما كالجناية على صلحاء الموتى بالشتم. و لا يمكن أن يكون الحدّ تارة لحقّ اللّه و تارة لحقّ الآدمي، بل الكل حق اللّه- تعالى- إلّا القذف على خلاف.» «1»

و قال الفاضل السيوري:

«عندي في الأخير نظر. إذ كونه على حق العبد محضا ممنوع، لأنه- تعالى- أمر بتعظيم المؤمن و حرّم إهانته. فإذا فعل خلاف ذلك استحق التعزير.» «2»

أقول: فالشهيد أيضا مثل المحقق و العلامة و من حذا حذوهما لم يعتبر في التعزير إلّا عدم بلوغه الحدّ، و لم يفت بأخبار العشر أو بضعة عشر. و لعله حملها على التأديب أو على الإرشاد إلى بعض المراتب أو كونها من باب المثال، كما مرّ. و ما ذكره بالنسبة إلى الحنفي لا يوافق القواعد و الأصول، كما لا

يخفى على أهله. هذا.

و قد يناقش في بعض ما ذكره، كما أنّه توجد فروق أخرى بينهما تقدم بعضها، فلاحظ.

و قد فرق الماوردي في الأحكام السلطانية في فصل التعزير بين الحد و التعزير

بثلاثة وجوه فقال:

«و يخالف الحدود من ثلاثة أوجه: أحدها: أن تأديب ذوي الهيئة من أهل الصيانة أخفّ من تأديب أهل البذاء و السفاهة، لقول النبي «ص»: «أقيلوا ذوي الهيئات

______________________________

(1)- القواعد و الفوائد 2/ 142- 144؛ و نضد القواعد/ 472- 473.

(2)- نضد القواعد/ 473.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 420

عثراتهم.» فتدرج في الناس على منازلهم، و إن تساووا في الحدود المقدرة. فيكون تعزير من جلّ قدره بالإعراض عنه، و تعزير من دونه بالتعنيف له، و تعزير من دونه بزواجر الكلام و غاية الاستخفاف الذي لا قذف فيه و لا سبّ، ثم يعدل بمن دون ذلك إلى الحبس الذي يحبسون فيه على حسب ذنبهم و بحسب هفواتهم؛ فمنهم من يحبس يوما، و منهم من يحبس أكثر منه إلى غاية مقدرة. و قال أبو عبد اللّه الزبيري من أصحاب الشافعي: تقدر غايته بأشهر (في معالم القربة: غايته شهرا) للاستبراء و الكشف، و بستة أشهر للتأديب و التقويم. ثم يعدل بمن دون ذلك إلى النفي و الإبعاد إذا تعدّت ذنوبه إلى اجتذاب غيره إليها و استضراره بها ... ثم يعدل بمن دون ذلك إلى الضرب ينزلون فيه على حسب الهفوة في مقدار الضرب و بحسب الرتبة في الامتهان و الصيانة ...

و الوجه الثاني: أن الحدّ و إن لم يجز العفو عنه و لا الشفاعة فيه فيجوز في التعزير العفو عنه و تسوغ الشفاعة فيه. فإن تفرد التعزير بحق السلطنة و حكم التقويم و لم يتعلق به حقّ لآدمي جاز لولي الأمر أن يراعي الأصلح

في العفو أو التعزير، و جاز أن يشفع فيه من سأل العفو عن الذنب. روي عن النبيّ «ص» أنه قال: «اشفعوا إليّ، و يقضي اللّه على لسان نبيّه ما يشاء.» و لو تعلق بالتعزير حق لآدميّ كالتعزير في الشتم و المواثبة ففيه حق المشتوم و المضروب، و حق السلطنة للتقويم و التهذيب ...

و الوجه الثالث: أنّ الحدّ و إن كان ما حدث عنه من التلف هدرا فإن التعزير يوجب ضمان ما حدث عنه من التلف ...» «1»

أقول: و ما ذكره من عدم جواز العفو في الحدود ينافي ما بيّناه في الجهة العاشرة من جواز عفو الإمام عنها إذا كان ثبوتها بالإقرار و تاب المجرم و ندم، فراجع. نعم، يصح ما ذكره من جواز عفوه للتعزيرات إذا رآه صلاحا و لم يوجب تجرأ المجرم، و قد مرّ تفصيله.

______________________________

(1)- الأحكام السلطانية/ 236- 238.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 421

الفصل السابع في أحكام السجون و آدابها

اشارة

و فيه جهات من البحث:

الجهة الأولى: في بيان مفهوم السجن بحسب اللغة:

اعلم أنّه يعبر عن مفهوم السجن بألفاظ كثيرة، كالسجن، و الحبس، و الوقف، و الإيقاف، و الحصر، و الإثبات، و الإقرار، و الامساك و نحو ذلك، و لكن أعرفها و أشهرها الأوّلان. فلنذكر بعض كلمات أهل اللغة في مفادهما:

1- قال الراغب في المفردات:

«السّجن: الحبس في السجن. و قرئ: «ربّ السجن أحبّ إليّ.» بفتح السين و كسرها. قال: «لَيَسْجُنُنَّهُ حَتّٰى حِينٍ.» «وَ دَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيٰانِ.» «1»

______________________________

(1)- المفردات/ 230، و الآيات من سورة يوسف (12)، رقمها 33 و 35 و 36.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 422

2- و قال:

«الحبس: المنع من الانبعاث. قال- عزّ و جلّ-: «تَحْبِسُونَهُمٰا مِنْ بَعْدِ الصَّلٰاةِ.»

و الحبس: مصنع الماء الذي يحبسه.» «1»

3- و في الصحاح:

«السجن: الحبس. و السجن بالفتح: المصدر. و قد سجنه يسجنه، أي حبسه.» «2»

4- و فيه أيضا:

«الحبس: ضدّ التخلية. و حبسته و احتبسته بمعنى. و احتبس أيضا بنفسه، يتعدى و لا يتعدى. و تحبّس على كذا، أي حبس نفسه على ذلك.» «3»

5- و في القاموس:

«سجنه: حبسه، و الهمّ: لم يبثّه. و السجن بالكسر: المحبس، و صاحبه سجّان، و السجين:

المسجون.»

6- و فيه أيضا:

«الحبس: المنع كالمحبس كمقعد. حبسه يحبسه.» «4»

7- و في لسان العرب:

«السّجن: الحبس. و السّجن بالفتح: المصدر. سجنه يسجنه سجنا، أي حبسه ...

و السجّان: صاحب السجن، و رجل سجين: مسجون. و كذلك الأنثى بغير هاء.» «5»

8- و فيه أيضا:

«حبسه يحبسه حبسا فهو محبوس و حبيس. و احتبسه و حبّسه: أمسكه عن وجهه.

و الحبس ضد التخلية. و احتبسه و احتبس بنفسه، يتعدى و لا يتعدى ... و الحبس و المحبسة و المحبس: اسم الموضع.» «6»

______________________________

(1)- المفردات/ 104، و الآية

من سورة المائدة (5)، رقمها 106.

(2)- صحاح اللغة 5/ 2133.

(3)- صحاح اللغة 3/ 915.

(4)- القاموس/ 824 و 345.

(5)- لسان العرب 13/ 203.

(6)- لسان العرب 6/ 44.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 423

فيظهر من جميع ذلك أن مفاد اللفظين هو تحديد الشخص و منعه من الانبعاث و الانطلاق و التصرفات الحرّة، فليس للمكان و خصوصياته و وجود الإمكانات و عدمها دخل فيه، و إنما المهم صيرورة الشخص ممتنعا مقيدا.

و في الخطط المقريزية:

«الحبس الشرعي ليس هو السجن في مكان ضيّق، و إنّما هو تعويق الشخص و منعه من التصرف بنفسه، سواء كان في بيت أو مسجد، أو كان بتولّى نفس الخصم أو وكيله عليه و ملازمته له. و لهذا سمّاه النبي «ص» أسيرا، كما روى أبو داود و ابن ماجة، عن الهرماس بن حبيب، عن أبيه، قال: أتيت النبي «ص» بغريم لي فقال لي: الزمه. ثمّ قال لي: يا أخا بني تميم ما تريد أن تفعل بأسيرك؟ و في رواية ابن ماجة: ثمّ مرّ رسول اللّه «ص» بي آخر النهار فقال: ما فعل أسيرك يا أخا بني تميم؟

و هذا كان هو الحبس على عهد النبي «ص» و أبي بكر الصديق و لم يكن له محبس معدّ لحبس الخصوم، و لكن لما انتشرت الرعية في زمن عمر بن الخطاب ابتاع من صفوان بن أميّة دارا بمكّة بأربعة آلاف درهم و جعلها سجنا يحبس فيها.

و لهذا تنازع العلماء هل يتخذ الإمام حبسا على قولين: فمن قال: لا يتخذ حبسا، احتجّ بأنّه لم يكن لرسول اللّه «ص» و لا لخليفته من بعده حبس و لكن يعوّقه بمكان من الأمكنة أو يقيم عليه حافظا و هو

الذي يسمّى الترسيم، أو يأمر غريمه غلامه بملازمته. و من قال: له أن يتخذ حبسا، احتجّ بفعل عمر بن الخطاب.

و مضت السنّة في عهد رسول اللّه «ص» و أبي بكر و عمر و عثمان و عليّ «رض» أنه لا يحبس على الديون و لكن يتلازم الخصمان. و أول من حبس على الدين شريح القاضي.

و أمّا الحبس الذي هو الآن فإنّه لا يجوز عند أحد من المسلمين. و ذلك أنّه يجمع الجمع الكثير في موضع يضيق عنهم، غير متمكنين من الوضوء و الصلاة، و قد يرى بعضهم عورة بعض، و يؤذيهم الحرّ في الصيف و البر في الشتاء، و ربما يحبس

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 424

أحدهم السنة و أكثر و لا جدة له و أن أصل حبسه على ضمان.» «1»

أقول: و قد حكى قريبا مما ذكر في التراتيب الإدارية «2» عن الماوردي في الأحكام السلطانية، و لكني لم اجده فيه. و ما ذكره كلام متين، لما عرفت من عدم دخل للمكان الخاص في صدق مفهوم الحبس و ما هو المقصود منه. و الحبس الرائج المتعارف في أعصارنا أكثر مصاديقه ظلم على الانسان و الإنسانية، و مخالف لموازين العقل و الشرع. هذا.

و في التراتيب الإدارية:

«و قال الإمام أبو عبد اللّه بن فرج مولى ابن الطلاع في كتاب الأقضية: اختلف أهل العلم هل سجن رسول اللّه «ص» و أبو بكر أحدا قطّ أم لا؟ فذكر بعضهم: أن رسول اللّه «ص» لم يكن له سجن و لا سجن أحدا قطّ، و ذكر بعضهم أن رسول اللّه «ص» سجن في المدينة في تهمة. رواه عبد الرزاق و النسائي في مصنفيهما من طريق بهز

بن حكيم، عن أبيه، عن جدّه. و ذكر أبو داود عنه في مصنّفه، قال:

حبس رسول اللّه «ص» ناسا من قومي في تهمة بدم ...

و في بدائع السلك للقاضي ابن الأزرق نقلا عن ابن فرحون، عن ابن القيّم الجوزية: أن الحبس الشرعي ليس هو السجن في مكان ضيق، و إنما هو تعويق الشخص و منعه من التصرف، كان في بيت أو مسجد، أو ملازمة الغريم له. و لهذا سمّاه النبي «ص» أسيرا.» «3»

أقول: لا يخفى أن في حرّيّة الشخص و انطلاقه و انبعاثه منافع و بركات لنفسه و لمن تعلق به، و ربما توجد فيها أيضا خسارات و أضرار. فيترتب على انبعاث الشخص و حرّيته أثران متضادّان. فإن وقع الحبس بداعي المنع عن الأوّل كان

______________________________

(1)- الخطط 3/ 99.

(2)- التراتيب الإداريّة 1/ 295.

(3)- التراتيب الإداريّة 1/ 296.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 425

من قبيل العقوبة و المجازاة حدّا أو تعزيرا، و إن وقع بداعي المنع عن الثاني فقط لم يكن من هذا القبيل بل من قبيل حفظ حقوق الناس و رفع الشر و الظلم عنهم.

و لعلّ أكثر موارد السجن في الشريعة الإسلامية بل في الشرائع الإلهية كانت من القسم الثاني، كما سيأتي بيانه.

الجهة الثانية: في مشروعية الحبس إجمالا:

اشارة

الحبس مشروع بالأدلّة الأربعة: أمّا الكتاب فاستدلوا منه بآيات:

[الآيات]
1- منها: قوله- تعالى- في سورة المائدة:

«إِنَّمٰا جَزٰاءُ الَّذِينَ يُحٰارِبُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسٰاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلٰافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ.» «1»

حيث فسّر كثير من المفسرين و الفقهاء النفي في الآية بالحبس. و به فسّر في بعض الروايات أيضا. فإليك نماذج منها:

1- قال الطبرسي في مجمع البيان:

«و قال أبو حنيفة و أصحابه إنّ النفي هو الحبس و السجن. و احتجّوا بأنّ المسجون يكون بمنزلة المخرج من الدنيا إذا كان ممنوعا من التصرّف محولا بينه و بين أهله مع مقاساته الشدائد في الحبس، و أنشد قول بعض المسجونين:

خرجنا من الدنيا و نحن من أهلها فلسنا من الأحياء فيها و لا الموتى إذا جاءنا السجّان يوما لحاجة عجبنا و قلنا جاء هذا من الدنيا.»

«2» 2- و حكى قريبا من ذلك الكاشاني في بدائع الصنائع عن النخعي في رواية

______________________________

(1)- سورة المائدة (5)، الآية 33.

(2)- مجمع البيان 2/ 188 (الجزء 3).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 426

عنه، فراجع «1».

3- و قال الماوردي في الأحكام السلطانية:

«أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ، فقد اختلف أهل التأويل فيه على أربعة أقاويل: أحدها: أنّه إبعادهم من بلاد الإسلام إلى بلاد الشرك، و هذا قول مالك بن أنس و الحسن و قتادة و الزهري. و الثاني: أنّه إخراجهم من مدينة إلى أخرى، و هذا قول عمر بن عبد العزيز و سعيد بن جبير. و الثالث: أنّه الحبس، و هو قول أبي حنيفة و مالك.

و الرابع: و هو أن يطلبوا لإقامة الحدود عليهم فيبعدوا، و هذا قول ابن عباس و الشافعي.» «2»

4- و في المدوّنة

الكبرى في فتاوى مالك بن أنس:

«قال مالك: منهم من يخرج بعصا أو بشي ء، فيؤخذ على تلك الحال و لم يخف السبيل و لم يأخذ المال و لم يقتل. قال مالك: فهذا لو أخذ فيه بأيسره لم أر في ذلك بأسا. قلت: و ما أيسره عند مالك؟ قال: أيسره و أخفّه أن يجلد و ينفى و يسجن في الموضع الذي نفي اليه ... قلت: و كم يسجن حيث ينفى؟ قال مالك: يسجن حتى تعرف له توبة.» «3»

5- و في المنهاج للنووي في فقه الشافعية في باب قاطع الطريق:

«و لو علم الإمام قوما يخيفون الطريق و لم يأخذوا مالا و لا نفسا عزّرهم بحبس و غيره.» «4»

و الظاهر أنّه و أمثاله أخذوا الفتوى من الآية الشريفة بحمل النفي فيها على الحبس، هذا.

6- و في الوسائل، عن العياشي، عن أبي جعفر محمد بن علي الرضا «ع» في

______________________________

(1)- بدائع الصنائع 7/ 95.

(2)- الأحكام السلطانيّة/ 62.

(3)- المدوّنة الكبرى 4/ 429.

(4)- المنهاج/ 532.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 427

حديث: «فإن كانوا أخافوا السبيل فقط و لم يقتلوا أحدا و لم يأخذوا مالا أمر بإيداعهم الحبس. فإنّ ذلك معنى نفيهم من الأرض بإخافتهم السبيل.» «1»

7- و في مسند زيد: «حدثني زيد بن عليّ، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ «ع»، قال: إذا قطع الطريق اللصوص و أشهروا السلاح و لم يأخذوا مالا و لم يقتلوا مسلما ثم أخذوا، حبسوا حتّى يموتوا. و ذلك نفيهم من الأرض ...» «2»

أقول: و قد يقال في توجيه ذلك: إن النفي من الأرض حقيقة غير ممكن، إذ كلّ مكان يرسل هو إليه يكون من الأرض لا محالة، فالمراد جعله بحيث لا

يتمكن أن يتصرف فيها تصرّف الأحياء، فينطبق قهرا على الحبس. و قد أشار إلى هذا المعنى في مجمع البيان، كما مرّ. هذا مضافا إلى أنّ الملاك و الغرض من النفي و هو الانقطاع من أهله و أهل بلده يحصل بالحبس أيضا، كما لا يخفى. فتأمّل. هذا.

و لكن معظم أصحابنا الإمامية لم يفتوا بالحبس في المقام. فالشيخ الطوسي «ره» في نهايته الّذي وضعه لنقل الفتاوى المأثورة قال في المقام:

«إن لم يجرح و لم يأخذ المال وجب عليه أن ينفى من البلد الذي فعل فيه ذلك الفعل إلى غيره، ثم يكتب إلى أهل ذلك المصر بأنّه منفي محارب، فلا تواكلوه و لا تشاربوه و لا تبايعوه و لا تجالسوه.» «3»

اللهم إلّا أن يسمى هذا التضييق أيضا حبسا.

و قال في الخلاف (المسألة 3 من كتاب قطّاع الطريق):

«قد بيّنا أن نفيه من الأرض أن يخرج من بلده و لا يترك أن يستقرّ في بلد حتّى يتوب. فإن قصد بلد الشرك منع من دخوله و قوتلوا على تمكينهم من دخوله إليهم.

و قال أبو حنيفة: نفيه أن يحبس في بلده. و قال أبو العباس بن سريج: يحبس في غير

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 536، الباب 1 من أبواب حدّ المحارب، الحديث 8.

(2)- مسند زيد/ 323، كتاب السير، باب قطّاع الطريق.

(3)- النهاية/ 720.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 428

بلده. دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم.» «1»

و لم يذكر الحبس في المقنعة و في الشرائع أيضا على ما رأيت.

نعم، في المبسوط:

«فقال قوم إذا شهر السلاح و أخاف السبيل لقطع الطريق كان حكمه متى ظفر به الإمام التعزير. و هو أن ينفى عن بلده و يحبس في غيره، و فيهم من

قال: (لا. ظ) يحبس في غيره. و هذا مذهبنا غير أنّ أصحابنا رووا أنّه لا يقرّ في بلده و ينفى عن بلاد الإسلام كلّها ...» «2»

و في الكافي لأبي الصلاح:

«و إن لم يقتلوا و لم يأخذوا مالا أن ينفيهم من الأرض بالحبس أو النفي من مصر إلى مصر.» «3» هذا.

و المسألة محل إشكال اللهم إلّا أن يقال إنّ النفي هنا من مصاديق التعزير كما عبر بذلك في الخلاف و المبسوط و غيرهما، و يجوز في جميع موارد التعزير اختيار الحاكم للحبس إذا رآه صلاحا. أو يقال إن ما ذكر في الأخبار و الفتاوى مصاديق للنفي، فلا ينافي جواز اختيار سائر الأنحاء من النفي أيضا، فتأمّل.

2- و من الآيات الواردة في الحبس قوله- تعالى- في سورة النساء:

«وَ اللّٰاتِي يَأْتِينَ الْفٰاحِشَةَ مِنْ نِسٰائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ، فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتّٰى يَتَوَفّٰاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لَهُنَّ سَبِيلًا.» «4»

و قد فسّر المفسّرون و الفقهاء الإمساك في الآية بالحبس. و الأغلب على نسخ الآية بما ورد في الجلد و الرجم و قالوا إنهما السبيل المجعول لهن.

قال الطبرسي في مجمع البيان:

______________________________

(1)- الخلاف 3/ 211.

(2)- المبسوط 8/ 47.

(3)- الكافي/ 252.

(4)- سورة النساء (4)، الآية 15.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 429

«أي فاحبسوهن «فِي الْبُيُوتِ حَتّٰى يَتَوَفّٰاهُنَّ الْمَوْتُ»، أي يدركهن الموت فيمتن في البيوت. و كان في مبدأ الإسلام إذا فجرت المرأة و قام عليها أربعة شهود حبست في البيت أبدا حتى تموت، ثم نسخ ذلك بالرجم في المحصنين و الجلد في البكرين «أَوْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لَهُنَّ سَبِيلًا.» قالوا لمّا نزل قوله: «الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ» قال النبي «ص»: خذوا عنّي، قد جعل اللّه لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد

مأئة و تغريب عام، و الثيّب بالثيّب جلد مأئة و الرجم.» «1»

3- و من الآيات أيضا قوله- تعالى- في سورة المائدة:

«يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهٰادَةُ بَيْنِكُمْ إِذٰا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنٰانِ ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرٰانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصٰابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ، تَحْبِسُونَهُمٰا مِنْ بَعْدِ الصَّلٰاةِ فَيُقْسِمٰانِ بِاللّٰهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لٰا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ كٰانَ ذٰا قُرْبىٰ وَ لٰا نَكْتُمُ شَهٰادَةَ اللّٰهِ إِنّٰا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ.» «2»

و ظاهر تفريع إقسامهما على حبسهما أنّ حبسهما بعد الصلاة يؤثّر في إقسامهما و شهادتهما بالحقّ. و لعلّ هذا يكون شاهدا على أنّ المراد بالصلاة صلاة أنفسهما:

قال الطبرسي في مجمع البيان:

«تحبسونهما من بعد صلاتهما العصر، لأن الناس كانوا يحلفون بالحجاز بعد صلاة العصر لاجتماع الناس و تكاثرهم في ذلك الوقت. و هو المروي عن أبي جعفر «ع» و قتادة و سعيد بن جبير و غيرهم. و قيل هي صلاة الظهر أو العصر، عن الحسن.

و قيل: بعد صلاة أهل دينهما يعني الذّمّيين، عن ابن عباس و السّدي.

و معنى تحبسونهما تقفونهما و تقيمونهما ... و الخطاب في تحبسونهما للورثة. و يجوز أن يكون خطابا للقضاة و يكون بمعنى الأمر، أي فاحبسوهما. ذكره ابن الأنباري.» «3»

و عن ابن العربي في أحكام القرآن:

«تحبسونهما من بعد الصلاة. و في ذلك دليل على حبس من وجب عليه الحق. و هو

______________________________

(1)- مجمع البيان 2/ 20- 21 (الجزء 3).

(2)- سورة المائدة (5)، الآية 106.

(3)- مجمع البيان 2/ 257 (الجزء 3).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 430

أصل من أصول الحكمة و حكم من أحكام الدين، فإن الحقوق المتوجهة على قسمين: منها ما يصحّ استيفاؤه معجلا، و منها ما لا يمكن استيفاؤه إلّا

مؤجّلا. فإن خلّي من عليه الحق و غاب و اختفى بطل الحقّ و توى (أي ذهب)، فلم يكن بدّ من التوثق منه، فإمّا بعوض عن الحق و يكون بمالية موجودة فيه و هي المسمى رهنا و هو الأولى و الأوكد، و إما شخص ينوب منابه في المطالبة و الذمة و هو دون الأوّل، لأنه يجوز أن يغيب كغيبته و يتعذر وجوده كتعذره، و لكن لا يمكن أكثر من هذا. فإن تعذرا جميعا لم يبق إلّا التوثّق بحبسه حتى تقع منه التوفية لما كان عليه من حقّ، فإن كان الحق بدنيا لا يقبل البدل كالحدود و القصاص و لم يتفق استيفاؤه معجّلا لم يبق إلّا التوثق بسجنه، و لأجل هذه الحكمة شرّع السجن. و قد روى الترمذي و أبو داود أنّ النبي «ص» حبس في تهمة رجلا ثم خلّى عنه.» «1»

4- و من الآيات أيضا قوله- تعالى- في سورة التوبة:

«فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، وَ خُذُوهُمْ وَ احْصُرُوهُمْ.» «2»

قال في المجمع:

«معناه: و احبسوهم و استرقّوهم، أو فادوهم بمال. و قيل: و امنعوهم دخول مكّة و التصرف في بلاد الإسلام.» «3»

أقول: قد عرفت أنّه لا يراد بالحبس في الكتاب و السنّة حصر الشخص في مكان ضيّق، بل هو ضدّ التخلية. فيراد به تحديد الشخص و منعه من الانبعاث و التصرفات الحرّة.

فهذه أربع آيات يستدلّ بها على مشروعية الحبس.

و أما السنّة فالروايات الدالة على مشروعية الحبس إجمالا مستفيضة
اشارة

، بل لعلها

______________________________

(1)- أحكام السجون للوائلي/ 38؛ عن «أحكام القرآن» لابن العربي أبي بكر محمد بن عبد اللّه 2/ 723.

(2)- سورة التوبة (9)، الآية 5.

(3)- مجمع البيان 3/ 7 (الجزء 5).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 431

متواترة إجمالا من طرق الفريقين نذكر منها نماذج و يأتي كثير منها في الفروع و الجهات الآتية:

[بيان الروايات]

1- ففي الخصومات من صحيح البخاري بسنده، عن أبي هريرة، قال: «بعث رسول اللّه «ص» خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال سيّد أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد فخرج إليه رسول اللّه «ص» قال: ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي يا محمّد خير، فذكر الحديث.

قال: أطلقوا ثمامة.» «1»

2- و فيه أيضا قال: «و يذكر عن النبي «ص»: «ليّ الواجد يحلّ عقوبته و عرضه.»

قال سفيان: عرضه، يقول: مطلتني، و عقوبته الحبس.» «2»

و روى نحوه أبو داود و ابن ماجة كما سيأتي في خلال روايات الحبس في الدين في الجهة الحادية عشرة «3».

3- و روى أبو داود بسنده، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جدّه «أن النبي «ص» حبس رجلا في تهمة.» «4»

4- و في صحيحة عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: جاء رجل إلى رسول اللّه «ص» فقال: إن أمّي لا تدفع يد لامس؟ قال: فاحبسها. قال: قد فعلت. قال: فامنع من يدخل عليها. قال: قد فعلت. قال: قيّدها، فإنك لا تبرّها بشي ء أفضل من أن تمنعها من محارم اللّه- عزّ و جلّ- «5».

و عموم التعليل في الصحيحة يدلّ على جواز الحبس و التقييد بالنسبة الى كل

______________________________

(1)- صحيح البخاري 2/ 62، كتاب

في الاستقراض و أداء الديون ... باب التوثيق ممن تخشى معرّته.

(2)- صحيح البخاري 2/ 58، كتاب في الاستقراض و أداء الديون ... باب لصاحب الحقّ مقال.

(3)- راجع ص 484 من الكتاب.

(4)- سنن أبي داود 2/ 282، كتاب الأقضية، باب في الحبس في الدين و غيره.

(5)- الوسائل 18/ 414، الباب 48 من أبواب حدّ الزنا، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 432

من لا يتمكن من منعه عن محارم اللّه تعالى الا بذلك.

5- و في خبر غياث بن إبراهيم، عن جعفر «ع»، عن أبيه أنّ عليّا «ع» كان يحبس في الدين فإذا تبين له حاجة و إفلاس خلّى سبيله حتى يستفيد مالا. «1»

6- و في موثقة عمار، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «أتي أمير المؤمنين «ع» برجل قد تكفل بنفس رجل، فحبسه و قال: اطلب صاحبك.» «2» و بهذا المضمون روايات أخر أيضا.

7- و عن البرقي، عن أبيه، عن علي «ع»، قال: «يجب على الإمام أن يحبس الفساق من العلماء، و الجهال من الأطبّاء، و المفاليس من الاكرياء.» «3»

أقول: الأكرياء جمع الكريّ: يستعمل بمعنى المكاري و بمعنى المكتري معا. و لعلّه يشمل جميع الدلالين و وسائط المعاملات.

8- و في خبر حريز، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «لا يخلد في السجن إلّا ثلاثة: الذي يمسك على الموت يحفظه حتى يقتل، و المرأة المرتدة عن الإسلام، و السارق بعد قطع اليد و الرجل.» «4»

إلى غير ذلك من الأخبار و سيجي ء كثير منها في الجهة التي نعقدها لذكر ما ورد في السجن و الحبس من الأخبار، و قد أشرنا إلى تواترها إجمالا.

[بيان في الخبر المتواتر و أنواعه]
اشارة

و اعلم: أنّ الخبر المتواتر- أعني ما بلغ كثرة الطرق

و المخبرين فيه حدّا يوجب العلم بصدوره- على ثلاثة أقسام:

______________________________

(1)- الوسائل 13/ 148، الباب 7 من كتاب الحجر، الحديث 1.

(2)- الوسائل 13/ 156، الباب 9 من كتاب الضمان، الحديث 1.

(3)- الوسائل 18/ 221، الباب 32 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 3.

(4)- الوسائل 18/ 221، الباب 32 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 433

الأوّل: المتواتر لفظا.

و يراد بذلك أن المخبرين بأجمعهم رووا واقعة واحدة و معنى واحدا بلفظ واحد.

الثاني: المتواتر معنى.

بمعنى أنّهم بأجمعهم حكوا واقعة واحدة وقعت في وقت خاص و لكن بألفاظ مختلفة، فيكون الجميع أو غير واحد منهم ناقلا بالمعنى و المضمون. نظير ما وقع في نقل قصة الغدير و نصب أمير المؤمنين «ع» فيه.

الثالث: المتواتر اجمالا.

بمعنى أن كلّ واحد من المخبرين حكى واقعة خاصّة غير ما حكاه الآخرون، و لعلّ كلّ واحد منهم حكى واقعة خاصة عن إمام خاص، و لكن كثرة الوقائع المنقولة توجب العلم بصدق بعضها لا محالة بحيث لا يحتمل كذب الجميع، كما في المقام. فإن كلّ واحدة من الروايات تحكي عن مسألة خاصة و قول خاص عن إمام خاص و لكن يحصل لنا العلم بعدم كذب الجميع. فإذا كان يستفاد من كلّ واحدة منها مشروعية السجن فلا محالة تثبت تلك. و نظير هذا في أبواب الفقه كثير.

و أمّا الإجماع

فقد ادعاه بعض الفقهاء من الحنفية و الشافعية في المقام، كما حكاه في كتاب «أحكام السجون» «1». و لكن لما لم تكن المسألة بنفسها معنونة في كتب الفقهاء القدماء من أصحابنا بل و في أكثر كتب الفقهاء من السنة فلا محالة لا يوجد فيها إجماع محقّق. نعم، لا بأس بادعائه مقدرا، بمعنى وضوح المسألة بحيث إن كلّ فقيه من الفريقين لو سئل عنها لأفتى بها بلا شك. هذا.

و لكن بعد وضوح المسألة و ثبوتها بالكتاب و السنة لا حاجة فيها إلى الإجماع.

و قد عرفت منّا مرارا أنّ الإجماع بما هو إجماع لا موضوعية له عندنا بل تكون حجيته

______________________________

(1)- راجع أحكام السجون/ 48.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 434

من جهة كشفه عن قول النبي «ص» و الأئمة- عليهم السلام- و تلقّي المسألة منهم.

و إذا كان المكشوف بذاته قطعيّا عندنا فلا حاجة فيه إلى الكاشف و الكشف، فتدبّر.

و أمّا العقل

فبيانه إجمالا هو أنّ العقل يحكم بوجوب حفظ النظام و صيانة الحقوق و المصالح العامة، و واضح أنّه لا يحصل هذا الغرض إلّا بدولة عادلة مطاعة مقتدرة تحقق مصالحهم و ترفع شرور العتاة و الظالمين عنهم، و حبس الجاني و إن كان فيه ضرر لنفس المحبوس و يكون منافيا لسلطة الناس على نفوسهم و جميع شئونهم و لكن إطلاقه تهديد لأمن العامة و تضييع لحقوقهم، فيحكم العقل السليم بوجوب تقديم المصالح العامة على مصلحة الفرد و حبس الجاني لحفظها و رفع شرّه، و كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع، كما حقق في محله. فتلخص من جميع ما ذكرناه مشروعية الحبس، بل وجوبه و ضرورته إجمالا.

الجهة الثالثة: في أول من بنى السجن في الإسلام:

قد عرفت أن الحبس كان متعارفا في عصر النبي «ص»، و لكن مفهوم الحبس كما مرّ لا يلازم وجود مكان خاصّ ممحّض له، بل كان يمكن أن يقع في بيت أو مسجد أو دهليز أو نحو ذلك من الأماكن، و لم يكن الغرض منه إلّا تحديد الشخص و منعه من التصرف و الانبعاث.

و قد وقع الكلام في تعيين أوّل من أحدث السجن في الإسلام، فقيل: إنّه عمر.

و قيل: إنّه عليّ «ع». فلنذكر بعض ما قيل في المقام و إن لم تترتب عليه فائدة فقهية مهمة:

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 435

1- ففي مسند زيد، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ «ع»: «أنّه بنى سجنا و سمّاه نافعا، ثم بدا له فنقضه (و بنى آخر- ظ.) و سمّاه مخيّسا، و جعل يرتجز و يقول:

أ لم تراني كيّسا مكيّسا بنيت بعد نافع مخيّسا.»

«1» أقول: في القاموس:

«خيّسه تخييسا: ذلّله. و المخيّس كمعظّم و محدّث: السجن،

و سجن بناه عليّ «ع».

و كان أوّلا من جعله من قصب سمّاه نافعا فنقبه اللصوص فقال:

أ ما تراني كيّسا مكيّسا بنيت بعد نافع مخيّسا

بابا حصينا و أمينا كيّسا» «2».

2- و في كتاب «أحكام السجون» عن السيوطي في كتابه: «الوسائل إلى مسامرة الأوائل»:

«أوّل من بنى سجنا في الإسلام علي بن أبي طالب «ع». و كان الخلفاء يحبسون قبله في الآبار. و روي أنّه حبس أعرابيّا سارقا، ففرّ من حبسه و أنشأ يقول:

و لو أني بقيت به إليهم لجرّوني إلى شيخ بطين.»

«3» 3- و فيه أيضا عن ابن الهمّام في كتابه شرح فتح القدير في الفقه الحنفي، قال:

«و لم يكن في عهده- أي النبي «ص»- و أبي بكر سجن، و إنما كان يحبس في المسجد أو الدهليز حتى اشترى عمر دارا بمكة بأربعة آلاف درهم و اتخذه محبسا. و قيل:

لم يكن في زمن عمر و لا عثمان أيضا إلى زمن عليّ «ع» فبناه. و هو أوّل سجن بني في الإسلام. قال في الفائق: بنى سجنا من قصب فسمّاه نافعا، فنقبه اللصوص و تسيّب الناس منه، ثم بنى سجنا من مدر فسمّاه مخيّسا. و في ذلك يقول عليّ «ع»:

ا ما تراني كيسا مكيّسا بنيت بعد نافع مخيّسا

______________________________

(1)- مسند زيد/ 266، كتاب الشهادات، باب القضاء.

(2)- القاموس/ 349.

(3)- أحكام السجون/ 45.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 436

سجنا حصينا و أمينا كيّسا.»

«1» 4- و في كتاب الغارات بسنده، عن سابق البربري، قال:

«رأيت المحبس و هو خصّ. و كان الناس يفرجونه و يخرجون منه، «فبناه عليّ «ع» بالجصّ و الآجرّ. قال: فسمعته يقول:

أ لا تراني كيّسا مكيّسا بنيت بعد نافع مخيّسا.

«2» 5-

و في التراتيب الإداريّة قال:

«و في إتحاف الرواة بمسلسل القضاة، للإمام أحمد بن الشلبي الحنفي لدى ذكره أوّليات عليّ «ع»: و أوّل من بنى السجن في الإسلام، و كانت الخلفاء قبله يحبسون في الآبار. و في شفاء الغليل للخفاجي: لم يكن في زمن رسول اللّه «ص» و أبي بكر و عمر و عثمان سجن. و كان يحبس في المسجد أو في الدهاليز حيث أمكن، فلمّا كان زمن عليّ «ع» أحدث السجن، و كان أوّل من أحدثه في الإسلام و سمّاه نافعا، و لم يكن حصينا فانفلت الناس منه، فبنى آخر و سمّاه مخيّسا بالخاء المعجمة و الياء المشدّدة فتحا و كسرا ...

قلت: و لعلّ عمر كان يحبس في الآبار قبل شراء الدار التي أعدّها للسجن، فقد أخرج البيهقي من حديث نافع بن عبد الحارث أنه اشترى من صفوان بن أميّة دارا لسجن عمر بن الخطاب بأربعة آلاف.»

ثم قال: «كان السلطان أبو الأملاك المولى اسماعيل بن الشريف العلوي سأل علماء فاس: القاضي بردلة، و المناوي، و ابن رحال و غيرهم من أوّل من أحدث السجن؟ و كيف كان الناس يسجنون في الآبار؟ و كيف الجمع بين ما ذكره السيوطي من أنّ أوّل من أحدث السجن عليّ «ع»، و بين ما ذكره ابن فرحون من أنه عمر لما اتسعت مملكته؟

فأجاب الشيخ المناوي بأنّ التعارض يدفع ما بين ابن فرحون و السيوطي بحمل

______________________________

(1)- أحكام السجون/ 46.

(2)- الغارات 1/ 132.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 437

كلام السيوطي على أنّ عليا «ع» أوّل من أحدث له مكانا مخصوصا و اتّخذه بقصده في ابتداء، و ما كان من عمر فإنّه كان في ثاني حال

و عارضا للدار المتخذة بالقصد الأوّل لغيره من السكنى و نحوها.

و أمّا استشكال السجن في الآبار فإنّ المراد بها السراديب و المطامير المتخذة تحت الأرض، و قد تكون من الاتساع بحيث تحمل المئين من الناس لا سيما مصانع ملوك الأمم السالفة، فإنها كانت على قدر قواهم التي لا نسبة بينها و بين من جاء بعدهم، و تسمية ذلك بالآبار للشبه الصوري بالكون تحت الأرض مع ضيق أبوابها و مداخلها.» «1»

أقول: و في الخصومات من صحيح البخاري:

«اشترى نافع بن عبد الحارث دارا للسجن بمكة من صفوان بن أميّة على أنّ عمر إن رضي فالبيع بيعه، و إن لم يرض عمر فلصفوان أربعمائة دينار.» «2»

و ليس في هذه الرواية أنّ عمر رضي بذلك أم لا، و أن الدار صارت سجنا أم لا.

الجهة الرابعة: في موضوع الحبس الشرعي و الغرض منه:

[الغرض من السجن]

لا يخفى أن موضوع العقوبات الشرعية هو الإنسان البالغ العاقل القادر المختار.

و هذا واضح لمن كان خبيرا بفقه الشيعة و السنة. نعم، ربما يؤدب الصبي و المجنون بل البهائم أيضا و لو بحبس ما و لكن الأدب غير العقوبة.

و الغرض الأساسي من وضع العقوبات الشرعية ليس هو الانتقام و إرضاء القوة

______________________________

(1)- التراتيب الإداريّة 1/ 297- 299.

(2)- صحيح البخاري 2/ 62، كتاب في الاستقراض و أداء الديون ...، باب الربط و الحبس في الحرم.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 438

الغضبية، و ليست هي أيضا أمورا تعبدية محضة ليؤتى بها بداعي القرب و التعبد المحض. بل الملاك في تشريعها قلع جذور الفساد و إصلاح الفرد و المجتمع. و يظهر هذا لكل من تتبع الكتاب و السنة.

أ لا ترى أنّ أهمّ العقوبات الشرعية و أشدّها هو قصاص النفس، و هو على ما

نراه إعدام و إفناء للشخص، و لكن اللّه- تعالى- جعله حياة للناس فقال: «وَ لَكُمْ فِي الْقِصٰاصِ حَيٰاةٌ يٰا أُولِي الْأَلْبٰابِ.» «1»

بل جميع أحكام اللّه- تعالى- في جميع شئون الإنسان تابعة للمصالح و المفاسد النفس الأمرية و إن لم نعرفها و ليست تكاليف جزافية بلا ملاك:

ففي العلل، عن الرضا «ع» في جواب كتاب محمد بن سنان إليه: «جاءني كتابك؛ تذكر أنّ بعض أهل القبلة يزعم أن اللّه- تبارك و تعالى- لم يحلّ شيئا و لم يحرّمه لعلّة أكثر من التعبد لعباده بذلك! قد ضلّ من قال ذلك ضلالا بعيدا و خَسِرَ خُسْرٰاناً مُبِيناً، لأنّه لو كان ذلك لكان جائزا أن يستعبدهم بتحليل ما حرّم و تحريم ما أحلّ، حتى يستعبدهم بترك الصلاة و الصيام و أعمال البرّ كلها، و الإنكار له و لرسوله و كتبه و الجحود، (و- ظ.) بالزنا و السرقة و تحريم ذوات المحارم، و ما أشبه ذلك من الأمور التي فيها فساد التدبير و فناء الخلق ... إنا وجدنا كلّ ما أحلّ اللّه ففيه صلاح العباد و بقاؤهم و لهم إليه الحاجة التي لا يستغنون عنها، و وجدنا المحرم من الأشياء لا حاجة بالعباد إليه و وجدناه مفسدا داعيا إلى الفناء و الهلاك.» «2»

و الأخبار في هذا المجال كثيرة تظهر لمن تتبع.

و على هذا فيجب أن يلحظ في السجون الشرعية أن لا تكون خاضعة لأهواء الحكّام و الضبّاط و المراقبين، بل تنظّم على نحو تصير موانع قبل الفعل، و زواجر بعده. يعني أنّ العلم بشرعيتها يمنع من الإقدام على العمل، و تنفيذها بعد وقوعه يوجب تنبّه المرتكب و ارتداعه عن العود اليه و يصلحه و يقوّمه. و بهذا الملاك أيضا يقع التشديد

و التخفيف فيها أيضا.

______________________________

(1)- سورة البقرة (2)، الآية 179.

(2)- علل الشرائع/ 197 (طبعة أخرى/ 592- الجزء 2)، الباب 385 (باب نوادر العلل)، الحديث 43.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 439

و بالجملة، فالعقوبات الشرعية و منها السجون التعزيرية تستهدف الإصلاح و تحقيق المصالح العامة، لا الانتقام من المجرم و إفنائه أو تحقيره و تحطيم شخصيته و نفسيّاته. فالمتصدي للسجن و السجن يجب أن يكون كطبيب حاذق لا يستهدف إلّا علاج المريض و سلامته و لو بكيّ الأعضاء الفاسدة المسرية و قطعها، فيعود المرضى إلى المجتمع سالمين. هذا.

[خسارات السجون الرائجة في أعصارنا في أكثر البلاد]
اشارة

و لكن من المؤسف عليه أنّ السجون الرائجة في أعصارنا في أكثر البلاد حتى البلاد الإسلامية ليست على وزان ما يريده الشرع و يحكم به العقل، بل لا تنتج إلّا خسارات في الأموال و النفوس.

قال في كتاب «التشريع الجنائي الإسلامي» ما ملخّصه:

«المقياس الصحيح لنجاح عقوبة ما هو أثرها على المجرمين و الجريمة، فإن نقص عدد المجرمين و قلّت الجرائم فقد نجحت العقوبة، و إن زاد عدد المجرمين و الجرائم فقد فشلت العقوبة و وجب أن تستبدل بها عقوبة أخرى قمينة بأن تردع المجرمين و تصرفهم عن ارتكاب الجرائم ...

و عقوبة الحبس هذه هي العقوبة الأساسية لمعظم الجرائم، يجازى بها المجرم الذي ارتكب جريمته لأول مرّة، و يجازى بها المجرم العاتي الذي تخصّص في الأجرام، و يجازى بها الرجال و النساء و الشبان و الشيب، و يجازى بها من ارتكب جريمة خطيرة و من ارتكب جريمة تافهة، و تنفذ العقوبة على هؤلاء جميعا بطريقة واحدة تقريبا.

و قد أدّى تطبيق هذه العقوبة على هذا الوجه إلى نتائج خطيرة و مشاكل دقيقة نبسطها فيما يلي:

1- إرهاق خزانة الدولة و تعطيل الإنتاج:

يوضع المحكوم عليهم بعقوبة الحبس على اختلاف أنواعها في محابس يقيمون بها حتى تنتهي مدّة العقوبة ...

و المحكوم عليهم يكونون في الغالب من الأشخاص الأصحّاء القادرين على العمل.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 440

فوضعهم في السجون هو تعطيل لقدرتهم على العمل و تضييع لمجهود كبير كان من الممكن أن يبذلوه فيستفيد منه المجتمع لو عوقبوا بعقوبة أخرى غير الحبس تكفي لتأديبهم و ردع غيرهم.

و لا شكّ أنّ هناك من العقوبات ما يمكن أن يؤدّي وظيفة الزجر و الردع و يكون له أثره في محاربة الجريمة دون أن يؤدي

إلى تعطيل مجهود المحكوم عليه كالجلد مثلا ...

و لقد حاولت مصلحة السجون أن تستغلّ قدرة المسجونين على العمل، و لكنها لم تستطع حتى الآن أن توجد عملا إلّا لعدد قليل من المسجونين، أمّا الباقون فيكادون يقضون حياتهم في السجون دون عمل، يأكلون و يتطببون و يلبسون على حساب الحكومة ...

2- إفساد المسجونين:

و كان من الممكن أن تتحمل الجماعة هذه الخسارة الكبيرة سنويا لو كانت عقوبة الحبس تؤدي إلى إصلاح المسجونين، و لكنها في الواقع تؤدّي بالصالح إلى الفساد، و تزيد الفاسد فسادا على فساده.

فالسجن يجمع بين المجرم الذي ألف الأجرام و تمرّس بأساليبه، و بين المجرم المتخصص في نوع من الأجرام، و بين المجرم العادي. كما يضمّ السجن أشخاصا ليسوا بمجرمين حقيقيين، و إنما جعلهم القانون مجرمين اعتبارا كالمحكوم عليهم في حمل الأسلحة، أو لعدم زراعة نسبة معيّنة من القمح و الشعير، و كالمحكوم عليهم في جرائم الخطأ و الإهمال.

و اجتماع هؤلاء جميعا في صعيد واحد يؤدّي الى تفشّي عدوى الأجرام بينهم، فالمجرم الخبير بأساليب الأجرام يلقن ما يعلمه لمن هم أقلّ منه خبرة، و المتخصص في نوع من الجرائم لا يبخل بما يعلم عن زملائه، و يجد المجرمون الحقيقون في نفوس زملائهم السذّج أرضا خصبة يحسنون استغلالها دائما، فلا يخرجون من السجن إلّا و قد تشبعت نفوسهم إجراما.

و لقد دلّت المشاهدات على أنّ الرجل يدخل السجن لأمر لا يعتبره العرف جريمة كضبط قطعة سلاح معه، و كان المعروف عنه قبل دخوله السجن أنّه يكره المجرمين و يأنف أن يكون منهم، فإذا خرج من السجن حبّب إليه الأجرام و احترفه بل

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 441

صار يتباهى به ...

فالسجن

الذي يقال عنه إنّه إصلاح و تهذيب ليس كذلك في الواقع، و إنما هو معهد للإفساد و تلقين أساليب الأجرام.

... أما جمع الشبّان في محبس واحد، و الكهول في محبس واحد فلن يكون علاجا، لأن الإحصائيّات تدلّ على أنّ أكثر المجرمين من الشبّان ... و وجود الشبّان المحكوم عليهم لأوّل مرّة مع شبّان ذوي السوابق كفيل بأن يخلق الأوّلين بأخلاق الآخرين.

3- انعدام قوة الردع:

إنّ عقوبة الحبس قد فرضت على أساس أنّها عقوبة رادعة. و لكن الواقع قد أثبت أنها لا فائدة منها و لا أثر لها في نفوس المجرمين. فالذين يعاقبون بالأشغال الشاقّة و هي أقصى أنواع الحبس لا يكادون يخرجون من السجن حتّى يعودوا لارتكاب الجرائم. و لو كانت العقوبة رادعة لما عادوا لما عوقبوا عليه بهذه السرعة ...

4- قتل الشعور بالمسؤولية:

و عقوبة الحبس- فوق أنّها غير رادعة- تؤدّي إلى قتل الشعور بالمسؤولية في نفس المجرمين و تحبّب إليهم التعطّل. فالكثير من المسجونين يقضون في السجن مددا طويلة نوعا ما ينعمون فيها بالتعطل عن العمل و يكفون فيها مئونة أنفسهم من مطعم و ملبس و علاج ... و أنهم يموت فيهم كلّ شعور بالمسؤولية نحو أسرهم بل نحو أنفسهم. فلا يكادون يخرجون من السجن حتى يعملوا للعودة إليه، لا حبّا في الجريمة و لا حرصا عليها، و إنّما حبّا في العودة إلى السجن و حرصا على حياة البطالة.

5- ازدياد سلطان المجرمين:

و من المجرمين من يغادر السجن ليعيش عالة على الجماعة يستغلّ جريمته السابقة لإخافة الناس و إرهابهم و ابتزاز أموالهم و يعيش على هذا السلطان الموهوم ...

6- انخفاض المستوى الصحّي و الأخلاقي:

و تنفيذ عقوبة الحبس يقتضي وضع عدد كبير من الرجال الأصحّاء الأقوياء في مكان واحد لمدد مختلفة يمنعون فيها من التمتع بحرّياتهم، و من الاتصال بزوجاتهم. و لمّا كان عدد المحبوسين يزيد عاما

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 442

بعد عام، و المحابس لا تزيد، فقد اضطرّ ولاة الأمور إلى حشرهم حشرا في غرف السجون، كما يحشر السردين في علبته ... و قد أدّى ازدحام السجون و عدم توفّر الوسائل الصحية بها و حرمان المسجونين من الاتصال بزوجاتهم إلى انتشار الأمراض السرية و الجلدية و الصدرية و غيرها من الأمراض الخطيرة بين المسجونين ...

فالسجون إذن أداة لنشر الأمراض بين المسجونين و لإفساد أخلاقهم و تضييع رجولتهم. و لا يقتصر شرّ السّجون على هذا، بل إنّها تؤدّي إلى فساد الأخلاق في خارجها، لأن وضع الرجال في السجون معناه تعريض زوجات هؤلاء الرجال و بناتهم و أخواتهم إلى الحاجة و إلى الفتنة، و وضعهن وجها لوجه أمام الشيطان.

7- ازدياد الجرائم:

و قد وضعت عقوبة الحبس على اختلاف أنواعها لمحاربة الجريمة، و لكن الإحصائيّات التي لا تكذب تدلّ على أنّ الجرائم تزداد عاما بعد عام زيادة تسترعي النظر و تبعث على التفكير الطويل ...

يؤدّي تنفيذ النظام الوضعي إلى وضع عدد كبير من الرجال الأصحّاء القادرين على العمل في المحبس و الإنفاق عليهم دون أن يؤدّوا عملا مجديا. فتخسر الأمّة من وجهين: تخسر المال الذي تنفقه على المحبوسين، و تخسر ما كان يمكن أن ينتجه هؤلاء لو لم يوضعوا في المحابس.

و لكن هذه الخسائر تنتفي لو نفذ النظام الإسلامي، لأن الشريعة لا تعرف الحبس في جرائم الحدود و القصاص، و هي كما بيّنا تبلغ ثلثي الجرائم

عادة. كما أنّ الشريعة تفضل في التعازير عقوبة الجلد على عقوبة الحبس، و لا تفضل عقوبة الحبس إلّا إذا كان حبسا غير محدود المدّة، حيث يبقى المجرم بعيدا عن الجماعة مكفوفا شرّه و أذاه حتى يموت. و لا يحكم بهذا النوع من الحبس إلّا في الجرائم الخطيرة أو على المجرمين العائدين. و إذا فرض أنّ عقوبة الجلد تطبق في نصف الجرائم الباقية كان الباقي الأخير من الجرائم- حوالي 15% من مجموع الجرائم- يقسم بين عقوبات الحبس و الغرامة و التغريب و غير ذلك من عقوبات التعازير المتعددة، و المفروض أن الجرائم التي يجلد فيها هي جرائم التعازير الخطيرة. فالجرائم التي تبقى أخيرا ليعاقب

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 443

عليها بغير الجلد و الحبس غير المحدّد المدة هي جرائم تافهة في الغالب يكفي في عقابها النصح و التوبيخ و الغرامة و الحبس مع إيقاف التنفيذ، فتكون النتيجة أن لا يحبس فعلا إلّا في حوالي 5% من مجموع الجرائم. و هذه نتيجة لا يمكن الوصول إليها إلّا بتطبيق نظرية الشريعة الإسلامية في العقاب ...» «1»

أقول: و حيث إنّ مشكلة السجون في القوانين الوضعية الرائجة في البلاد صارت من أعظم المشاكل و المصائب للدول، بل صارت مما يخاف منها على الأنظمة أحيانا فاللازم التفكير في تقليل السجن و السجناء مهما أمكن، و تنفيذ سائر التعزيرات بل و التوصّل بالعفو و الإغماض أو القناعة بمثل التعنيف و التوبيخ و التهديد في أكثر الموارد التي لا يرى فيها ضرورة للتعزير أو الحبس، فتدبّر.

الجهة الخامسة: في إشارة إجمالية إلى مكان السجن من العقوبات في الشريعة الإسلامية:

هل الحبس الشرعي حدّ أو تعزير، أو قسيم لهما، أو يختلف بحسب الموارد؟

فلنذكر لبيان ذلك مقدمة، فنقول: العقوبات المشرعة في الإسلام

في قبال الجرائم عبارة عن الحدود، و التعزيرات، و الكفارات، و القصاص، و الديات. و تنقسم العقوبات إلى قسمين: قسم يغلب فيه جانب حقّ اللّه- تعالى-، أو يمحض فيه كالكفارات و أكثر الحدود الشرعية، و كذلك التعزيرات الواقعة في قبال مقدمات الزنا و اللواط و شبههما، و قسم يغلب فيه جانب حق الناس كالقصاص و الديات بل و حدّ القذف و التعزير لما يناسبه من السبّ و الشتم و نحوهما.

و قد مرّ من الشرائع بيان الفارق بين الحد و التعزير، فقال في أوّل الحدود من الشرائع:

______________________________

(1)- التشريع الجنائيّ الإسلاميّ 1/ 730- 742.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 444

«كلّ ماله عقوبة مقدرة يسمّى حدّا، و ما ليس كذلك يسمّى تعزيرا.» «1»

و قد مرّ وجود التسامح في التعريفين، حيث إنّ الحد و التعزير اسمان لنفس العقوبة لا لموضوعها. كما مرّ الإشكال فيهما طردا و عكسا في الجهة الثانية عشرة من بحث التعزيرات.

و قد أشرنا في الجهة الأولى من جهات البحث هنا أنّ في حريّة الشخص و إطلاقه منافع و بركات لنفسه و لمن تعلق به من ولده و والديه و عائلته و أقاربه بل للمجتمع أيضا بحسب شغله و عواطفه و آثاره الوجودية، و ربما يترتب على حرّيّته أضرار و خسارات و تضييع لحقوق الأشخاص و المجتمع أيضا.

فإن وقع حبسه بداعي المنع عن انتفاعه بالحرّيّة و إطلاق التصرفات تأديبا له و تنبيها له و لغيره كان الحبس مصداقا للعقوبة حدّا أو تعزيرا. و إن كان بداعي الردع عن ورود الخسارة و الضرر من قبله على الأفراد و المجتمع و لو بسبب فراره لو لم يحبس لم يكن حبسه حينئذ بداعي التأديب و

العقوبة حدّا أو تعزيرا، بل بداعي عدم الفرار أو بداعي دفع شرّه و ضرره عن الغير ليحفظ مال الغير أو نفسه أو عرضه في قبال ظلمه و تعدّيه أو فراره فقط. و لو سلّم صدق التأديب و العقوبة حينئذ أيضا فلا إشكال في عدم صدقهما في حبس المتّهم الذي لم يعلم بعد كونه مجرما أم لا.

إذا عرفت هذا فنقول: يظهر مما ذكر أنّ الحبس في الإسلام قد يقع حدّا. مثل ما يقع بدل النفى من الأرض في حدّ المحاربة على احتمال، و مثل تخليد السارق الذي قطعت يده و رجله في السجن، إذ الظاهر كونه من قبيل القطع الذي هو حدّ قطعا.

و قد يقع تعزيرا. مثل ما يقع من قبل الحكّام في موارد التعزير بدل الضرب أو بضميمته بناء على جواز ذلك، كما هو الأقوى. و قد مرّ تفصيله و يأتي الأخبار الواردة في موارد الجمع بين الجلد و الحبس في الجهة التالية.

و قد لا يكون الحبس حدا و لا تعزيرا. كحبس المتّهم للكشف أو الانكشاف

______________________________

(1)- الشرائع 4/ 147.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 445

المعبّر عنه بالتوقيف الموقّت، حيث لم يثبت الجرم بعد حتى يعاقب المرتكب. بل و كذا كلّ من يحبس لرفع شرّه و ضرره فقط، إذ لم يلحظ في حبسه تأديبه و تنبيهه حتى يصدق عليه التعزير، اللهم إلّا أن يقال إنّ الأدب يترتّب قهرا و إن لم يقصد، و كفى ذلك في صدق عنوان التعزير، فتأمّل.

و لعل المتتبع في أخبار الفريقين الواردة في موارد الحبس في عصر النبي «ص» و أمير المؤمنين «ع» يظهر له أنّ أكثر موارد حبسهما كان من قبيل القسم الثالث أو الرابع،

فلم يكن من قبيل الحدّ أو التعزير فتدبّر. هذا.

و لكن في كتاب «أحكام السجون» للوائلي حكم بكون السجن مطلقا من التعزيرات، فقال ما محصّله:

«أما أدلّة كونه من التعزيرات:

1- إنّ الحدّ عقوبة مقدّرة منصوص على قدرها، في حين أنّ التعزيرات ليست بمحدّدة بل متروكة إلى نظر الإمام، و بما أنّ السجن فيما جعل عقوبة غير محدّد فهو داخل في التعزيرات.

2- السجن يتناوله عفو الإمام أو نائبه فيما إذا ظهرت دلائل التوبة. و لو كان من الحدود لما جاز للإمام أن ينقص من مدّته شيئا، فإنّه ليس للإمام العفو في جرائم الحدود.

3- عقوبة السجن كانت توقع في المسجد كما في عصر النبي «ص». و لو كان من الحدود لم يكن يقام فيه، لنهيه «ص» عن ذلك. و لذلك نرى الفقهاء يدرجون السجن في قسم التعزيرات و ينصّون على كونه تعزيرا.» «1»

أقول: لا يخفى أن التعزيرات من أقسام العقوبات، و ليس كل سجن بداعي عقوبة الشخص و تأديبه كحبس المتهم مثلا. و أمّا الوجوه الثلاثة التي ذكرها دليلا فيرد على الوجه الأوّل أوّلا أنّ التعزير غير مقدر، لا أنّ كل غير مقدر فهو تعزير، و بينهما فرق. و ثانيا أن الإخلاد في السجن مقدر من قبل الشارع في بعض الموارد،

______________________________

(1)- أحكام السجون/ 57.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 446

فيمكن أن يعدّ حدّا. و على الوجه الثاني أنّ الحدّ أيضا قد يشمله عفو الإمام، كما إذا ثبت بالإقرار بل مطلقا على قول المفيد و من تبعه كما مرّ تفصيله. و على الوجه الثالث أوّلا أنّ ما كان يوقع في المسجد لعلّه لم يكن عقوبة، كما في حبس المتهم.

و ثانيا أنّ النهي لعلّه كان ينصرف

إلى خصوص الجلد الذي ربما يوجب تلوّث المسجد و وجود الصياح و الغوغاء فيه، فتدبّر.

الجهة السادسة: في إشارة إجمالية إلى موارد الجمع بين الحبس و بعض العقوبات الأخر:

[الحبس و التضييقات للضرورة، و الضرورات تتقدر بقدرها]

قد ظهر من مطاوي ما ذكرناه أنّ الحبس قد يقع بداعي العقوبة حدّا، أو تعزيرا.

فيراد به تنبيه الشخص المجرم و ارتداعه، و كذا تنبّه غيره ممن رأى أو سمع. و قد يراد به إمساك الشخص فقط حذرا من فراره، لينكشف الحق أو يستكشف منه أو يطالب به. و قد يراد به دفع شرّه و ضرره فقط من دون أن يرجى منه التنبّه و الصلاح. فهذه أربعة أقسام.

أمّا القسمان الأوّلان، أعني ما يقع بداعي العقوبة حدّا أو تعزيرا، فيجوز بل قد يجب أن يضاف إليه بعض العقوبات الأخر من القيد و الغلّ و الضرب قبل الحبس أو في الحبس، و التضييق في المأكل و المشرب و زيارة الأهل و العيال و الإخوان و سائر الإمكانات إذا رأى الحاكم العادل البصير به و بنفسيّاته دخل هذه الأمور في تنبّهه و في إصلاحه و تهذيبه.

و لكن تجب الدقّة و التعمّق في تشخيص لزومها و في مقدارها و كيفياتها. إذ ربما يتسرّب في البين أحاسيس الانتقام و وساوس النفس الأمّارة بالسوء، أو يقع التنفيذ و الإجراء بأيدي الجهّال بالموازين الشرعية أو من في قلبه مرض أو غلّ أو حقد أو سوء خاطرة، فيعتدي على الأسراء و المسجونين، و بذلك يوجد في نفوسهم العقدة و توجب هذه استنكافهم من التسليم و الانقياد للحقّ بعد ما كان يرجى منهم

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 447

ذلك في بادئ الأمر.

و بالجملة، فهذه الأعمال وزانها وزان العلاجات الطبيّة الشاقّة التي لا يجوز أن تقع إلّا من قبل من له خبرة بها و بطرقها

و محالّها و المقدار الضروريّ منها.

هذا كله في القسم الأوّل و الثاني من أقسام الحبس، أعني ما يقع بداعي العقوبة حدّا أو تعزيرا.

و أمّا في القسم الثالث و الرابع من أقسام الحبس فلا وجه غالبا للتضييقات و ضمّ سائر العقوبات، بل تكون ظلما على الإنسان و الإنسانية. إذ الغرض يحصل غالبا بمجرد حبسه و منعه من الفرار و الانبعاث، و التضييق على الإنسان مخالف لسلطة كل أحد على نفسه بحسب العقل و الشرع، بل الضرب و نحوه يوجب القصاص و الدية أيضا.

نعم، في خصوص الحبس الموقت بداعي الكشف ربما يتوقف ذلك على منع زيارة أهله و إخوانه له. و ربما تقع الحاجة إلى الضرب و نحوه تعزيرا له ليظهر الحق و الواقع إذا فرض وجوب الإظهار عليه و استنكف عنه، لما مرّ من جواز التعزير على ترك الواجب، فتدبّر.

و أمّا من يحبس لعدم الفرار فقط، أو من يحبس لدفع شرّه و ضرره فقط بعد العلم بعدم ارتداعه أصلا فلا وجه لإيراد التضييقات عليه، و طبع الحبس لا يقتضي أزيد من منعه من الانبعاث فقط.

و بالجملة، فالحبس و كذا التضييقات إنّما تقع للضرورة، و الضرورات تتقدر بقدرها، و الزائد عليها حرام شرعا.

إجبار المسجون على المقابلة التلفزيونيّة:

و بذلك يظهر أنّ إجبار المسجونين على المقابلة التلفزيونية الرائجة في عصرنا

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 448

و تحطيم شخصياتهم الاجتماعية أمر محرّم لا يرضى به الشارع الذي له اهتمام كثير بعرض المسلمين و حفظ شخصياتهم.

1- و في أصول الكافي بسنده، عن رسول اللّه «ص»، قال: «لا تتبعوا عثرات المسلمين، فإنّه من تتبع عثرات المسلمين تتبع اللّه عثرته، و من تتبع اللّه عثرته يفضحه.» «1»

2- و فيه أيضا

بسنده، عنه «ص»، قال: قال اللّه- عزّ و جلّ-: «قد نابذني من أذلّ عبدي المؤمن.» «2»

3- و فيه أيضا بسنده، عن عبد اللّه بن سنان، قال: قلت له: عورة المؤمن على المؤمن حرام؟ قال: نعم. قلت: تعني سفليه؟ قال: ليس حيث تذهب؛ إنّما هو إذاعة سرّه. «3»

4- و في الغرر و الدرر للآمدي، عن أمير المؤمنين «ع»: «من كشف حجاب أخيه انكشف عورات بيته.» «4»

5- و فيه أيضا عنه «ع»: «شرّ الناس من لا يعفو عن الزلّة و لا يستر العورة.» «5» و الأخبار في هذا المجال كثيرة.

و في دستور الجمهورية الإسلامية في إيران:

«إنّ هتك حرمة و شخصيّة أيّ شخص تمّ اعتقاله أو توقيفه أو سجنه أو تبعيده بحكم القانون، ممنوع بأيّ شكل من الأشكال و موجب للمجازاة.» «6»

نعم، لو بلغ الشخص المجرم في الأجرام و التجاهر به و العناد في قبال الحق حدّا

______________________________

(1)- الكافي 2/ 355، كتاب الإيمان و الكفر، باب من طلب عثرات المؤمنين ...، الحديث 4.

(2)- الكافي 2/ 352، كتاب الإيمان و الكفر، باب من أذى المسلمين ...، الحديث 6.

(3)- الكافي 2/ 358، كتاب الإيمان و الكفر، باب الرواية على المؤمن، الحديث 2.

(4)- الغرر و الدرر 5/ 371، الحديث 8802.

(5)- الغرر و الدرر 4/ 175، الحديث 5735.

(6)- دستور الجمهورية الإسلاميّة في إيران، المادّة 39.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 449

لا يبقى له مع ذلك حرمة عند اللّه- تعالى- و عند عقلاء الناس، و صار عندهم رجلا متهتكا ساقطا عن الإنسانية فالظاهر حينئذ عدم حرمة الإذاعة لأسراره ما لم يسر ذلك إلى هتك حرمة غيره. و كذلك إذا كان الشخص بحيث يجب أن يعرفه الناس حتى لا

يغترّوا به أو يعتمدوا عليه. كما في شاهد الزور الذي يطاف به، و أمين السوق الذي ينادى عليه كما سيأتي في قصة ابن هرمة، و غير ذلك من الموارد التي يوجد في الإفشاء و الإذاعة مصلحة ملزمة.

و بما ذكرنا أيضا يظهر عدم جواز إجبار الشخص المسجون على أمور أخر تسلب حرّيته و سلطته على نفسه، كالشركة في بعض الحفلات، أو التصدي لبعض الأعمال، أو المساعدة في الاستخبارات أو نحو ذلك، فتدبّر. هذا.

[العقوبات المكملة للحبس العقوبي في الأخبار و الفتاوى]
اشارة

و قد ورد ذكر العقوبات المكملة للحبس العقوبي في كثير من الأخبار و الفتاوى نشير إلى ما عثرنا عليه من الموارد:

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 2، ص: 449

1- المرأة المرتدة:

ففي صحيحة حماد، عن أبي عبد اللّه «ع» في المرتدة عن الإسلام، قال: «لا تقتل، و تستخدم خدمة شديدة، و تمنع الطعام و الشراب إلّا ما يمسك نفسها، و تلبس خشن الثياب، و تضرب على الصلوات.» «1»

و في خبر آخر: «و المرأة إذا ارتدت عن الإسلام استتيبت، فإن تابت و إلّا خلدت في السجن، و ضيّق عليها في حبسها.» «2»

2- المختلس، و الطرار، و النباش:

ففي خبر السكوني، عن أبي عبد اللّه «ع»: «إنّ أمير المؤمنين «ع» اتي برجل اختلس درّة من أذن جارية، فقال «ع»: هذه الدغارة المعلنة، فضربه

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 549، الباب 4 من أبواب حدّ المرتدّ، الحديث 1.

(2)- الوسائل 18/ 550، الباب 4 من أبواب حدّ المرتدّ، الحديث 6.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 450

و حبسه.» «1» و نحوه خبر الجعفريات «2» و سيأتي.

و في الدعائم، عن جعفر بن محمد «ع»: «أنّه لا يقطع الطرّار و هو الذي يقطع النفقة من كمّ الرجل أو ثوبه، و لا المختلس و هو الذي يختطف الشي ء، و لكن يضربان ضربا شديدا و يحبسان.» «3»

و فيه أيضا: و قال جعفر بن محمد «ع»: «لا تقطع يد النباش إلّا أن يؤخذ و قد نبش مرارا. و يعاقب في كلّ مرّة عقوبة موجعة، و ينكل و يحبس.» «4»

و في مسند زيد بن عليّ «ع»، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ «ع»: «إنّه كان يحبس في النفقة، و في الدين، و في القصاص، و في الحدود، و في جميع الحقوق. و كان يقيد الدعّار بقيود لها أقفال، و يوكّل بهم من يحلّها لهم في أوقات الصلاة من أحد الجانبين.» «5»

أقول: الدعّار بالضم جمع داعر بالمهملات الثلاث: الخبيث الفاسد.

و بالذال المعجمة: الخبيث المعيوب. و بالغين المعجمة: المهاجم.

3- الحالق شعر المرأة:

ففي خبر عبد اللّه بن سنان، قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع»:

جعلت فداك ما على رجل وثب على امرأة فحلق رأسها؟ قال: يضرب ضربا وجيعا، و يحبس في سجن المسلمين حتى يستبرأ شعرها، فإن نبت أخذ منه مهر نسائها، و إن لم ينبت أخذ منه الدية كاملة ...» «6»

4- المولى إذا أبى أن يطلق أو يفي ء:

ففي خبر حماد بن عثمان، عن أبي

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 503، الباب 12 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 4.

(2)- مستدرك الوسائل 3/ 237، الباب 12 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 1.

(3)- دعائم الإسلام 2/ 473، كتاب السّراق، الفصل 2، الحديث 1690.

(4)- دعائم الإسلام 2/ 476، كتاب السّراق، الفصل 2، الحديث 1707.

(5)- مسند زيد/ 265، كتاب الشهادات، باب القضاء.

(6)- الوسائل 19/ 255، الباب 30 من أبواب ديات الأعضاء، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 451

عبد اللّه «ع»، قال: «المولى إذا أبى أن يطلّق؟ قال: كان أمير المؤمنين «ع» يجعل له حظيرة من قصب، و يجعله (يحبسه يب.) فيها و يمنعه من الطعام و الشراب حتى يطلّق.» «1» و نحوه روايات أخر و سيأتي.

5- شارب الخمر في رمضان:

ففي خبر أبي مريم، قال: اتي أمير المؤمنين «ع» بالنجاشي الشاعر قد شرب الخمر في شهر رمضان، فضربه ثمانين، ثم حبسه ليلة، ثم دعا به من الغد فضربه عشرين، فقال له: يا أمير المؤمنين، هذا ضربتني ثمانين في شرب الخمر، و هذه العشرون ما هي؟ قال: هذا لتجرئك على شرب الخمر في شهر رمضان.» «2» فتأمّل.

6- من أمسك أحدا ليقتله الآخر:

ففي خبر عمرو بن أبي المقدام، الحاكي لقصة رجل شكا إلى المنصور عن رجلين أخرجا أخاه من منزله ليلا فأمسكه أحدهما و قتله الآخر، أنّ المنصور طلب من جعفر بن محمد «ع» أن يقضي بينهم، فأمر «ع» أخاه أن يضرب عنق القاتل، ثم أمر بالآخر فضرب جنبيه، و حبسه في السجن، و وقّع على رأسه: يحبس عمره و يضرب في كل سنة خمسين جلدة.» «3» و روى نحوه في دعائم الإسلام، فراجع. «4»

7- القاتل عمدا إذا لم يقتصّ منه:

ففي خبر الفضيل بن يسار، قال: قلت لأبي جعفر «ع»: عشرة قتلوا رجلا؟ قال: إن شاء أولياؤه قتلوهم جميعا و غرموا تسع ديات، و إن شاءوا تخيّروا رجلا فقتلوه و أدّى التسعة الباقون إلى أهل المقتول الأخير عشر الدية كل رجل منهم.

قال: ثم الوالي بعد يلي أدبهم و حبسهم.» «5»

______________________________

(1)- الوسائل 15/ 545، الباب 11 من أبواب الإيلاء، الحديث 1.

(2)- الوسائل 18/ 474، الباب 9 من أبواب حدّ المسكر، الحديث 1.

(3)- الوسائل 19/ 36، الباب 18 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 1.

(4)- دعائم الإسلام 2/ 406- 407، كتاب الديات، الفصل 2 (ذكر القصاص)، الحديث 1419.

(5)- الوسائل 19/ 30، الباب 12 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 6.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 452

و من هذا القبيل أيضا مرسلة الكليني، قال: و في رواية أخرى: «ثم للوالي بعد أدبه و حبسه.» «1» إذ الظاهر كون الأدب غير الحبس.

8- شاهد الزور:

ففي خبر غياث بن إبراهيم، عن جعفر، عن أبيه أن عليّا «ع» كان إذا أخذ شاهد زور، فإن كان غريبا بعث به إلى حيّه، و إن كان سوقيا بعث به إلى سوقه، فطيف به، ثم يحبسه ايّاما ثم يخلّى سبيله.» «2» هذا.

و في سنن البيهقي، عن مكحول:

«أن عمر بن الخطاب كتب إلى عمّاله في كور الشام في شاهد الزور أن يجلد أربعين، و يحلق رأسه، و يسخّم وجهه، و يطاف به، و يطال حبسه.» «3»

أقول: سخّم وجهه: سوّده. هذا. و البيهقي ضعّف الرواية، فراجع.

9- أمين السوق إذا خان:

ففي دعائم الإسلام، عن عليّ «ع»: «إنه استدرك على ابن هرمة خيانة- و كان على سوق الأهواز- فكتب إلى رفاعة: إذا قرأت كتابي فنحّ ابن هرمة عن السوق، و أوقفه للناس و اسجنه و ناد عليه. و اكتب إلى أهل عملك تعلمهم رأيي فيه.

و لا تأخذك فيه غفلة و لا تفريط فتهلك عند اللّه و أعز لك أخبث عزلة، و أعيذك باللّه من ذلك.

فإذا كان يوم الجمعة فأخرجه من السجن و اضربه خمسة و ثلاثين سوطا و طف به إلى الأسواق.

فمن أتى عليه بشاهد فحلّفه مع شاهده و ادفع إليه من مكسبه ما شهد به عليه، و مر به إلى السجن مهانا مقبوحا منبوحا، و احزم رجليه بحزام و أخرجه وقت الصلاة.

و لا تحل (و لا تخلّ خ. ل) بينه و بين من يأتيه بمطعم أو مشرب أو ملبس أو مفرش، و لا تدع أحدا يدخل إليه ممن يلقّنه اللدد و يرجيه الخلوص (الخلاص خ. ل). فإن صحّ عندك أنّ أحدا لقّنه ما يضرّ به مسلما فاضربه بالدرّة فاحبسه حتى يتوب.

______________________________

(1)- الوسائل 19/ 303، الباب 4 من أبواب العاقلة، الحديث 2.

(2)-

الوسائل 18/ 244، الباب 15 من أبواب الشهادات، الحديث 3.

(3)- سنن البيهقي 10/ 142، كتاب آداب القاضي، باب ما يفعل بشاهد الزور.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 453

و مر بإخراج أهل السجن في الليل إلى صحن السجن ليتفرجوا غير ابن هرمة، إلّا أن تخاف موته فتخرجه مع أهل السجن إلى الصحن. فإن رأيت به طاقة أو استطاعة فاضربه بعد ثلاثين يوما خمسة و ثلاثين سوطا بعد الخمسة و الثلاثين الأولى. و اكتب إليّ بما فعلت في السوق و من اخترت بعد الخائن، و اقطع عن الخائن رزقه.» «1»

و رواه عنه في المستدرك «2».

10- من يلقن المجرم بما يضر مسلما:

و يدل عليه هذا الخبر الذي مرّ من الدعائم.

11- من قتل مملوكه:

1- ففي رواية أبي الفتح الجرجاني، عن أبي الحسن «ع» في رجل قتل مملوكه أو مملوكته؟ قال: إن كان المملوك له أدّب و حبس إلّا أن يكون معروفا بقتل المماليك فيقتل به. «3»

2- و في خبر مسمع بن عبد الملك، عن أبي عبد اللّه «ع» أنّ أمير المؤمنين «ع» رفع إليه رجل عذّب عبده حتّى مات، فضربه مأئة نكالا، و حبسه سنة، و أغرمه قيمة العبد فتصدّق بها عنه. «4»

12- من سرق ثالثة:

1- فعن العياشي، عن السكوني، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن عليّ «ع»: «أنه اتي بسارق فقطع يده، ثمّ أتى به مرة أخرى فقطع رجله اليسرى، ثمّ أتى به ثالثة فقال إنّي أستحيي من ربّي أن لا أدع له يدا يأكل بها و يشرب بها و يستنجي بها و لا رجلا يمشي عليها، فجلده و استودعه السجن و أنفق عليه من بيت المال.» «5»

______________________________

(1)- دعائم الإسلام 2/ 532، كتاب آداب القضاة، الحديث 1892.

(2)- مستدرك الوسائل 3/ 207، الباب 24 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 5.

(3)- الوسائل 19/ 69، الباب 38 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 1.

(4)- الوسائل 19/ 68، الباب 37 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 5.

(5)- الوسائل 18/ 496، الباب 5 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 16.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 454

2- و في المستدرك، عن الجعفريات بسنده «و كان أمير المؤمنين «ع» إذا سرق السارق بعد أن تقطع يده و رجله، جلد و حبس في السجن و أنفق عليه من في ء المسلمين.» «1»

أقول: و في كتاب الخراج لأبي يوسف في حكم الجواسيس:

«و سألت يا أمير المؤمنين عن الجواسيس يوجدون و هم من أهل الذمّة

أو أهل الحرب أو من المسلمين، فإن كانوا من أهل الحرب أو من أهل الذمّة ممّن يؤدّي الجزية من اليهود و النصارى و المجوس فاضرب أعناقهم، و إن كانوا من أهل الإسلام معروفين فأوجعهم عقوبة و أطل حبسهم حتّى يحدثوا توبة.» «2»

و قد مرّ عن مالك في المدونة الكبرى في من خرج بعصا أو بشي ء و لم يخف السبيل و لم يأخذ المال و لم يقتل، قال مالك:

«فهذا لو أخذ فيه بأيسره لم أر في ذلك بأسا. قلت: و ما أيسره عند مالك؟ قال:

أيسره و أخفّه أن يجلد و ينفى و يسجن في الموضع الذي نفي إليه.» «3»

و حكى نحو ذلك عن مالك في الزاني البكر «4».

______________________________

(1)- مستدرك الوسائل 3/ 236، الباب 5 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 2.

(2)- الخراج/ 189.

(3)- المدوّنة الكبرى 4/ 429.

(4)- راجع أحكام السجون/ 109.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 455

الجهة السابعة: في أقسام السجون بحسب أصناف السجناء:

لا ريب أنّ السجون الشرعية يجب أن تلحظ فيها و في برامجها الموازين الشرعية و الأهداف الإصلاحية الإسلامية. و من الواضح أنّ اختلاط الرجال بالنساء في مكان خلوة مما يوجب الفساد قطعا. كما أن اختلاط الصبيان بل الشبّان الأحداث السذّج بالرجال المجرمين لطرق الفساد و الدعارة و التلصص في مكان خلوة لا شغل لهم فيه إلّا المقاولة و المفاكهة و صرف الوقت يوجب نشوء الصبيان و الشبّان على الفساد في الأخلاق و الأفعال، و لا يرضى الشرع المبين بذلك قطعا.

فيجب أن يفرد لكل صنف من هؤلاء و من أصناف المجرمين مكان خاصّ، لئلا يؤدّي الأمر إلى الفساد. و بذلك يظهر وجوب إفراد سجن الشباب السذّج أيضا عن سجن من توغّل في الانحراف الفكري و العقائد

الفاسدة و المناهج الباطلة المعدّية، إذ المعاشرة المستمرّة مؤثّرة قطعا؛ فينقلب السجن المعدّ للإصلاح إلى محل الفساد و الإفساد. هذا.

و في التراتيب الإدارية للكتاني قال:

«في كتب السيرة من خبر إسلام عديّ بن حاتم و فراره إلى الشام حين سمع بجيش رسول اللّه «ص» وطئ بلادهم: فخرج يتبعه خيل رسول اللّه «ص» فأصابت بنت حاتم ممن أصابته فقدم بها في سبايا طيّئ، و قد بلغ رسول اللّه «ص» أنّه هرب إلى الشام، فجعلت بنت حاتم في حصيرة بباب المسجد و كانت النساء تحتبس فيها.» «1»

______________________________

(1)- التراتيب الإدارية 1/ 299.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 456

أقول: يظهر بذلك وجود السجن في عصر النبي «ص» و أنّ سجن النساء كان منفردا عن سجن الرجال.

و في كتاب أحكام السجون للوائلي:

«نصّ ابن عابدين في كتابه «ردّ المحتار على الدرّ المختار»، فقال: و يجعل للنساء سجن على حدة دفعا للفتنة، كما نصّ على ضرورة تفريق الأحداث عن الكبار.

و نصّ السرخسي في المبسوط، فقال: و ينبغي أن يكون محبس النساء في الدين على حدة، و لا يكون معهن رجل حتى لا يؤدّي إلى فتنة.» «1»

أقول: ذكر الدين من باب المثال قطعا، حيث كان أكثر حبسهن لذلك.

و الظاهر أنّه أراد بقوله: «ينبغي» اللزوم لا الاستحباب، فتدبّر.

الجهة الثامنة: في تقسيمها بملاحظة أسبابها الرئيسية:

اشارة

نلخص ذلك من كتاب «أحكام السجون»، قال فيه ما ملخصه:

«للدخول في السجن أسباب تستفاد من تتبع الروايات و آراء الفقهاء و أنّها أربعة أقسام رئيسية:

الاول: السجن الاحتياطي.

و هو إجراء تحفظي يتخذ قبل المتّهم الذي لم تثبت إدانته بعد و يحتمل أن تظهر براءته. و الحبس بالنسبة له ليس عقوبة و إنّما مجرد وسيلة احتياطية أثناء التحقيق لمنعه من الهروب أو عن التأثير على مجرى التحقيق، و لذلك يعامل في السجون معاملة تختلف عن المحكوم عليهم.

فعن ابن القيم في كتاب الطرق الحكمية: أن من الدعاوي أن يكون المتهم مجهول الحال لا يعرف ببرّ و لا فجور، فيحبس حتى ينكشف حاله، و هو ثابت عند عامة

______________________________

(1)- أحكام السجون/ 101.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 457

علماء الإسلام. و المنصوص عليه عند أكثر الأئمة أنّه يحبسه القاضي و الوالي. هكذا نصّ عليه مالك و أبو حنيفة و أحمد و أصحابهم. و قال الإمام أحمد: قد حبس النبي «ص» في تهمة، قال أحمد: و ذلك حتى يتبين للحاكم أمره ...

و من أمثلة هذا النوع ما ذكره السيد محسن العاملي في كتابه عجائب أحكام أمير المؤمنين «ع»، قال: إن عليّا «ع» حبس متهما بالقتل حتى نظر في أمر المتهمين معه.

الثاني: السجن الاستبرائي،

كحبس من أشكل حاله في العسر و اليسر كما روى في الوسائل أنّ عليّا «ع» قضى في الدين أن يحبس صاحبه، فإن تبين إفلاسه و الحاجة فيخلّى سبيله حتى يستفيد مالا. و كمن يحبس اختبارا لما ينسب إليه من السرقة و الفساد.

الثالث: السجن الحقوقي بقسميها من العامة و الخاصة.

فمن ذلك في الحقوق الخاصة ما رواه في الوسائل: أن أمير المؤمنين «ع» كان يحبس ثلاثة: رجلا أكل مال اليتيم، أو غصبه، أو اؤتمن على أمانة فذهب بها. و في الحقوق العامة ما أورد ابن النجار الحنبلي في منتهى الإرادات: إنّ من عرف بأذى الناس حتى بعينه- أي الغمز- حبس مؤبدا. و مثل حبس الجاسوس المسلم و عقابه و تركه سجينا حتى يحدث توبة.

الرابع: السجن الجنائي.

و أمثلته مستفيضة، من ذلك ما ورد «أنّ عليّا «ع» قضى في أربعة تباعجوا بالسكاكين و هم سكارى، فسجنهم حتى يفيقوا، فمات منهم اثنان و بقي اثنان، فقضى بالدية على قبائل الأربعة و أخذ جراحة الباقين من دية المقتولين.» إلى آخر ما ذكره، فراجع «1».

أقول: بعج البطن: شقّه. و لم يظهر لي فرق بيّن بين القسم الأوّل و الثاني، فالأولى جعلهما قسما واحدا. كما أنّ من المسجونين من يسجن لحقّ اللّه المحض، كالمرأة المرتدة. فهل يدرج هذا في القسم الثالث أو يجعل قسما على حدة؟

ثمّ إنّه لم يذكر في الأقسام الأسباب و الآراء السياسية الموجبة للسجن في أعصارنا، اللهم إلّا أن تدخل هذه في قسم الحقوق العامة، أو يقال إنّ السجن

______________________________

(1)- أحكام السجون/ 128- 130.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 458

بسببها بدعة و مخالف لحريّة النّاس في إظهار آرائهم السياسية ما لم يترتب عليه القتل و الإغارة و سلب الأمن من المجتمع. و يشهد لذلك عمل أصحاب النبي «ص» و الأئمة «ع»، فتدبّر.

الجهة التاسعة: في نفقات السجن و السجناء:

[نفقات بناء السجن و عمارته و مراقبيه على بيت المال]

أمّا السجن فحيث إنّه من المصالح العامة و مما يتوقف عليه استيفاء الحقوق و تأديب المجرمين و حفظ النظام و أمن السبل، فلا محالة تكون نفقات بنائه و عمارته و مرافقه و مراقبيه على بيت المال. و احتمال كونها في مال المسجون ضعيف.

و أضعف منه كونها في مال الحاكم بشخصه.

هذا مضافا إلى أنّه لم يعهد في التاريخ و لا في عصر النبي «ص» و أمير المؤمنين «ع» كون أجرة السجن و مراقبيه على المسجون أو على الحاكم بشخصه. و قد مرّ بناء أمير المؤمنين «ع» سجنين في الكوفة سماهما نافعا و مخيّسا، و الظاهر أنّه بناهما

من بيت المال لا من أمواله الشخصية أو من أموال السجناء.

و أما نفقة المسجون فهل تكون على بيت المال مطلقا، أو على نفسه كذلك، أو يفصّل بين من له مال أو يقدر على تحصيله و لو بالاشتغال في السجن، و بين غيره، أو يفصّل بين المخلّد في السجن فتكون على بيت المال كما في بعض الأخبار، و بين غيره فتكون على نفسه، أو يفصل بين التوقيف الموقت للكشف فتكون على بيت المال لعدم ثبوت تقصيره، و بين المحكوم بالسجن لثبوت تقصيره فتكون على نفسه على طبق القاعدة؟ في المسألة وجوه:

و نحن نتعرض أوّلا لما تقتضيه القواعد الأوّلية، ثم للروايات الواردة في المسألة، ثم نذكر بعض ما ذكره الفقهاء و المصنّفون في هذا المقام تتميما للفائدة:

فنقول: حيث إن نفقة الإنسان و كذا نفقات عائلته تكون أوّلا و بالذات في

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 459

أمواله و على عهدة نفسه- و المفروض أنّ كلامنا ليس في مطلق السجن و لو كان غير مشروع، بل في السجن المشروع من قبل اللّه- تعالى-، أعني ما وقع في قبال تهمة أجاز الشارع كشفها و لو بالسجن، أو في قبال إفساد الشخص أو عصيانه أو مطله و امتناعه- فمع فرض تمكنه من تحصيل النفقة و أدائها لا يرى وجه لتحميلها بيت المال المتعلّق بالمسلمين.

نعم، لو كان فقيرا و بقي هو و عائلته بلا معاش، و كان السجن مانعا من شغله و عمله المناسب صار حكمه حكم سائر الفقراء و المساكين في الارتزاق من بيت المال المعدّ لسدّ الخلّات.

و بالجملة، فيفصل بين الغني بالفعل أو بالقوة، و بين غيره. فنفقة الغني و لو بالقوة على نفسه،

و نفقة الفقير على بيت المال.

لا يقال: إن الغرض من سجنه كفّ شره و أذاه عن المسلمين، فتكون نفقته في طريق المصالح العامة، نظير نفقة السجن و مراقبيه.

فإنه يقال: فرق بين السجن و المسجون، إذ نفقة الشخص بحسب الطبع الأولى تكون على نفسه، و المفروض أن حبسه مستند إلى عمل نفسه و تقصيره و أن قدرته المالية و تمكنه باقية و لو في السجن، فلا وجه لتحميل نفقته على بيت المال.

نعم، لأحد أن يقول: إنّ ما ذكرت صحيح في من ثبت تقصيره و حكم بحبسه لذلك، و أمّا المسجون في تهمة قبل كشفها فلم يثبت تقصيره، و حيث إن توقيفه الموقت يكون في طريق المصالح العامة و تحمّله النفقة حينئذ ضرر عليه لا يجبر، كان المناسب رزقه من بيت المال حتى يتضح الحال.

و هذا التفصيل عندي قويّ و إن لم أعثر على من أفتى به. و يحتمل في المتّهم أيضا ثبوت حق المطالبة منه إذا ثبت بعد ذلك كونه مقصّرا، فتدبّر.

و كيف كان، فاللازم رعاية ما تقتضيه القواعد الأوّلية ما لم يرد دليل على خلافها.

[الروايات الواردة]

فلنرجع إلى الروايات الواردة في المسألة و لنبيّن المستفاد منها فنقول:

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 460

1- روى في الوسائل عن قرب الإسناد بسنده، عن جعفر، عن أبيه أنّ عليّ بن أبي طالب «ع» لما قتله ابن ملجم قال: «احبسوا هذا الأسير و أطعموه و أحسنوا إساره. فإن عشت فأنا أولى بما صنع بي: إن شئت استقدت و إن شئت عفوت ...» «1»

و روى نحوه البيهقي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه «2».

أقول: لا يخفى أنّ هذه حكاية عن واقعة خاصّة، فلا تدلّ على حكم

كلّي بالنسبة إلى كل سجين و لو كان متمكنا بالفعل. و لعله كان أمرا عاطفيا منه «ع» بالنسبة إلى الأسير المحبوس في بيته. و الظاهر من كلامه «ع» إطعامه من طعامه لا من بيت المال، فتدبّر.

2- و في خبر أبي بصير، عن أبي عبد اللّه «ع»: «إنّ عليّا «ع» كان يطعم من خلد في السجن من بيت مال المسلمين.» «3»

و الظاهر من الخبر عموم الحكم بالنسبة إلى كل من خلد، فان التعبير يدل على الاستمرار.

3- و روى الكليني عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن القاسم، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: سألته عن رجل سرق، فقال: سمعت أبي يقول: اتي علي «ع» في زمانه برجل قد سرق فقطع يده، ثمّ اتي به ثانية فقطع رجله من خلاف، ثمّ اتي به ثالثة فخلده في السجن و أنفق عليه من بيت مال المسلمين و قال: هكذا صنع رسول اللّه «ص» لا أخالفه.» «4»

و رواه الشيخ بسنده، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن أبي القاسم «5».

______________________________

(1)- الوسائل 19/ 96، الباب 62 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 4.

(2)- سنن البيهقي 8/ 183، كتاب قتال أهل البغي، باب الرجل يقتل واحدا من المسلمين ...

(3)- الوسائل 11/ 69، الباب 32 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 2.

(4)- الوسائل 18/ 493، الباب 5 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 3.

(5)- التهذيب 10/ 104، الباب 8 من كتاب الحدود، الحديث 22.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 461

أقول: الظاهر أنّ المراد بالقاسم في سند الكليني قاسم بن سليمان، و حاله غير معلوم و إن قيل بأنّ

نقل النضر بن سويد عنه يلحقه بالحسان. و أمّا أبو القاسم في سند الشيخ فلم يعلم المراد منه، و لعله مصحف القاسم.

ثم لا يخفى أنّ المحكى من فعل أمير المؤمنين «ع» هو واقعة خاصة. فلعل الشخص كان فقيرا غير متمكن، فلا يدل الخبر على وجوب الإنفاق على كل مسجون. و الظاهر أن المشار اليه في قوله: «هكذا صنع رسول اللّه «ص»،» ليس هو مسألة الإنفاق، بل مسألة الحبس في الثالثة في قبال ما كان يفعله أبو بكر و عمر من القطع في الثالثة و الرابعة أيضا كما دلت عليه أخبارهم.

4- صحيحة أبي بصير، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «تقطع رجل السارق بعد قطع اليد، ثمّ لا يقطع بعد، فإن عاد حبس في السجن و أنفق عليه من بيت مال المسلمين.» «1»

5- صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّه «ع» في حديث في السرقة، قال: «تقطع اليد و الرجل ثم لا يقطع بعد، و لكن إن عاد حبس و أنفق عليه من بيت مال المسلمين.» «2»

و الظاهر جواز الاستدلال بإطلاق الصحيحتين. و احتمال خصوصية السرقة ضعيف، و كذا احتمال خصوصية التخليد في السجن و إن كان المورد من موارد الإخلاد في السجن كما يدل عليه بعض أخبار الباب. اللّهم إلّا أن يقال: إنّ الغالب في من يخلد في السجن هو الفقر و عدم التمكن، فلا يستفاد من هذه الأخبار حكم المسجون المتمكن.

6- موثقة سماعة، قال: «سألته عن السارق و قد قطعت يده، فقال: تقطع رجله بعد يده، فإن عاد حبس في السجن و أنفق عليه من بيت مال المسلمين.» «3»

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 493، الباب 5 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 6.

(2)- الوسائل 18/ 494، الباب 5

من أبواب حدّ السرقة، الحديث 7.

(3)- الوسائل 18/ 496، الباب 5 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 14.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 462

7- و روى الصدوق بإسناده إلى قضايا أمير المؤمنين «ع»: «أنّه كان إذا سرق الرجل أوّلا قطع يمينه، فإن عاد قطع رجله اليسرى، فإن عاد ثالثة خلده السجن و أنفق عليه من بيت المال.» «1»

8- و عن العياشي في تفسيره، عن السكوني، عن جعفر بن محمد عن أبيه، عن عليّ «ع» أنه اتي بسارق فقطع يده ... فجلده و استودعه السجن و أنفق عليه من بيت المال.» «2»

9- و في دعائم الإسلام، عن عليّ «ع» أنّه قال: «من خلد في السجن رزق من بيت المال و لا يخلد في السجن إلّا ثلاثة: الذي يمسك على الموت، و المرأة ترتدّ إلّا أن تتوب، و السارق بعد قطع اليد و الرجل، يعني إذا سرق بعد ذلك في الثالثة.» «3» و رواه عنه في المستدرك «4».

10- و فيه أيضا في حديث: «و كان عليّ «ع» إذا اتي بالسارق في الثالثة بعد أن قطع يده و رجله في المرتين خلده في السجن و أنفق عليه من في ء المسلمين، فإن سرق في السجن قتله.» «5» و رواه عنه في المستدرك «6».

11- و في المستدرك، عن الجعفريات بسنده: «و كان أمير المؤمنين إذا سرق السارق بعد أن تقطع يده و رجله جلد و حبس في السجن و أنفق عليه من في ء المسلمين.» «7»

12- و فيه أيضا، عن نوادر أحمد بن محمد بن عيسى بسنده، عن أبي عبد اللّه «ع» في حديث، قال: «و يقطع من السارق الرجل بعد اليد، فإن عاد فلا قطع و

لكن يخلد السجن و ينفق عليه من بيت المال.» «8»

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 495، الباب 5 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 10.

(2)- الوسائل 18/ 496، الباب 5 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 16.

(3)- دعائم الإسلام 2/ 539، كتاب آداب القضاة، الحديث 1917.

(4)- مستدرك الوسائل 3/ 236، الباب 5 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 4.

(5)- دعائم الإسلام 2/ 470، كتاب السرّاق، الفصل 1، الحديث 1674.

(6)- مستدرك الوسائل 3/ 236، الباب 5 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 3.

(7)- مستدرك الوسائل 3/ 236، الباب 5 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 2.

(8)- مستدرك الوسائل 3/ 236، الباب 5 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 6.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 463

هذا ما عثرنا عليه من أخبار المسألة.

[المستفاد من الأخبار]

و دلالتها إجمالا على كون نفقة السجناء على بيت المال ظاهرة، و ظاهر بعضها الإطلاق أيضا، فيرفع بسببها اليد عما أصلناه من القاعدة الأوّلية. اللّهم إلّا أن يقال إن مورد الجميع السرقة الثالثة، و حكمها التخليد في السجن، و الغالب فيمن خلد فيه تلاشى طرق المعيشة و اضمحلالها، فلا يستفاد من هذه الروايات حكم من بقي رأس ماله و ثروته. هذا.

و في كتاب القضاء من ملحقات العروة:

«الظاهر أنّ مئونة الحبس من بيت المال. و إذا لم يكن فعلى المحبوس. و يحتمل كونها على المحكوم له.» «1»

أقول: محل بحثه مطل المديون، فيوجد في قباله مطالب الدين الذي حكم له بسجن المديون.

و في كتاب القضاء من المستند:

«مئونة المحبوس حال الحبس من ماله، و وجهه ظاهر. و يشكل الأمر لو لم يكن له شي ء ظاهر، و كان ينفق كل يوم بقرض أو كسب قدر مئونته أو سؤال أو كلّ على غيره و

نحوها، بل قد يغتنم المحبس لذلك. و كذا الإشكال في مئونة الحبس، فإنه يحتاج إلى مكان و مراقب ليلا و نهارا لئلا يهرب، فإن كان هنا بيت مال فالمؤونتان عليه، و إلّا فإن بذله خصمه من ماله فلا إشكال أيضا، و إلّا فتحميله على الحاكم ضرر عليه منفيّ. فيعارض بأدلّته أدلّة الحبس، فيرجع إلى أصل عدم وجوب الحبس عليه، أو يقال بالتخيير فله إطلاقه و لا يجب عليه شي ء.» «2»

[كلام القاضي أبي يوسف فيما كتبه لهارون الرشيد في هذا المطلب]

و في كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف، الذي كتبه لهارون الرشيد، كلام طويل في هذا المقام يناسب ذكره، قال فيه:

______________________________

(1)- ملحقات العروة الوثقى 3/ 56، كتاب القضاء، الفصل 3، المسألة 13.

(2)- مستند الشيعة 2/ 549.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 464

«و أمّا ما سألت عنه يا أمير المؤمنين من أمر أهل الدعارة و الفسق و التلصّص إذا أخذوا في شي ء من الجنايات و حبسوا هل يجرى عليهم ما يقوتهم في الحبس، و الذي يجرى عليهم من الصدقة أو من غير الصدقة؟ و ما ينبغي أن يعمل به فيهم.

قال: لا بد لمن كان في مثل حالهم إذا لم يكن له شي ء يأكل منه لا مال و لا وجه شي ء يقيم به بدنه أن يجرى عليه من الصدقة أو من بيت المال. من أيّ الوجهين فعلت فذلك موسّع عليك، و أحبّ إليّ أن تجري من بيت المال على كل واحد منهم ما يقوته، فإنه لا يحل و لا يسع إلّا ذلك.

قال: و الأسير من أسرى المشركين لا بدّ أن يطعم و يحسن إليه حتّى يحكم فيه، فكيف برجل مسلم قد اخطأ أو أذنب: يترك يموت جوعا؟ و إنما حمله على ما صار

إليه القضاء أو الجهل.

و لم تزل الخلفاء يا أمير المؤمنين تجري على أهل السجون ما يقوتهم في طعامهم و أدمهم و كسوتهم الشتاء و الصيف. و أوّل من فعل ذلك عليّ بن أبي طالب- كرّم اللّه وجهه- بالعراق، ثمّ فعله معاوية بالشام، ثمّ فعل ذلك الخلفاء من بعده.

قال: حدثني إسماعيل بن إبراهيم بن المهاجر، عن عبد الملك بن عمير، قال: كان عليّ بن أبي طالب إذا كان في القبيلة أو القوم الرجل الداعر حبسه، فإن كان له مال أنفق عليه من ماله، و إن لم يكن له مال أنفق عليه من بيت مال المسلمين، و قال: يحبس عنهم شرّه و ينفق عليه من بيت مالهم.

قال: و حدثنا بعض أشياخنا، عن جعفر بن برقان، قال: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز: «لا تدعنّ في سجونكم أحدا من المسلمين في وثاق لا يستطيع أن يصلّي قائما، و لا تبيتن في قيد إلّا رجلا مطلوبا بدم. و أجروا عليهم من الصدقة ما يصلحهم في طعامهم و أدمهم. و السلام.»

فمر بالتقدير لهم ما يقوتهم في طعامهم و أدمهم، و صيّر ذلك دراهم تجري عليهم في كل شهر يدفع ذلك إليهم، فإنّك إن أجريت عليهم الخبز ذهب به ولاة السجن و القوّام و الجلاوزة. و ولّ ذلك رجلا من أهل الخير و الصلاح يثبت أسماء من في السجن ممن تجرى عليهم الصدقة، و تكون الأسماء عنده، و يدفع ذلك إليهم شهرا

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 465

بشهر؛ يقعد و يدعو باسم رجل رجل و يدفع ذلك إليه في يده، فمن كان منهم قد أطلق و خلّي سبيله ردّ ما يجرى عليه، و يكون

للإجراء عشرة دراهم في الشهر لكل واحد، و ليس كل من في السجن يحتاج إلى أن يجرى عليه.

و كسوتهم في الشتاء قميص و كساء، و في الصيف قميص و إزار، و يجرى على النساء مثل ذلك، و كسوتهن في الشتاء قميص و مقنعة و كساء، و في الصيف قميص و إزار و مقنعة.

و أغنهم عن الخروج في السلاسل يتصدق عليهم الناس، فإنّ هذا عظيم أن يكون قوم من المسلمين قد أذنبوا و أخطئوا و قضى اللّه عليهم ما هم فيه فحبسوا يخرجون في السلاسل يتصدقون. و ما أظنّ أهل الشرك يفعلون هذا بأسارى المسلمين الذين في أيديهم، فكيف ينبغي أن يفعل هذا بأهل الإسلام؟ و إنما صاروا إلى الخروج في السلاسل يتصدقون لما هم فيه من جهد الجوع. فربّما أصابوا ما يأكلون و ربّما لم يصيبوا.

إنّ ابن آدم لم يعر من الذنوب، فتفقد أمرهم، و مر بالإجراء عليهم مثل ما فسرت لك.

و من مات منهم و لم يكن له وليّ و لا قرابة، غسل و كفن من بيت المال و صلّي عليه و دفن، فإنه بلغني و أخبرني به الثقات أنّه ربما مات منهم الميت الغريب، فيمكث في السجن اليوم و اليومين حتى يستأمر الوالي في دفنه و حتى يجمع أهل السجن من عندهم ما يتصدقون و يكترون من يحمله إلى المقابر فيدفن بلا غسل و لا كفن و لا صلاة عليه! فما أعظم هذا في الإسلام و أهله!

و لو أمرت بإقامة الحدود لقلّ أهل الحبس و لخاف الفسّاق و أهل الدعارة و لتناهوا عما هم عليه. و إنما يكثر أهل الحبس لقلة النظر في أمرهم. إنّما هو حبس و ليس فيه نظر. فمر ولاتك

جميعا بالنظر في أمر أهل الحبوس في كل أيّام؛ فمن كان عليه أدب أدّب و أطلق، و من لم يكن له قضية خلّي عنه. و تقدّم إليهم أن لا يسرفوا في الأدب و لا يتجاوزوا بذلك إلى ما لا يحلّ و لا يسع، فإنه بلغني أنهم يضربون الرجل في التهمة و في الجناية: الثلاثمائة و المائتين و أكثر و أقلّ! و هذا مما لا يحلّ و لا يسع. ظهر

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 466

المؤمن حمى إلّا من حقّ يجب بفجور أو قذف أو سكر أو تعزير لأمر أتاه لا يجب فيه حدّ. و ليس يضرب في شي ء من ذلك، كما بلغني أن ولاتك يضربون و إنّ رسول اللّه «ص» قد نهى عن ضرب المصلّين.» «1»

انتهى كلام أبي يوسف. و إنما حكيناه بطوله لاشتماله على أمور مهمة دقيقة، و لأنه يرينا أيضا سنخ أعمال الولاة و الأمراء في تلك الأعصار و معاملتهم للسجناء و الأسراء، و يظهر منه التفصيل بين واجد المال و فاقده مستندا في ذلك إلى ما رواه عن أمير المؤمنين «ع».

و قال الماوردي في الأحكام السلطانية:

«يجوز للأمير فيمن تكررت منه الجرائم و لم ينزجر عنها بالحدود أن يستديم حبسه إذا استضرّ الناس بجرائمه حتى يموت بعد أن يقوم بقوته و كسوته من بيت المال ليدفع ضرره عن الناس.» «2»

و في كتاب أحكام السجون عن كتاب نظم الحكم بمصر:

«و أوّل من أجرى من الخلفاء الراشدين على أهل السجون ما يقوتهم في طعامهم و كسوتهم صيفا و شتاء هو الإمام عليّ «ع». فإذا كان للمجرم مال أنفق منه عليه في السجن، و إن لم يكن له مال أنفق

عليه من بيت مال المسلمين حتى يحبس عن الناس شرّه.» «3»

أقول: و كيف كان فالأقوى في المسألة هو التفصيل بين المتمكن فعلا أو بالقوة من تحصيل ما يعيش به، و بين غيره، ففي الأوّل يكون على نفسه و في الثاني على بيت المال، اللّهم إلّا أن يكون للحكومة مانع من قبول المال و المؤونة من الخارج و تقتضي المصلحة كون الجميع على بيت المال تحت نظام واحد، كما لعله الغالب في سجون عصرنا، فتدبّر.

______________________________

(1)- الخراج/ 149- 151.

(2)- الأحكام السلطانيّة/ 220.

(3)- أحكام السجون/ 125.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 467

الجهة العاشرة: في التعرض لفروع أخر جزئية:

اشارة

يظهر من جميعها إجمالا وجوب رعاية السجناء في معاشهم و معادهم، و السعي في خلاصهم من السجن، و الاهتمام بمرافقهم بمقدار لا ينافي المقصود من حبسهم:

الأوّل: النظر في حال المحبوسين:

حيث إن السجون في جميع الأعصار كانت تحت أمر السلطة القضائيّة، كما هو المتعارف في عصرنا أيضا، ذكر الفقهاء في آداب القضاء أن من وظائف القاضي المنصوب في أوّل نصبه أن ينظر في حال المحبوسين بأمر القاضي المعزول، كيلا يبقى في السجن شخص بلا جهة ملزمة.

ففي آداب القضاء من المبسوط:

«فإذا جلس للقضاء فأوّل شي ء ينظر فيه حال المحبّسين في حبس المعزول، لأنّ الحبس عذاب فيخلصهم منه، و لأنه قد يكون منهم من تمّ عليه الحبس بغير حقّ.»

إلى آخر ما ذكره «1».

و في قضاء الشرائع في الآداب المستحبة للقاضي:

«ثم يسأل عن أهل السجون و يثبت أسماءهم و ينادي في البلد بذلك ليحضر

______________________________

(1)- المبسوط 8/ 91.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 468

الخصوم و يجعل لذلك وقتا، فإذا اجتمعوا أخرج اسم واحد واحد و يسأله عن موجب حبسه، و عرض قوله على خصمه، فإن ثبت لحبسه موجب أعاده، و إلّا أشاع حاله بحيث إن لم يظهر له خصم أطلقه. و كذا لو أحضر محبوسا فقال: لا خصم لي، فإنه ينادي في البلد، فإن لم يظهر له خصم أطلقه، و قيل: يحلفه مع ذلك.» «1»

و في المنهاج للنووي في فقه الشافعية:

«و ينظر أوّلا في أهل الحبس، فمن قال: حبست بحق أدامه، أو ظلما فعلى خصمه حجّة.» «2»

و في أحكام السجون عن المهذّب لأبي إسحاق الشيرازي من فقهاء الشوافع، قال:

«و يستحب أن يبدأ في نظرة المحبّسين، لأنّ الحبس عقوبة و عذاب، و ربما كان فيهم من تجب

تخليته، فاستحب البداية بهم. و يكتب أسماء المحبّسين و ينادي في البلدان: القاضي يريد النظر في أمر المحبّسين في يوم كذا، فليحضر من له محبوس.

فإذا حضر الخصوم أخرج خصم كل واحد منهم، فإن وجب إطلاقه أطلقه، و إن وجب حبسه أعاده إلى الحبس.» «3»

أقول: و قد صرّح بهذا المضمون أكثر فقهاء الشيعة و السنة في كتاب القضاء، فراجع و انظر كيف اهتم الفقه الإسلامي بأمر المحبوسين و تفقد حالاتهم، و لاحظ ما تعارف في أكثر البلدان من امتلاء السجون بمتّهمين قضوا أشهرا عديدة بل سنوات في السجون بلا تعيين لحالهم و أوضاعهم و ما إليه مآلهم، فتدبّر.

______________________________

(1)- الشرائع 4/ 73.

(2)- المنهاج/ 591.

(3)- أحكام السّجون/ 120؛ عن المهذّب 2/ 298.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 469

الثاني: رعاية حاجات المحبوسين:

إنّ على الإمام أن يراعي حاجات المحبوسين في معاشهم من الغذاء و الدواء و الهواء الصافي و الألبسة الصيفية و الشتوية و سائر المرافق و الإمكانات.

و قد مرّ بالتفصيل البحث في نفقة المحبوسين في الجهة التاسعة، و مرّ عن كتاب الخراج لأبي يوسف قوله:

«و لم تزل الخلفاء تجري على أهل السجون ما يقوتهم في طعامهم و أدمهم و كسوتهم الشتاء و الصيف. و أوّل من فعل ذلك عليّ بن أبي طالب- كرّم اللّه وجهه- بالعراق، ثمّ فعله معاوية بالشام، ثمّ فعل ذلك الخلفاء من بعده.» «1»

و في كتاب أحكام السجون في بيان ما يلزم رعايته:

«أن يكون بناء السجن مريحا و واقيا من الحرّ و البرد مما يتوفر معه راحة السجين.

و من هنا ترى النبي «ص» يحبس في الدور الاعتيادية التي يسكنها سائر الناس و يتوفر فيها النور و السعة. فقد حبس الأسرى المقاتلين الذين حكمهم

القتل في دور اعتيادية، إذ فرقهم على بيوت الصحابة، و أحيانا كان يحبسهم في دار واحدة كما حبسهم في دار امرأة من بني النجار من الأنصار.» «2»

و في بدائع الصنائع:

«و أمّا بيان ما يمنع المحبوس عنه و ما لا يمنع: فالمحبوس ممنوع عن الخروج إلى أشغاله و مهمّاته، و إلى الجمع و الجماعات و الأعياد و تشييع الجنائز و عيادة المرضى و الزيارة و الضيافة، لأن الحبس للتوسل إلى قضاء الدين فإذا منع عن أشغاله و مهمّاته

______________________________

(1)- الخراج/ 149.

(2)- أحكام السجون/ 117.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 470

الدينية و الدنيوية تضجّر فيسارع إلى قضاء الدين. و لا يمنع من دخول أقاربه عليه، لأنّ ذلك لا يخلّ بما وضع له الحبس، بل قد يقع وسيلة إليه. و لا يمنع من التصرفات الشرعية من البيع و الشراء و الهبة و الصدقة و الإقرار لغيرهم من الغرماء، حتى لو فعل شيئا من ذلك نفذ و لم يكن للغرماء ولاية الإبطال، لأن الحبس لا يوجب بطلان أهلية التصرّفات ...» «1»

أقول: ما ذكره من عدم الخروج الى الجمع ربما ينافي ما نذكره عن قريب من إخراج الإمام المحبوسين إلى الجمع و الأعياد و لكن تحت مراقبة الحرّاس و ضمانة الأولياء. هذا.

و من الأمور المهمّة التي ينبغي رعايتها إيجاد شرائط اللقاء بين المسجون و زوجه و إمكان الخلوة بينهما، فإن الحاجة الجنسية من أشدّ الحاجات، و الفصل الطويل بينهما يستعقب غالبا أمورا لا يرضى بها العقل و الشرع، و ربما يوجب الفرقة، و تلاشي الحياة العائلية.

و في المستدرك، عن الجعفريات بسنده، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ «ع»: «إن امرأة استعدت

عليّا «ع» على زوجها، فأمر عليّ «ع» بحبسه.

و ذلك الزوج لا ينفق عليها إضرارا بها، فقال الزوج احبسها معي. فقال عليّ «ع»: لك ذلك؛ انطلقي معه.» «2»

الثالث: ضمان السّجان إذا فرّط:

لو فرّط السجّان في أمن مكان السجين أو تهويته أو غذائه أو دوائه أو سائر

______________________________

(1)- بدائع الصنائع 7/ 174.

(2)- مستدرك الوسائل 2/ 497، الباب 6 من كتاب الحجر، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 471

وسائل عيشته فمات أو مرض لأجل تفريطه فالظاهر ضمانه له قصاصا أو دية، لاستناد الموت و المرض إلى عمله.

1- قال الشيخ في الخلاف (المسألة 19 من الجنايات):

«إذا أخذ صغيرا فحبسه ظلما فوقع عليه حائط أو قتله سبع أو لسعته حيّة أو عقرب فمات كان عليه ضمانه، و به قال أبو حنيفة. و قال الشافعي: لا ضمان عليه.

دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم، و أيضا طريقة الاحتياط تقتضيه. و أما إذا مات حتف أنفه فلا ضمان عليه بلا خلاف.» «1»

أقول: الظاهر أن مراده بأخبار الفرقة الأخبار الدالة على الضمان في أشباه المقام مما كان الموت فيها مستندا إلى فعل السبب عرفا. و مراده بحتف الأنف ما كان الموت فيه مستندا إلى بلوغ أجله الطبيعي.

و لعلّ ذكر الصبي كان من جهة وضوح استناد موته إلى هذه الأمور التي ذكرها، إذ الكبير يدافع عن نفسه غالبا و لو بالصياح و الاستمداد، و إلّا فلو لم يتمكن هو من الدفاع لأجل حبسه و تفريط الحابس فالظاهر هو الضمان فيه أيضا.

و كذلك لا فرق بين الحبس ظلما أو عن حقّ، إذ الحقّ هو الحبس لا جعله في معرض السبع أو الحيّة أو الحائط المشرف على الوقوع، فتأمّل.

2- و قال في كتاب الجراح من

المبسوط:

«إذا أخذ حرّا فحبسه فمات في حبسه فإن كان يراعيه بالطعام و الشراب فمات في الحبس فلا ضمان بوجه، صغيرا كان أو كبيرا. و قال بعضهم: إن كان كبيرا مثل هذا، و إن كان صغيرا فإن مات حتف أنفه فلا ضمان، و إن مات بسبب مثل أن لدغته حيّة أو عقرب أو قتله سبع أو وقع عليه حائط أو سقف فقتله فعليه الضمان. و هذا الذي يقتضيه مذهبنا و أخبارنا.

فأمّا إن منعه الطعام أو الشراب أو هما، أو طيّن عليه البيت فمات، فإن مات في

______________________________

(1)- الخلاف 3/ 94.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 472

مدّة يموت فيها غالبا فعليه القود، و إن كان لا يموت فيها غالبا فلا قود و فيه الدية.

و هذا يختلف باختلاف حال الإنسان و الزمان: فإن كان جائعا أو عطشانا و الزمان شديد الحرّ، مات في الزمان القليل. و إن كان شبعانا أو ريّانا و الزمان معتدل أو شديد البرد، لم يمت في الزمان الطويل، فيعتبر هذا فيه، فإن كان في مدّة يموت مثله فيها فعليه القود، و إن كان لا يموت غالبا فيها فعليه الدية.» «1»

3- و في كتاب الجنايات من قواعد العلّامة في بيان أنحاء القتل:

«لو حبسه و منعه الطعام و الشراب مدّة لا يحتمل في مثله البقاء فيها فمات، أو أعقبه مرضا مات به، أو ضعف قوة حتّى تلف بسببه فهو عمد. و يختلف ذلك باختلاف الناس و قواهم، و اختلاف الأحوال و الأزمان. فالريّان في البرد يصبر ما لا يصبر العطشان في الحرّ، و بارد المزاج يصبر على الجوع أكثر من حارّه. و لو حبس الجائع حتى مات جوعا فإن علم جوعه

لزمه القصاص، كما لو ضرب مريضا ضربا يقتل المريض دون الصحيح، و إن جهله ففي القصاص إشكال. فإن نفيناه ففي إيجاب كل الدية أو نصفها إحالة للهلاك على الجوعين إشكال.» «2»

4- و في كتاب أحكام السجون نقلا عن مبسوط السرخسي:

«لو حبسه في البيت فطبق عليه الباب حتى مات فعند الصاحبين- أي أبي يوسف و محمد بن الحسن- أنه يضمن ديته، لأنه تسبّب في إتلافه على وجه متعدّ فيه، فيكون بمنزلة حافر البئر في الطريق.» «3»

5- و فيه أيضا عن أبي اسحاق الشيرازي في المهذّب:

«و إن حبس رجلا و منع عنه الطعام و الشراب مدّة لا يبقى فيها من غير طعام و لا شراب فمات، وجب عليه القصاص.» «4»

إلى غير ذلك من كلمات فقهاء الفريقين. و العمدة صحة استناد الموت إليه

______________________________

(1)- المبسوط 7/ 18.

(2)- القواعد 2/ 278.

(3)- أحكام السجون/ 118.

(4)- أحكام السجون/ 119؛ عن المهذّب 2/ 176.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 473

عرفا و لو بالتسبيب إذا كان أقوى من المباشرة. و لا ينحصر الحكم في الطعام و الشراب بل يعمّ الدواء و سائر ما يتوقف عليه إدامة الحياة بالنسبة إلى هذا الشخص و لو مثل وسائل التهوية و التدفئة و نحوهما، فتدبّر.

الرابع: على الإمام أن يراعي الشؤون الدينية للسجناء:

1- فعن الصدوق بإسناده، عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه «ع» أنّه قال: «على الإمام أن يخرج المحبّسين في الدين يوم الجمعة إلى الجمعة، و يوم العيد إلى العيد.

فيرسل معهم، فإذا قضوا الصلاة و العيد ردّهم إلى السجن.» «1»

و سند الصدوق إلى عبد اللّه بن سنان صحيح، فالرواية صحيحة.

و عن الشيخ بسنده، عن عبد الرحمن بن سيّابة، عن أبي عبد اللّه «ع» مثله «2».

و

سنده إلى ابن سيّابة صحيح، و الظاهر كون ابن سيّابة موثوقا به و إن رماه صاحب المدارك بالجهالة.

2- و عن الجعفريّات بسنده، عن جعفر بن محمد، عن أبيه «ع»: «أنّ عليّا «ع» كان يخرج أهل السجون من الحبس في دين أو تهمة إلى الجمعة، فيشهدونها، و يضمنهم الأولياء حتى يردّونهم.» «3»

و الظّاهر أنه لا خصوصيّة للدين و التهمة، بل الظاهر عموم الحكم لكل مسجون مسلم. نعم، ربّما يظهر من هاتين الروايتين أن الحبس في تلك الأعصار لم يكن غالبا إلّا في الديون أو التهم، و لم يكن الأمر مثل ما في أعصارنا بحيث يحكم بالحبس

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 221، الباب 32 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2.

(2)- الوسائل 5/ 36، الباب 21 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 1.

(3)- مستدرك الوسائل 1/ 410، الباب 17 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 1؛ و 3/ 207، الباب 24 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 474

لكل كبيرة و صغيرة بل لكل أمر تافه موهوم أيضا، بل لم يعهد في عصر أمير المؤمنين «ع» و ما قبله وجود السجون السياسيّة الرائجة في عصرنا، حيث إن الناس كانوا أحرارا في عرض آرائهم السياسيّة ما لم يترتب عليها البغي و الطغيان و القتل و الإغارة. هذا.

3- و عن الجعفريات بسنده، عن جعفر بن محمد، عن أبيه «ع»: «أن عليّا «ع» كان يخرج الفسّاق إلى الجمعة، و كان يأمر بالتضييق عليهم.» «1»

و لعل الظاهر منه الإخراج من السجن. و إن أبيت ذلك فعمومه يشمل المسجونين.

4- و في كتاب «أحكام السجون» نقلا عن الأستاذ توفيق الفكيكي في بحثه في تاريخ السجن الإصلاحي:

«قد جاءت الأخبار

و دلّت الآثار التي يجدها القارئ في كتب التاريخ و الآداب و السير و في مدوّنات الفقه الإسلامي بأنّ العبادات الشرعية و الآداب التهذيبية و التعاليم القرآنية و القراءة و الكتابة كانت مرعيّة و محتمة في النافع و المخيّس. «2»

و كان أمير المؤمنين «ع» يؤدّب المسجونين المكلّفين بالنفعات- العصيّ- على تركهم الشعائر الدينية، و يعزّر المهمل منهم أو المتهاون بأدائها. كما كان يلحظ بروح الإنصاف أحوال معيشتهم و إدارتهم و شئونهم الأخرى ملاحظة دقيقة، و يشملهم برعايته و يرأف بحالهم.» «3»

الجهة الحادية عشرة: في ذكر ما عثرت عليه من موارد السجن في أخبار الشيعة و السنة:

اشارة

______________________________

(1)- مستدرك الوسائل 1/ 410، الباب 17 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 2.

(2)- سجنان بناهما أمير المؤمنين «ع» كما مرّ.

(3)- أحكام السجون/ 124.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 475

[ضابطة ذكرها الشهيد الأوّل و كتاب «الفقه الإسلامي و أدلّته» لذلك]

و قبل التعرض لها نذكر ضابطة ذكرها الشهيد الأوّل لذلك في كتابه المسمّى بالقواعد و الفوائد، و ضابطة حكاها في كتاب «الفقه الإسلامي و أدلّته» عن بعض علماء السنة:

قال الشهيد في القواعد:

«ضابط الحبس: توقف استخراج الحق عليه. و يثبت في مواضع:

[1]- الجاني إذا كان المجنى عليه غائبا أو وليّه، حفظا لمحل القصاص.

[2]- و الممتنع من أداء الحق مع قدرته عليه.

[3]- و المشكل أمره في العسر و اليسر إذا كانت الدعوى مالا، أو علم له أصل مال و لم يثبت إعساره، فيحبس ليعلم أحد الأمرين.

[4]- و السارق بعد قطع يده و رجله مرّتين، أو سرق و لا يد له و لا رجل.

[5]- من امتنع من التصرف الواجب عليه الذي لا يدخله النيابة كتعيين المختارة و المطلقة، و تعيين المقرّ به من العينين أو الأعيان، و قدر المقرّ به عينا أو ذمّة، و تعيين المقرّ له.

[6]- و المتهم بالدم، ستة أيام.

فإن قلت: القواعد تقتضي أنّ العقوبة بقدر الجناية، و من امتنع عن أداء درهم حبس حتى يؤدّيه، فربّما طال الحبس، و هذه عقوبة عظيمة في مقابلة جناية حقيرة.

قلت: لمّا استمر امتناعه قوبل كل ساعة من ساعات الامتناع بساعة من ساعات الحبس، فهي جنايات متكرّرة و عقوبات متكرّرة.» «1»

انتهى كلام الشهيد «ره».

أقول: كأنّ الشهيد «قده» لم يكن يرى للسجن التعزيري و لا السجون السياسية الرائجة في جميع الأعصار اعتبارا شرعيا، و لذا لم يتعرض لهما. كما أنّه لم يذكر من

______________________________

(1)- القواعد و الفوائد

2/ 192؛ و نضد القواعد/ 499.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 476

موارد الإخلاد في السجن الواردة في الروايات إلّا موردا واحدا و هو السارق بعد قطع يده و رجله، مع أنّ موارد الإخلاد أكثر كما سيظهر.

و في الفقه الإسلامي و أدلّته، عن القرافي المالكي في كتاب الفروق:

«و يشرع الحبس في ثمانية مواضع:

الأوّل: يحبس الجاني لغيبة المجني عليه، حفظا لمحل القصاص.

الثاني: حبس الآبق سنة، حفظا للمالية رجاء أن يعرف صاحبه.

الثالث: يحبس الممتنع عن دفع الحقّ، إلجاء إليه.

الرابع: يحبس من أشكل أمره في العسر و اليسر، اختبارا لحاله، فإذا ظهر حاله حكم بموجبه عسرا أو يسرا.

الخامس: الحبس للجاني، تعزيرا و ردعا عن معاصي اللّه- تعالى-.

السادس: يحبس من امتنع من التصرف الواجب الذي لا تدخله النيابة، كحبس من أسلم متزوجا بأختين أو عشر نسوة، أو امرأة و ابنتها، و امتنع من تعيين واحدة.

السابع: من أقرّ بمجهول، عينا أو في الذمّة، و امتنع من تعيينه، فيحبس حتى يعيّنهما، فيقول: العين هو هذا الثوب أو هذه الدابّة و نحوهما، أو الشي ء الذي أقررت به هو دينار في ذمّتي.

الثامن: يحبس الممتنع في حقّ اللّه- تعالى- الذي لا تدخله النيابة عند الشافعية كالصوم. و عند المالكية، يقتل كالصلاة.

قال القرافي: و ما عدا هذه الثمانية لا يجوز الحبس فيه، و لا يجوز الحبس في الحق إذا تمكن الحاكم من استيفائه. فإن امتنع المدين من دفع الدين، و عرف ماله، أخذنا منه مقدار الدين، و لا يجوز لنا حبسه. و كذلك إذا ظفرنا بماله أو داره أو شي ء يباع له في الدين رهنا كان أو غيره فعلنا ذلك و لا نحبسه، لأن في حبسه استمرار ظلمه، و دوام المنكر

في الظلم.» «1»

أقول: كلام هذا القائل أيضا خال من ذكر السجون السياسية التي صارت

______________________________

(1)- الفقه الإسلامي و أدلّته 6/ 199.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 477

مشكلة اجتماعية في جميع البلاد، فتدبّر.

اذا عرفت هذا فنقول: الأخبار الواردة في الحبس على طائفتين:

الأولى: ما تعرضت لمطلق الحبس و السجن بنحو الإجمال أو لمدّة معينة.

و التانية: ما تعرضت لمن يخلد في السجن حتى يموت أو حتى يتوب.

فنذكر الطائفة الأولى أوّلا ثمّ نعقبها بالطائفة الثانية. و لا يخفى أنه ربما يرجع بعض العناوين إلى بعض و يدخل بعضها في بعض، و لكن المقصود التعرض لجميع الموارد المذكورة في الروايات. و ربما يجري في بعضها تنقيح المناط القطعي و إلغاء الخصوصية أو يصطاد من الجميع قاعدة كليّة عامّة، فلاحظ.

أمّا الطائفة الأولى:
فالأوّل منها- مورد التهمة:

1- فروى الكليني و الشيخ بأسانيد معتبرة، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «إن النبيّ «ص» كان يحبس في تهمة الدم ستة أيّام، فإن جاء أولياء المقتول بثبت، و إلّا خلّى سبيله.» «1»

أقول: الثبت بفتحتين: الحجة و الدليل. و التعبير بالماضي الاستمراري، أعني قوله: «كان يحبس» كاشف عن تعدّد الوقائع الصادرة عنه. و الموضوع في الحديث و إن كان خصوص الدم و لكن إثبات الشي ء لا يدلّ على نفي غيره، فلا يدل هذا الحديث على عدم جواز الحبس لغير الدم.

و ليلاحظ أن الدّم مع أهميته و اهتمام الإسلام بأمره لم يكن النبي «ص» يحبس بداعي كشفه إلّا ستّة أيام، ثمّ كان يخلّي سبيل المتّهم. و ظاهر عبارة الشهيد في

______________________________

(1)- الوسائل 19/ 121، الباب 12 من أبواب دعوى القتل، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 478

القواعد

كما مرّ أيضا تعيّن ستّة أيّام، و عدم جواز التعدي عنها. و ليس هذا إلّا لأنّ شخصيات الناس و أوقاتهم أيضا محترمة مهتم بها في الإسلام، فلا يجوز التعرض لها و تضييعها إلّا بقدر الضرورة، فتدبّر.

2- و في سنن أبي داود بسنده، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جدّه: «أنّ النبي «ص» حبس رجلا في تهمة.» «1»

3- و في سنن الترمذي بسنده، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جدّه: «أنّ النبي «ص» حبس رجلا في تهمة ثم خلّى عنه.» «2»

4- و في سنن البيهقي بسنده، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جدّه: «أنّ النبي «ص» حبس رجلا في تهمة ساعة من نهار ثمّ خلّى عنه.» «3»

و الظاهر أنّ الثلاثة رواية واحدة نقلت بوجوه مختلفة.

5- و في التراتيب الإدارية: «ذكر بعضهم أنّ رسول اللّه «ص» سجن في المدينة في تهمة. رواه عبد الرزاق و النسائي في مصنّفيهما من طريق بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جدّه. و ذكر أبو داود عنه في مصنّفه، قال: «حبس رسول اللّه «ص» ناسا من قومي في تهمة بدم.» ... و في غير المصنف، عن عبد الرزاق بهذا السند: أنّ النبي «ص» حبس رجلا في تهمة ساعة من نهار ثم خلّى عنه.» «4» هذا.

6- و في سنن البيهقي بسنده، عن أبي جعفر «ع»: أنّ عليّا «ع» قال: «إنّما الحبس حتى يتبين للإمام. فما حبس بعد ذلك فهو جور.» «5»

______________________________

(1)- سنن أبي داود 2/ 282، كتاب الأقضية، باب في الحبس في الدين و غيره

(2)- سنن الترمذي 2/ 435، أبواب الديات، الباب 19، الحديث 1438.

(3)- سنن البيهقي 6/ 53، كتاب التفليس، باب حبسه إذا اتّهم و تخليته ...

(4)- التراتيب الإدارية

1/ 296.

(5)- سنن البيهقي 6/ 53، كتاب التفليس، باب حبسه إذا اتّهم و تخليته ...

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 479

7- و في الوسائل بسنده، عن أبي بصير، عن أبي جعفر «ع» في قصة شابّ شكا عند أمير المؤمنين «ع» عن نفر خرجوا بأبيه في السفر، فرجعوا و لم يرجع أبوه و قالوا:

مات و ما ترك مالا، ففرّقهم أمير المؤمنين و سأل واحدا منهم، فادّعى موت الرجل و لم يقرّ بالقتل، فأمر «ع» أن يغطّى رأسه و ينطلق به إلى السجن، ثم دعا بآخر للسؤال ...» «1» و روى نحوه في البحار «2». و الحديث طويل.

8- و في البحار، عن المناقب في قصة غلام قتل مولاه، فأمر عمر بقتله، فادّعى الغلام أنّ مولاه أتاه في ذاته، قال: «إن عليّا «ع» قال لعمر: احبس هذا الغلام، فلا تحدث فيه حدثا حتّى تمرّ ثلاثة أيّام ...». «3»

فمورد الخبرين أيضا الاتهام، و وقع الحبس للكشف و التحقيق.

9- و في دعائم الإسلام، عن عليّ «ع» أنّه قال: «لا حبس في تهمة إلّا في دم، و الحبس بعد معرفة الحقّ ظلم.» «4» و رواه عنه في المستدرك «5».

10- و في المصنّف لعبد الرزاق بسنده، قال: «أقبل رجلان من بني غفار حتى نزلا منزلا بضجنان من مياه المدينة و عندها ناس من غطفان، عندهم ظهر لهم، فأصبح الغطفانيون قد أضلّوا قرينتين من إبلهم، فاتهموا الغفاريين، فأقبلوا بهما إلى النبي «ص» و ذكروا له أمرهم، فحبس أحد الغفاريين و قال للآخر: اذهب فالتمس، فلم يكن إلّا يسيرا حتّى جاء بهما ...» «6».

و ظاهر الخبر أيضا هو مورد التهمة و المورد هو المال، فيعارض خبر الدعائم اللّهم إلّا

أن يقال إنّ النبي «ص» كان عالما أو حصل له العلم، فلم يقع الحبس بمجرد الاتهام.

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 204- 205، الباب 20 من أبواب كيفيّة الحكم، الحديث 1.

(2)- بحار الأنوار 40/ 259 و ما بعدها، كتاب تاريخ أمير المؤمنين «ع»، الباب 97 (باب قضاياه ...)، الحديث 30.

(3)- بحار الأنوار 40/ 230، كتاب تاريخ أمير المؤمنين «ع»، الباب 97، الحديث 10.

(4)- دعائم الإسلام 2/ 539 كتاب آداب القضاة، الحديث 1916.

(5)- مستدرك الوسائل 3/ 262، الباب 10 من أبواب دعوى القتل، الحديث 1.

(6)- المصنّف 10/ 216، باب التهمة، الحديث 18892.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 480

11- و في كتاب الغارات، عن أمير المؤمنين «ع» أنّه قال: «إنّي لا آخذ على التهمة، و لا أعاقب على الظن و لا أقاتل إلّا من خالفني و ناصبني و أظهر لي العداوة ...» «1»

و رواه عنه ابن أبي الحديد و الطبري «2».

أقول: يمكن أن يقال: إن هذا حكاية عن سيرة نفسه، فلا يدل على عدم جواز الأخذ على التهمة.

12- و في الغارات أيضا في قصة خروج الخرّيت بن راشد من بني ناجية على أمير المؤمنين «ع» و اعتراض عبد اللّه بن قعين عليه بعدم استيثاقه، قال: «فقلت:

يا أمير المؤمنين فلم لا تأخذه الآن فتستوثق منه؟ فقال: «إنّا لو فعلنا هذا لكلّ من نتّهمه من الناس ملأنا السجون منهم. و لا أراني يسعني الوثوب على الناس و الحبس لهم و عقوبتهم حتى يظهروا لنا الخلاف.» «3» و رواه عنه ابن أبي الحديد «4».

أقول: يمكن أن يقال: إن ظاهر الخبر أن تركه «ع» لأخذ المتهمين كان لإشكال سياسي لا للإشكال الشرعي.

و فيه أن ظاهر قوله: «و لا أراني

يسعني الوثوب على الناس» هو عدم الوسعة شرعا، فتأمّل.

13- و في تاريخ الطبري: «قال أبو مخنف، عن مجاهد، عن المحلّ بن خليفة أنّ رجلا منهم من بني سدوس يقال له العيزار بن الأخنس كان يرى رأي الخوارج خرج إليهم، فاستقبل وراء المدائن عديّ بن حاتم و معه الأسود بن قيس و الأسود بن يزيد المراديّان، فقال له العيزار حين استقبله: أ سالم غانم أم ظالم آثم؟ فقال:

______________________________

(1)- الغارات 1/ 371.

(2)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3/ 148؛ و تاريخ الطبري 6/ 3443.

(3)- الغارات 1/ 335.

(4)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3/ 129. و فيه «بكلّ من يتّهم» بدل «لكلّ من نتّهمه»، و «لي» بدل «لنا».

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 481

عديّ: لا، بل سالم غانم. فقال له المراديّان: ما قلت هذا إلّا لشرّ في نفسك، و إنك لنعرفك يا عيزار برأي القوم، فلا تفارقنا حتى نذهب إلى أمير المؤمنين «ع» فنخبره خبرك، فلم يكن بأوشك أن جاء عليّ «ع» فأخبراه خبره و قالا: يا أمير المؤمنين إنه يرى رأي القوم قد عرفناه بذلك، فقال: ما يحلّ لنا دمه و لكنا نحبسه. فقال عديّ بن حاتم: يا أمير المؤمنين، ادفعه إليّ و أنا أضمن أن لا يأتيك من قبله مكروه، فدفعه اليه.» «1»

أقول: و لعلّ الخبر يدلّ على جواز السجن بالاتهامات السياسية، فتأمّل.

فهذه ما عثرنا عليه من الأخبار في المسألة.

إذا عرفت هذا فنقول: إن مقتضى الأصل الأوّلي عدم جواز التعرض للشخص بمجرد التهمة، فإنّه مخالف لحريّته و سلطته على نفسه، و لأصالة البراءة. فالجواز يحتاج إلى دليل متقن. و مورد معتبرة السكوني هو خصوص الدم، فلا تدل على الجواز

في غيره. و رواية بهز بن حكيم على فرض صدورها قضية في واقعة خاصّة، فلا إطلاق لها و لا نعرف موردها. و مقتضى خبر الدعائم عدم الجواز في غير تهمة الدم، و لكن لم تثبت حجيته. و خبر الغفاريين مورده المال. و الخبر الأخير مورده النشاط السياسي أو البغي، و لكن لم تثبت حجيتهما. و كيف كان، فيشكل الأمر في غير الدم.

و لكن يمكن أن يقال: إنّ حفظ نظام المسلمين و كيانهم، و كذا حفظ أموالهم و حقوقهم أمران مهمّان عند الشرع، و هما يتوقفان كثيرا على القبض على المتهمين و حبسهم بداعي الكشف و التحقيق إذا كانوا في معرض الفرار. فالقول بعدم الجواز لذلك يوجب ضياع الحقوق و الأموال و اختلال النظم، و لا سيما إذا غلب الفساد على الزمان و أهله.

فالظاهر هو الجواز إذا كان الأمر مهمّا معتنى به عرفا، بحيث يكون احتماله

______________________________

(1)- تاريخ الطبري 6/ 3384.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 482

أيضا منجزا عند العقلاء، و لكن مع رعاية الدقة و الاحتياط في مقام العمل و حفظ حيثيات الأشخاص مع الإمكان. نعم، لا يجوز التعرض و الحبس بمجرد الوهم و الاتهامات الموهومة و لا سيما في الأمور التافهة الجزئية، و على مثل هذه ينبغي أن يحمل بعض الأخبار المانعة.

و أمّا خبر الدعائم فمضافا إلى عدم ثبوت صدوره فالحصر فيه يمكن أن يكون إضافيا بالنسبة إلى هذا السنخ من الأمور أيضا، و نظير ذلك كثير في الروايات و المحاورات. فلعلّ الحبس بسبب الأمور التافهة الموهومة القابلة للإغماض كان رائجا في تلك الأعصار كما في أعصارنا أيضا فأريد نفيه.

و بالجملة، فالمقام من قبيل سائر موارد التزاحم التي يؤخذ

فيها بأهمّ الأمرين.

هذا.

و لكن بعد اللتيا و التي فإن القبض على المسلم و حبسه بمجرد الاتهام و الاحتمال في غير الدم لا يخلو من إشكال لشدّة اهتمام الشرع بحريم المسلم و حيثيته اللّهم إلّا إذا كان المورد في الأهمية في حدّ الدّم.

و كيف كان فهذا النحو من الحبس ليس بحد و لا تعزير. و قد مرّ في الجهة التاسعة من فصل التعزيرات بحث في هذا المجال، و ذكرنا هناك كلام المحقق في الشرائع و كلام صاحب الجواهر أيضا في هذه المسألة، فراجع قصاص الجواهر «1».

الثاني و الثالث و الرابع- الفسّاق من العلماء، و الجهال من الأطبّاء، و المفاليس من الأكرياء:

1- عن الفقيه و التهذيب، عن أحمد بن أبي عبد اللّه البرقي، عن أبيه، عن عليّ «ع»، قال: «يجب على الإمام أن يحبس الفسّاق من العلماء، و الجهّال من الأطبّاء، و المفاليس من الأكرياء.» «2»

______________________________

(1)- الجواهر 42/ 277 (طبعة أخرى بتصحيح آخر ص 260).

(2)- الوسائل 18/ 221، الباب 32 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 483

أقول: الأكرياء جمع الكريّ، و يستعمل بمعنى المكاري و المكتري معا. قيل:

و هم المقاولون الذين يخدعون الناس و لا يفون بالتزامهم.

و لا يخفى عدم الخصوصية للعناوين الثلاثة، بل المستفاد من الرواية بإلغاء الخصوصية أنّ كلّ من تصدى لعمل و شغل في المجتمع و لم يكن أهلا له، بحيث يتضرر بعمله و سيرته المجتمع، يجب ردعه و منعه عن ذلك و لو بحبسه.

و إن شئت قلت: أحد العناوين الثلاثة يرتبط بدين الناس، و الثاني بحياتهم و نفوسهم، و الثالث بأموالهم. فكل من يرتبط بالشئون الثلاثة لأبناء النوع، و لم يكن أهلا لما اتخذه من الحرف كان على الإمام حبسه و منعه. و لا محالة يكون الحبس

بعد عدم تأثير الوعظ و التعنيف و التخويف، فإن كان ممن يتأدّب بالحبس كان حبسه تعزيرا و تأديبا له، و إلّا كان لرفع شرّه و إضراره فقط، فلا يكون حدّا و لا تعزيرا، فتأمّل.

الخامس و السادس و السابع- الغاصب لمال الغير، و آكل مال اليتيم ظلما، و الخائن في الأمانة:

1- فروى الشيخ بسند صحيح، عن زرارة، عن أبي جعفر «ع»، قال: «كان عليّ «ع» لا يحبس في الدين إلّا ثلاثة: الغاصب، و من أكل مال اليتيم ظلما، و من اؤتمن على أمانة فذهب بها. و إن وجد له شيئا باعه، غائبا كان أو شاهدا.» «1»

قال الشيخ:

«هذا يحتمل وجهين: أحدهما أنّه ما كان يحبس على وجه العقوبة إلّا الثلاثة الذين ذكرهم، و الثاني ما كان يحبس حبسا طويلا إلّا الثلاثة الذين استثناهم، لان الحبس في الدين إنما يكون مقدار ما يبيّن حاله.» «2»

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 181، الباب 11 من أبواب كيفيّة الحكم، الحديث 2 و ذيله.

(2)- الوسائل 18/ 181، الباب 11 من أبواب كيفيّة الحكم، الحديث 2 و ذيله.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 484

2- خبر عبد الرحمن بن الحجاج- رفعه- أنّ أمير المؤمنين «ع» كان لا يرى الحبس إلّا في ثلاث: رجل أكل مال اليتيم، أو غصبه، أو رجل اؤتمن على أمانة فذهب بها.» «1»

أقول: يظهر من هاتين الروايتين أنّ للموارد الثلاثة خصوصية من بين جميع موارد الدين. و هو كذلك، كما لا يخفى.

و لعل الحصر في الخبرين إضافيّ في قبال بعض الأمور غير المهمّة التي كانوا يحبسون الناس لها و كان هو- عليه السلام- مخالفا لمزاحمة الناس فيها، و إلّا فموارد حبسه «ع» أكثر من هذا، كما سيأتي. أو لعلّ الحبس في الموارد الثلاثة يكون على وجه العقوبة دون غيرها، كما ذكره الشيخ.

الثامن و التاسع- المديون المماطل و المدعي للإفلاس:
اشارة

1- في صحيح البخاري: «و يذكر عن النبي «ص»: «ليّ الواجد يحلّ عقوبته و عرضه. قال سفيان: عرضه يقول: مطلتني، و عقوبته: الحبس.» «2»

2- و في سنن أبي داود بسنده، عن عمرو بن الشريد، عن

أبيه، عن رسول اللّه «ص»، قال: «ليّ الواجد يحلّ عرضه و عقوبته.» قال ابن المبارك: يحل عرضه: يغلظ له، و عقوبته: يحبس له «3»

3- و في سنن ابن ماجة بسنده، عن عمرو بن الشريد، عن أبيه، قال: قال رسول اللّه «ص»: «ليّ الواجد يحلّ عرضه و عقوبته.» قال عليّ الطنافسي: يعني عرضه:

شكايته، و عقوبته: سجنه «4».

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 578، الباب 5 من أبواب بقية الحدود، الحديث 1.

(2)- صحيح البخاري 2/ 58، كتاب في الاستقراض و أداء الديون ... باب لصاحب الحقّ مقال.

(3)- سنن أبي داود 2/ 282، كتاب الأقضية، باب في الحبس في الدين و غيره.

(4)- سنن ابن ماجة 2/ 811، كتاب الصدقات، الباب 18 (باب الحبس في الدين ...)، الحديث 2427.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 485

أقول: التفسير بالحبس و السجن ليس من النبي «ص» كما ترى، و لكن إطلاق العقوبة يشمل الحبس أيضا بلا إشكال.

قال في ملحقات العروة الوثقى:

«إذا كان المقرّ المحكوم عليه واجدا للمال ألزم به، و إن امتنع أجبر عليه، و إن ماطل و أصرّ على الامتناع جازت عقوبته بالتغليظ في القول و رفع الصوت عليه و الشتم بمثل قوله: يا ظالم، يا فاسق، بل بالحبس و الضرب حسب مراتب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر؛ الأهون فالأهون، لقوله «ص»: «ليّ الواجد يحلّ عقوبته و عرضه.» «1»

4- و في دعائم الإسلام، عن جعفر بن محمد «ع» أنّه قال: «من امتنع من دفع الحقّ و كان موسرا حاضرا عنده ما وجب عليه، فامتنع من أدائه و أبى خصمه إلّا أن يدفع إليه حقّه، فإنّه يضرب حتى يقضيه. و إن كان الذي عليه لا يحضره إلّا في عروض

فإنّه يعطيه كفيلا أو يحبس له إن لم يجد الكفيل إلى مقدار ما يبيع و يقضي.» «2» و رواه عنه في المستدرك «3».

5- و روى الكليني و الشيخ بسند موثوق به، عن عمار، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «كان أمير المؤمنين «ع» يحبس الرجل إذا التوى على غرمائه ثمّ يأمر فيقسّم ماله بينهم بالحصص، فإن أبى باعه فيقسّم، يعني ماله.» «4»

6- و عن الشيخ بسنده، عن الأصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنين «ع»: «أنّه قضى أن يحجر على الغلام حتى يعقل. و قضى في الدين أنّه يحبس صاحبه، فإن تبيّن إفلاسه و الحاجة فيخلّي سبيله حتّى يستفيد مالا. و قضى في الرجل يلتوي على غرمائه أنّه يحبس ثمّ يؤمر به فيقسم

______________________________

(1)- ملحقات العروة 3/ 50، كتاب القضاء الفصل 3، المسألة 5.

(2)- دعائم الإسلام 2/ 540، كتاب آداب القضاة، الحديث 1923.

(3)- مستدرك الوسائل 3/ 199، الباب 9 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

(4)- الكافي 5/ 102، (الفروع، ط. القديم 1/ 356) كتاب المعيشة، باب إذا التوى الذي عليه الدين على غرمائه، الحديث 1، و الوسائل 13/ 147، الباب 6 من كتاب الحجر، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 486

ماله بين غرمائه بالحصص، فإن أبى باعه فقسّمه بينهم.» «1»

7- و عن الشيخ أيضا بسنده، عن غياث بن إبراهيم، عن جعفر، عن أبيه «ع»: «أنّ عليّا «ع» كان يحبس في الدين، فإن تبيّن له إفلاس و حاجة خلّى سبيله حتّى يستفيد مالا.» «2»

8- و عن الشيخ أيضا بسنده، عن السكوني، عن جعفر، عن أبيه «ع»: «أن عليّا «ع» كان يحبس في الدين ثمّ ينظر، فإن كان له مال أعطى الغرماء،

و إن لم يكن له مال دفعه إلى الغرماء فيقول لهم: اصنعوا به ما شئتم: إن شئتم آجروه، و إن شئتم استعملوه.» «3»

9- و في المستدرك، عن كتاب الغارات- في قصة مصقلة بن هبيرة الشيباني بعد ما اشترى أسارى بني ناجية و أعتقهم و لم يدفع بعض أثمانهم ثمّ فرّ و لحق بمعاوية- قال: فبلغ ذلك عليّا «ع» فقال: «ما له؟! ترّحه اللّه، فعل فعل السيّد و فرّ فرار العبد و خان خيانة الفاجر. أمّا إنّه لو أقام فعجز ما زدنا على حبسه، فإن وجدنا له شيئا اخذناه، و إن لم نقدر له على مال تركناه، ثمّ سار إلى داره فهدمها.» «4»

أقول: الترح ضد الفرح. و في المستدرك: «طرحه اللّه».

10- و في الغارات قال: «كان عليّ «ع» ولّى المنذر بن الجارود فارسا فاحتاز مالا من الخراج؛ قال: كان المال أربعمائة ألف درهم، فحبسه عليّ «ع» فشفع فيه صعصعة بن صوحان إلى عليّ «ع» و قام بأمره و خلّصه.» «5»

11- و فيه أيضا: «كان يزيد بن حجيّة قد استعمله عليّ «ع» على الريّ

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 180، الباب 11 من أبواب كيفية الحكم و أحكام الدعوى، الحديث 1.

(2)- الوسائل 13/ 148، الباب 7 من كتاب الحجر، الحديث 1.

(3)- الوسائل 13/ 148، الباب 7 من كتاب الحجر، الحديث 3.

(4)- مستدرك الوسائل 3/ 207، الباب 24 من أبواب كيفيّة الحكم، الحديث 6؛ عن الغارات 1/ 365- 366.

(5)- الغارات 2/ 522.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 487

و دستبي، فكسر الخراج و احتجن المال لنفسه فحبسه عليّ «ع».» «1»

و لعل المتتبع يعثر على موارد أكثر من هذا القبيل. و يمكن إدراجها في ما مرّ من

حبس الخائن في الأمانة، فإنّ بيت المال أمانة في يد العامل. هذا.

12- و في دعائم الإسلام، عن عليّ «ع» أنّه قال: «لا حبس على معسر؛ قال اللّه- عزّ و جلّ-: وَ إِنْ كٰانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلىٰ مَيْسَرَةٍ «2». فالمعسر إذا أثبت عدمه لم يكن عليه حبس.» «3» و رواه عنه في المستدرك «4».

أقول: هنا

مسألتان ينبغي الإشارة اليهما
اشارة

، و التفصيل موكول إلى كتب الفقه الموسوعة:

الأولى:

قال في الخلاف (المسألة 10 من كتاب التفليس):

«يجوز للحاكم أن يبيع مال المفلّس و يقسمه بين الغرماء، و به قال الشافعي.

و قال أبو حنيفة: ليس له بيعه و إنما يجبره على بيعه، فإن باعه و إلّا حبسه إلى أن يبيعه و لا يتولاه بنفسه من غير اختياره.

دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم، و قد أوردناها فيما مضى، و أيضا روى كعب بن مالك أنّ النبي «ص» حجر على معاذ و باع ماله في دينه، و هذا يقتضي أنه باعه بغير اختياره.» «5»

______________________________

(1)- الغارات 2/ 525.

(2)- سورة البقرة (2)، الآية 280.

(3)- دعائم الإسلام 2/ 71، كتاب البيوع، الفصل 17، الحديث 197.

(4)- مستدرك الوسائل 2/ 496، الباب 6 من كتاب الحجر، الحديث 2. و فيه: «على مفلس» بدل «على معسر».

(5)- الخلاف 2/ 115.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 488

أقول: المذكور في بعض ما مرّ من الروايات أن أمير المؤمنين «ع» كان يأمر أن يقسم ماله بينهم، فإن أبى باعه فيقسم. و ظاهر هذا تصدّي نفس المديون للبيع، فإن أبى باعه الإمام. و هو الأحوط اللهم إلّا أن لا يرضى به الغرماء و لا يعتمدوا عليه، فيحجره الحاكم عن التصرف مطلقا حتى عن البيع لأداء الدين.

المسألة الثانية:

قال في الخلاف (المسألة 15 من التفليس):

«إذا أفلس من عليه الدين و كان ما في يده لا يفي بقضاء ديونه فإنه لا يؤاجر ليكتسب و يدفع إلى الغرماء، و به قال أبو حنيفة و الشافعي و مالك و أكثر الفقهاء. و قال أحمد و إسحاق و عمر بن عبد العزير و عبيد اللّه بن الحسن العنبري و سوار بن عبد اللّه القاضي إنّه يؤاجر و يؤخذ أجرته فتقسم

بين غرمائه.

دليلنا أن الأصل براءة الذمة، و لا دليل على وجوب إجارته و تكسبه، و أيضا قوله- تعالى-: و إن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، و لم يأمر بالكسب.» «1»

أقول: لا مجال لأصل البراءة، إذ أداء الدين واجب مع الإمكان. و لو توقف العمل بهذا الواجب على قبول المديون للاستيجار و الاستعمال و كان الشخص ممن يعتاد هذا و لا يشقّ عليه فالقواعد تقتضي وجوب القبول، و هذا احد طرق استفادة المال. و لعلّ قوله: «فيخلى سبيله حتى يستفيد مالا» لا يراد به إلّا تخليته من السجن، فلا ينافي جواز استيجاره و استعماله. و القدرة على تحصيل المال بالعمل المناسب لشأنه بلا مشقة عرفيّة تعدّ ميسرة عرفا، و لذا تحرم عليه الزكاة، فلا ينافي استيجاره و استعماله لمفاد الآية الشريفة.

و مقتضى معتبرة السكوني جواز استيجار الغرماء و استعمالهم إيّاه، فلا يصحّ

______________________________

(1)- الخلاف 2/ 116.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 489

ما ذكره الشيخ من عدم الدليل.

و في الوسائل بعد ذكر رواية السكوني قال:

«يمكن أن يحمل هذا على من يعتاد إجارة نفسه و العمل بيده، لما تقدّم هنا و في الدين و غيره من وجوب إنظار المعسر. ذكره بعض علمائنا.» «1»

و ظاهر كلامه هو التفصيل بين من يعتاد العمل و لا يشقّ عليه، و بين غيره.

و في الدروس:

«و يجب التكسب لقضاء الدين على الأقوى بما يليق بالمديون و لو كان إجارة نفسه، و عليه تحمل الرواية عن عليّ «ع».» «2»

و في متن اللمعة:

«و عن عليّ «ع»: «إن شئتم فآجروه، و إن شئتم استعملوه.» و هو يدل على وجوب التكسب. و اختاره ابن حمزة و العلامة، و منعه الشيخ و ابن

إدريس. و الأوّل أقرب.»

و ذيّل هذا في شرحها بقوله:

«لوجوب قضاء الدين على القادر مع المطالبة، و المتكسب قادر، و لهذا يحرم عليه الزكاة، و حينئذ فهو خارج من الآية. و إنّما يجب عليه التكسب فيما يليق بحاله عادة و لو بمؤاجرة نفسه، و عليه تحمل الرواية.» «3»

و كيف كان فالأقوى في المسألة هو التفصيل. و قد تعرض للمسألة في الجواهر عند قول المحقق: «و لا يجوز إلزامه و لا مؤاجرته»، فراجع «4».

و تعرض لها و لرواياتها البيهقي في سننه في بابين. و فيه عن أبي سعيد الخدري:

«أنّ النبي «ص» باع حرّا أفلس في دينه.» و في رواية أخرى عن شيخ يقال له سرق أنّ

______________________________

(1)- الوسائل 13/ 148، الباب 7 من كتاب الحجر، ذيل الحديث 3.

(2)- الدروس/ 373.

(3)- اللمعة و شرحها (الروضة) 4/ 40- 41 (طبعة أخرى 1/ 404)، كتاب الدين.

(4)- الجواهر 25/ 324- 325.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 490

رسول اللّه «ص» سماه بهذا الاسم و قال: «قدمت المدينة فأخبرتهم أنّ مالي يقدم، فبايعوني، فاستهلكت أموالهم، فأتوا بي النبي «ص» فقال: أنت سرق، فباعني بأربعة أبعرة.» «1»

و لا يخفى أن الروايتين على فرض صحتهما موافقتان لما تضمنته رواية السكوني، إذ المراد بالبيع فيهما هو استيجار الشخص، فتدبّر.

العاشر- من ترك الإنفاق على زوجته بلا إعسار:

1- في المستدرك، عن الجعفريات بسنده، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ «ع»: «إنّ امرأة استعدت عليّا «ع» على زوجها، فأمر عليّ «ع» بحبسه- و ذلك الزوج لا ينفق عليها إضرار بها- فقال الزوج احبسها معي. فقال عليّ «ع»: لك ذلك، انطلقي معه.» «2»

2- و في الجعفريات بهذا السند، عن عليّ «ع»، قال: «يجبر الرجل على النفقة

على امرأته، فإن لم يفعل حبس.» «3»

3- و في الوسائل بسنده، عن السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن عليّ «ع»:

«إنّ امرأة استعدت على زوجها أنّه لا ينفق عليها و كان زوجها معسرا، فأبى أن يحبسه و قال: إنّ مع العسر يسرا.» «4»

4- و في الجعفريات بالسند الذي مرّ، عن عليّ «ع»: «إنّ امرأة استعدت على زوجها و كان زوجها معسرا، فأبى أن يحبسه أول مرّة و قال: إنّ مع العسر يسرا.» «5»

______________________________

(1)- سنن البيهقي 6/ 49- 50، كتاب التفليس، باب لا يؤاجر الحرّ في دين عليه ...، و باب ما جاء في بيع الحرّ المفلس في دينه.

(2)- مستدرك الوسائل 2/ 497، الباب 6 من كتاب الحجر، الحديث 3.

(3)- الجعفريات (المطبوع مع قرب الإسناد)/ 109.

(4)- الوسائل 13/ 148، الباب 7 من كتاب الحجر، الحديث 2.

(5)- الجعفريات (المطبوع مع قرب الإسناد)/ 109.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 491

5- و يأتي في خبر مسند زيد أيضا ذكر الحبس للنفقة «1».

الحادي عشر- الكفيل حتى يحضر المكفول أو ما عليه:

1- عن الكليني بسند موثوق به، عن عمار، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «اتي أمير المؤمنين «ع» برجل قد تكفل بنفس رجل، فحبسه و قال: اطلب صاحبك.» «2»

2- و عن الصدوق بسنده، عن الأصبغ بن نباتة، قال: «قضى أمير المؤمنين «ع» في رجل تكفل بنفس رجل أن يحبس، و قال له: اطلب صاحبك.» «3»

3- و عن الشيخ بسنده، عن إسحاق بن عمار، عن جعفر، عن أبيه: «أنّ عليّا «ع» اتي برجل كفل برجل بعينه، فأخذ بالمكفول فقال: احبسوه حتى يأتي بصاحبه.» «4»

أقول: قوله: «فأخذ بالمكفول»، يعني: أخذ الكفيل بسبب المكفول.

4- و عنه بسنده، عن عامر بن مروان، عن جعفر، عن أبيه، عن

عليّ «ع»:

«أنّه اتي برجل قد كفل بنفس رجل، فحبسه فقال: اطلب صاحبك.» «5»

5- و في المستدرك، عن فقه الرضا: «روي: إذا كفل الرجل حبس إلى أن يأتي صاحبه.» «6»

6- و في مسند زيد: زيد بن عليّ، عن أبيه، عن جده، عن عليّ «ع»: «أنّ رجلا كفل لرجل بنفس رجل، فحبسه حتى جاء به.» «7»

______________________________

(1)- راجع ص 493 من الكتاب.

(2)- الوسائل 13/ 156، الباب 9 من كتاب الضمان، الحديث 1.

(3)- الوسائل 13/ 156، الباب 9 من كتاب الضمان، الحديث 2.

(4)- الوسائل 13/ 156، الباب 9 من كتاب الضمان، الحديث 3.

(5)- الوسائل 13/ 156، الباب 9 من كتاب الضمان، الحديث 4.

(6)- مستدرك الوسائل 2/ 498، الباب 7 من كتاب الضمان، الحديث 1؛ عن فقه الرضا/ 256.

(7)- مسند زيد/ 257، باب الحوالة و الكفالة و الضمانة.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 492

7- و في دعائم الإسلام، عن أبي جعفر «ع» أنّه قال: «إذا تحمل الرجل بوجه الرجل إلى أجل فجاء الأجل من قبل أن يأتي به و طلب الحمالة حبس، إلّا أن يؤدي عنه ما وجب عليه، إن كان الذي يطلب به معلوما، و له أن يرجع به عليه، و إن كان الذي قد طلب به مجهولا، ما لا بدّ فيه من إحضار الوجه كان عليه إحضاره إلّا أن يموت، و إن مات فلا شي ء عليه.» «1»

و رواه عنه في المستدرك «2».

أقول: قال اللّه- تعالى- في قصة اخوة يوسف: «نَفْقِدُ صُوٰاعَ الْمَلِكِ، وَ لِمَنْ جٰاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ، وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ.» «3» فالزعيم و الكفيل و الحميل و القبيل و الضمين و الصبير كلها بمعنى واحد، كما في الدعائم.

و الكفالة صحيحة عندنا

و عند أكثر فقهاء السنة. و خالف فيها بعضهم، فراجع الخلاف (المسألة 16 من كتاب الضمان) «4». و الاستدلال في الأخبار التي ذكرناها بفعل عليّ «ع» يشعر بوجود الخلاف في تلك الأعصار.

و في الشرائع:

«و للمكفول له مطالبة الكفيل بالمكفول عنه ... و إن امتنع كان له حبسه حتى يحضره، أو يؤدي ما عليه.» «5» و قد حكى في الجواهر ذلك عن النهاية و غيرها أيضا.

و لكنك ترى أن التخيير بين الإحضار و الأداء ليس فيما تقدم من الأخبار إلّا في خبر الدعائم و لذا استشكل فيه في التذكرة و غيرها، إذ قد يكون للمكفول له غرض لا يتعلق بالأداء، أو لا يريده من غير المكفول عنه. فالمسألة غير خالية عن الإشكال، فراجع الجواهر «6».

______________________________

(1)- دعائم الإسلام 2/ 64، كتاب البيوع، الفصل 16، الحديث 179.

(2)- مستدرك الوسائل 2/ 498، الباب 7 من كتاب الضمان، الحديث 3 مع تفاوت.

(3)- سورة يوسف (12)، الآية 72.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 2، ص: 492

(4)- الخلاف 2/ 136.

(5)- الشرائع 2/ 115.

(6)- الجواهر 26/ 189.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 493

و يشبه الكفيل في المقام من خلص القاتل من أيدي أولياء المقتول. و به رواية نذكرها في عداد من يخلد في السجن، كما سيأتي «1».

الثاني عشر- من عليه حق من حقوق الناس أو حقوق اللّه غير ما ذكر فيحبس لاستيفائه:

1- في مسند زيد، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ «ع»: «أنّه كان يحبس في النفقة، و في الدين، و في القصاص، و في الحدود، و في جميع الحقوق. و كان يقيّد الدعّار بقيود لها أقفال،

و يؤكّل بهم من يحلّها لهم في أوقات الصلاة من أحد الجانبين.» «2»

أقول: الدعّار بالضمّ جمع داعر بالمهملات الثلاث: الخبيث و الفاسد، و بالذال المعجمة: الخبيث المعيوب، و بالغين المعجمة: المهاجم.

2- و في الوسائل عن قرب الإسناد بسنده، عن جعفر، عن أبيه: «أنّ علي بن أبي طالب «ع» لمّا قتله ابن ملجم قال: «احبسوا هذا الأسير و أطعموه و أحسنوا إساره، فإن عشت فأنا أولى بما صنع بي: إن شئت استقدت، و إن شئت عفوت، و إن شئت صالحت. و إن متّ فذلك إليكم، فإن بدا لكم أن تقتلوه فلا تمثّلوا به.» «3»

و روى نحوه البيهقي بسنده، عن جعفر بن محمد، عن أبيه «4».

3- و في مرفوعة أبي مريم، قال: اتي أمير المؤمنين «ع» بالنجاشي الشاعر قد شرب الخمر في شهر رمضان، «فضربه ثمانين، ثمّ حبسه ليلة، ثمّ دعا به من الغد فضربه عشرين.

فقال له: يا أمير المؤمنين هذا ضربتنى ثمانين في شرب الخمر، و هذه العشرون ما هي؟

قال: «هذا لتجرئك على شرب الخمر في شهر رمضان.» «5»

______________________________

(1)- راجع ص 531 من الكتاب.

(2)- مسند زيد/ 265، كتاب الشهادات، باب القضاء.

(3)- الوسائل 19/ 96، الباب 62 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 4.

(4)- سنن البيهقي 8/ 183، كتاب قتال أهل البغي، باب الرجل يقتل واحدا من المسلمين ...

(5)- الوسائل 18/ 474، الباب 9 من أبواب حدّ المسكر، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 494

4- و في دعائم الإسلام، عن عليّ «ع» «أنّه اتي بالنجاشي الشاعر و قد شرب الخمر في شهر رمضان، فجلده ثمانين جلدة، ثمّ حبسه، ثم أخرجه من غد فضربه تسعة و ثلاثين سوطا. فقال: ما هذه العلاوة

يا أمير المؤمنين؟ قال: لتجرئك على اللّه و إفطارك في شهر رمضان.» «1» و رواه عنه في المستدرك «2».

5- و في صحيحة محمد بن قيس، عن أبي جعفر «ع»، قال: «قضى أمير المؤمنين «ع» في وليدة كانت نصرانية، فأسلمت و ولدت لسيّدها، ثمّ إنّ سيّدها مات و أوصى بها عتاقة السريّة على عهد عمر، فنكحت نصرانيا ديرانيا و تنصّرت فولدت منه ولدين و حبلت بالثالث، فقضى فيها أن يعرض عليها الإسلام، فعرض عليها الإسلام فأبت، فقال: ما ولدت من ولد نصرانيا فهم عبيد لأخيهم الذي ولدت لسيدها الأول، و أنا أحبسها حتى تضع ولدها فإذا ولدت قتلتها.» «3»

قال في الوسائل:

«ذكر الشيخ: أنه مقصور على ما حكم به عليّ «ع» و لا يتعدى إلى غيرها، قال:

و لعلّها تزوّجت بمسلم ثمّ ارتدّت و تزوجت فاستحقت القتل لذلك» «4».

أقول: و لعلها صارت معاندة للإسلام و داعية ضدّه فصارت بذلك مفسدة مستحقة للقتل، و إلّا فالمرأة المرتدّة لا تقتل بالارتداد بل تحبس في السجن حتى تتوب أو تموت، كما سيأتي.

6- و في صحيحة أبي مريم، عن أبي جعفر «ع» قال: «أتت امرأة أمير المؤمنين «ع» فقالت: إني قد فجرت، فاعرض بوجهه عنها، فتحوّلت حتى استقبلت وجهه فقالت: إنّي قد فجرت، فأعرض عنها، ثمّ استقبلته فقالت: إنّي قد فجرت، فأعرض عنها، ثمّ استقبلته فقالت:

إنّي فجرت، فأمر بها فحبست و كانت حاملا، فتربص بها حتى وضعت ثم أمر بها بعد ذلك فحفر

______________________________

(1)- دعائم الإسلام 2/ 464، كتاب الحدود، الفصل 4، الحديث 1644.

(2)- مستدرك الوسائل 3/ 234، الباب 7 من أبواب حدّ المسكر، الحديث 1.

(3) الوسائل 18/ 550، الباب 4 من أبواب حدّ المرتدّ، الحديث 5 و ذيله.

(4) الوسائل 18/ 550،

الباب 4 من أبواب حدّ المرتدّ، الحديث 5 و ذيله.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 495

لها حفيرة في الرحبة ...» «1»

7- و في سنن البيهقي بسنده، عن الشعبي، قال: «جي ء بشراحة الهمدانية إلى عليّ «ع» فقال لها: ويلك لعلّ رجلا وقع عليك و أنت نائمة؟ قالت: لا. قال: لعلّك استكرهك؟ قالت: لا. قال: لعلّ زوجك من عدوّنا هذا أتاك فأنت تكرهين أن تدلى عليه؛ يلقّنها لعلها تقول: نعم. قال: فأمر بها فحبست، فلمّا وضعت ما في بطنها أخرجها يوم الخميس فضربها مأئة و حفر لها يوم الجمعة في الرحبة ...» «2»

الثالث عشر و الرابع عشر و الخامس عشر و السادس عشر- المختلس، و الطرّار، و النباش، و الداعر:

1- ففي الوسائل بسنده، عن السكوني، عن أبي عبد اللّه «ع»: «أنّ أمير المؤمنين «ع» اتي برجل اختلس درّة من أذن جارية فقال: هذه الدغارة المعلنة، فضربه و حبسه.» «3»

2- و في المستدرك، عن الجعفريات بسنده، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جدّه «ع»: «أنّ عليّا «ع» رفع إليه أنّ رجلا اختلس ظرفا (طوقا خ. ل) من ذهب من جارية، فقال عليّ «ع»: أدرأ عنه الدغارة المعلنة، فضربه و حبسه، و قال: لا قطع على المختلس.» «4»

3- و فيه أيضا، عن الجعفريات بهذا الإسناد، عن عليّ «ع» أنّه قال: «أربعة لا قطع عليهم: المختلس؛ فإنما هي الدغارة المعلنة، عليه ضرب و حبس ...» «5»

4- و في دعائم الإسلام، عن عليّ «ع»: أنه قال في المختلس: «لا يقطع، و لكنه

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 380، الباب 16 من أبواب حدّ الزّنا، الحديث 5.

(2)- سنن البيهقي 8/ 220، كتاب الحدود، باب من اعتبر حضور الإمام و الشهود ...

(3)- الوسائل 18/ 503، الباب 12 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 4.

(4)- مستدرك الوسائل

3/ 237، الباب 12 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 1.

(5)- مستدرك الوسائل 3/ 237، الباب 12 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 496

يضرب و يسجن.» «1» و رواه عنه في المستدرك «2».

5- و فيه أيضا، عن جعفر بن محمد «ع»: «أنّه لا يقطع الطرّار؛ و هو الذي يقطع النفقة من كمّ الرجل أو ثوبه، و لا المختلس؛ و هو الذي يختطف الشي ء. و لكن يضربان ضربا شديدا و يحبسان.» «3» و رواه عنه في المستدرك «4».

6- و فيه أيضا: و قال جعفر بن محمد «ع»: «لا تقطع يد النبّاش إلّا ان يؤخذ و قد نبش مرارا، و يعاقب في كل مرّة عقوبة موجعة و ينكل و يحبس.» «5» و رواه عنه في المستدرك «6».

7- و في خراج أبي يوسف بسنده، قال: «كان عليّ بن أبي طالب إذا كان في القبيلة أو القوم الرجل الداعر حبسه، فإن كان له مال أنفق عليه من ماله، و إن لم يكن له مال أنفق عليه من بيت مال المسلمين و قال: يحبس عنهم شرّه و ينفق عليه من بيت مالهم.» «7»

أقول: طرّ الشي ء: قطعه، و طرّ الثوب: شقّه. و قد مرّ معنى الداعر باحتمالاته.

و لا يخفى أن عدم القطع في المختلس واضح، إذ يشترط في القطع أن يكون المال محرزا في حرز و يؤخذ منه سرّا، و يدل عليه أيضا أخبار كثيرة من الفريقين، فراجع الوسائل «8» و البيهقي «9».

______________________________

(1)- دعائم الإسلام 2/ 472، كتاب السرّاق، الفصل 2، الحديث 1686.

(2)- مستدرك الوسائل 3/ 237، الباب 12 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 3.

(3)- دعائم الإسلام 2/ 473، كتاب السرّاق، الفصل

2، الحديث 1690.

(4)- مستدرك الوسائل 3/ 237، الباب 13 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 2.

(5)- دعائم الإسلام 2/ 476، كتاب السرّاق، الفصل 2، الحديث 1707.

(6)- مستدرك الوسائل 3/ 238، الباب 18 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 2.

(7)- الخراج/ 150.

(8)- الوسائل 18/ 502- 504، الباب 12 من أبواب حدّ السّرقة.

(9)- سنن البيهقي 8/ 279، كتاب السّرقة، باب لا قطع على المختلس ...

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 497

و أما الطرّار و النبّاش: فالروايات فيهما مختلفة يدل بعضها على القطع و بعضها على العدم، فراجع الوسائل «1» و البيهقي «2».

و في الشرائع:

«و لا يقطع من سرق من جيب إنسان أو كمّه الظاهرين، و يقطع لو كانا باطنين.» «3»

و عقّب ذلك في الجواهر بقوله:

«على المشهور بين الأصحاب، بل في كشف اللثام: أنّهم قاطعون بالتفصيل المزبور، كما عن غيره نفي الخلاف فيه، بل عن الشيخ و ابن زهرة الإجماع عليه.

و لعلّه لصدق الحرز عرفا، مضافا إلى قويّ السكوني ... و خبر مسمع أبي سيّار ...

و بهما بعد انجبارهما و اعتضادهما بما سمعت يقيد إطلاق القطع و عدمه في غيرهما من النصوص.» «4»

أقول: و قويّ السكوني يراد به ما رواه الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «اتي أمير المؤمنين «ع» بطرّار قد طرّ دراهم من كمّ رجل، قال: إن كان طرّ من قميصه الأعلى لم أقطعه، و إن كان طرّ من قميصه السافل (الداخل) قطعته.» و نحوه خبر مسمع «5».

و أمّا النبّاش: فقال المحقق في الشرائع:

«و يقطع سارق الكفن، لان القبر حرز له.» «6»

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 504- 505 و 510- 514، الباب 13 و

19 من أبواب حدّ السرقة.

(2)- سنن البيهقي 8/ 269، كتاب السّرقة، باب الطرّار و باب النبّاش ...

(3)- الشرائع 4/ 175.

(4)- الجواهر 41/ 504- 505.

(5)- الوسائل 18/ 504- 505، الباب 13 من أبواب حدّ السّرقة، الحديث 2.

(6)- الشرائع 4/ 176.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 498

و ذيّله في الجواهر بقوله:

«إجماعا في صريح المحكى عن الإيضاح و الكنز و التنقيح و ظاهر الديلمي. و ما عن المقنع و الفقيه من عدم القطع على النبّاش إلّا أن يؤخذ و قد نبش مرارا، مع شذوذه يمكن حمله كمستنده على النبّاش غير السارق، لا على أنّ القبر غير حرزكما استظهره منه في المسالك تبعا لغاية المراد. و على تقديره فهو محجوج بما عرفت و بالعرف و ظاهر النصوص.» «1»

و اما علماء السنة فالمسألة عندهم على قولين كما في الخلاف (المسألة 28 من كتاب السرقة)، قال فيه:

«النبّاش يقطع إذا أخرج الكفن من القبر إلى وجه الأرض، و به قال ابن الزبير و عائشة و عمر بن عبد العزيز و الحسن البصري و إبراهيم النخعي، و إليه ذهب حماد بن أبي سليمان و ربيعة و مالك و الشافعي و عثمان البتّي و أبو يوسف و أحمد و إسحاق.

و قال الأوزاعي و الثوري و أبو حنيفة و محمّد: لا يقطع النبّاش، لأنّ القبر ليس بحرز، لأنه لو كان حرزا لشي ء لكان حرزا لمثله كالخزائن الوثيقة.

دليلنا قوله- تعالى-: وَ السّٰارِقُ وَ السّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا «2». و هذا سارق ...» «3»

أقول: يمكن أن تحمل روايات عدم القطع على التقيّة، أو على النبش بلا سرقة؛ نظير من نقب بيتا و لم يأخذ منه شيئا، أو على سرقة ما دون النصاب، أو

على سرقة غير الكفن مما ربما كانوا يدفنونه مع الميت حيث إن القبر ليس حرزا لغير الكفن عرفا، فتأمّل.

و محل البحث التفصيلي في هذه المسائل كتاب الحدود من الفقه، و إنما تعرضنا له إجمالا استطرادا بمناسبة مسألة السجن.

______________________________

(1)- الجواهر 41/ 515.

(2)- سورة المائدة (5)، الآية 38.

(3)- الخلاف 3/ 200.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 499

السابع عشر- أمين السوق إذا خان:

ففي دعائم الإسلام، عن عليّ «ع»: أنّه استدرك على ابن هرمة خيانة- و كان على سوق الأهواز- فكتب إلى رفاعة: «إذا قرأت كتابي فنحّ ابن هرمة عن السوق، و أوقفه و اسجنه و ناد عليه ...» «1» و قد مرّ بطوله في الجهة السادسة عند البحث في العقوبات التكميلية للحبس، فراجع. و رواه في المستدرك أيضا «2».

الثامن عشر- من يلقّن المجرم بما يضرّ مسلما:

و يدل عليه قوله في هذا الخبر من الدعائم: «فإن صحّ عندك أنّ أحدا لقّنه ما يضرّ به مسلما فاضربه بالدرّة فاحبسه حتى يتوب.»

التاسع عشر- شاهد الزور:

ففي خبر غياث بن إبراهيم، عن جعفر، عن أبيه «ع» أنّ عليّا «ع» كان إذا أخذ شاهد زور فإن كان غريبا بعث به إلى حيّه، و إن كان سوقيّا بعث به إلى سوقه فطيف به، ثمّ يحبسه أيّاما ثمّ يخلّى سبيله.» «3» هذا.

و في سنن البيهقي بسنده، عن عبد اللّه بن عامر، قال:

«اتي عمر بشاهد زور فوقفه للناس يوما إلى الليل يقول: هذا فلان، يشهد بزور فاعرفوه، ثمّ حبسه.» «4»

و فيه أيضا بسنده، عن مكحول:

______________________________

(1)- دعائم الإسلام 2/ 532؛ راجع ص 452 من الكتاب.

(2)- مستدرك الوسائل 3/ 207، الباب 24 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 5.

(3)- الوسائل 18/ 244، الباب 15 من كتاب الشهادات، الحديث 3.

(4)- سنن البيهقي 10/ 141، كتاب آداب القاضي، باب ما يفعل بشاهد الزور.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 500

«أنّ عمر بن الخطاب كتب إلى عمّاله في كور الشام في شاهد الزور أن يجلد أربعين، و يحلق رأسه، و يسخّم وجهه «1»، و يطاف به، و يطال حبسه.» قال البيهقي: سند الرواية ضعيف «2».

العشرون- من وثب على امرأة فحلق رأسها:

1- ففي خبر عبد اللّه بن سنان، قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع»: جعلت فداك ما على رجل وثب على امرأة فحلق رأسها؟ قال: يضرب ضربا وجيعا، و يحبس في سجن المسلمين حتى يستبرأ شعرها، فإن نبت أخذ منه مهر نسائها، و إن لم ينبت أخذ منه الدية كاملة.

قلت: فكيف صار مهر نسائها إن نبت شعرها؟ فقال: يا ابن سنان، إنّ شعر المرأة و عذرتها شريكان في الجمال، فإذا ذهب بأحدهما وجب لها المهر كملا.» رواه المشايخ الثلاثة «3».

و أفتى بمضمونه الأصحاب؛ ففي الشرائع:

«أمّا شعر المرأة ففيه ديتها. و لو نبت ففيه

مهرها.» «4»

و في الجواهر:

«بلا خلاف أجده فيه إلّا من الإسكافي في الثاني خاصة فجعل فيه ثلث الدية.» «5»

و في الجواهر أيضا:

«و لو زاد مهر نسائها على مهر السنة أخذته، لإطلاق النص و الفتوى. نعم، لو زاد على ديتها لم يكن لها إلّا الدية، للإجماع كما في كشف اللثام على أنّه لا يزيد دية عضو من إنسان على دية نفسه.» «6»

______________________________

(1)- سخّم وجهه: سوّده.

(2)- سنن البيهقي 10/ 142، كتاب آداب القاضي، باب ما يفعل بشاهد الزور.

(3)- الوسائل 19/ 255، الباب 30 من أبواب ديات الأعضاء، الحديث 1.

(4)- الشرائع 4/ 261.

(5)- الجواهر 42/ 174 (كتاب الديات).

(6)- الجواهر 42/ 175 (كتاب الديات).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 501

2- و لكن روى في الدعائم، عن جعفر بن محمد «ع»: «و إن كانت امرأة فحلق رجل رأسها حبس في السجن حتى ينبت، و يخرج بين ذلك ثم يضرب فيردّ إلى السجن، فإذا نبت أخذ منه مثل مهر نسائها إلّا أن يكون أكثر من مهر السنّة، فإن كان أكثر من مهر السنّة ردّ إلى السنّة.» «1» و رواه عنه في المستدرك «2».

و لكن الاعتماد على ما يختصّ به هذا الكتاب مشكل. هذا.

و المذكور في الروايتين و إن كان هو الرجل و لكن الظاهر مساواة المرأة له، فلو حلقت امرأة رأس امرأة كان حكمها حكم الرجل. و لو حلق الزوج رأس زوجته فهل الحكم فيه ذلك؟ لا يبعد ذلك و إن كان لا يخلو من خفاء.

الحادي و العشرون- الأمّ إذا كانت تزني:

1- ففي صحيحة عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «جاء رجل إلى رسول اللّه «ص» فقال: إنّ أمّي لا تدفع يد لا مس؟ فقال «ص»: فاحبسها. قال:

قد فعلت. قال:

فامنع من يدخل عليها. قال: قد فعلت. قال: قيّدها، فإنّك لا تبرّها بشي ء أفضل من أن تمنعها من محارم اللّه- عزّ و جلّ-.» «3»

أقول: عموم التعليل في الصحيحة يفيدنا جواز الحبس و التقييد بالنسبة إلى كل من لا يتمكن من منعه من محارم اللّه- تعالى- إلّا بذلك.

الثاني و العشرون- السكارى المتباعجون بالسكاكين:

1- فعن الشيخ بإسناده، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد اللّه «ع»:

«قال: كان قوم يشربون فيسكرون فيتباعجون «4» بسكاكين كانت معهم، فرفعوا إلى أمير المؤمنين «ع»

______________________________

(1)- دعائم الإسلام 2/ 430، كتاب الديات، الفصل 8، الحديث 1489.

(2)- مستدرك الوسائل 3/ 280، الباب 28 من أبواب ديات الأعضاء، الحديث 3.

(3)- الوسائل 18/ 414، الباب 48 من أبواب حدّ الزّنا، الحديث 1.

(4)- بعج بطنه بالسكين: شقّه.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 502

فسجنهم فمات منهم رجلان و بقي رجلان. فقال أهل المقتولين: يا أمير المؤمنين، أقدهما بصاحبينا.

فقال «ع» للقوم: ما ترون؟ فقالوا: نرى أن تقيدهما. فقال عليّ «ع» للقوم: فلعلّ ذينك الّذين ماتا قتل كل واحد منهما صاحبه. قالوا: لا ندري. فقال عليّ «ع»: بل أجعل دية المقتولين على قبائل الأربعة، و آخذ دية جراحة الباقيين من دية المقتولين.» «1»

و رواه الصدوق أيضا عن السكوني. و السند لا بأس به. و روى المفيد في المقنعة و الإرشاد أيضا نحوه «2».

و روى في المستدرك أيضا عن الجعفريات نحوه «3».

2- و في دعائم الإسلام، عن عليّ «ع»: «أنّه قضى في أربعة نفر شربوا الخمر فتباعجوا بالسكاكين، فأتي بهم فحبسهم، فمات منهم رجلان و بقي رجلان، فقال أهل المقتولين:

أقدنا من هذين- و لم يكن أحد منهم أقرّ، و لم تقم عليهم بينة- فقال عليّ «ع»: فلعلّ

الّذين ماتا قتل كل واحد منهما صاحبه. قالوا: لا ندري. فقضى بدية المقتولين على الأربعة، و أخذ جراحة الباقيين من دية المقتولين.» «4» و رواه عنه في المستدرك «5».

أقول: مفاد خبر الدعائم استقرار دية المقتولين على الأربعة، و ظاهر خبر السكوني كونها على عاقلة الأربعة.

و روى الكليني و الشيخ في هذه المسألة بسند صحيح، عن محمد بن قيس، عن أبي جعفر «ع»، قال: «قضى أمير المؤمنين «ع» في أربعة شربوا مسكرا فأخذ بعضهم على بعض السلاح فاقتتلوا فقتل اثنان و جرح اثنان، فأمر المجروحين فضرب كل واحد منهما ثمانين جلدة، و قضى بدية المقتولين على المجروحين و أمر أن تقاس جراحة المجروحين فترفع من الدية، فإن مات المجروحان فليس على أحد من أولياء المقتولين شي ء.» «6»

______________________________

(1)- الوسائل 19/ 173، الباب 1 من أبواب موجبات الضمان، الحديث 2.

(2)- الوسائل 19/ 173، الباب 1 من أبواب موجبات الضمان، الحديث 2.

(3)- مستدرك الوسائل 3/ 268، الباب 1 من أبواب موجبات الضمان من كتاب الديات، الحديث 1.

(4)- دعائم الإسلام 2/ 423، كتاب الديات، الفصل 5، الحديث 1475.

(5)- مستدرك الوسائل 3/ 268، الباب 1 من أبواب موجبات الضمان، الحديث 2.

(6)- الوسائل 19/ 172، الباب 1 من أبواب موجبات الضمان، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 503

و مفاده كون دية المقتولين على المجروحين، فاختلف مفاد الروايات الثلاث في حكم دية المقتولين.

و في الشرائع بعد التعرض لمفاد صحيحة محمد بن قيس و خبر السكوني قال:

«و من المحتمل أن يكون عليّ «ع» قد اطلع في هذه الواقعة على ما يوجب هذا الحكم.» «1»

أقول: و لم يتعرض هو لرفع التعارض بين الصحيحة و الخبر، مع أنّ الظاهر حكايتهما

عن واقعة واحدة.

و في المسالك بعد المناقشة في سند الصحيحة باشتراك محمد بن قيس بين الثقة و الضعيف قال:

«إنّ الاجتماع المذكور و الاقتتال لا يستلزم كون القاتل هو المجروح و بالعكس، فينبغي أن يخص حكمها بواقعتها. نعم، يمكن الحكم بكون ذلك لوثا يثبت القتل بالقسامة من عمد أو خطأ و قتل و جرح.

و أورد عليها شيخنا الشهيد في الشرح بأنه إذا حكم بأن المجروحين قاتلان فلم لم يستقدمنهما؟ و بأن الحكم بأخذ دية الجرح و إهدار الدّية لو ماتا أشكل أيضا، و كذا في الحكم بوجوب الدية في جراحتهما لأن موجب العمد القصاص.

و جوابه أن القتل وقع منهما حال السكر، فلا يكون عمدا بل يوجب الدية خاصة، و فرض الجرح غير قاتل، كما هو ظاهر الرواية. و وجوب دية الجرح لوقوعه أيضا من السكران كالقتل أو لفوات محل القصاص.» «2»

أقول: ما ذكره من اشتراك محمد بن قيس يدفعه أن الظاهر أن الذي يروي عنه عاصم بن حميد هو محمد بن قيس البجلي الثقة الراوي لقضايا أمير المؤمنين «ع».

و في الجواهر بعد التعرض للصحيحة قال:

«لم يحك العمل به إلّا عن أبي علي و القاضي، خصوصا بعد معارضته بما في رواية السكوني ...

بل في كشف الرموز: إنّ هذا الخبر اقرب إلى الصواب لأن القاتل غير معين،

______________________________

(1)- الشرائع 4/ 253.

(2)- المسالك 2/ 494.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 504

و اشتراكهم في القتل أيضا مجهول لجواز أن يكون حصل القتل من أحدهم فرجع إلى الدية لأن لا يبطل دم امرء مسلم، و جعل على قبائل الأربعة لأن لكل منهم تأثيرا في القتل. و إن كان فيه أن تغريم العاقلة على خلاف الأصل، خصوصا بعد

الاتفاق ظاهرا على أن عمد السكران موجب للقصاص أو شبه عمد موجب للدية من ماله، و لا قائل بكونه خطأ محضا. على أنه إن علم أن لكل منهما أثرا في القتل كان لأولياء المقتولين قتل الباقيين، و إن لم يعلم فلم جعلت الدية على قبائلهم؟

و في كشف اللثام: إنه يمكن تنزيل الخبر على أن وليّ كلّ قتيل ادّعى على الباقين اشتراكهم، و قد حصل اللوث و لم يحلف هو و لا الباقيان و لا أولياء القتيلين.

و فيه نظر. فلا محيص عن مخالفة الخبر المزبور للقواعد.» «1» انتهى كلام الجواهر.

أقول: لعلّ وجه النظر هو أنّ اللوث و ترك الحلف لا يقتضيان استقرار الدية على العاقلة، بل اللازم استقرارها على المجروحين بعد الا دعاء عليهما و امتناعهما من الحلف. اللهم إلّا أن يقال: حيث إن دم المسلم لا يطلّ بلا إشكال، و الأربعة قد بلغوا في السكر حدّا زال عنهم العقل بالكلية و لو موقتا، فصار وزانهم وزان المجنون. و كما يوزّع الدينار المودع المردد بين الشخصين بينهما بالمناصفة رعاية للإنصاف الحاكم به العقلاء و الشرع أيضا كما في خبر السكوني عن الصادق «ع» «2» فكذلك الدية المرددة بين الأربعة تقسم عليهم أو على عاقلتهم، إذ وزان الغرم وزان الغنم عرفا و شرعا.

نعم، يقع الإشكال في كسر دية جراحة الباقيين من دية المقتولين، اللهم إلّا أن تحمل الجراحة على كونها ما دون الموضحة فلا تكون على العاقلة بل على نفس الجارح فتدفع من الدية المنتقلة إلى المقتول كسائر الديون، و لكن يرد على ذلك أنّ الدية للقتيلين و لعلّ الجرح لم يقع من قبلهما بل من قبل المجروحين أو أحدهما أو من

______________________________

(1)- الجواهر 42/ 91 (كتاب

الديات).

(2)- الوسائل 13/ 171، الباب 12 من كتاب الصلح، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 505

قبل الأربعة، فتأمّل.

و الذي يهوّن الخطب أنّ الصحيحة و معتبرة السكوني متعارضتان، و المحكي فيهما واقعة واحدة، و لم يحرز عمل المشهور بواحد منهما ليترجح، فتسقطان عن الحجية.

و الاعتبار العقلائي في أمثال المقام يقتضي التوزيع، كما مرّ. و إن أبيت كان اللازم أداء الدية من بيت المال، كما ورد في دية من مات في زحام الناس في جمعة أو عرفة أو على جسر، إذ لا يطلّ دم المسلم، فراجع الوسائل «1».

الثالث و العشرون- القاتل عمدا إذا لم يقتص منه:

1- ففي الوسائل بسنده، عن الفضيل بن يسار، قال: قلت لأبي جعفر «ع»:

عشرة قتلوا رجلا؟ قال: «إن شاء أولياؤه قتلوهم جميعا و غرموا تسع ديات، و إن شاءوا تخيروا رجلا فقتلوه و أدّى التسعة الباقون إلى أهل المقتول الأخير عشر الدّية كل رجل منهم.» قال: «ثمّ الوالي بعد يلي أدبهم و حبسهم.» «2»

أقول: روى الحديث المشايخ الثلاثة، و السند موثوق به.

2- و فيه أيضا بسنده، عن أبي بصير، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن رجل قتل رجلا متعمدا ثمّ هرب القاتل فلم يقدر عليه؟ قال: «إن كان له مال أخذت الدّية من ماله و إلّا فمن الأقرب فالأقرب، و إن لم يكن له قرابة أدّاه الإمام، فإنّه لا يبطل دم امرئ مسلم.» قال الكليني: و في رواية أخرى: «ثمّ للوالي بعد أدبه و حبسه.» «3»

أقول: و الظاهر أنّ المراد بالأدب الضرب. فمقتضى الحديثين أنّ القاتل عمدا إذا أدّى الدّية كان للوالي تعزيره و حبسه أيضا للحق العامّ الاجتماعي، اللّهم إلّا أن تقتضي المصلحة عفوه. هذا.

______________________________

(1)- راجع الوسائل 19/ 194، الباب 23 من

أبواب موجبات الضمان.

(2)- الوسائل 19/ 30، الباب 12 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 6.

(3)- الوسائل 19/ 303، الباب 4 من أبواب العاقلة، الحديث 1 و 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 506

و أمّا ما دلّ عليه خبر الفضيل من تخيير الأولياء في القصاص، فقال المحقق في الشرائع:

«إذا اشترك جماعة في قتل واحد قتلوا به. و الوليّ بالخيار بين قتل الجميع بعد أن يردّ عليهم ما فضل عن دية المقتول فيأخذ كل واحد منهم ما فضل من ديته عن جنايته، و بين قتل البعض، و يردّ الباقون دية جنايتهم.» «1»

و عقب ذلك في الجواهر بقوله:

«بلا خلاف أجده في شي ء من ذلك، بل الإجماع بقسميه عليه، مضافا إلى معلوميّة كون شرع القصاص لحقن الدماء، فلو لم يجب عند الاشتراك لاتخذ ذريعة إلى سفكها، و إلى صدق كون المجموع قاتلا فيندرج في قوله- تعالى-: «وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنٰا لِوَلِيِّهِ سُلْطٰاناً» إلّا أنّه منهيّ عن الإسراف في القتل. و لعلّ منه قتلهم أجمع من دون ردّ ما زاد على جنايتهم عليهم.» «2» هذا.

و يدلّ على الحكم مضافا إلى ما مرّ أخبار مستفيضة و فيها الصحيح و الموثّق أيضا. و قد أفتى بها أصحابنا الإمامية بلا خلاف، فراجع.

نعم، يظهر من بعض الأخبار عدم جواز أن يقتل بواحد أكثر من واحد: منها خبر أبي العباس و غيره، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «إذا اجتمع العدّة على قتل رجل واحد حكم الوالي أن يقتل أيّهم شاءوا، و ليس لهم أن يقتلوا أكثر من واحد، إن اللّه- عزّ و جلّ- يقول: «وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنٰا لِوَلِيِّهِ سُلْطٰاناً فَلٰا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ.» «3».

و

لكن يحمل ذلك على التنزّه أو التقيّة أو قتل الأكثر من دون ردّ الدّية كما هو الظاهر من فقهاء السّنّة.

و بالجملة، فإجماع أصحابنا على الأخذ بالأخبار الأوّلة فتطرح الأخيرة أو تحمل على ما ذكر. و أوّل المرجحات للأخبار المتعارضة هو الأخذ بما اشتهر.

و أمّا فقهاء السّنّة فالمشهور بينهم أيضا جواز قتل الأكثر بواحد، و لكن لبعضهم

______________________________

(1)- الشرائع 4/ 202.

(2)- الجواهر 42/ 66 (طبعة أخرى بتصحيح آخر ص 63). و الاية المذكورة من سورة الإسراء (17)، رقمها 33.

(3)- الوسائل 19/ 30، الباب 12 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 7.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 507

خلاف في المسألة:

قال في الخلاف (المسألة 14 من كتاب الجنايات) ما ملخصه:

«إذا قتل جماعة واحدا قتلوا به أجمعين، و به قال في الصحابة عليّ «ع» و عمر و المغيرة بن شعبة و ابن عباس، و في التابعين سعيد بن المسيّب و الحسن البصري و عطاء، و في الفقهاء مالك و الأوزاعي و الثوري و أبو حنيفة و أصحابه، و الشافعي و أحمد و إسحاق، إلّا أنّ عندنا أنّهم لا يقتلون بواحد إلّا إذا ردّ أولياؤه ما زاد على دية صاحبهم. و متى أراد أولياء المقتول قتل كلّ واحد منهم كان لهم ذلك و ردّ الباقون على أولياء هذا المقاد منه ما يزيد على حصة صاحبهم. و لم يعتبر ذلك أحد من الفقهاء.

و ذهبت طائفة إلى أن الجماعة لا تقتل بالواحد لكن وليّ المقتول يقتل منهم واحدا و يسقط من الدية بحصته و يأخذ من الباقين الباقي من الدّية على عدد الجناة، ذهب إليه في الصحابة عبد اللّه بن الزبير و معاذ، و في التابعين ابن

سيرين و الزهري. و ذهبت طائفة إلى أنّ الجماعة لا تقتل بالواحد و لا واحد منهم، ذهب إليه ربيعة و أهل الظاهر داود و أصحابه.

دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم ... و هو إجماع الصحابة، روي عن عليّ «ع» و عمر و ابن عباس و المغيرة، و روى سعيد بن المسيّب أنّ عمر بن الخطّاب قتل نفرا خمسا أو سبعا برجل قتلوه غيلة و قال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا، و روي عن عليّ «ع» أنّه قتل ثلاثة قتلوا واحدا، و عن المغيرة بن شعبة أنّه قتل سبعة بواحد، و عن ابن عباس: أنّه إذا قتل جماعة واحدا قتلوا به و لو كانوا مأئة.» «1»

أقول: و قد تعرض للمسألة ابن قدّامة الحنبلي في المغني، فراجعه «2» و راجع سنن البيهقي «3». هذا.

______________________________

(1)- الخلاف 3/ 92.

(2)- المغني 9/ 366.

(3)- سنن البيهقي 8/ 40- 41، كتاب الجنايات، باب النفر يقتلون الرجل.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 508

و في نهج البلاغة في ذكر أصحاب الجمل قال: «فو اللّه لو لم يصيبوا من المسلمين إلّا رجلا واحدا معتمدين لقتله بلا جرم جرّه لحلّ لي قتل ذلك الجيش كلّه، إذ حضروه فلم ينكروا و لم يدفعوا عنه بلسان و لا بيد.» «1» فتأمّل، إذ لعلّ القتل فيه كان للبغي لا للقصاص.

الرابع و العشرون- الأسراء:

1- ففي سنن البيهقي بسنده، عن أبي هريرة، قال: «بعث رسول اللّه «ص» خيلا نحو أرض نجد، فجاءت برجل يقال له ثمامة بن أثال الحنفي سيد أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج عليه رسول اللّه «ص» فقال:

ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي يا محمد خير؛ إن تقتلني تقتل ذا دم، و

إن تنعم تنعم على شاكر، و إن ترد المال فسل تعط منه ما شئت. فتركه رسول اللّه «ص» حتّى إذا كان من الغد. ثمّ قال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي ما قلت لك، فردها عليه. ثمّ أتاه اليوم الثالث فردّها عليه، فقال رسول اللّه «ص»: أطلقوا ثمامة. فخرج ثمامة إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل من الماء ثمّ دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلّا اللّه، و أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه. يا محمّد، و اللّه ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك و قد أصبح وجهك أحبّ الوجوه إليّ. و اللّه ما كان دين أبغض إليّ من دينك و قد أصبح دينك أحب الأديان إليّ ...» «2»

أقول: فانظر إلى تأثير عفو الرسول «ص» و إغماضه في روح هذا الرجل و فكره، و هكذا ينبغي أن يعمل الكرام لا أن يصرّوا في المجازاة و الانتقام.

2- و روى البيهقي أيضا بسنده، عن ابن عباس، قال: «لما أمسى رسول اللّه «ص» يوم بدر و الأسارى محبوسون بالوثائق بات رسول اللّه «ص» ساهرا أوّل اللّيل، فقال له أصحابه: يا رسول اللّه، مالك لا تنام؟- و قد أسر العبّاس رجل

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 556؛ عبده 2/ 104؛ لح/ 247، الخطبة 172.

(2)- سنن البيهقي 9/ 65، كتاب السير، باب ما يفعله بالرجال البالغين منهم.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 509

من الأنصار- فقال رسول اللّه «ص»: سمعت أنين عمّي العباس في وثاقه. فأطلقوه فسكت، فنام رسول اللّه «ص».» «1»

3- و في إرشاد المفيد في قصة أسارى بني قريظة، قال:

«و لما جي ء بالأسارى إلى المدينة حبسوا في دار من دور بني

النجّار.» «2»

4- و في سيرة ابن هشام:

«فجعلت بنت حاتم في حظيرة بباب المسجد كانت السبايا يحبسن فيها.» «3»

5- و قد مرّ عن التراتيب الإدارية في قصة بنت حاتم:

«فقدم بها في سبايا طي ء ... فجعلت بنت حاتم في حصيرة بباب المسجد. و كانت النساء تحتبسن فيها.» «4»

الخامس و العشرون- من عذّب عبده حتى مات:

1- خبر مسمع بن عبد الملك، عن أبي عبد اللّه «ع»: «أنّ أمير المؤمنين «ع» رفع إليه رجل عذّب عبده حتى مات، فضربه مأئة نكالا و حبسه سنة، و أغرمه قيمة العبد فتصدق بها عنه.» «5»

و روى نحوه في المستدرك، عن الجعفريات بسنده، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جدّه «6».

أقول: و يستفاد من الخبر جواز التعزير إلى مأئة، أعني الحد الكامل، و كذلك جواز التعزير بالمال، كما لا يخفى.

2- خبر أبي الفتح الجرجاني، عن أبي الحسن «ع» في رجل قتل مملوكه أو

______________________________

(1)- سنن البيهقي 9/ 89، كتاب السير، باب الأسير يوثق.

(2)- ارشاد المفيد/ 51 (طبعة أخرى/ 58).

(3)- سيرة ابن هشام 4/ 225.

(4)- التراتيب الإدارية 1/ 300.

(5)- الوسائل 19/ 68، الباب 37 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 5.

(6)- مستدرك الوسائل 3/ 257، الباب 34 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 510

مملوكته، قال: «إن كان المملوك له أدّب و حبس، إلّا أن يكون معروفا بقتل المماليك فيقتل به.» «1»

و قال المحقق في الشرائع:

«و لو قتل المولى عبده كفّر و عزّر و لم يقتل به. و قيل: يغرم قيمته و يتصدق بها، و في المستند ضعف. و في بعض الروايات: إن اعتاد ذلك قتل به.» «2»

السادس و العشرون- من أعتق نصيبه من مملوكه المشترك فيه فيحبس ليشتري البقيّة و يعتقها:

ففي سنن البيهقي بسنده، عن أبي مجلّز: «أنّ غلامين من جهينة كان بينهما غلام، فأعتق أحدهما نصيبه، فحبسه رسول اللّه «ص» حتى باع فيه غنيمة له.» «3»

أقول: حيث إنّ من خواصّ العتق السراية، فمن أعتق شقصا من مملوكه سرى العتق إلى كلّه، و لو كان له فيه شريك قوّم عليه نصيب الشريك مع يساره أو استسعى فيها

المملوك بنفسه فيعتق الجميع. و يدل على الحكم أخبار كثيرة، فراجع الوسائل «4».

قال في الشرائع:

«من أعتق شقصا من عبده سرى العتق فيه كلّه إذا كان المعتق صحيحا جائز التصرف. و إن كان له فيه شريك قوّم عليه إن كان موسرا و سعى العبد في فكّ ما بقي منه إن كان المعتق معسرا.» «5»

______________________________

(1)- الوسائل 19/ 69، الباب 38 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 1.

(2)- الشرائع 4/ 205.

(3)- سنن البيهقي 6/ 49، كتاب التفليس، باب الحجر على المفلس و بيع ماله في ديونه.

(4)- راجع الوسائل 16/ 25- 28، الباب 18 من كتاب العتق.

(5)- الشرائع 3/ 111.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 511

السابع و العشرون- القوّاد المحكوم بالنفي على ما روي:

ففي فقه الرضا:

«و إن قامت بيّنة على قوّاد جلد خمسة و سبعين، و نفي عن المصر الذي هو فيه.

و روي أن النفي هو الحبس سنة أو يتوب.» «1»

و رواه عنه في البحار «2»، و المستدرك «3».

قال في الشرائع:

«يجب على القواد خمس و سبعون جلدة ... و هل ينفى بأوّل مرّة؟ قال في النهاية:

نعم. و قال المفيد ينفى في الثانية. و الأوّل مرويّ.» «4»

الثامن و العشرون- المرتد المليّ يحبس ليتوب:

ففي الوسائل، عن عبد اللّه بن سنان، عن أبيه، عن أبي جعفر «ع»، قال: «إنّ عبد اللّه بن سبا كان يدّعي النبوّة، و كان يزعم أنّ أمير المؤمنين «ع» هو اللّه- تعالى عن ذلك- فبلغ أمير المؤمنين «ع» فدعاه فسأله فأقرّ و قال: نعم أنت هو، و قد كان ألقي في روعي أنّك أنت اللّه و أنا نبيّ، فقال له أمير المؤمنين «ع»: ويلك قد سخر منك الشيطان، فارجع عن هذا ثكلتك أمّك و تب، فأبى فحبسه و استتابه ثلاثة أيّام فلم يتب، فأخرجه فأحرقه بالنار ...» «5»

و ذكر الكشي عن بعض أهل العلم أنّ عبد اللّه بن سبأ كان يهوديّا فأسلم «6».

______________________________

(1)- فقه الرضا/ 310.

(2)- بحار الأنوار 76/ 116 (طبعة إيران 79/ 116)، كتاب النواهي، الباب 84 (باب الدياثة و القيادة)، الرقم 12.

(3)- مستدرك الوسائل 3/ 230، الباب 5 من أبواب السحق و القيادة، الحديث 1.

(4)- الشرائع 4/ 162.

(5)- الوسائل 18/ 554، الباب 6 من أبواب حدّ المرتدّ، الحديث 4.

(6)- اختيار معرفة الرجال/ 108.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 512

التاسع و العشرون- من قطع يده فيحبس للعلاج:

1- فروى الكليني بسنده، عن الحارث بن حضيرة، قال: مررت بحبشي و هو يستقي بالمدينة فإذا هو أقطع، فقلت له: من قطعك؟ قال: قطعني خير الناس: إنّا أخذنا في سرقة و نحن ثمانية نفر، فذهب بنا إلى عليّ بن أبي طالب «ع»، فأقررنا بالسرقة، فقال لنا: تعرفون أنّها حرام؟ فقلنا: نعم. فأمر بنا فقطعت أصابعنا من الراحة و خلّيت الإبهام، ثم أمر بنا فحبسنا في بيت يطعمنا فيه السمن و العسل حتى برئت أيدينا، ثم أمر بنا فأخرجنا و كسانا فأحسن كسوتنا، ثمّ قال لنا: إن تتوبوا و تصلحوا

فهو خير لكم يلحقكم اللّه بأيديكم في الجنة، و إلّا تفعلوا يلحقكم اللّه بأيديكم في النار.» «1»

2- و في دعائم الإسلام، عن عليّ «ع» أنّه أمر بقطع سرّاق، فلمّا قطعوا أمر بحسمهم فحسموا (أمر بحبسهم فحبسوا- المستدرك)، ثمّ قال: يا قنبر خذهم إليك فداو كلومهم و أحسن القيام عليهم فإذا برءوا فأعلمني، فلمّا برءوا أتاه فقال: يا أمير المؤمنين قد برئت جراحهم، فقال: اذهب فاكس كل واحد منهم ثوبين و أتني بهم، ففعل و أتاه بهم كأنهم قوم محرمون ...» «2» و رواه عنه في المستدرك «3».

أقول: يقال: حسم العرق: كوّاه لئلا يسيل دمه.

الطائفة الثانية من أخبار الحبس و السجن: ما تعرضت لمن يخلد في السجن، حتى يموت أو حتى يتوب:
اشارة

و موارده أيضا كثيرة. و سيأتي المراد من التخليد:

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 528، الباب 30 من أبواب حد السرقة، الحديث 1.

(2)- دعائم الإسلام 2/ 470، كتاب السرّاق، الفصل 1، الحديث 1678.

(3)- مستدرك الوسائل 3/ 239، الباب 28 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 513

الأوّل- من سرق ثالثة:

و الأخبار في هذا المورد في غاية الكثرة:

1- صحيحة محمد بن قيس، عن أبي جعفر «ع»، قال: «قضى أمير المؤمنين «ع» في السارق إذا سرق قطعت يمينه، و إذا سرق مرّة أخرى قطعت رجله اليسرى، ثمّ إذا سرق مرّة أخرى سجنه، و تركت رجله اليمنى يمشى عليها إلى الغائط، و يده اليسرى يأكل بها و يستنجي بها، فقال:

إنّي لأستحيي من اللّه أن أتركه لا ينتفع بشي ء، و لكني أسجنه حتى يموت في السجن. و قال: ما قطع رسول اللّه «ص» من سارق بعد يده و رجله.» «1»

2- خبر زرارة، عن أبي جعفر «ع»، قال: «كان عليّ «ع» لا يزيد على قطع اليد و الرجل، و يقول: إنّي لأستحيي من ربّي أن أدعه ليس له ما يستنجي به أو يتطهر به. قال: و سألته إن هو سرق بعد قطع اليد و الرجل؟ قال: استودعه السجن أبدا و أغنى (أكفى) عن الناس شرّه.» «2»

3- خبر القاسم، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: سألته عن رجل سرق، فقال:

سمعت أبي يقول: اتي عليّ «ع» في زمانه برجل قد سرق فقطع يده، ثمّ أتي به ثانية فقطع رجله من خلاف، ثمّ أتى به ثالثة فخلده في السجن و أنفق عليه من بيت مال المسلمين، و قال: هكذا صنع رسول اللّه «ص» لا أخالفه.» «3»

4- موثقة سماعة بن

مهران، قال: قال: إذا أخذ السارق قطعت يده من وسط الكفّ، فإن عاد قطعت رجله من وسط القدم، فإن عاد استودع السجن، فإن سرق في السجن قتل.» «4»

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 492، الباب 5 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 1.

(2)- الوسائل 18/ 492، الباب 5 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 2.

(3)- الوسائل 18/ 493، الباب 5 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 3.

(4)- الوسائل 18/ 493، الباب 5 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 4.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 514

5- صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّه «ع» في حديث في السرقة، قال: «تقطع اليد و الرجل ثمّ لا يقطع بعد، و لكن إن عاد حبس و أنفق عليه من بيت مال المسلمين.» «1»

6- صحيحة زرارة، عن أبي جعفر «ع» و عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه «ع»: «إنّ الأشلّ إذا سرق قطعت يمينه على كل حال، شلّاء كانت أو صحيحة. فإن عاد فسرق قطعت رجله اليسرى، فإن عاد خلد في السجن و أجرى عليه من بيت المال و كفّ عن الناس.» «2»

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة في هذا المجال، فراجع الوسائل «3»، و المستدرك «4».

و ما ذكر فيه منها الحبس أو السجن بنحو الإطلاق يحمل لا محالة على التّخليد فيه حملا للمطلق على المقيد.

و أفتى أصحابنا الإمامية بمضمون هذه الأخبار؛ ففي الشرائع:

«فإن سرق ثالثة حبس دائما» «5»

و عقبه في الجواهر بقوله:

«حتى يموت أو يتوب، و أنفق عليه من بيت المال إن لم يكن له مال، و لا يقطع شي ء منه، بلا خلاف أجده في شي ء من ذلك نصّا و فتوى، بل يمكن دعوى القطع به من النصوص.» «6»

أقول: و

في كثير من النصوص تصريح بعمل أمير المؤمنين «ع» و صنع رسول اللّه «ص»، و إشارة إلى وجود خلاف في المسألة. و هو كذلك، لاختلاف

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 494، الباب 5 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 7.

(2)- الوسائل 18/ 502، الباب 11 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 4.

(3)- راجع الوسائل 18/ 492- 496، الباب 5 من أبواب حدّ السرقة.

(4)- راجع مستدرك الوسائل 3/ 236، الباب 5 من أبواب حدّ السرقة.

(5)- الشرائع 4/ 176.

(6)- الجواهر 41/ 533.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 515

علماء السنة في ذلك:

قال في الخلاف (المسألة 30 من كتاب السرقة):

«إذا سرق السارق بعد قطع اليد اليمنى و الرجل اليسرى في الثالثة خلّد الحبس و لا قطع عليه، فإن سرق في الحبس من حرز وجب عليه القتل.

و قال الشافعي: تقطع يده اليسرى في الثالثة و رجله اليمنى في الرابعة، و به قال مالك و إسحاق.

و قال الثوري و أبو حنيفة و أصحابه و أحمد: لا يقطع في الثالثة، مثل ما قلناه غير أنّهم لم يقولوا بتخليد الحبس. دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم.» «1»

و في المحلّى لابن حزم:

«اختلف الناس فيما يقطع من السارق، فقالت طائفة: لا تقطع إلّا اليد الواحدة فقط، ثم لا يقطع منه شي ء. و قالت طائفة: لا يقطع منه إلّا اليد و الرجل من خلاف، ثمّ لا يقطع منه شي ء. و قالت طائفة: تقطع اليد ثمّ الرجل الأخرى.

و قالت طائفة: تقطع يده ثمّ رجله من خلاف ثمّ رجله الثانية.»

ثمّ تعرض لدليل كل من الأقوال، ثمّ قال:

«فإذ إنّما جاء القرآن و السنة بقطع يد السارق لا بقطع رجله فلا يجوز قطع رجله أصلا. و هذا ما لا

إشكال فيه، و الحمد للّه. فوجب من هذا إذا سرق الرجل أو المرأة أن يقطع من كل واحد منهما يدا واحدة، فإن سرق أحدهما ثانية قطعت يده الثانية بالنص من القرآن و السنة، فإن سرق في الثالثة عزّر و ثقف و منع الناس ضرّه حتى يصلح حاله.» «2»

و في المغني لابن قدّامة- بعد قول الخرقى:

«فإن عاد حبس، و لا يقطع غير يد و رجل.»- قال: «يعني إذا عاد فسرق بعد قطع يده و رجله لم يقطع منه شي ء آخر و حبس. و بهذا قال عليّ «ع» و الحسن

______________________________

(1)- الخلاف 3/ 201.

(2)- المحلّى 8/ 354 و 357، (الجزء 11): المسألة 2283.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 516

و الشعبي و النخعي و الزهري و حمّاد و الثوري و أصحاب الرأي.

و عن أحمد أنّه تقطع في الثالثة يده اليسرى، و في الرابعة رجله اليمنى، و في الخامسة يعزّر و يحبس.

و روي عن أبي بكر و عمر أنّهما قطعا يد أقطع اليد و الرجل، و هذا قول قتادة و مالك و الشافعي و أبي ثور و ابن المنذر.

و روي عن عثمان و عمرو بن العاص و عمر بن عبد العزيز أنّه تقطع يده اليسرى في الثالثة و الرجل اليمنى في الرابعة و يقتل في الخامسة، لأن جابرا قال: جي ء إلى النبي «ص» بسارق، فقال: اقتلوه. فقالوا: يا رسول اللّه إنّما سرق. فقال: اقطعوه.

قال فقطع. ثمّ جي ء به الثانية، فقال: اقتلوه. قالوا: يا رسول اللّه إنّما سرق. قال:

اقطعوه، فقطع. ثمّ جي ء به الثالثة، فقال: اقتلوه. فقالوا: يا رسول اللّه إنّما سرق.

قال: اقطعوه. قال ثمّ أتي به الرابعة، فقال: اقتلوه. قالوا: يا رسول اللّه إنّما

سرق.

قال: اقطعوه. ثم أتي به الخامسة، قال: اقتلوه. قال: فانطلقنا به فقتلناه ثم اجتررناه فألقيناه في بئر. رواه أبو داود.

و عن أبي هريرة: أن النبي «ص» قال في السارق: «و إن سرق فاقطعوا يده، ثمّ إن سرق فاقطعوا رجله، ثمّ إن سرق فاقطعوا يده، ثمّ إن سرق فاقطعوا رجله.»

و لأن اليسار تقطع قودا فجاز قطعها في السرقة كاليمنى، و لأنه فعل أبي بكر و عمر، و قد قال النبي «ص»: «اقتدوا باللّذين من بعدي أبي بكر و عمر.»

و لنا ما روى سعيد: حدثنا أبو معشر، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، قال: حضرت علي بن أبي طالب «ع» اتي برجل مقطوع اليد و الرجل قد سرق، فقال لأصحابه: ما ترون في هذا؟ قالوا: اقطعه يا أمير المؤمنين، قال: قتلته إذا و ما عليه القتل؛ بأيّ شي ء يأكل الطعام؟ بأيّ شي ء يتوضأ للصلاة؟ بأيّ شي ء يغتسل من جنابته؟ بأيّ شي ء يقوم على حاجته؟ فردّه إلى السجن أيّاما ثمّ أخرجه فاستشار أصحابه، فقالوا مثل قولهم الأوّل، و قال لهم مثل ما قال أوّل مرّة، فجلده جلدا شديدا ثمّ أرسله.»

و روي عنه أنّه قال: لأستحي من اللّه أن لا أدع له يدا يبطش بها، و لا رجلا يمشي عليها ...

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 517

و أمّا حديث جابر ففي حقّ شخص استحق القتل، بدليل أنّ النبي «ص» أمر به في أوّل مرّة و في كل مرّة، و فعل ذلك في الخامسة. و رواه النسائي و قال: حديث منكر.

و أما الحديث الآخر و فعل أبي بكر و عمر فقد عارضه قول عليّ «ع»، و قد روي عن عمر

أنّه رجع إلى قول عليّ «ع»: فروى سعيد: حدثنا أبو الأحوص، عن سماك بن حرب، عن عبد الرحمن بن عائذ، قال: اتي عمر برجل أقطع اليد و الرجل قد سرق، فأمر به عمر أن تقطع رجله، فقال عليّ «ع»: إنّما قال اللّه- تعالى-: «إِنَّمٰا جَزٰاءُ الَّذِينَ يُحٰارِبُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسٰاداً.» «1» الآية، و قد قطعت يد هذا و رجله، فلا ينبغي أن تقطع رجله فتدعه ليس له قائمة يمشي عليها؛ إمّا أن تعزّره و إمّا أن تستودعه السجن، فاستودعه السجن.» «2»

انتهى ما أردنا نقله من كتاب المغني بطوله.

أقول: خبر جابر رواه أبو داود في الحدود باب في السارق يسرق مرارا «3»، و النسائي في كتاب قطع السارق من سننه و قال: «هذا حديث منكر.» «4» و وجهه واضح، إذ كيف حكم رسول اللّه «ص» في جميع المراتب الأربع بالقتل، و كيف أضرب عما قاله بقول أصحابه؟! و هل الأمر اشتبه على رسول اللّه «ص» و نسي حكم القطع المنزل في الكتاب العزيز حتى ذكّره أصحابه؟!

و خبر عبد الرحمن بن عائذ رواه البيهقي «5» و روى البيهقي أيضا، عن عبد اللّه بن سلمة: «أنّ عليّا «ع» اتي بسارق فقطع يده، ثمّ أتي به فقطع رجله، ثم أتي به، فقال: أقطع يده، بأيّ شي ء يتمسّح، و بأيّ شي ء يأكل؟ ثم قال: أقطع رجله، على أيّ شي ء يمشي؟ إنّي لأستحيي

______________________________

(1)- سورة المائدة (5) الآية 33.

(2)- المغنى 10/ 271- 273.

(3)- سنن أبي داود 2/ 454.

(4)- سنن النسائي 8/ 90- 91، كتاب قطع السارق، باب قطع اليدين و الرجلين من السارق.

(5)- سنن البيهقي 8/ 274، كتاب السّرقة، باب السارق يعود فيسرق ...

دراسات في ولاية

الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 518

اللّه. قال: ثمّ ضربه و خلّده السجن.» «1»

فالحقّ في المسألة ما أفتى به أصحابنا الإماميّة.

ثمّ إنّ الظاهر أن المراد بتخليده في السجن عدم كون حبسه موقتا محدودا بزمان معين كالسنة مثلا، بل يبقى فيه حتى يظهر صلاحه و توبته فيطلق، فإن لم يتب بقي فيه دائما، و هو الظاهر من الجواهر أيضا كما مرّ.

و يشهد لذلك قوله «ع» في خبر زرارة السابق: «و أغنى عن الناس شرّه»، و في صحيحته السابقة: «و كفّ عن الناس.» إذ بعد التوبة لا شرّ له.

و احتمال تعيّن بقائه فيه تعبّدا و إن تاب و صلح بعيد جدّا، و إن كان ربّما يلوح هذا من أخبار الباب بل يمكن أن يستأنس له بأنه بدل القطع الذي هو حدّ إلهي يجب تنفيذه و إن تاب بعد رفع أمره إلى الإمام. نعم، للإمام العفو عنه إذا كان الثبوت بالإقرار على الأصح أو مطلقا على قول المفيد، كما مرّ.

الثاني من موارد التخليد في السجن- المرأة المرتدّة:

و الأخبار فيها مستفيضة:

1- صحيحة حريز، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «لا يخلد في السجن إلّا ثلاثة:

الذي يمسك على الموت، و المرأة ترتدّ عن الإسلام، و السارق بعد قطع اليد و الرجل.» «2»

و الحصر إضافي لا حقيقي، إذ موارد التخليد أكثر من ثلاثة، كما سيظهر. و لعلّه شاع في تلك الأعصار تخليد الناس في السجون بلا جهة مبررة، فكان قوله «ع» تلميحا إلى تخطئتهم.

2- خبر غياث بن إبراهيم، عن جعفر، عن أبيه، عن عليّ «ع»، قال: «إذا ارتدّت المرأة عن الإسلام لم تقتل و لكن تحبس أبدا.» «3»

______________________________

(1)- سنن البيهقي 8/ 275، كتاب السّرقة، باب السارق يعود فيسرق ...

(2)- الوسائل 18/ 550، الباب 4 من

أبواب حدّ المرتدّ، الحديث 3.

(3)- الوسائل 18/ 549، الباب 4 من أبواب حدّ المرتدّ، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 519

3- خبر عباد بن صهيب، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «المرتدّ يستتاب، فإن تاب و إلّا قتل. و المرأة تستتاب، فإن تابت و إلّا حبست في السجن و أضرّ بها.» «1»

4- خبر ابن محبوب، عن غير واحد من أصحابنا، عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه «ع» في المرتدّ يستتاب، فإن تاب و إلّا قتل، و المرأة إذا ارتدت عن الإسلام استتيبت، فإن تابت و إلّا خلدت في السجن و ضيق عليها في حبسها.» «2»

5- و في دعائم الإسلام، عن عليّ «ع» أنّه قال: «من خلّد في السجن رزق من بيت المال. و لا يخلّد في السجن إلّا ثلاثة: الذي يمسك على الموت، و المرأة ترتدّ إلّا أن تتوب، و السارق بعد قطع اليد و الرجل، يعني إذا سرق بعد ذلك في الثالثة.» «3» و رواه عنه في المستدرك «4».

6- و فيه أيضا، عن عليّ «ع» أنّه قال: «إذا ارتدّت المرأة فالحكم فيها أن تحبس حتى تسلم أو تموت، و لا تقتل.

و إن كانت أمة فاحتاج مواليها إلى خدمتها استخدموها و ضيّق عليها بأشدّ الضيق، و لم تلبس إلّا من خشن الثياب بمقدار ما يواري عورتها و يدفع عنها ما يخاف منه الموت من حرّ أو برد، و تطعم من خشن الطعام حسب ما يمسك رمقها ...» «5» و رواه عنه في المستدرك «6».

7- و فيه أيضا في حديث المرتدّ: «و إن كانت امرأة حبست حتى تموت أو تتوب.» «7»

و رواه عنه في المستدرك «8». هذا.

______________________________

(1)- الوسائل 18/

550، الباب 4 من أبواب حدّ المرتدّ، الحديث 4.

(2)- الوسائل 18/ 550، الباب 4 من أبواب حدّ المرتدّ، الحديث 6.

(3)- دعائم الإسلام 2/ 539، كتاب آداب القضاة، الحديث 1917.

(4)- مستدرك الوسائل 3/ 207، الباب 24 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 4.

(5)- دعائم الإسلام 2/ 480، كتاب الردّة و البدعة، الفصل 1، الحديث 1720.

(6)- مستدرك الوسائل 3/ 243، الباب 3 من أبواب حدّ المرتدّ، الحديث 1.

(7)- دعائم الإسلام 1/ 398، كتاب الجهاد، ذكر من يسع قتله من أهل القبلة.

(8)- مستدرك الوسائل 3/ 243، الباب 3 من أبواب حدّ المرتدّ، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 520

و في صحيحة حماد، عن أبي عبد اللّه «ع» في المرتدّة عن الإسلام قال: «لا تقتل، و تستخدم خدمة شديدة، و تمنع الطعام و الشراب إلّا ما يمسك نفسها، و تلبس خشن الثياب، و تضرب على الصلوات.»

و رواه الصدوق بإسناده، عن حماد، عن الحلبي مثله إلّا أنّه قال: «أخشن الثياب.» «1»

و بالجملة، فالمرتدة لا تقتل بحال، بل تحبس حتى تتوب أو تموت، و به أفتى أصحابنا الإماميّة؛ قال في الشرائع:

«و لا تقتل المرأة بالرّدّة، بل تحبس دائما و إن كانت مولودة على الفطرة، و تضرب أوقات الصلاة.» «2» و ذيّله في الجواهر بقوله: «إجماعا بقسميه، و نصوصا.» «3»

و أمّا فقهاء السنة فالمسألة مختلف فيها عندهم:

قال الشيخ في كتاب المرتدّ من الخلاف (المسألة 1):

«المرأة إذا ارتدّت لا تقتل، بل تحبس و تجبر على الإسلام حتى ترجع أو تموت في الحبس، و به قال أبو حنيفة و أصحابه، و قالوا: إن لحقت بدار الحرب سبيت و استرقّت.

و روي عن عليّ «ع» أنّها تسترقّ، و به قال

قتادة.

و قال الشافعي: إذا ارتدت المرأة قتلت مثل الرجل إن لم يرجع، و به قال أبو بكر، و روي عن عليّ «ع» أنّه قال: كل مرتدّ مقتول، ذكرا كان أو أنثى. و به قال في التابعين الحسن البصري و الزهري، و في الفقهاء مالك و الأوزاعي و الليث بن سعد و أحمد بن حنبل و إسحاق.

دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم، و روي عن النبي «ص» أنّه نهى عن قتل النساء

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 549، الباب 4 من أبواب حدّ المرتدّ، الحديث 1.

(2)- الشرائع 4/ 183.

(3)- الجواهر 41/ 611.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 521

و الولدان، و لم يفرّق، و روي عن النبي «ص» أنّه نهى عن قتل المرتدّة، و روي عن ابن عباس أنّه قال: المرتدّة تحبس و لا تقتل. و أيضا الأصل حقن الدماء، و لم يقم دليل على جواز قتلها. فعلى من ادّعى قتلها الدلالة.» «1»

و في المغني لابن قدّامة- بعد قول الخرقي:

«و من ارتدّ عن الإسلام من الرجال و النساء و كان بالغا عاقلا دعي إليه ثلاثة أيّام و ضيّق عليه، فإن رجع و إلّا قتل.»- قال ابن قدامة: «... لا فرق بين الرجال و النساء في وجوب القتل. روي ذلك عن أبي بكر و عليّ «ع»، و به قال الحسن و الزهري و النخعي و مكحول و حماد و مالك و الليث و الأوزاعي و الشافعي و إسحاق.

و روي عن عليّ و الحسن و قتادة أنّها تسترقّ و لا تقتل، لأن أبا بكر استرقّ نساء بني حنيفة و ذراريهم، و أعطى عليّا منهم امرأة فولدت له محمد بن الحنفيّة، و كان هذا بمحضر من الصحابة فلم

ينكر فكان إجماعا.

و قال أبو حنيفة: تجبر على الإسلام بالحبس و الضرب، و لا تقتل لقول النبي «ص»:

«لا تقتلوا امرأة.» و لأنها لا تقتل بالكفر الأصلي فلا تقتل بالطارئ كالصبيّ.

و لنا قوله «ع»: «من بدّل دينه فاقتلوه.» رواه البخاري و أبو داود.» «2» هذا.

و المستفاد مما مرّ عن الدعائم خلاصها من السجن إن تابت و أسلمت. و هو الأظهر الأقوى، إذ لا وجه لبقائها فيه بعد ما صلحت و طابت؛ و هو الظاهر من الخلاف أيضا. و في الجواهر:

«نعم، إن تابت عفي عنها، كما صرح به غير واحد.» «3»

و في التحرير:

«و لو تابت فالوجه قبول توبتها و سقوط ذلك عنها و إن كانت عن فطرة.» «4»

______________________________

(1)- الخلاف 3/ 170.

(2)- المغني 10/ 74.

(3)- الجواهر 41/ 612.

(4)- تحرير الأحكام 2/ 235.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 522

و في المسالك:

«إنما تحبس المرتدة دائما على تقدير امتناعها من التوبة، فلو تابت قبل منها و إن كان ارتدادها عن فطرة عند الأصحاب.» «1»

و لكنه ناقش بعد ذلك باحتمال أن يكون الحبس الدائم حدّها في الفطرية من غير أن تقبل توبتها، كما لا تقبل توبة الفطريّ.

و لكن الأظهر ما ذكرناه و قوّيناه. و يمكن أن يستأنس لذلك بما ورد من الإضرار بها و التضييق عليها و ضربها على الصلوات. و يشهد له ما مرّ من الدعائم. هذا مضافا إلى أن للحاكم العفو عن الحدود إن ثبتت بالإقرار بل مطلقا على قول المفيد كما مرّ، فتأمّل. و المراد بتخليدها في السجن كما مرّ عدم كون حبسها محدودا بزمان معين، لا بقاؤها في السجن و إن صلحت و تابت.

الثالث- المؤلي إذا أبى أن يفي ء أو يطلق:

1- ففي صحيحة أبي بصير، عن أبي عبد اللّه

«ع»، قال: «الإيلاء هو أن يحلف الرجل على امرأته أن لا يجامعها، فإن صبرت عليه فلها أن تصبر، و إن رفعته إلى الإمام أنظره أربعة أشهر ثمّ يقول له بعد ذلك: إمّا أن ترجع إلى المناكحة و إمّا أن تطلق، فإن أبى حبسه أبدا.» «2»

2- خبر حماد بن عثمان، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «المؤلي إذا أبى أن يطلق، قال:

كان أمير المؤمنين «ع» يجعل له حظيرة من قصب و يجعله (يحبسه- يب) فيها و يمنعه من الطعام و الشراب حتى يطلّق.» «3»

3- خبر غياث بن إبراهيم، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «كان أمير المؤمنين «ع» إذا أبى المؤلي أن يطلق جعل له حظيرة من قصب و أعطاه ربع قوته حتى يطلّق.» «4»

______________________________

(1)- المسالك 2/ 451.

(2)- الوسائل 15/ 541، الباب 8 من أبواب الإيلاء، الحديث 6.

(3)- الوسائل 15/ 545، الباب 11 من أبواب الإيلاء، الحديث 1.

(4)- الوسائل 15/ 545، الباب 11 من أبواب الإيلاء، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 523

4- مرسلة الصدوق، قال: «روي أنه إن فاء و هو أن يراجع إلى الجماع، و إلّا حبس في حظيرة من قصب و شدّد عليه في المأكل و المشرب حتى يطلّق.» «1»

5- ما عن تفسير العياشي، عن صفوان بن يحيى، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد اللّه «ع» في المؤلي إذا أبى أن يطلّق؟ قال: «كان عليّ «ع» يجعل له حظيرة من قصب و يحبسه فيها و يمنعه من الطعام و الشراب حتى يطلّق.» «2»

6- ما عن تفسير علي بن إبراهيم، قال: «روي عن أمير المؤمنين «ع» أنه بنى حظيرة من قصب و جعل فيها رجلا آلى من امرأته

بعد أربعة أشهر، و قال له: إمّا أن ترجع إلى المناكحة، و إمّا أن تطلّق، و إلّا أحرقت عليك الحظيرة.» «3»

إلى غير ذلك من الأخبار، و منها ما ذكر فيه لفظ الوقف، فراجع.

و مقتضى هذه الأخبار أن الإمام أو الحاكم من قبله بعد الأربعة أشهر يخيّره بين أن يفي ء إلى النكاح أو يطلق. و بذلك أفتى أصحابنا الإمامية، و أكثر فقهاء السنة أيضا. و قال بعضهم: إنّ وقت الفي ء في الأربعة أشهر فإن ترك الجماع فيها وقعت الطلقة قهرا بانقضاء الأربعة طلقة بائنة. و قال بعضهم: إنه يقع الطلاق قهرا بانقضائها طلقة رجعية، فراجع الخلاف (المسألة 2 من كتاب الايلاء) «4».

و وردت في هذا المجال روايات كثيرة من طرق السنة أيضا، فراجع سنن البيهقي «5».

الرابع من موارد التخليد في السجن- من أمسك رجلا ليقتله غيره:

1- صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «قضى عليّ «ع» في رجلين أمسك

______________________________

(1)- الوسائل 15/ 545، الباب 11 من أبواب الإيلاء، الحديث 4.

(2)- الوسائل 15/ 546، الباب 11 من أبواب الإيلاء، الحديث 7.

(3)- الوسائل 15/ 546، الباب 11 من أبواب الإيلاء، الحديث 6.

(4)- الخلاف 3/ 6.

(5)- سنن البيهقي 7/ 376 و ما بعدها، كتاب الإيلاء.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 524

أحدهما و قتل الآخر، قال: يقتل القاتل و يحبس الآخر حتى يموت غمّا كما حبسه حتى مات غمّا ...» «1»

2- موثقة سماعة، قال: «قضى أمير المؤمنين «ع» في رجل شدّ على رجل ليقتله و الرجل فارّ منه فاستقبله رجل آخر فأمسكه عليه حتى جاء الرجل فقتله، فقتل الرجل الذي قتله، و قضى على الآخر الذي أمسكه عليه أن يطرح في السجن أبدا حتى يموت فيه لأنه أمسكه على الموت.» «2»

3- معتبرة السكوني،

عن أبي عبد اللّه «ع»: «إنّ ثلاثة نفر رفعوا إلى أمير المؤمنين «ع»:

واحد منهم أمسك رجلا، و أقبل الآخر فقتله، و الآخر يراهم، فقضى في (صاحب- الفقيه) الرؤية أن تسمل عيناه، و في الذي أمسك أن يسجن حتى يموت كما أمسكه، و قضى في الذي قتل أن يقتل.» «3»

أقول: هل المراد بالرؤية مجرد الرؤية و النظر، أو كون الشخص عينا و ربيئة للقاتل بحيث أعانه في عمله؟ و جهان. و المتيقن هو الثاني، فيجب الأخذ به، إذ الحدود تدرأ بالشبهات. و يشهد لذلك أيضا قوله في خبر الدعائم الآتي: «و آخر ينظر لهما»، كما لا يخفى.

4- خبر عمرو بن أبي المقدام، الحاكي لقصة رجل شكا إلى المنصور عن رجلين أخرجا أخاه من منزله ليلا، فأمسكه أحدهما و قتله الآخر، فطلب المنصور من جعفر بن محمد «ع» أن يقضي بينهم، فأمر «ع» أخا المقتول أن يضرب عنق القاتل، ثمّ أمر بالآخر فضرب جنبيه و حبسه في السجن و وقّع على رأسه: يحبس عمره و يضرب في كل سنة خمسين جلدة.» «4»

أقول: لعل إضافة الضرب في هذا الحديث كانت في قبال إخراجهما الرجل

______________________________

(1)- الوسائل 19/ 35، الباب 17 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 1.

(2)- الوسائل 19/ 35، الباب 17 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 2.

(3)- الوسائل 19/ 35، الباب 17 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 3.

(4)- الوسائل 19/ 36، الباب 18 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 525

ليلا من منزله، أو لأن الحاكم يعزره بما يراه صلاحا.

5- و قد مرّ في بحث المرتدّة صحيحة حريز، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «لا

يخلد في السجن إلّا ثلاثة: الذي يمسك على الموت، و المرأة ترتدّ عن الإسلام، و السارق بعد قطع اليد و الرجل.» «1»

6- و في المستدرك، عن الجعفريات بسنده، عن عليّ «ع»: «أنّه اتي برجلين أمسك أحدهما و جاء الآخر فقتل، فقال: أمّا الذي قتل فيقتل، و أمّا الذي أمسك فإنّه يحبس في السجن حتى يموت.» «2»

7- و فيه أيضا، عن دعائم الإسلام، عن أمير المؤمنين «ع»: «أنّه قضى في رجل قتل رجلا، و آخر يمسكه للقتل، و آخر ينظر لهما لئلّا يأتيهم أحد، فقضى بأن يقتل القاتل، و أن يمسك الممسك في الحبس حتى يموت بعد أن يجلد و يخلد في السجن و يضرب في كل عام خمسين سوطا نكالا، و يسمل عينا الذي كان ينظر لهما.» «3»

8- و فيه أيضا، عن كتاب درست بن أبي منصور، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه «ع» و عن أبي جعفر «ع» في رجل عدا على رجل و جعل ينادي: احبسوه احبسوه، قال: فحبسه رجل، و أدركه فقتله، قال: فقال أمير المؤمنين «ع»: يحبس الممسك حتّى يموت، كما حبس المقتول على الموت.» «4»

9- و فيه أيضا، عن البحار، عن كتاب مقصد الراغب: «قضى عليّ «ع» في رجل أمسك رجلا حتى جاء آخر فقتله، و رجل ينظر، فقضى بقتل القاتل، و قلع عين الذي نظر و لم يعنه، و خلّد الذي أمسك في الحبس حتى مات.» «5» هذا.

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 550، الباب 4 من أبواب حدّ المرتدّ، الحديث 3.

(2)- مستدرك الوسائل 3/ 254، الباب 15 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 1.

(3)- مستدرك الوسائل 3/ 254، الباب 15 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 3.

(4)- مستدرك الوسائل 3/

254، الباب 15 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 4.

(5)- مستدرك الوسائل 3/ 254، الباب 15 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 5.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 526

10- و في سنن البيهقي بسنده، عن ابن عمر، قال: قال رسول اللّه «ص»: «إذا أمسك الرجل الرجل و قتله الآخر يقتل الذي قتل، و يحبس الذي أمسك.» «1»

11- و فيه أيضا عن إسماعيل بن أمية، قال: «قضى رسول اللّه «ص» في رجل أمسك رجلا و قتل الآخر؟ قال: يقتل القاتل، و يحبس الممسك.» و عن جابر، عن عامر، عن عليّ «ع»: «أنّه قضى بذلك.» «2»

و قد افتى أصحابنا الإمامية بمضمون هذه الأخبار:

قال في الشرائع:

«و لو أمسك واحد و قتل الآخر فالقود على القاتل دون الممسك، لكن الممسك يحبس أبدا. و لو نظر لهما ثالث لم يضمن لكن تسمل عيناه، أي تفقأ.» «3»

و في الجواهر ذيّل المسألة الأولى بقوله:

«بلا خلاف أجده في شي ء من ذلك، بل عن الخلاف و الغنية و غيرهما الإجماع عليه، للمعتبرة المستفيضة.»

و ذيّل المسألة الثانية بقوله:

«للإجماع في محكيّ الخلاف، و لخبر السكوني.» «4»

و أمّا فقهاء السّنة ففيهم خلاف:

قال الشيخ في الخلاف (المسألة 36 من كتاب الجنايات):

«روى أصحابنا أن من أمسك إنسانا حتى جاء آخر فقتله: أنّ على القاتل القود، و على الممسك أن يحبس أبدا حتى يموت، و به قال ربيعة.

و قال الشافعي: إن كان أمسكه متلاعبا مازحا فلا شي ء عليه، و إن كان أمسكه عليه للقتل أو ليضربه و لم يعلم أنّه يقتله فقد عصى و أثم و عليه التعزير. و روي

______________________________

(1)- سنن البيهقي 8/ 50، كتاب الجنايات، باب الرجل يحبس الرجل للآخر فيقتله.

(2)- سنن

البيهقي 8/ 50- 51، كتاب الجنايات، باب الرجل يحبس الرجل للآخر فيقتله.

(3)- الشرائع 4/ 199.

(4)- الجواهر 42/ 46 (طبعة أخرى بتصحيح آخر ص 42- 43).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 527

ذلك عن عليّ «ع». و إليه ذهب أهل العراق: أبو حنيفة و أصحابه.

و قال مالك: إن كان متلاعبا لا شي ء عليه، و إن كان للقتل فعليهما القود معا كما لو اشتركا في قتله.

دليلنا إجماع الطائفة و أخبارهم، لأنهم ما رووا خلافا لما بيّناه، و روي عن النبي «ص» أنّه قال: «يقتل القاتل و يصبر الصابر.» قال ابو عبيد: معناه: يحبس الحابس؛ فإن المصبور: المحبوس.»

(المسألة 37):

«إذا كان معهم ردء ينظر لهم فإنه يسمل عينه و لا يجب عليه القتل. و قال أبو حنيفة: يجب على الردء القتل دون الممسك. و قال مالك: يجب على الممسك دون الردء على ما حكيناه. و قال الشافعي: لا يجب القود إلّا على المباشر دون الممسك و الردء. دليلنا ما قدمناه في المسألة الأولى سواء.» «1»

و في المغني لابن قدّامة الحنبلي- بعد قول الخرقي:

«و إذا أمسك رجلا و قتله آخر قتل القاتل و حبس الماسك حتى يموت»- قال ما ملخصه: «لا خلاف أن القاتل يقتل. و أمّا الممسك فإن لم يعلم أن القاتل يقتله فلا شي ء عليه، و إن أمسكه له ليقتله فاختلفت الرواية فيه عن أحمد؛ فروي عنه أنّه يحبس حتى يموت، و هذا قول عطاء و ربيعة و روي ذلك عن عليّ «ع». و روي عن أحمد أنه يقتل أيضا، و هو قول مالك. و قال أبو حنيفة و الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر يعاقب و يأثم و لا يقتل.

و لنا

ما روى الدارقطني بإسناده عن ابن عمر أنّ النبي «ص» قال: «إذا أمسك الرجل و قتله الآخر يقتل الذي قتل، و يحبس الذي أمسك.» و لأنه حبسه إلى الموت فيحبس الآخر إلى الموت، كما لو حبسه عن الطعام و الشراب حتى مات فإننا نفعل به ذلك حتى يموت.» «2» هذا.

______________________________

(1)- الخلاف 3/ 100.

(2)- المغني 9/ 477.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 528

ثم إنّ هاهنا مشكلة يجب التنبه لها و التتبع و الدقة لحلّها، و هي أنّ حبس الممسك، و سمل عين الرائي، و كذا حبس الآمر بالقتل على ما يأتي هل تكون هذه الثلاثة من قبيل حقّ الناس كحق القصاص فيشترط في تنفيذها مطالبة الأولياء و يجوز لهم العفو عنهم، أو من قبيل حقوق اللّه الموضوعة للتقويم؟ و على الثاني فهل تكون من قبيل التعزيرات الشرعية التي يجوز للإمام عفوها مطلقا كما مرّ، أو من قبيل الحدود، حيث فصّلنا فيها بين ما ثبتت بالإقرار فيصح العفو و بين ما ثبتت بالبينة فلا يصح؟ في المسألة وجوه. هذا.

و يمكن أن يناقش الوجه الأوّل باستبعاد أن يجعل في قبال نفس واحدة أكثر من نفس بعنوان الاستحقاق، و الوجه الثالث بأن اللازم منه زيادة الفرع على الأصل، فإن الثلاثة بمنزلة الفروع لنفس القاتل، و الأصل قابل للعفو فكيف لا يصحّ العفو عمّن هو أقلّ منه جرما.

و بالجملة، فالمسألة محتاجة إلى الدقة و التأمّل. و لم أر من تعرض لها. و لعلّ الاحتياط يقتضي عدم تنفيذها إلّا مع مطالبة أولياء الدم نظير نفس القصاص، فإن الحدود تدرأ بالشبهات، فتأمّل.

الخامس من موارد التخليد في السجن- من أمر رجلا حرّا بقتل رجل:

1- فعن الكليني بسند صحيح، عن زرارة، عن أبي جعفر «ع»: «في رجل أمر رجلا

بقتل رجل (فقتله)، فقال: يقتل به الذي قتله، و يحبس الآمر بقتله في الحبس حتى يموت.»

و عن الشيخ أيضا مثله. و عن الصدوق أيضا نحوه إلّا أنّه قال: «أمر رجلا حرّا.» «1» و الرواية مفتى بها عند أصحابنا، كما سيظهر.

______________________________

(1)- الوسائل 19/ 32، الباب 13 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 529

السادس- العبد القاتل بأمر سيده:

1- فعن الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: قال أمير المؤمنين «ع»: في رجل أمر عبده أن يقتل رجلا فقتله، فقال أمير المؤمنين «ع»: و هل عبد الرجل إلّا كسوطه أو كسيفه؟ يقتل السيّد، و يستودع العبد السجن.»

و عن الصدوق بإسناده، عن السكوني مثله. و عنه أيضا بإسناده إلى قضايا عليّ «ع» إلّا أنّه قال: «و يستودع العبد في السجن حتى يموت.» و عن الشيخ أيضا بإسناده، عن عليّ بن إبراهيم «1».

2- و في سنن البيهقي بسنده، عن خلاس، عن عليّ «ع»، قال: «إذا أمر الرجل عبده أن يقتل رجلا فإنّما هو كسيفه أو كسوطه؛ يقتل المولى و يحبس العبد في السجن.» «2»

أقول: قال الشيخ في نهاية:

«و إذا أمر إنسان حرّا بقتل رجل فقتله المأمور وجب القود على القاتل دون الآمر، و كان على الإمام حبسه ما دام حيّا. فإن أمر عبده بقتل غيره فقتله كان الحكم أيضا مثل ذلك سواء. و قد روي: أنّه يقتل السيد و يستودع العبد السجن. و المعتمد ما قلناه.» «3»

و قال في الخلاف (المسألة 30 من كتاب الجنايات):

«اختلف روايات أصحابنا في أنّ السيّد إذا أمر غلامه بقتل غيره فقتله على من يجب القود؟

فرووا في بعضها أن على السيد القود، و في بعضها أن على العبد القود و لم يفصّلوا.

______________________________

(1)- الوسائل 19/ 33، الباب 14 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 2.

(2)- سنن البيهقي 8/ 50، كتاب الجنايات، باب ما جاء في أمر السيّد عبده.

(3)- النهاية/ 747.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 530

و الوجه في ذلك أنّه إن كان العبد مميّزا عاقلا يعلم أنّ ما أمره به معصية فإن القود على العبد، و إن كان صغيرا أو كبيرا لا يميّز و يعتقد أنّ جميع ما يأمره سيّده به واجب عليه فعله كان القود على السيّد.

و الأقوى في نفسي أن نقول: إن كان العبد عالما بأنه لا يستحق القتل أو متمكنا من العلم به فعليه القود، و إن كان صغيرا أو مجنونا فإنه يسقط القود و يجب فيه الدية ...» «1»

و في المغني لابن قدّامة الحنبلي:

«و متى كان العبد يعلم تحريم القتل فالقصاص عليه، و يؤدب سيّده- لأمره بما أفضى إلى القتل- بما يراه الإمام من الحبس و التعزير، و إن كان غير عالم بحظره فالقصاص على سيّده و يؤدّب العبد. قال أحمد: يضرب و يؤدّب. و نقل عنه أبو طالب، قال: يقتل الوليّ و يحبس العبد حتى يموت، لأن العبد سوط المولى و سيفه. كذا قال عليّ و أبو هريرة، و قال عليّ «ع»: يستودع السجن. و ممن قال بهذه الجملة الشافعي. و ممن قال إنّ السيّد يقتل: عليّ و أبو هريرة. و قال قتادة: يقتلان جميعا.» «2»

أقول: صحيحة زرارة بنقل الصدوق مختصة بكون المأمور حرّا، و بنقل الكليني و الشيخ و إن كانت مطلقة من هذه الجهة و لكن معتبرة السكوني خاصة

بل حاكمة عليها بوجه، فيتعين الأخذ بها. و يؤيدها ما رويناه عن البيهقي، بل و موثقة إسحاق بن عمار، عن أبي عبد اللّه «ع» في رجل أمر عبده أن يقتل رجلا فقتله، قال: فقال: يقتل السيّد به «3».

و يؤيد ذلك الاعتبار العقلائي أيضا، فإن الغالب في العبيد كونهم مسخرين تحت إرادة الموالي و لا يلتفتون إلى أنّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. نعم، لو كان

______________________________

(1)- الخلاف 3/ 98.

(2)- المغني 9/ 479.

(3)- الوسائل 19/ 33، الباب 14 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 531

العبد بصيرا ملتفتا إلى هذا الأمر و مع ذلك اطاع المولى صحّ القول بكون المباشر حينئذ أقوى في استناد العمل إليه و المعتبرة محمولة على الغالب كما هو ظاهرها، فتدبّر.

السابع- من خلّص القاتل من أيدي الأولياء:

فروى المشايخ الثلاثة بسند صحيح، عن حريز، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال:

«سألته عن رجل قتل رجلا عمدا، فرفع إلى الوالي، فدفعه الوالي إلى أولياء المقتول ليقتلوه، فوثب عليه قوم فخلّصوا القاتل من أيدي الأولياء؟ قال: أرى أن يحبس الذين خلّصوا القاتل من أيدي الأولياء (أبدا- الفقيه) حتى يأتوا بالقاتل. قيل: فإن مات القاتل و هم في السجن؟ قال: إن مات فعليهم الدية، يؤدّونها جميعا إلى أولياء المقتول.» «1»

أقول: قال الشيخ في الكفالات من النهاية:

«و من خلّى قاتلا من يد وليّ المقتول بالجبر و الإكراه كان ضامنا لدية المقتول إلّا أن يردّ القاتل إلى الوليّ و يمكّنه منه.» «2»

و ليس في كلامه ذكر الحبس و إجباره بإحضار القاتل، بل الظاهر منه أن اداءه للدية يوجب براءته و خلاصه. و الالتزام به مشكل، و لا نرى وجها لترك العمل بظاهر الخبر،

فراجع مظانّ البحث عن المسألة.

و وزان الباب وزان الكفالة؛ و قد قالوا فيها كما مرّ أن الكفيل يحبس حتى يحضر المكفول أو يؤدي ما عليه. و ظاهرهم التخيير بينهما، و قد ناقشنا في ذلك- كما مرّ- تبعا للعلامة في التذكرة و غيرها، فراجع ما مر منا في حبس الكفيل «3».

______________________________

(1)- الوسائل 19/ 34، الباب 16 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 1؛ و 13/ 160، الباب 15 من كتاب الضمان، الحديث 1.

(2)- النهاية/ 316.

(3)- راجع ص 492 من الكتاب.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 532

و كان الأنسب ذكر هذه المسألة عقيب مسألة حبس الكفيل، و لكن ذكرناها هنا لما في رواية الفقيه من قوله: «أبدا».

الثامن- المحارب المحكوم بالنفي على ما في بعض الأخبار و الفتاوى:

1- فعن العياشي، عن أبي جعفر محمد بن عليّ الرضا «ع» في حديث: «فإن كانوا أخافوا السبيل فقط و لم يقتلوا أحدا و لم يأخذوا مالا أمر بإيداعهم الحبس، فإن ذلك معنى نفيهم من الأرض بإخافتهم السبيل.» «1»

2- و في مسند زيد: عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ «ع»، قال: «إذا قطع الطريق اللصوص و أشهروا السلاح و لم يأخذوا مالا و لم يقتلوا مسلما ثمّ أخذوا حبسوا حتى يموتوا، و ذلك نفيهم من الأرض.» «2»

و قد مرّت الفتاوى في هذا المجال في أوائل البحث، فراجع «3».

3- و في خبر عبيد اللّه المدائني، عن أبي عبد اللّه «ع»: «و إن حارب اللّه و سعى في الأرض فسادا و لم يقتل و لم يأخذ من المال نفي في الأرض. قال: قلت: و ما حدّ نفيه؟ قال: سنة ينفى من الأرض التي فعل فيها إلى غيرها، ثمّ يكتب إلى ذلك المصر بأنّه منفي، فلا تؤاكلوه و لا

تشاربوه و لا تناكحوه، حتى يخرج إلى غيره فيكتب إليهم أيضا بمثل ذلك. فلا يزال هذه حاله سنة، فإذا فعل به ذلك تاب و هو صاغر.» «4»

و مقتضى ذلك كون مدة السجن أيضا سنة لأنّه بدل النفي، و لكن في الجواهر قال:

«لكن المصنف و غيره بل الأكثر على عدم التقييد بالسنة، بل لم يحك إلّا عن ابن سعيد.» «5»

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 2، ص: 532

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 536، الباب 1 من أبواب حدّ المحارب، الحديث 8.

(2)- مسند زيد/ 323، كتاب السير، باب قطّاع الطريق.

(3)- راجع ص 425 من الكتاب.

(4)- التهذيب 10/ 131، باب الحدّ في السرقة و ...، الحديث 140.

(5)- الجواهر 41/ 593.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 533

التاسع من موارد التخليد- الذي يمثّل:

فروى الكليني بسنده، عن حماد، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «لا يخلّد في السجن إلّا ثلاثة: الذي يمثّل، و المرأة ترتدّ عن الإسلام، و السارق بعد قطع اليد و الرجل.» «1»

أقول: قال المجلسي في مرآة العقول:

«قوله: «الّذي يمثّل»، التمثيل عمل الصور و التمثال، أو التنكيل و التشويه بقطع الأنف و الأذن و الأطراف. و الحبس فيهما مخالف للمشهور، و في التهذيب: يمسك على الموت، و هو الموافق لسائر الأخبار و أقوال الأصحاب كما سيأتي. و لعلّه كان «يمسك» فصحّف.» «2»

و أقول: خبر التهذيب مرّ في المرأة المرتدة عن حريز، و رواه في الوسائل «3».

و لو صحّ خبر الكليني فلا محالة يراد بقوله: «الذي يمثّل» الذي يصرّ على العمل و يدوم عليه، و الاستمرار

أحد معاني الفعل المستقبل.

و لا يبعد جواز حكم الإمام بالسجن على من يصرّ على عمل حرام مستهجن بحيث لا يردعه عنه رادع إلّا ذاك، فتدبّر.

العاشر- المنجّم المصرّ على التنجيم:

ففي نهج السعادة: «نادى عليّ «ع» بالرحيل [إلى النهروان]، فأتاه مسافر بن عفيف الأزدي فقال: يا أمير المؤمنين، لا تسر في هذه الساعة ... و قال «ع»: لئن بلغني أنّك تنظر في النجوم لأخلدنّك في الحبس ما دام لي سلطان. فو اللّه ما كان محمد «ص» منجما

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 493، الباب 5 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 5.

(2)- مرآة العقول 4/ 187، في آخر كتاب الحدود من ط. القديم.

(3)- راجع الوسائل 18/ 550، الباب 4 من أبواب حدّ المرتدّ، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 534

و لا كاهنا.» «1»

أقول: و هذا أيضا يؤيد ما أشرنا إليه من جواز حكم الإمام بحبس من يصرّ على أمر حرام و بقائه فيه ما لم يرتدع.

الحادي عشر- من وقع على أخته و لم يمت بالضربة:

1- ففي خبر عامر بن السمط، عن علي بن الحسين «ع» في الرجل يقع على أخته؟ قال: «يضرب ضربة بالسيف؛ بلغت منه ما بلغت، فإن عاش خلد في السجن حتى يموت.» «2»

2- مرسلة محمد بن عبد اللّه بن مهران، عمن ذكره، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال:

«سألته عن رجل وقع على أخته؟ قال: يضرب ضربة بالسيف. قلت: فإنّه يخلص؟

قال: يحبس أبدا حتّى يموت.» «3» «4»

[مجموعة القواعد لمعاملة المسجونين التي أقرّتها هيئة الأمم المتحدة]

______________________________

(1)- نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة 2/ 371- 372، الخطبة 263.

(2)- الوسائل 18/ 387، الباب 19 من أبواب حدّ الزّنا، الحديث 10.

(3)- الوسائل 18/ 386، الباب 19 من أبواب حدّ الزّنا، الحديث 4.

(4) أقول: قد انتهى إلى هنا ما أردنا تحقيقه في أحكام السجون، و قد نقل في كتاب «أحكام السجون» للوائلي (ص 165- 179) مجموعة القواعد لمعاملة المسجونين، التي أقرّتها هيئة الأمم المتحدة في المؤتمر الذي عقدته في مدينة جنيف بسويسرا في سنة 1955 م. و قد ترجمت بلغات مختلفة. و نحن نذكر هنا في الذيل بعض هذه القواعد تتميما للفائدة، حيث إنّها مقررات نافعة بحال المسجونين و النظم الحاكمة، يحكم بحسنها بل بلزوم أكثرها العقل و العقلاء، فينبغي رعايتها مهما أمكن:

القاعدة 6: نصّت بوجوب مسك سجلّ للمسجونين يتضمن: هويّاتهم، و مصدر حبسهم، و أسباب الحبس، و تاريخ الدخول للسجن و الأخلاء، و عدم قبول أيّ شخص بدون هذا السجلّ.

القاعدتان 7 و 8: نصّتا على وجوب فصل طوائف السجناء حسب سنّهم و جنسهم و سوابقهم و سبب حبسهم، و ما تقتضيه معاملتهم.

القاعدة 10: نصّت على ضرورة توفير الشروط الصحيّة من حيث السعة و الهواء و الإضاءة و التدفئة و التهوية بالسجن.

القاعدة 12: أوجبت توفير الأدوات الصحيّة لقضاء حاجة

السجناء، مع لياقتها و نظافتها.

القاعدة 13: أوجبت تهيئة حمّامات كافية يراعى فيها الفصول السنويّة، و وجوب استحمام السجين كل

أسبوع على الأقلّ.

القاعدة 14: أوجبت صيانة الأماكن التي يرتادها المسجونون و نظافتها.

القاعدة 17 و 18: أوجبتا تزويد المساجين بالملابس الكافية مع نظافتها، و رخّصت لهم ارتداء ملابسهم الخاصة بالمناسبات.

القاعدة 19: أوجبت لكل سجين سريرا خاصا و فراشا كافيا و نظيفا، و حسب العرف المحلّى مع تبديله إذا اتّسخ.

القاعدة 20: أوجبت على إدارة السجن تزويد السجن بواجبات غذائية كافية مع ماء صالح للشرب دائما.

القاعدة 21: أوجبت للسجين الذي لا يعمل ساعة رياضة بالهواء، و لصغار السنّ تدريبا رياضيّا خلال مدة مخصصة لذلك.

القاعدة 22: أوجبت وجود طبيب نفسي واحد على الأقلّ في كل مؤسسة عقابية مع تنظيم الخدمات الطبيّة، و تخصيص قسم للطبّ النفسي و نقل المرضى إلى مؤسّسات مدنية إذا دعت الحاجة، و إذا كان بالمؤسسة مستشفى فيجب تزويده بكل حاجاته من حيث الإداريين و الفنّيين و الأدوات و توفير خدمات طبّيّة للأسنان.

القاعدة 23: أوجبت في سجون النساء أماكن خاصة لرعايتهن و علاجهن قبل و أثناء و بعد الوضع، و لا يذكر بشهادة الميلاد ولادة الوليد بالسجن، و في حالة السماح للأمّهات بالارتباط بأطفالهن تهيئة أماكن خاصة للحضانة.

القاعدة 25 و 26: أوجبتا على الطبيب إجراء الكشف يوميّا على كل سجين، أو لمن يطلب أو يسترعي الانتباه، و يقدّم لمدير السجن تقريرا عمّا تستدعيه بعض الحالات، و أن يديم الطبيب التفتيش و يقدم تفتيشاته لمدير السجن في نوع الغذاء و كمّيته، و الحالة الصحّيّة، و نظافة المؤسسة و المنشآت الصحّيّة، و التدفئة و التهوية و نظافة الملابس و الفراش و مراعاة قواعد التربية البدنية، و على مدير السجن العناية

بالتقارير و تنفيذها فيما إذا أقرّت، و رفع الأمر للسلطات العليا إذا لم يكن ذلك من صلاحيّته.

القاعدة 27: تعرّضت لحفظ النظام و للجزاءات و أوجبت حفظ النظام بحزم و بالقدر الضروري من القيود.

القاعدة 28: منعت أن يمنح أيّ سجين سلطة تأديبيّة على زملائه على أن لا تحول هذه القاعدة دون قيام مجموعات من السجناء بأعمال ذات طابع ثقافي أو اجتماعي بقصد إصلاحهم، و تكون هذه الأعمال تحت رقابة المؤسسة.

القاعدة 30: منعت معاقبة السجين إلّا وفق القانون المشار إليه، و منعت العقاب مرّتين عن نفس المخالفة، و أوجبت سبق إخطاره بالتهمة ليدافع عن نفسه، و السماح له بتقديم دفاعه و لو بمترجم إذا لزم ذلك، و أن تدرس أمثال هذه الحالات بدقّة.

القاعدة 31: منعت العقوبات اللّاإنسانيّة و القاسية كجزاءات تأديبيّة مثل الوضع في زنزانة مظلمة.

القاعدة 33: منعت استعمال وسائل الإكراه كالسلاسل و قمصان الأكتاف لكن لا مطلقا، بل كجزاء تأديبي. و منعت مطلقا- كوسيلة إكراهيّة- استعمال السلاسل و الحديد. أمّا وسائل الإكراه الأخرى فتسخدم فيما يلي ...

القاعدة 34: حدّدت نماذج أدوات الإكراه و كيفيّة استعمالها، و نصّت على أنّها للضرورة فقط.

القاعدة 35: أوجبت تزويد كل سجين بالمعلومات و النظم المقررة لمعاملة المسجونين من صنفه و ذلك كتبيّا،

إلّا للأمّي فتكون شفوية.

القاعدة 36: أوجبت تهيئة الفرصة لكلّ مسجون لتقديم التماساته و شكاواه في كل يوم لمدير المؤسّسة أو للمفتّش أثناء قيامه بالتفتيش، و له الحديث مع المفتش منفردا، و أن لا تراقب شكاواه التي يرفعها، و يجب فحصها من قبل من قدمت له للردّ عليها بسرعة.

القاعدة 37: أوجبت إخبار المسجونين بجواز الاتصال بأسرهم و أصدقائهم الطيّبين؛ إمّا مراسلة أو بزيارة تعين بأوقات مع مراقبتهم حال الزيارة.

القاعدة 38: أوجبت

السماح للمسجونين الأجانب بالاتصال بممثليهم أو الهيئات المكلفة برعاية مصالحهم.

القاعدة 39: أوجبت اطلاع المسجونين على الأنباء المهمّة بوسائل الاطلاع كالصّحف و الإذاعة و النشرات.

القاعدة 40: أوجبت إيجاد مكتبة لجميع المساجين بكل مؤسّسة تزوّد بما يكفي من الكتب، و حث المسجونين على المطالعة.

القاعدة 41: أوجبت انتداب ممثل ديني إذا كان بالسجن عدد كاف من دين واحد للقيام بخدمات دينية لهم و يسمح للممثل بالقيام بخدماته على انفراد و بالأوقات المناسبة، و يحقّ لكل سجين الاتصال بممثل لأيّ دين إذا أراد، و للسجين رفض أيّ ممثل لا يريده.

القاعدة 42: أوجبت السماح لكل مسجون بممارسة طقوسه الدينية و حيازته للكتب الخاصة بذلك.

القاعدة 43: أوجبت حفظ مملوكات السجين من نقود و ملابس و اشياء ثمينة و إثباتها بقائمة يوقّع عليها، و إرجاعها له عند الخروج و استلام وصل منه، أمّا ما يرسل له من الخارج فيخضع لنظام المؤسّسة، أمّا إذا كان عنده موادّ مخدرة و أدوية فيتصرف بها حسب رأي الطبيب.

القاعدة 44: أوجبت أوجبت إخطار ذوي السجين بمرضه أو موته أو نقله إلى مؤسسة أخرى، و إخطار السجين نفسه بموت أحد أقاربه أو مرضه، و يؤذن للسجين بزيارته إن سمحت الحالة، كما تخطر أسرة السجين بحبسه ابتداء.

القاعدة 45: أوجبت للسجين الواسطة المريحة عند نقله، و عدم تعريضه للإهانة من الجمهور، و تحمل مصاريف نقله من الإدارة و مساواة السجناء بذلك.

القاعدة 46: أوجبت اختيار السجّانين من ذوي الكفاءة و الإنسانية على مختلف درجاتهم، كما أوجبت توعية السجانين و توعية الرأي العام بمهمّة السجون و تستخدم الوسائل المناسبة لذلك، و يجب أن يكون موظفو السجون متفرغين، و أن يتمتعوا بحقوق موظفي الدولة المدنيين و تكون رواتبهم كافية نظرا لعملهم الشاق.

القاعدة 47:

أوجبت كون موظفي السجن بمستوى ثقافي و ذهني لائق، على أن يجتازوا تدريبا عامّا و تخصّصا قبل توظيفهم، و أن يحافظوا على هذا المستوى و يعملوا لرفعه أثناء الخدمة.

القاعدة 48: أوجبت على موظفي السجون أن يكونوا قدوة حسنة للمسجونين في سلوكهم.

القاعدة 49: أوجبت ضمّ أخصّائيين بعلم النفس و الاجتماع و الصناعة و الأمراض العقلية إلى موظفي السجون، و أن تكون خدمات هؤلاء مستديمة و يستبعد منهم من يعمل بصورة موقتة.

القاعدة 50 و 51: أوجبتا أن يكون مدير المؤسّسة ذا أهلية كافية خلقيا و إداريّا و تدريبا، و أن يكون عمله دائميا بالمؤسّسة و يقيم بالقرب منها، و إذا عيّن بمؤسّستين أو أكثر يجب أن يزور كلّا منها بفترات متعددة، و يعيّن من قبله موظفا دائما يكون مسئولا عنها، و أن تكون لغته لغة غالبية المسجونين.

القاعدة 52: أوجبت في المؤسسات التي تحتاج إلى أكثر من طبيب إقامة طبيب واحد بصورة دائميّة بالمؤسّسة

أو بقربها، أمّا المؤسسات الأخرى فيقوم الطبيب بزيارتها يوميا و عليه الحضور في الحالات العاجلة فورا.

القاعدة 53: أوجبت في المؤسسات التي تقبل الجنسين وضع قسم النساء بإدارة موظفة مسئولة شخصيا عن مفاتيحه، و لا يجوز لذكور الموظفين دخول هذا القسم بدون إحدى الموظفات. و هذا الإجراء لا يمنع الموظفين الذكور كالأطبّاء و المدرسين من أداء واجباتهم بالمؤسسة.

القاعدة 54: منعت موظفي المؤسسات من استعمال القوة إلّا في حالة الدفاع عن النفس أو محاولة هرب السجين، أو مقاومته بدنيا، إيجابيّا أو سلبيّا. و إذا اضطروا لاستعمال القوة فبالقدر الضروري مع تبليغ الحادث لمدير المؤسسة فورا، كما أوجبت تدريب موظفي السجن تدريبا بدنيّا خاصّا لمقاومة المسجونين المعتدين، و لا يجوز للموظف حمل السلاح إلّا بظروف خاصة و بشرط

كونهم مدرّبين على استعماله.

القاعدة 55: خاصة بالتفتيش. و قد أوجبت تفتيش المؤسسات العقابية بصورة منظمة و من قبل مفتشين مختصّين، على أن يديروا المؤسسات وفقا للقوانين و يحققوا أهداف الخدمات العقابية.

القاعدة 57: اعتبرت عقوبة الحبس مؤلمة و أوصت بأن لا يزيد نظام السجن من العناء للمحبوس زيادة على ألم الحبس ما لم يكن لهذه الزيادة ما يبرّرها.

القاعدة 58: أوصت بتأهيل السجين للعودة للمجتمع من جديد سليما، لأنّ غاية السجن حماية المجتمع.

القاعدة 59: أوصت بتحقيق غاية السجن بمختلف الوسائل العلاجية و التربوية و الأخلاقية وفق العلاج الفردي لكل سجين و بطريقة فردية.

القاعدة 61: أوجبت معاملة السجين باعتباره جزء من المجتمع و ليس بمنبوذ منه، و يجب تجنيد المجتمع لتأهيل السجين اجتماعيا و أن يعهد لباحثين اجتماعيين بمهمّة المحافظة على صلات السجين بأسرته أو بالهيئات التي تعمل على إفادته، و اتخاذ الخطوات لحماية حقوق السجين المدنيّة و حقوقه في الضمان الاجتماعي في حدود القانون.

القاعدة 64: قررت أنّ واجب المجتمع لا ينتهي بالإفراج عن المسجون؛ فأوجبت وجود هيئات حكومية لتأهيل المسجون اجتماعيا و أوصت بعدم التحامل عليه.

القاعدة 65: أوجبت معاملة السجناء بما يخلق الرغبة في نفوسهم لأن يعيشوا في ظلّ القانون و يعولوا أنفسهم، و أن ينمي فيهم الشعور بالمسؤولية و احترام النفس.

القاعدة 71: أوجبت على كل سجين العمل وفق استعداده الجسمي و العقلي حسب تقرير الطبيب، و أن لا يكون طابع العمل بالسجون التعذيب و الإيلام و توفير العمل الكافي الذي يستوعب نشاط المسجونين على أن يكون العمل مما يساعدهم بعد الإفراج عنهم لكسب أرزاقهم بطرق شريفة و توفير التدريب المهني للقادرين خصوصا صغار السن على أن يختاروا هم نوع العمل.

القاعدة 72: أوجبت كون نظام العمل في

المؤسسات على غرار مثله في الخارج حتى يعد المسجون إعدادا مرضيّا للحياة الطبيعية، و تقدم مصلحة المسجونين على ربح المؤسسة من صناعة ما.

القاعدة 75: أوجبت تحديد ساعات العمل يوميّا و أسبوعيا بنفس قانون العرف المحلّى للعمّال غير المسجونين، و تخصيص يوم للراحة أسبوعيا و وقت كاف لأوجه النشاط الأخرى التي يزاولها السجناء.

القاعدة 76: أوجبت أن يثاب السجين بمكافأة عادلة وفق النظام و يسمح له بإنفاق جزء من مكسبه على حاجاته غير الممنوعة، و إرسال جزء لعائلته، و تحتفظ المؤسّسة بجزء من مكاسبه له يتسلّمه عند الخروج.

القاعدة 77: أوجبت توفير و تنمية وسائل التعليم للقادرين خصوصا التعليم الديني، و أوجبت تعليم الأمّيّين إجباريّا و كذلك صغار السنّ و بشرط تنسيق التعليم مع نظام التعليم العامّ للدولة ليتابع السجين تعليمه عند الإفراج عنه.

القاعدة 80: أوجبت التفكير بمستقبل السجين و العناية بذلك منذ بدء سجنه، و أوصت بتشجيع صلاته بالهيئات المفيدة له و لأسرته و بتأهيله اجتماعيا.

القاعدة 82: أوجبت منع حبس المجنون و أوصت بنقله لمؤسّسات الأمراض العقلية و وضع هؤلاء تحت رقابة خاصة من الطبيب، و أوصت بتوفير العلاج العقلي للمسجونين حسب الحاجة.

القاعدة 84: أوجبت في الشخص الموقوف تحت حفظ البوليس أو غيره أن يسمّى بالمتّهم قبل المحاكمة و أن يفترض فيه البراءة و يعامل على أساسها، و يجب مراعاة حماية الحريّة الفرديّة، و يتمتّع هؤلاء بنظام خاصّ موادّه كما يلي:

القاعدة 85: أوجبت الفصل بين الموقوف و المحكوم عليه، و بين الصغار و البالغين و أن يحبسوا بمؤسسات مستقلّة.

القاعدة 86: أوجبت أن ينام الموقوف بحجرة مستقلة مع مراعاة العرف المحلى بالطقس.

القاعدة 87: جوّزت للموقوفين الحصول على طعامهم من الخارج إمّا على نفقتهم أو نفقة أسرهم و إلّا

فمن إدارة السجن وفق النظام.

القاعدة 88: سمحت للموقوف بارتداء ملابسه الخاصة بشرط كونها نظيفة و إلّا بكساء يختلف عن لباس المسجونين.

القاعدة 89: أعطت الموقوف حق العمل و أخذ أجور عليه و لكن بدون أن يجبر على ذلك.

القاعدة 90: أوجبت السماح للموقوف بالحصول على الكتب و الصحف و أدوات الكتابة على نفقته أو نفقة الغير، و ذلك مع مراعاة أمن المؤسسة و نظامها.

القاعدة 91: أوجبت السماح للموقوف بأن يعالجه طبيبه الخاصّ حال تمكّنه من دفع النفقات و قيام طلبه على أساس معقول.

القاعدة 92: سمحت للمتّهم بإخبار أسرته بتوقيفه، و أوصت له بتسهيل الاتصال بهم، و السماح بزيارتهم له مع رعاية أمن المؤسسة و حسن النظام فيها و أن يكون ذلك وفق العدالة.

القاعدة 93: سمحت له بتعيين محام للدفاع عنه حسب نصوص القانون، و للمحامي أن يزوره لتحضير دفاعه، و أجازت له مقابلة المحامي على انفراد و بإشراف موظّفي المؤسسة و لكن دون أن يسمعوا كلامهما.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 539

الفصل الثامن في التجسس و الاستخبارات العامّة

اشارة

و فيه أيضا جهات من البحث:

الجهة الأولى: في وجوب حفظ أعراض المسلمين و أسرارهم:

[الأصل عدم ولاية أحد على أحد و التجسّس عليه]

و نقدّم هذه الجهة من جهة أنّ مضمونها مطابق للأصل، إذ الأصل كما مرّ في الباب الأول من الكتاب عدم ولاية أحد على أحد، و مراقبة الغير و التجسّس عليه و إذاعة عيوبه و أسراره نحو تصرف في شئون الغير، فالأصل يقتضي عدم جوازه.

و كيف كان فنقول: إن من الوظائف الخطيرة التي اهتمّ بها الإسلام حفظ حرمات المسلمين و أعراضهم، و الاجتناب عن التفتيش عن عقائد الناس و أسرارهم، فلم يجز التجسّس على دخائل الناس و خفاياهم، و لم يسمح لأحد إشاعة أسرار المسلمين و عثراتهم، و على هذين الأصلين المهمّين بنيت حياة الناس و طمأنت

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 540

خواطرهم في نشاطاتهم:

[الآيات]

1- قال اللّه- تعالى- «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ، إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ، وَ لٰا تَجَسَّسُوا وَ لٰا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً؟ فَكَرِهْتُمُوهُ.» «1»

قال في المجمع:

«أي و لا تتّبعوا عثرات المؤمنين. عن ابن عباس و قتادة و مجاهد.

و قال أبو عبيدة: التجسّس و التحسّس واحد. و روي في الشواذ عن ابن عباس:

«و لا تحسّسوا» بالحاء، قال الأخفش: و ليس يبعد أحدهما عن الآخر إلّا أن التجسّس: البحث عمّا يكتم و منه الجاسوس، و التحسّس بالحاء: البحث عمّا تعرفه.» «2»

أقول: فاللّه- تبارك و تعالى- نهى أوّلا عن سوء الظنّ بالمؤمنين، و ثانيا عن التفتيش و التجسّس على دخائلهم، و ثالثا عن إذاعتها و إشاعتها على فرض الاطّلاع عليها، و لعل المستفاد من الآية أن حياة الإنسان إنّما هي بعرضه و شخصيّته الاجتماعيّة، و الهتك لهما كأنّه سلب لحياته هذه، فتأمّل.

و في مكاسب الشيخ الأنصاري- قدّس سرّه-:

«فجعل

المؤمن أخا، و عرضه كلحمه، و التفكّه به أكلا، و عدم شعوره بذلك بمنزلة حالة موته.» «3»

2- و قال اللّه- تعالى-: «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفٰاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ.» «4»

3- و في تفسير القرطبي في ذيل آية الحجرات: «ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة: أنّ النبيّ «ص» قال: إيّاكم و الظنّ، فإنّ الظنّ أكذب الحديث. و لا تحسّسوا

______________________________

(1)- سورة الحجرات (49)، الآية 12.

(2)- مجمع البيان 5/ 137، (الجزء 9).

(3)- المكاسب/ 40.

(4)- سورة النور (24)، الآية 19.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 541

و لا تجسّسوا، و لا تناجشوا و لا تحاسدوا و لا تباغضوا و لا تدابروا و كونوا عباد اللّه إخوانا.» «1» و رواه البيهقي «2».

أقول: نجش الحديث: أذاعه.

[الروايات]

4- و فيه أيضا عن النبيّ «ص»: «إنّ اللّه حرّم من المسلم دمه و عرضه و أن يظنّ به ظنّ السوء.» «3»

5- و في أصول الكافي بسنده عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «من قال في مؤمن ما رأته عيناه و سمعته أذناه فهو من الذين قال اللّه- عزّ و جلّ-: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفٰاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ». «4»

6- و في تفسير نور الثقلين عن كتاب ثواب الأعمال للصدوق بسنده عن محمد بن الفضيل، عن أبي الحسن موسى بن جعفر «ع»، قال: قلت له: جعلت فداك، الرجل من إخواني بلغني عنه الشي ء الذي أكرهه فأسأله عنه فينكر ذلك و قد أخبرني عنه قوم ثقات؟ فقال لي: يا محمد، كذّب سمعك و بصرك عن أخيك. و إن شهد عندك خمسون قسامة، و قال لك قولا

فصدّقه و كذّبهم، و لا تذيعنّ عليه شيئا تشينه به و تهدم به مروّته فتكون من الذين قال اللّه- عزّ و جلّ-: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفٰاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ.» «5» و روى نحوه الكليني في روضة الكافي «6».

أقول: و لا يراد بتكذيب الخمسين تكذيبهم حقيقة، بل يراد بذلك عدم ترتيب الأثر على شهادتهم بعد إنكار المشهود عليه المساوق عادة للاعتذار و طلب العفو على

______________________________

(1)- تفسير القرطبي 16/ 331.

(2)- سنن البيهقي 8/ 333، كتاب الأشربة و الحدّ فيها، باب ما جاء في النهي عن التجسّس.

(3)- تفسير القرطبي 16/ 332.

(4)- أصول الكافي 2/ 357، كتاب الإيمان و الكفر، باب الغيبة و البهت، الحديث 2.

(5)- تفسير نور الثقلين 3/ 582.

(6)- الكافي 8/ 147، الحديث 125.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 542

فرض الارتكاب، كما لا يخفى.

7- و في أصول الكافي بسنده عن إسحاق بن عمّار، قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: قال رسول اللّه «ص»: «يا معشر من أسلم بلسانه و لم يخلص الإيمان إلى قلبه، لا تذمّوا المسلمين و لا تتبعوا عوراتهم، فإنّه من تتبّع عوراتهم تتبّع اللّه عورته، و من تتبّع اللّه- تعالى- عورته يفضحه و لو في بيته.» «1»

8- و فيه أيضا بسنده عن أبي بصير، عن أبي جعفر «ع»، قال: قال رسول اللّه «ص»: «يا معشر من أسلم بلسانه و لم يسلم بقلبه، لا تتبعوا عثرات المسلمين، فإنّه من تتبّع عثرات المسلمين تتبّع اللّه عثرته، و من تتبّع اللّه عثرته يفضحه.» «2»

9- و فيه أيضا بسنده عن محمد بن مسلم أو الحلبي، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال:

قال رسول اللّه «ص» «لا تطلبوا

عثرات المؤمنين، فإنّ من تتبّع عثرات أخيه تتبّع اللّه عثراته، و من تتبّع اللّه عثراته يفضحه و لو في جوف بيته.» «3»

10- و في تفسير القرطبي عن أبي برزة الأسلمي، قال: قال رسول اللّه «ص»:

«يا معشر من آمن بلسانه و لم يدخل الإيمان في قلبه، لا تغتابوا المسلمين و لا تتبعوا عوراتهم، فإنّ من اتّبع عوراتهم يتّبع اللّه عورته، و من يتّبع اللّه عورته يفضحه في بيته.» «4»

11- و في اصول الكافي بسنده عن زرارة، عن أبي جعفر «ع»، قال: «أقرب ما يكون العبد إلى الكفر أن يواخي الرجل الرجل على الدين فيحصى عليه زلّاته ليعيره بها يوما ما.» «5» و نحو ذلك روايتان أخريان أيضا، فراجع.

______________________________

(1)- الكافي 2/ 354، كتاب الإيمان و الكفر، باب من طلب عثرات المؤمنين ...، الحديث 2.

(2)- الكافي 2/ 355، كتاب الإيمان و الكفر، باب من طلب عثرات المؤمنين ...، الحديث 4.

(3)- الكافي 2/ 355، كتاب الإيمان و الكفر، باب من طلب عثرات المؤمنين ...، الحديث 5.

(4)- تفسير القرطبي 16/ 333.

(5)- الكافي 2/ 355، كتاب الإيمان و الكفر، باب من طلب عثرات المؤمنين ...، الحديث 6.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 543

12- و فيه أيضا بسنده عن عبد اللّه بن سنان، قال: قلت له: «عورة المؤمن على المؤمن حرام؟ قال: نعم. قلت: تعني سفليه؟ قال: ليس حيث تذهب، إنّما هي إذاعة سرّه.» «1»

13- و في نهج البلاغة في كتابه «ع» لمالك: «و ليكن أبعد رعيتك منك و أشنأهم عندك أطلبهم لمعايب الناس، فإنّ في الناس عيوبا الوالي أحقّ من سترها، فلا تكشفن عمّا غاب عنك منها، فإنّما عليك تطهير ما ظهر لك، و اللّه يحكم

على ما غاب عنك فاستر العورة ما استطعت يستر اللّه منك ما تحبّ ستره من رعيتك.» «2»

14- و في الغرر و الدرر عن أمير المؤمنين «ع»: «تتبّع العورات من أعظم السوءات.» «3»

15- و فيه أيضا: «تتبع العيوب من أقبح العيوب و شرّ السيئات.» «4»

16- و فيه أيضا: «شرّ الناس من لا يعفو عن الزلة و لا يستر العورة.» «5»

17- و فيه أيضا: «من بحث عن أسرار غيره أظهر اللّه أسراره.» «6»

18- و فيه أيضا: «من كشف حجاب أخيه انكشف عورات بيته.» «7»

19- و فيه أيضا: «سوء الظن يفسد الأمور و يبعث على الشرور.» «8»

______________________________

(1)- الكافي 2/ 358، كتاب الإيمان و الكفر، باب الرواية على المؤمن، الحديث 2.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 997؛ عبده 3/ 96؛ لح/ 429، الكتاب 53.

(3)- الغرر و الدرر 3/ 318، الحديث 4580.

(4)- الغرر و الدرر 3/ 318، الحديث 4581.

(5)- الغرر و الدرر 4/ 175، الحديث 5735.

(6)- الغرر و الدرر 5/ 371، الحديث 8799.

(7)- الغرر و الدرر 5/ 371، الحديث 8802.

(8)- الغرر و الدرر 4/ 132، الحديث 5575.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 544

20- و في تفسير نور الثقلين عن خصال الصدوق، عن محمد بن مروان، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: سمعته يقول: «ثلاثة يعذّبون يوم القيامة (إلى أن قال): و المستمع حديث قوم و هم له كارهون يصبّ في أذنيه الآنك.» «1»

21- و فيه أيضا عنه، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول اللّه «ص»: في حديث له. «و من استمع إلى حديث قوم و هم له كارهون يصبّ في أذنيه الآنك يوم القيامة.» قال سفيان: «الآنك: الرصاص.» «2»

22- و في رواية الأصبغ بن نباتة

التي مرّت عن أمير المؤمنين «ع» أنّه قال لرجل أقرّ عنده بالزنا: «أ يعجز أحدكم إذا قارف هذه السيئة أن يستر على نفسه كما ستر اللّه عليه؟» «3»

أقول: و نظير هذه الرواية روايات أخر قد مرّت في فصل التعزيرات، و يظهر منها أنّ هذا السنخ من المعاصي الجنسية الشخصيّة الخفيّة لا يجوز التفتيش عنها و التجسّس عليها و يكون المطلوب شرعا استتارها.

23- و في سنن البيهقي بسنده، عن جمع من الصحابة، عن النبي «ص»، قال:

«إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم.» «4» و رواه القرطبي أيضا في تفسيره عن أبي أمامة «5»

24- و فيه أيضا بسنده عن رسول اللّه «ص» يقول: «إنّك إن اتّبعت عورات الناس أو عثرات الناس أفسدتهم او كدت أن تفسدهم.» و رواه القرطبي أيضا. «6»

______________________________

(1)- نور الثقلين 5/ 93.

(2)- نور الثقلين 5/ 93.

(3)- الوسائل 18/ 328، الباب 16 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 6.

(4)- سنن البيهقي 8/ 333، كتاب الأشربة، باب ما جاء في النهي عن التجسّس.

(5)- تفسير القرطبي 16/ 333.

(6)- سنن البيهقي 8/ 333، كتاب الأشربة، باب ما جاء في النهي عن التجسّس؛ و تفسير القرطبي 16/ 333.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 545

25- و في صحيح البخاري بسنده عن رسول اللّه «ص» في خطبته في حجّة الوداع قال: «إنّ اللّه- تبارك و تعالى- قد حرّم دماءكم و أموالكم و أعراضكم إلّا بحقّها كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، ألا هل بلّغت؟ ثلاثا ...» «1»

إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا المجال من طرق الفريقين.

أقول: فليتأمّل كلّ من له عناية و اهتمام بالشرع و أحكامه فيما ذكر من الآيات و

الروايات و في غيرها ممّا ورد في هذا المجال، و ليحفظ أسرار المسلمين و عثراتهم الخفيّة الفرديّة و العائليّة، و لا يتعرّض لها بالاستماع و التفتيش و النشر و الإشاعة، و لا يعتذر بكونه موظفا في الاستخبارات، فإنّ الموظفين فيها لا يجوز لهم التفتيش و التحقيق إلّا في الأمور المهمّة العامّة الماسّة بمصالح النظام و المجتمع بمقدار الضرورة و سيأتي بيانه.

و في دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية (المادّة 23):

«يمنع تفتيش العقائد و لا يمكن مؤاخذة أيّ شخص أو التعرّض له لمجرّد اعتناقه عقيدة معيّنة.»

(المادّة 25):

«يمنع تفتيش الرسائل و عدم إيصالها، تسجيل و إفشاء المكالمات الهاتفية، إفشاء المخابرات البرقيّة و التلكس و مراقبتها، و عدم مخابرتها، و عدم إيصالها، استراق السمع، و كلّ أنواع التجسّس إلّا بحكم القانون.» هذا.

و ليس من المروّة التفتيش عن كلّ خطأ و عثرة و تعقيبهما و إن خفيتا أو تاب صاحبهما، و إنّما المروّة بالصفح و الإغماض و النصح و الإرشاد و تقويم الشخص و جذبه إلى الاعتدال و الاستقامة تدريجا، إذ قلّ من يعتصم عن الخطأ و الانحراف.

و قد قال الشاعر:

«فمن ذا الذي ترضى سجاياه كلّها، كفى المرء نبلا أن تعدّ معايبه.»

______________________________

(1)- صحيح البخاري 4/ 172، كتاب الحدود، باب ظهر المؤمن حمى إلّا في حدّ أو حقّ.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 546

نعم، يعاقب المتجاهر المصرّ على الذنب، بل كلّ من ثبت جرمه عند الحاكم إلّا إذا صلح للعفو و عفا عنه. فتدبّر. هذا.

و في كنز العمال عن ثور الكندي:

«إنّ عمر بن الخطّاب كان يعسّ بالمدينة من الليل، فسمع صوت رجل في بيت يتغنّى، فتسوّر عليه فقال: يا عدوّ اللّه، أ ظننت أنّ اللّه

يسترك و أنت في معصيته؟

فقال: و أنت يا أمير المؤمنين لا تعجل عليّ، إن أكن عصيت اللّه واحدة فقد عصيت اللّه في ثلاث: قال: «و لا تجسّسوا» و قد تجسّست، و قال: «و أتوا البيوت من أبوابها» و قد تسوّرت عليّ، و قد دخلت عليّ بغير إذن و قال اللّه- تعالى-: «لٰا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّٰى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلىٰ أَهْلِهٰا.» قال عمر: فهل عندك من خير إن عفوت عنك؟ قال: نعم، فعفا عنه و خرج و تركه.» «1»

الجهة الثانية: في لزوم الاستخبارات العامة و ضرورتها إجمالا:

قد ظهر لك مما مرّ أنّ اطمينان الناس و إحساسهم بالأمن في دخائلهم أمر اهتمّ به الشرع المبين، و لأجل ذلك أوجب حفظ حريم الناس و التحفظ على أسرارهم، و حرّم التفتيش و التجسّس عن دخائل الناس و خفاياهم.

و لكنّ المتأمّل في الآيات و الروايات الواردة في هذا المجال يظهر له أن محطّ هذا التحريم و موضوعه هي الأسرار الفرديّة و العائليّة الّتي لا تمسّ مصالح المجتمع.

و أمّا التي ترتبط بمصالح المجتمع و حفظ النظام فلا محيص فيها عن التفتيش و المراقبة، إذ على الدولة الاسلاميّة الحافظة لنظام المسلمين أن تحصل على الاطلاعات الكافية حول أوضاع الدول و الأمم الأجنبيّة و قراراتهم ضدّ الإسلام

______________________________

(1)- كنز العمال 3/ 808، الباب 2 من كتاب الأخلاق من قسم الأفعال، الحديث 8827.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 547

و المسلمين، و تجمع الأخبار حول تحركاتهم و تحركات عملائهم و جواسيسهم، و مؤامرات الكفّار و أهل النفاق و البغي و الطغيان، و أن تراقب رجال الدولة و الموظفين و أحوال الناس و حوائجهم العامّة، و العقل السليم و الشرع القويم يحكمان بترجيح المصالح العامّة على

الحريّات الفرديّة و وجوب الاهتمام بنظام المسلمين و كيانهم.

و هذه المسؤوليّة المهمّة الواسعة النطاق تفوض لا محالة من قبل الدولة الإسلامية إلى مؤسسة عادلة صالحة لها من جميع الجهات، و يطلق على هذه المؤسسة في اصطلاح عصرنا: «إدارة الأمن و الاستخبارات».

و لا يتبادر إلى ذهنك من هذه الكلمة ما يشابه و يسانخ الأجهزة الجهنّمية المخيفة الموضوعة في أكثر البلاد لقمع الشعوب و خنقها و إخضاعها لسياسة الطواغيت و الجبابرة المستبدّين، و تحطيم الحركات العادلة و إعاقة نموّ الأمّة و رشدها في العقل و السياسة و العلوم و الصناعات.

و إنّما نقصد بذلك مؤسسة عادلة صالحة تهدف إلى الدفاع عن شئون الأمّة و مصالحها و الحفاظ على كيانها في قبال خطط الأعداء و الشياطين و التّحركات الداخليّة و الخارجيّة المشكوكة.

و على هذا فيجب أن تفوّض هذه المسؤوليّة كغيرها من المسؤوليّات العامّة إلى أهلها و أن يدقّق في انتخاب الأعضاء لها و اختيارهم من بين العقلاء الأذكياء الملتزمين بالموازين الشرعيّة المهتمّين بمصالح الأفراد و المجتمع، و يجب أن يتعرّف كلّ منهم على ما يجب الاطلاع عليه و ما يحرم، و يميّز الخطّ الدقيق الفاصل بينهما، فإنّ الأمر في كثير من الموارد دائر بين الواجب المهمّ و الحرام المؤكّد.

و كما يضرّ قطعا اختيار من لا التزام له و لا تقوى لهذه المسؤوليّة المهمّة الماسّة بدخائل الناس و حرماتهم، فكذلك يضرّ اختيار من لا يشخّص الموارد الّتي يجب تعرّفها و التحقيق فيها من الموارد الشخصيّة المحرّمة، أو من تغلب عليه الأحاسيس الآنية الخشنة فيزاحم الناس و يواجههم بوجه عبوس مكفهر، و لا محالة ينبت بذلك في قلوبهم البغضاء و الشقاق.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 548

و لو كان الفرد المسؤول للتحقيق و الاستخبار عاقلا ذكيّا حليما ليّنا رءوفا بالناس عارفا بحدود وظيفته المهمّة لساعده الناس في جميع مراحل عمله، و لصار أكثر الناس عمّالا متطوّعين للأمن العامّ و بذلك تتشابك الدولة و الأمّة و تحصل المعاضدة بينهما في جميع المراحل، فتدبّر. هذا.

و يدلّ على وجوب الاستخبارات و ضرورتها إجمالا مضافا إلى ما يأتي بالتفصيل من الروايات الخاصّة أنّ حفظ نظام المسلمين و كيانهم يتوقّف على الحذر من الأعداء بمراقبتهم و التجسّس على القرارات و التّحركات الصادرة عنهم، و حيث إنّ حفظ النظام من أهمّ ما اهتمّ به الشرع و أوجبه على الدولة و الأمّة فلا محالة وجبت مقدّماته بحكم العقل و الفطرة. و يستفاد وجوب حفظ النظام- مضافا إلى كونه ضروريّا و بديهيّا- من أخبار كثيرة مضى أكثرها في الأبواب و الفصول السابقة و نلفت هنا النظر إلى بعضها:

1- ففي نهج البلاغة: «إنّ هؤلاء قد تمالؤوا على سخطة إمارتي، و سأصبر ما لم أخف على جماعتكم، فإنّهم إن تمّموا على فيالة هذا الرأي انقطع نظام المسلمين.» «1»

قال «ع» ذلك في خطبة له عند مسير أصحاب الجمل إلى البصرة. و فيالة الرأي: ضعفه.

2- و فيه أيضا في كلام له «ع» لعمر بن الخطاب حين استشاره في غزو الفرس بنفسه، قال: «و مكان القيّم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه و يضمّه، فإذا انقطع النظام تفرّق الخرز و ذهب ثمّ لم يجتمع بحذافيره أبدا.» «2»

3- و فيه أيضا: «فرض اللّه الإيمان تطهيرا من الشرك ... و الإمامة نظاما للأمّة و الطاعة تعظيما للإمامة.» «3»

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 549؛ عبده 2/ 100؛ لح/ 244، الخطبة 169.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 442؛ عبده 2/ 39؛

لح/ 203، الخطبة 146.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 1197؛ عبده 3/ 208؛ لح/ 512، الحكمة 252.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 549

و قد مرّ شرح اختلاف نسخ الحديث في الدليل السابع من أدلّة وجوب الإمامة، في الفصل الثالث من الباب الثالث، فراجع.

4- و في أصول الكافي عن الرضا «ع» في حديث طويل: «إنّ الإمامة زمام الدين و نظام المسلمين و صلاح الدنيا و عزّ المؤمنين.» «1»

5- و في كشف الغمة في خطبة الزهراء- سلام اللّه عليها-: «و طاعتنا نظاما للملّة، و إمامتنا لمّا للفرقة.» «2»

6- و في أمالي المفيد بسنده عن ابن عباس، قال: قال رسول اللّه «ص»:

«اسمعوا و أطيعوا لمن ولّاه اللّه الأمر، فإنّه نظام الإسلام.» «3»

7- و في الوسائل في صحيحة يونس، عن أبي الحسن الرضا «ع» فيمن أخذ السلاح من قبل الحكومة و ذهب إلى الثغور قال: «فإن جاء العدوّ إلى الموضع الذي هو فيه مرابط كيف يصنع؟ قال: يقاتل عن بيضة الإسلام. قال: يجاهد؟ قال: لا، إلّا أن يخاف على دار المسلمين. أ رأيتك لو أنّ الروم دخلوا على المسلمين لم ينبغ (لم يسع خ. ل) لهم أن يمنعوهم. قال: يرابط و لا يقاتل، و إن خاف على بيضة الإسلام و المسلمين قاتل فيكون قتاله لنفسه ليس للسلطان، لأنّ في دروس الإسلام دروس ذكر محمد «ص».» «4»

إلى غير ذلك من الأخبار التي يستفاد منها وجوب حفظ النظام و أنّه من أهمّ الفرائض الإسلاميّة فيجب تمهيد مقدّماته و منها مراقبة الأعداء و التجسّس عليهم.

______________________________

(1)- الكافي 1/ 200، كتاب الحجة، باب نادر جامع في فضل الإمام صفاته، الحديث 1.

(2)- كشف الغمة 2/ 109.

(3)- أمالي المفيد/ 14، المجلس 2، الحديث

2.

(4)- الوسائل 11/ 20، الباب 6 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 550

الجهة الثالثة: في بيان شعب الاستخبار و أهدافه و ذكر الأخبار و الروايات الواردة فيها:

اشارة

فنقول: هي أربع شعب:

1- مراقبة العمّال و الموظفين، و أنهم هل يقومون بمسؤوليّاتهم الإداريّة بالصدق و الأمانة أم لا؟ و كيف يواجهون الناس و يتصرّفون في بيت المال؟

2- مراقبة التّحرّكات العسكريّة من قبل الأعداء.

3- مراقبة نشاطات المخالفين و الجواسيس و أهل النفاق و الأحزاب الداخليّة السريّة المعادية للإسلام و الحكومة و الأمّة.

4- مراقبة الأمّة و أحوال الناس في حاجاتهم و خلّاتهم و بعض شكاياتهم و الارتباط الدائم بينهم و بين الحكومة المركزيّة.

و لا نأبى تصدّي بعض الموظّفين لوظائف جميع الشعب المتقدّمة أو الأكثر من واحدة منها، و إنّما المقصود بيان كون كلّ منها وظيفة خاصّة مهمّة يترتّب عليها غرض مخصوص مهمّ.

فلنتعرّض للشعب الاربع في اربعة فصول:
الفصل الأول: في مراقبة العمّال و الموظّفين:

لا يخفى أنّ مجرّد تعيين الوزراء و العمّال و الأمراء للمناصب و الوظائف الإداريّة و إدارة الجنود و تفويض المسؤوليّة إليهم لا يكفي في إدارة الملك و سياسة الأمّة بنحو

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 551

يرضى به العقل و الشرع، بل اللازم مضافا إلى إحراز الأهليّة و الشروط المعتبرة فيهم نصب من يراقبهم و يرصد أعمالهم و معاملاتهم مع المراجعين في شتّى المؤسّسات و لا سيّما في المناطق البعيدة عن مقرّ الحكومة المركزيّة، إذ النفس أمّارة بالسوء، و الأطماع ربّما تغلب على النفوس، و الإنسان محلّ الخطأ و النسيان، و الأقوياء يغلب على طباعهم الإعجاب بالنفس و الاستبداد في الرأي، و تحقير الضعفاء و المستضعفين و عدم الاعتناء بهم، فلا بدّ من المراقبة و التفتيش عنهم في نشاطاتهم و بعث عيون خفيّة ترصدهم كما كان يصنعه رسول اللّه «ص» و أمير المؤمنين «ع»:

1- ففي قرب الإسناد عن الرّيان بن الصلت، قال: سمعت الرضا «ع» يقول:

«كان رسول اللّه «ص»

إذا وجّه جيشا فأمّهم أمير بعث معه من ثقاته من يتجسّس له خبره.» «1»

و رواه عنه في الوسائل هكذا: «إذا بعث جيشا فاتّهم أميرا بعث معه ...» «2»

2- و في نهج البلاغة في عهد أمير المؤمنين «ع» إلى مالك بعد ذكر العمّال و اختيارهم من أهل التجربة و الحياء من أهل البيوتات الصالحة و القدم في الإسلام المتقدّمة، قال: «ثمّ تفقّد أعمالهم، و ابعث العيون من أهل الصدق و الوفاء عليهم، فإنّ تعاهدك في السرّ لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة و الرّفق بالرّعيّة. و تحفّظ من الأعوان، فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا فبسطت عليه العقوبة في بدنه، و أخذته بما أصاب من عمله، ثمّ نصبته بمقام المذلّة و وسمته بالخيانة و قلّدته عار التهمة.» «3»

و روى نحو ذلك في تحف العقول و دعائم الإسلام «4».

فأمير المؤمنين «ع» لم يكتف بالأمر بانتخاب العمّال من أهل التجربة و الحياء و التقدّم في الإسلام، بل أوجب مع ذلك أن تبعث عليهم عيون تبلغ في الصدق

______________________________

(1)- قرب الإسناد/ 148.

(2)- الوسائل 11/ 44، الباب 15 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 4.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 1011؛ عبده 3/ 106؛ لح/ 435، الكتاب 53.

(4)- تحف العقول/ 137؛ و دعائم الإسلام 1/ 361، كتاب الجهاد.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 552

و الوفاء حدّا يوثق بهم ثقة مطلقة بحيث يكتفي بأخبارهم في خيانة العمّال، و أوجب عقوبة الخائن و تذليله حتّى يعتبر بذلك كلّ من سمع و لا يحوم أحد حول الخيانة.

فهذا الذي يحكم أساس الملك و الحكومة و يوجب انجذاب الأمّة إلى الدولة و دفاعها

عنها، لا ما قد يتوهّم من الإغماض و التغاضي عن تقصيرات المسؤولين و خياناتهم باسم الدفاع عن الدولة.

3- و في تحف العقول في عهده هذا إلى مالك في وصيّته للجنود و أمرائهم، قال: «ثمّ لا تدع أن يكون لك عليهم عيون من أهل الأمانة و القول بالحقّ عند الناس فيثبتون بلاء كلّ ذي بلاء منهم ليثق أولئك بعلمك ببلائهم ثمّ اعرف لكلّ امرئ منهم ما أبلى.» «1» و روى نحوه في الدعائم فراجع «2».

أقول: و فيه نقل بالمعنى لا محالة كما هو ظاهر.

و إذا رأينا أن أمير المؤمنين «ع» اهتمّ بمراقبة العمّال و بعث العيون عليهم و أمر مالكا بذلك فلا محالة كان هو بنفسه يراقب عمّاله بعيونه، و لعلّه يشعر بذلك بل يدلّ عليه ما ورد في كتبه إلى عمّاله من بلوغ أخبارهم إليه مع بعد المسافة بين البلاد، حيث إنّ وسائل الإعلام و الاخبار الموجودة في عصرنا لم تكن توجد في تلك الأعصار و مع ذلك كان يبلغه جزئيّات أعمال العمّال حتّى مثل شركة بعضهم في مجلس ضيافة، فيظهر بذلك شدّة عنايته بذلك و بعثه عيونا ترصد أعمالهم و تخبره بها:

1- ففي كتابه إلى عثمان بن حنيف عامله على البصرة: «أمّا بعد يا بن حنيف، فقد بلغني أنّ رجلا من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها، تستطاب لك الألوان و تنقل إليك الجفان، و ما ظننت أنّك تحبيب إلى طعام قوم عائلهم مجفوّ و غنيّهم مدعوّ.» «3»

2- و في كتابه إلى ابن عباس على ما قيل: «أمّا بعد فقد بلغني عنك أمر إن كنت

______________________________

(1)- تحف العقول/ 133.

(2)- دعائم الإسلام 1/ 359، كتاب الجهاد.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 965؛ عبده 3/ 78؛

لح/ 416، الكتاب 45.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 553

فعلته فقد أسخطت ربّك و عصيت إمامك و أخزيت أمانتك، بلغني أنّك جرّدت الأرض فأخذت ما تحت قدميك و أكلت ما تحت يديك فارفع إليّ حسابك.» «1»

3- و في كتابه إلى مصقلة بن هبيرة عامله على أردشير خرّة: «بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت إلهك و أغضبت إمامك: انّك تقسم في ء المسلمين الذي حازته رماحهم و خيولهم و أريقت عليه دماؤهم في من اعتامك من أعراب قومك.» «2»

أقول: الاعتيام: الاختيار.

4- و في كتابه إلى زياد بن أبيه لمّا كتب إليه معاوية يريد استلحاقه:

«و قد عرفت أنّ معاوية كتب إليك يستزلّ لبّك و يستفلّ غربك، فاحذره.» «3»

أقول: اللبّ: القلب. و الغرب: الحدّة و النشاط. و يستفلّ غربك: يطلب فلّ غربك أي ثلم حدّتك.

5- و في كتابه إلى أبي موسى الأشعري عامله على الكوفة و قد بلغه عنه تثبيطه الناس عن الخروج إليه لما ندبهم لحرب الجمل: «أمّا بعد، فقد بلغني عنك قول هو لك و عليك.» «4»

6- و في كتابه إلى المنذر بن جارود العبدي: «أمّا بعد، فإنّ صلاح أبيك غرّني منك و ظننت أنّك تتبع هديه و تسلك سبيله، فإذا أنت فيما رقّى إليّ عنك لا تدع لهواك انقيادا ...» «5»

7- و في كتابه إلى محمد بن أبي بكر عامله على مصر: «أمّا بعد، فقد بلغني موجدتك من تسريح الأشتر الى عملك ...» «6»

8- و في كتابه إلى زياد حين كان خليفة لابن عباس عامله على البصرة:

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 955؛ عبده 3/ 72؛ لح/ 412، الكتاب 40.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 961؛ عبده 3/ 76؛ لح/ 415، الكتاب 43.

(3)-

نهج البلاغة، فيض/ 962؛ عبده 3/ 76؛ لح/ 415، الكتاب 44.

(4)- نهج البلاغة، فيض/ 1052؛ عبده 3/ 133؛ لح/ 453، الكتاب 63.

(5)- نهج البلاغة، فيض/ 1073؛ عبده 3/ 145؛ لح/ 461، الكتاب 71.

(6)- نهج البلاغة، فيض/ 944؛ عبده 3/ 66؛ لح/ 407، الكتاب 34.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 554

«و إنّي أقسم باللّه قسما صادقا لئن بلغني أنّك خنت من في ء المسلمين شيئا صغيرا أو كبيرا لأشدّن عليك.» «1»

إلى غير ذلك من الموارد التي يعثر عليها المتتبّع. هذا.

و في كتاب الخراج الذي كتبه أبو يوسف القاضي لهارون:

«قال أبو يوسف: و أنا أرى أن تبعث قوما من أهل الصلاح و العفاف ممّن يوثق بدينه و أمانته يسألون عن سيرة العمّال و ما عملوا به في البلاد و كيف جبوا الخراج على ما أمروا به و على ما وظف على أهل الخراج و استقرّ، ...

و إن أحللت بواحد منهم العقوبة الموجعة انتهى غيره و اتّقى و خاف، و إن لم تفعل هذا بهم تعدّوا على أهل الخراج و اجترءوا على ظلمهم و تعسّفهم و أخذهم بما لا يجب عليهم. و إذا صحّ عندك من العامل و الوالي تعدّ بظلم و عسف و خيانة لك في رعيّتك و احتجان شي ء من الفي ء أو خبث طعمته أو سوء سيرته فحرام عليك استعماله و الاستعانة به و أن تقلّده شيئا من أمور رعيّتك.» «2»

و فيه أيضا:

«و حدثني بعض علماء أهل الكوفة: أن عليّ بن أبي طالب كتب إلى كعب بن مالك و هو عامله: أمّا بعد فاستخلف على عملك و اخرج في طائفة من أصحابك حتّى تمرّ بأرض السواد كورة كورة فتسألهم عن عمّالهم و

تنظر في سيرتهم حتّى تمرّ بمن كان منهم فيما بين دجلة و الفرات ...» «3»

الفصل الثاني: في مراقبة التّحركات العسكرية للسلطات الخارجيّة:

لا يخفى أنّ مراقبة التّحركات العسكريّة و غيرها للعدوّ، و التّعرف على مواقعه

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 870؛ عبده 3/ 22؛ لح/ 377، الكتاب 20.

(2)- الخراج/ 111.

(3)- الخراج/ 118.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 555

و أسراره النظاميّة و الاقتصاديّة و عن عدّته و عدّته من أهمّ الأسباب للانتصار عليه و الظفر به.

و قد أصبحت فنون التجسّس و طرق التّعرّف على قوى الخصم و إمكانيّاته من المسائل المهمّة التي تدرس اليوم في الجامعات و يربّى فيها طلّاب متخصّصون، إذ صار النجاح و التفوّق على الخصم مرهونا بالإشراف و الاطلاع على قواه و إمكاناته، و قد أبى اللّه أن يجري الأمور إلّا بأسبابها.

و قد حكى عن نابلئون أنّه قال:

«رجل واحد ذكيّ من الاستخبارات خير من ألف مقاتل في ميدان الحرب.»

فلا محيص للحكومة الإسلاميّة من العناية و الاهتمام بهذه المسألة المهمّة الحياتيّة في تقوية الملك و الدولة. و قد كان النبي «ص» و كذا أمير المؤمنين «ع» يهتمّان بهذه المسألة في الغزوات و السرايا.

و لو لم يكن لنا في هذا المجال إلّا قوله- تعالى-: «وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِبٰاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّٰهِ وَ عَدُوَّكُمْ.» «1» لكفى في الدلالة على شرعيّته و وجوب الاهتمام به.

كيف؟! و عمل النبي «ص» أمير المؤمنين «ع» في حروبهما، و الأخبار الواردة المستفيضة بل المتواترة إجمالا تدلّنا على أهميّة هذا الأمر، و لا يضرّنا عدم ثبوت صحّة السند في كلّ واحد واحد من الأخبار بعد العلم إجمالا بصدور بعضها لا محالة:

1- ففي سيرة ابن هشام في

سرية عبد اللّه بن جحش:

«و بعث رسول اللّه «ص» عبد اللّه بن جحش ... و بعث معه ثمانية رهط من المهاجرين، ليس فيهم من الأنصار احد، و كتب له كتابا، و أمره أن لا ينظر فيه حتّى يسير يومين ثمّ ينظر فيه فيمضي لما أمره به و لا يستكره من أصحابه أحدا ...

فلمّا سار عبد اللّه بن جحش يومين فتح الكتاب فنظر فيه، فإذا فيه: إذا نظرت في

______________________________

(1)- سورة الأنفال (8)، الآية 60.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 556

كتابي هذا فامض حتّى تنزل نخلة بين مكّة و الطائف، فترصد بها قريشا و تعلم لنا من أخبارهم. فلمّا نظر عبد اللّه بن جحش في الكتاب قال: سمعا و طاعة. ثمّ قال لأصحابه: قد أمرني رسول اللّه «ص» أن أمضي إلى نخلة أرصد بها قريشا حتّى آتيه منهم بخبر ...» «1»

2- و في المغازي للواقدي في غزوة بدر الكبرى ما ملخّصه:

«قالوا: و لمّا تحيّن رسول اللّه «ص» انصراف العير من الشام ندب أصحابه للعير، و بعث رسول اللّه «ص» طلحة بن عبيد اللّه و سعيد بن زيد قبل خروجه من المدينة بعشر ليال يتحسّسان خبر العير حتّى نزلا على كشد الجهني بالنخبار فأجارهما و أنزلهما و لم يزالا مقيمين عنده في خباء حتّى مرّت العير فنظر إلى القوم و إلى ما تحمل العير، و جعل أهل العير يقولون: يا كشد، هل رأيت أحدا من عيون محمّد؟ فيقول:

أعوذ باللّه و أنّى عيون محمّد بالنخبار؟ فلمّا راحت العير باتا حتّى أصبحا ثمّ خرجا و خرج معهما كشد خفيرا فخرجا يعترضان النّبي «ص» فلقياه بتربان، و قدم كشد بعد ذلك فأخبر النّبيّ «ص» سعيد

و طلحة إجارته إيّاهما فحيّاه رسول اللّه «ص».

الخبر.» «2»

3- و في سيرة ابن هشام في غزوة بدر أيضا ما ملخّصه:

«ثمّ ارتحل رسول اللّه «ص» من ذفران ثمّ نزل قريبا من بدر فركب هو و رجل من أصحابه حتّى وقف على شيخ من العرب فسأله عن قريش و عن محمّد و أصحابه و ما بلغه عنهم ثمّ رجع إلى أصحابه، فلمّا أمسى بعث علي بن أبي طالب و الزبير بن العوّام و سعد بن أبي وقّاص في نفر من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون الخبر له عليه فأصابوا رواية لقريش فيها أسلم، غلام بني الحجّاج، و عريض أبو يسار، غلام بني العاص فأتوا بهما فسألوهما و رسول اللّه «ص» قائم يصلّي، فقالا: نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء، فكره القوم خبرهما و رجوا أن يكونا لأبي سفيان، فضربوهما

______________________________

(1)- سيرة ابن هشام 2/ 252؛ و روى نحوه الواقدي في المغازي 1/ 13.

(2)- المغازي 1/ 19.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 557

فلمّا أذلقوهما قالا: نحن لأبي سفيان فتركوهما، و ركع رسول اللّه و سجد سجدتيه ثمّ سلّم و قال: إذا صدقاكم ضربتموهما و إذا كذباكم تركتموهما، صدقا و اللّه إنّهما لقريش! أخبراني عن قريش قالا: هم و اللّه وراء هذا الكثيب. فقال لهما رسول اللّه «ص»: كم القوم؟ قالا: كثير. قال: ما عدّتهم؟ قالا: لا ندري. قال: كم ينحرون كلّ يوم؟ قالا: يوما تسعا و يوما عشرا. فقال رسول اللّه «ص»: القوم فيما بين التسعمائة و الألف. ثمّ قال لهما: فمن فيهم من أشراف قريش؟ قالا: عتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة و أبو البختري بن هشام ... فأقبل رسول

اللّه «ص» على الناس فقال:

هذه مكّة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها.» «1»

4- و في صحيح مسلم بسنده عن أنس بن مالك، قال:

«بعث رسول اللّه «ص» بسيسة عينا ينظر ما صنعت عير أبي سفيان» «2»

و رواه البيهقي عن مسلم، و رواه أبو داود في السنن أيضا بسنده عن أنس «3».

و في سيرة ابن هشام وردت الرواية هكذا:

«حتّى إذا كان «ص» قريبا من الصفراء بعث بسبس بن الجهني حليف بني ساعدة و عديّ بن أبي الزغباء الجهني حليف بني النجار إلى بدر يتجسّسان له الأخبار عن أبي سفيان بن حرب و غيره.» «4» (إلى أن قال): «و كان بسبس بن عمرو و عديّ بن أبي الزغباء قد مضيا حتّى نزلا بدرا فأناخا إلى تلّ قريب من الماء ثمّ أخذا شنّا لهما يستقيان فيه، و مجديّ بن عمرو الجهني على الماء فسمع عديّ و بسبس جاريتين من جواري الحاضر و هما يتلازمان على الماء، و الملزومة تقول لصاحبتها: إنّما تأتي العير غدا أو بعد غد فاعمل لهم ثمّ أقضيك الذي لك. قال مجديّ: صدقت، ثمّ خلّص بينهما و سمع ذلك عديّ و بسبس فجلسا على بعيريهما ثمّ انطلقا حتّى أتيا رسول اللّه «ص» فأخبراه بما سمعا.» «5»

______________________________

(1)- سيرة ابن هشام 2/ 267.

(2)- صحيح مسلم 3/ 1510، كتاب الإمارة، الباب 41 (باب ثبوت الجنّة للشهيد)، الحديث 1901.

(3)- سنن البيهقي 9/ 148، كتاب السير، باب بعث العيون؛ و سنن أبي داود 2/ 37، كتاب الجهاد، باب في بعث العيون.

(4)- سيرة ابن هشام 2/ 265.

(5)- سيرة ابن هشام 2/ 269.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 558

أقول: في مسلم و البيهقي و أبي داود: بسيسة كفعيلة مصغرة،

و في السيرة: بسبس كفعلل و روي بسبسة كفعللة و بسيبسة كفعيللة مصغرة، و راجع في ذلك الإصابة لابن حجر. «1» و التلازم: تعلّق الغريم بغريمه. و الملزومة: المدينة.

5- و في التراتيب الإدارية قال:

«و في ترجمة أبي تميم الأسلمي من طبقات ابن سعد: هو أرسل غلامه مسعود بن هنيدة من العرج على قدميه إلى رسول اللّه «ص» يخبره بقدوم قريش عليه و ما معهم من العدد و العدد الخيل و السلاح ليوم أحد.» «2»

أقول: فهو كان متطوّعا في الاستخبارات، و نظائره كانت كثيرة في صدر الإسلام.

6- و في المغازي للواقدي في غزوة أحد:

«و بعث النبيّ «ص» عينين له أنسا و مونسا ابني فضالة ليلة الخميس، فاعترضا لقريش بالعقيق فسارا معهم حتّى نزلوا بالوطاء فأتيا رسول اللّه «ص» فأخبراه.» «3»

7- و فيه أيضا في غزوة أحد:

«فلمّا نزلوا و حلّوا العقد و اطمأنّوا بعث رسول اللّه «ص» الحباب بن منذر بن الجموح إلى القوم فدخل فيهم و حزر و نظر إلى جميع ما يريد و بعثه سرّا و قال للحباب:

لا تخبرني بين أحد من المسلمين إلّا أن ترى في القوم قلّة فرجع اليه فأخبره خاليا ...» «4»

أقول: حزر: قدّر و خمّن.

8- و في سيرة ابن هشام في غزوة أحد بعد ما انصرف قريش:

«ثمّ بعث رسول اللّه «ص» علي بن أبي طالب فقال: اخرج في آثار القوم فانظر ما ذا

______________________________

(1)- الإصابة لابن حجر 1/ 147.

(2)- التراتيب الإدارية 1/ 362.

(3)- المغازي 1/ 206.

(4)- المغازي 1/ 207.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 559

يصنعون و ما يريدون: فإن كانوا قد جنّبوا الخيل و امتطوا الإبل فإنّهم يريدون مكّة، و إن ركبوا الخيل و ساقوا الإبل

فإنّهم يريدون المدينة. و الذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرنّ إليهم فيها ثمّ لأناجزنّهم. قال عليّ: فخرجت في آثارهم أنظر ما ذا يصنعون، فجنبوا الخيل و امتطوا الإبل و وجّهوا إلى مكّة.» «1»

9- و في طبقات ابن سعد في غزوة أحد:

«و كتب العباس بن عبد المطلب خبرهم كلّه إلى رسول اللّه «ص»، فأخبر رسول اللّه «ص» سعد بن الربيع بكتاب العباس.» «2»

10- و في التراتيب الإدارية عن الاستيعاب في أخبار العباس بن عبد المطلب عم رسول اللّه «ص»، قال:

«أسلم العباس قبل فتح خيبر و كان يكتم إسلامه، و كان يكتب بأخبار المشركين إلى رسول اللّه «ص»، فكتب إليه: أنّ مقامك بمكّة خير.» «3»

11- و في سيرة ابن هشام في غزوة الخندق ما ملخّصه:

«ثمّ إنّ نعيم بن مسعود أتى رسول اللّه «ص» فقال: يا رسول اللّه، إنّي قد أسلمت و إنّ قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت، فقال رسول اللّه «ص»: إنّما أنت فينا رجل واحد فخذّل عنّا إن استطعت، فإنّ الحرب خدعة.

فخرج نعيم بن مسعود حتّى أتى بني قريظة و كان لهم نديما في الجاهلية، فقال:

يا بني قريظة، قد عرفتم ودّي إيّاكم و خاصّة ما بيني و بينكم. قالوا: صدقت، لست عندنا بمتّهم، فقال لهم: إنّ قريشا و غطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، فيه أموالكم و أبناؤكم و نساؤكم لا تقدرون على أن تحولوا منه إلى غيره، و إن قريشا و غطفان قد جاؤوا لحرب محمّد و أصحابه و قد ظاهرتموهم عليه، و بلدهم و أموالهم و نساؤهم بغيره فليسوا كأنتم، فإن رأوا نهزة أصابوها، و إن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم و خلّوا بينكم و بين الرجل و لا طاقة لكم به فلا

تقاتلوا مع القوم حتّى تأخذوا منهم

______________________________

(1)- سيرة ابن هشام 3/ 100.

(2)- طبقات ابن سعد، القسم الأول من الجزء الثاني/ 25.

(3)- التراتيب الإدارية 1/ 363.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 560

رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمّدا حتّى تناجزوه، فقالوا له: قد أشرت بالرأي.

ثم خرج حتّى أتى قريشا فقال لأبي سفيان: قد عرفتم ودّي لكم و فراقي محمّدا و إنّه قد بلغني أنّ معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم و بين محمّد، و قد أرسلوا إليه أنا قد ندمنا فهل يرضيك أن نأخذ من القبيلتين- من قريش و غطفان- رجالا من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم ثمّ نكون معك.

ثمّ خرج إلى غطفان و قال لهم مثل ما قال لقريش.

فلمّا كانت ليلة السبت أرسل أبو سفيان و رءوس غطفان إلى بني قريظة أن اغدوا للقتال حتّى نناجز محمدا، فأرسلوا إليهم أنّ اليوم يوم السبت و لا نعمل فيه شيئا، و لسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا.

فلمّا رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة، قالت قريش و غطفان: و اللّه إنّ الذي حدّثكم نعيم بن مسعود لحقّ، فأرسلوا إلى بني قريظة: إنّا و اللّه لا ندفع إليكم أحدا من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا، فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا: إنّ الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحقّ، ما يريد القوم إلّا أن يقاتلوا فإن رأوا فرصة انتهزوها، و إن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم و خلّوا بينكم و بين الرجل في بلدكم، فخذل اللّه بينهم، و بعث اللّه عليهم

الريح ...» «1»

12- و فيه أيضا في غزوة الخندق أيضا ما ملخّصه:

«فلمّا انتهى إلى رسول اللّه «ص» ما اختلف من أمرهم و ما فرّق اللّه من جماعتهم دعا حذيفة بن اليمان فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلا.

قال حذيفة: التفت إلينا رسول اللّه «ص» فقال: من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثمّ يرجع؟ فما قام رجل من القوم من شدّة الخوف و شدّة الجوع و شدّة البرد، فلمّا لم يقم أحد دعاني رسول اللّه «ص» فقال: يا حذيفة، اذهب فادخل في القوم

______________________________

(1)- سيرة ابن هشام 3/ 240.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 561

فانظر ما ذا يصنعون و لا تحدثنّ شيئا حتّى تأتينا.

قال: فذهبت فدخلت في القوم، و الريح و جنود اللّه تفعل بهم ما تفعل لا تقرّ لهم قدرا و لا نارا و لا بناء، فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش، لينظر امرؤ من جليسه؟

قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي فقلت: من أنت؟ قال:

فلان بن فلان، ثمّ قال أبو سفيان: يا معشر قريش، لقد هلك الكراع و الخفّ و اخلفتنا بنو قريظة و لقينا من شدّة الريح ما ترون، فارتحلوا فإنّي مرتحل، ثمّ قام إلى جمله. و لو لا عهد رسول اللّه «ص» إلى: «إن لا تحدث شيئا حتّى تأتيني» لقتلته بسهم.

فرجعت إلى رسول اللّه «ص» و هو قائم يصلّى في مرط لبعض نسائه، فلمّا رآني أدخلني إلى رجليه و طرح عليّ طرف المرط ثمّ ركع و سجد و إنّي لفيه فلمّا سلّم أخبرته الخبر.» «1»

13- و في المغازي للواقدي في غزوة الخندق قال:

«قال خوّات بن جبير: دعاني رسول اللّه «ص» و نحن

محاصرو الخندق، فقال:

انطلق إلى بني قريظة فانظر هل ترى لهم غرّة أو خللا من موضع فتخبرني. قال:

فخرجت من عنده عند غروب الشمس فتدلّيت من سلع و غربت لي الشمس.»

الحديث بطوله، فراجع «2».

14- و في المغازي للواقدي أيضا في غزوة دومة الجندل ما ملخّصه:

«أنّه قد ذكر لرسول اللّه «ص» أنّ بدومة الجندل جمعا كثيرا و أنّهم يظلمون من مرّ بهم من الضافطة و كان بها سوق عظيم و تجّار، فندب رسول اللّه «ص» الناس فخرج في ألف من المسلمين فكان يسير الليل و يكمن النهار و معه دليل له من بني عذرة. و لمّا دنا رسول اللّه من دومة الجندل قال له الدليل يا رسول اللّه، إنّ سوائمهم ترعى فأقم حتّى اطّلع لك، فخرج طليعة حتّى وجد آثار النعم و الشاء و هم مغرّبون ثمّ رجع إلى النّبيّ «ص» فأخبره و قد عرف مواضعهم فسار

______________________________

(1)- سيرة ابن هشام 3/ 242.

(2)- المغازي 1/ 460 (الجزء 2).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 562

النبي «ص» ...» «1»

أقول: دومة بضم الدال و تفتح، قيل: بين دومة الجندل و المدينة خمس عشرة ليلة. و الضافطة جمع ضافط الذي يجلب المتاع إلى المدن. و المغرّب من غرّب بالتشديد: بعد و نزح عن الوطن.

15- و فيه أيضا في غزوة بني المصطلق و يقال لها غزوة المريسيع باسم ماء لهم يسمّى بذلك، قال:

«إنّ سيد بني المصطلق الحارث بن أبي ضرار قد سار في قومه و من قدر عليه من العرب فدعاهم إلى حرب رسول اللّه فابتاعوا خيلا و سلاحا و تهيئوا للمسير إليه، و جعلت الركبان تقدم من ناحيتهم فيخبرون بمسيرهم فبلغ رسول اللّه «ص» فبعث بريدة

بن الحصيب الأسلمي يعلم علم ذلك. و استأذن النبيّ «ص» أن يقول، فأذن له، فخرج حتّى ورد عليهم ماءهم فوجد قوما مغرورين قد تألّبوا و جمعوا الجموع، فقالوا: من الرجل؟ قال: رجل منكم قدمت لما بلغني عن جمعكم لهذا الرجل فأسير في قومي و من أطاعني فتكون يدنا واحدة حتّى نستأصله. قال الحارث بن أبي ضرار: فنحن على ذلك فعجّل علينا. قال بريدة: أركب الآن فآتيكم بجمع كثيف من قومي و من أطاعني فسرّوا بذلك منه و رجع إلى رسول اللّه فأخبره خبر القوم ...» «2»

أقول: و يدلّ الخبر على جواز الكذب في الحرب لإغفال العدوّ، فإنّ الحرب خدعة.

16- و في مجمع البيان في غزوة الحديبيّة:

«و بعث «ص» بين يديه عينا له من خزاعة يخبره عن قريش: و سار رسول اللّه «ص» حتّى إذا كان بغدير الأشطاط قريبا من عسفان أتاه عينه

______________________________

(1)- المغازي 1/ 403.

(2)- المغازي 1/ 404.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 563

الخزاعي فقال: إنّي تركت كعب بن لؤيّ و عامر بن لؤيّ قد جمعوا لك الأحابيش و جمعوا جموعا و هم قاتلوك أو مقاتلوك و صادّوك عن البيت. فقال «ص»: روحوا فراحوا.» «1»

أقول: في لسان العرب:

«و الأحبوش: جماعة الحبش ... و قيل هم الجماعة أيّا كانوا لأنّهم إذا تجمّعوا اسودّوا ... و حبشي: جبل بأسفل مكّة يقال منه سمّي أحابيش قريش، و ذلك أنّ بني المصطلق و بني الهون بن خزيمة اجتمعوا عنده فحالفوا قريشا ... فسمّوا أحابيش قريش باسم الجبل.» «2»

و في المنجد:

الحباشة و الأحبوش و الأحبوشة: الجماعة من الناس ليسوا من قبيلة واحدة. «3»

17- و في المغازي في غزوة خيبر ما ملخّصه:

«و بعث رسول اللّه

«ص» عباد بن بشر في فوارس طليعة، فأخذ عينا لليهود من أشجع فقال: من أنت؟ قال: باغ أبتغي أبعرة ضلّت لي، قال له عبّاد: أ لك علم بخيبر؟ قال: عهدي بها حديث، فيم تسألني عنه؟ قال: عن اليهود. قال: نعم، كان كنانة و هوذة في حلفائهم من غطفان معدّين مؤيّدين بالكراع و السلاح، و في حصونهم عشرة آلاف مقاتل، و هم أهل الحصون الّتي لا ترام و سلاح و طعام كثير لو حصروا لسنين لكفاهم، ما أرى لأحد بهم طاقة، فرفع عباد بن بشر السوط فضربه ضربات و قال: ما أنت إلّا عين لهم، اصدقني و إلّا ضربت عنقك، فقال الأعرابي:

القوم مرعوبون منكم خائفون و وجلون لما قد صنعتم بمن كان بيثرب من اليهود ...» «4»

18- و فيه أيضا في غزوة حنين ما ملخّصه:

______________________________

(1)- مجمع البيان 5/ 117، (الجزء 9).

(2)- لسان العرب 6/ 278.

(3)- المنجد/ 114.

(4)- المغازي للواقدي 1/ 640 (الجزء 2).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 564

«قالوا: و دعا رسول اللّه «ص» عبد اللّه بن أبي حدرد الأسلمي فقال: انطلق فادخل في الناس حتّى تأتي بخبر منهم و ما يقول مالك فخرج عبد اللّه فطاف في عسكرهم ثمّ انتهى إلى ابن عوف فيجد عنده رؤساء هوازن فسمعه يقول لأصحابه ... إذا كان في السحر فصفّوا مواشيكم و نساءكم و أبناءكم من ورائكم ثمّ صفّوا صفوفكم ثمّ تكون الحملة منكم و اكسروا جفون سيوفكم و احملوا حملة رجل واحد و اعلموا أنّ الغلبة لمن حمل أوّلا. فلمّا وعى ذلك عبد اللّه بن أبي حدرد رجع إلى النّبيّ «ص» فأخبره بكلّ ما سمع ...» «1»

و روى نحوه في التراتيب الإدارية عن

سيرة ابن إسحاق «2».

19- و في تفسير نور الثقلين عن أمالي الشيخ بسنده عن الحلبي، قال: «سألت أبا عبد اللّه «ع» عن قول اللّه- عزّ و جلّ-: «وَ الْعٰادِيٰاتِ ضَبْحاً.» قال: وجّه رسول اللّه «ص» عمر بن الخطّاب في سريّة فرجع منهزما يجبّن أصحابه و يجبّنونه. فلمّا انتهى إلى النبيّ «ص» قال لعليّ «ع»: أنت صاحب القوم فتهيّأ أنت و من تريد من فرسان المهاجرين و الأنصار فوجّهه رسول اللّه «ص» و قال له: اكمن النهار و سر الليل و لا تفارقك العين. قال: فانتهى عليّ «ع» إلى ما أمره رسول اللّه «ص» فسار إليهم. فلمّا كان عند وجه الصبح أغار عليهم فأنزل اللّه على نبيّه: «وَ الْعٰادِيٰاتِ ضَبْحاً» إلى آخرها.» «3»

20- و في طبقات ابن سعد في سريّة أسامة بن زيد:

«أمر رسول اللّه «ص» الناس بالتهيؤ لغزو الروم. فلمّا كان من الغد دعا أسامة بن زيد فقال: سر إلى موضع مقتل أبيك فأوطئهم الخيل فقد ولّيتك هذا الجيش فاغر صباحا على أهل ابنى و حرّق عليهم و اسرع السير تسبق الأخبار، فإن ظفّرك اللّه فاقلل اللبث فيهم و خذ معك الأدلّاء، و قدم العيون و الطلائع أمامك.» «4»

______________________________

(1)- المغازي 2/ 893 (الجزء 3).

(2)- التراتيب الإدارية 1/ 362.

(3)- نور الثقلين 5/ 651.

(4)- طبقات ابن سعد، القسم الأوّل من الجزء الثاني/ 136؛ و روى نحوه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 1/ 159.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 565

21- و في التراتيب الادارية قال:

«و في البخاري في قصة الهجرة عن عائشة قالت: و كان عبد اللّه بن أبي بكر يأتيهما بأخبار قريش و هو غلام شابّ فطن، فكان يبيت عندهما

و يخرج من السحر فيبيت مع قريش.» «1»

22- و فيه أيضا قال:

«و ترجم في الإصابة لأميّة بن خويلد فذكر أنّ المصطفى «ص» بعثه عينا وحده إلى قريش قال: فجئت إلى خشبة خبيب و أنا أتخوّف العيون فرقيت فيها فحللت خبيبا.

23- و ترجم فيها أيضا لبشر بن سفيان العتكي فذكر فيها:

أنّه «ص» أرسله إلى مكّة يتجسّس له أخبار قريش.

24- و ترجم فيها أيضا لجبلة بن عامر البلوى فذكر أنّه كان عين المصطفى يوم الأحزاب.

25- و ترجم فيها أيضا لخبيب بن عديّ الأنصاري فذكر عن البخاري:

بعث رسول اللّه «ص» عشرة رهط عينا، و أمر عليهم عاصم بن ثابت. ثمّ نقل أيضا عن تخريج ابن أبي شيبة أنّه «ص» بعثه وحده عينا لقريش.» «2»

26- و فيه أيضا قال:

«و ترجم في الإصابة لأنس بن أبي مرثد الغنوي فنقل عن ابن سعد: هو كان عين النبي «ص» بأوطاس.» «3»

هذا ما عثرنا عليه عاجلا من عيون النّبي «ص» و طلائعه في غزواته و سراياه.

و لعلّ المتتبّع يقف على أكثر من هذا.

27- و في نهج البلاغة في كتابه «ع» إلى قثم بن العباس عامله على مكّة: «أمّا بعد، فإن عيني بالمغرب كتب إليّ يعلمني أنّه وجّه إلى الموسم أناس من أهل الشام، العمي

______________________________

(1)- التراتيب الإدارية 1/ 361.

(2)- التراتيب الإدارية 1/ 362.

(3)- التراتيب الإدارية 1/ 363.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 566

القلوب الصمّ الأسماع الكمه الأبصار الذين يلتمسون الحقّ بالباطل ... فأقم على ما في يديك قيام الحازم الصليب ...» «1»

28- و في نهج البلاغة أيضا في وصية له- عليه السلام- وصّى بها جيشا:

«و اجعلوا لكم رقباء في صياصي الجبال و مناكب الهضاب لئلّا يأتيكم العدوّ من

مكان مخافة أو أمن. و اعلموا أنّ مقدمة القوم عيونهم، و عيون المقدّمة طلائعهم، و إيّاكم و التفرق ...» «2»

29- و في تحف العقول في وصية أمير المؤمنين «ع» لزياد بن النضر حين أنفذه على مقدّمته إلى صفّين:

«اعلم أنّ مقدّمة القوم عيونهم، و عيون المقدّمة طلائعهم، فإذا أنت خرجت من بلادك و دنوت من عدوّك فلا تسأم من توجيه الطلائع في كلّ ناحية و في بعض الشعاب و الشجر و الخمر و في كلّ جانب حتّى لا يغيركم عدوّكم و يكون لكم كمين ...

و إذا نزلتم بعدوّ أو نزل بكم فليكن معسكركم في أقبال الأشراف أو في سفاح الجبال أو أثناء الأنهار كيما يكون لكم ردءا و دونكم مردّا. و لتكن مقاتلتكم من وجه واحد أو اثنين، و اجعلوا رقباءكم في صياصي الجبال و بأعلى الاشراف و بمناكب الأنهار يريئون لكم لئلّا يأتيكم عدوّ من مكان مخافة أو أمن.» «3»

أقول: «الخمر» بفتحتين: كلّ ما وراءك من جبل أو غيره. و القبل من الجبل بضمتين: سفحه، و الجمع أقبال. و الشرف بفتحتين: المكان العالي، و الجمع أشراف. و الصياصي: الحصون و القلاع، و صياصي الجبال: أطرافها العالية.

و مناكب الأنهار: جوانبها. و الهضاب جمع الهضبة: الجبل المنبسط.

30- و في دعائم الإسلام: عن عليّ «ع» أنّه رأى بعثة العيون و الطلائع بين أيدي

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 942؛ عبده 3/ 65؛ لح/ 406، الكتاب 33.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 854؛ عبده 3/ 14؛ لح/ 371، الكتاب 11.

(3)- تحف العقول/ 191.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 567

الجيوش و قال: «إنّ رسول اللّه «ص» بعث عامّ الحديبيّة بين يديه عينا له من خزاعة.» «1»

31- و في

شرح ابن أبي الحديد عن كتاب الغارات:

«أنّ معاوية اختلق كتابا نسبه إلى قيس بن سعد و قرأه على أهل الشام ... فشاع في الشام كلّها أنّ قيسا صالح معاوية، و أتت عيون علي بن أبي طالب إليه بذلك فأعظمه و أكبره و تعجّب له ...» «2»

إلى غير ذلك من الروايات التي يعثر عليها المتتبّع.

و يظهر من الروايات أنّه لا ينحصر مراقبة الأعداء بميادين القتال و حالة الحرب الفعلية، بل يتعيّن مراقبتهم و لو في عقر دارهم و التجسّس على قواهم و إمكاناتهم النفسية و العسكرية و الصناعيّة و الاقتصاديّة بعد ما ظهر و تبيّن عنادهم و بغضاؤهم للإسلام و المسلمين.

و في أعصارنا قد كان الواجب على الدول الإسلاميّة أن يتجسّسوا على دول الكفر العالمي و قراراتهم و صناعاتهم الحربيّة و غير ذلك، و لكنّهم تركوا ذلك و أغفلوا عنها حتّى واجهوا استيلاء الكفّار على بلادهم و شئونهم و إحاطة جواسيس الكفر بهم من كلّ جانب، اللّهم فأعزّ الإسلام و أهله، و اخذل الكفر و أهله.

الفصل الثالث: في مراقبة نشاطات المخالفين و أهل النفاق و الجواسيس و الأحزاب السريّة الداخلية المعاندة:

لا يخفى أنّ حفظ النظام و الدولة الحقّة العادلة يتوقّف على دفع التّحركات الداخليّة المخالفة و تفريق الجموع المعادية، و إلّا خيف على الدولة و الأمّة أن تفاجئا

______________________________

(1)- دعائم الإسلام 1/ 369، كتاب الجهاد.

(2)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6/ 62.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 568

مواجهة قوى متجمعة معاندة ضدّهما فتنفشلان و تسقط الدولة و تتحمّل الأمّة خسارات كثيرة في الأموال و النفوس، و من الواضح أنّ ذلك يتوقّف على المراقبة الصحيحة لتحرّكات أهل الريب و الطابور الخامس و تجمّعاتهم السريّة بالاستخبارات الدقيقة و العيون البصيرة المحدّقة.

و يدلّ على جواز ذلك بل

وجوبه مضافا إلى ما مرّ من الأدلّة العامّة على وجوب حفظ النظام، و إلى تنقيح المناط القطعي ممّا مرّ من الروايات في الموارد الخاصّة بعض ما ورد في خصوص المقام أيضا:

1- قال اللّه- تعالى- في شأن المنافقين: «هُمُ الْعَدُوُّ، فَاحْذَرْهُمْ، قٰاتَلَهُمُ اللّٰهُ أَنّٰى يُؤْفَكُونَ؟» «1»

قال الراغب:

«الحذر: احتراز عن مخيف.» «2»

فاللّه- تعالى- أوجب الاحتراز عن المنافقين. و إطلاق الحذر و الاحتراز يقتضي مراقبتهم في نشاطاتهم و تجمعاتهم، بل هي من أظهر طرق الحذر و مصاديقه، و المسلمون في عصر النبي «ص» صاروا ببركة الوعي و الرشد السياسي الذي تلقّوه منه «ص» بأجمعهم إلّا ما شذّ عيونا للنبيّ «ص» يرصدون و يراقبون قرارات المنافقين و تحرّكاتهم، كما كانوا يراقبون تحرّكات الكفّار في الغزوات و السرايا و غيرها، و كانوا يرون ذلك وظيفة إسلاميّة جعلت على عاتقهم، فترى زيد بن أرقم لمّا سمع من عبد اللّه بن أبيّ المنافق قوله: «لَئِنْ رَجَعْنٰا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ» «3» مريدا بالأعزّ نفسه و بالأذلّ رسول اللّه «ص» عارضه زيد بذلك ثمّ مشى إلى رسول اللّه «ص» و أخبره حتّى قال له رسول اللّه «ص» في نهاية الأمر: «يا غلام، صدق فوك و وعت أذناك و وعى قلبك، و قد أنزل اللّه فيما قلت قرآنا.» «4»

______________________________

(1)- سورة المنافقين (63)، الآية 4.

(2)- مفردات الراغب/ 109.

(3)- سورة المنافقين (63)، الآية 8.

(4)- مجمع البيان 5/ 294، (الجزء 10) في تفسير سورة المنافقين.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 569

2- و لمّا فارق الخرّيت بن راشد الناجي و أصحابه بعد واقعة صفّين أمير المؤمنين «ع» و تفرّقوا في البلاد كتب أمير المؤمنين «ع» إلى عمّاله في البلاد:

«بسم اللّه الرحمن

الرحيم من عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين إلى من قرأ كتابي هذا من العمّال. أمّا بعد، فإنّ رجالا لنا عندهم بيعة خرجوا هرّابا فنظنّهم وجّهوا نحو بلاد البصرة فاسأل عنهم أهل بلادك و اجعل عليهم العيون في كلّ ناحية من أرضك ثمّ اكتب إليّ بما ينتهي إليك عنهم، و السلام.» «1»

و لعلّ المتتبّع يقف على موارد أخر من هذا القبيل فتتبّع.

و لا يخفى أنّ هذا القسم من المراقبة كأنّه شعبة من القسم الثاني، أعني مراقبة التحرّكات العسكريّة للأعداء، فيدلّ عليه جميع ما أقمناه من الأدلّة للقسم الثاني، و لكن أفردناه بالبحث إشعارا بأهميّته و لزوم الاهتمام بتحرّكات المنافقين و الأحزاب الداخليّة كما يهتمّ بتحرّكات الأجانب و الكفّار.

3- و لعلّه يكون من هذا القبيل أيضا ما رواه في نكاح الوسائل عن زرارة، عن أبي جعفر «ع»، قال: «دخل رجل على عليّ بن الحسين «ع» فقال: إنّ امرأتك الشيبانيّة خارجيّة تشتم عليّا «ع» فإن سرّك أن أسمعك ذلك منها اسمعتك؟ قال: نعم. قال: فإذا كان حين تريد أن تخرج كما كنت تخرج فعد فاكمن في جانب الدار. قال: فلمّا كان من الغد كمن في جانب الدار و جاء الرجل فكلّمها فتبيّن منها ذلك فخلّى سبيلها و كانت تعجبه.» «2»

أقول: يظهر من التواريخ أنّ الخوارج في تلك الأعصار كانوا ذوي تشكيلات و لجان سياسيّة سرّيّة، فلعلّ المرأة كانت عنصرا نفوذيّا في بيته «ع» من قبل تشكيلاتهم لأغراض سياسيّة، فلا يعترض بأنّ التفتيش عن العقائد الشخصيّة غير جائزة، فتدبّر. هذا.

______________________________

(1)- الغارات 1/ 337؛ و تاريخ الطبري 6/ 3422 (طبعة ليدن)؛ و شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3/ 130.

(2)- الوسائل 14/ 425، الباب 10 من أبواب ما يحرم بالكفر،

الحديث 7.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 570

و لعلّ المقصود بالمريب الذي أمر أمير المؤمنين «ع» بعض عمّاله بالشدّة عليه أيضا هو المنافق أو محتمل النفاق المشكوك في حركاته و أفعاله، و لا يخفى أنّ من الشدّة عليه مراقبة قراراته و تحركاته. و على هذا فيدلّ على الحكم الروايات التالية أيضا:

4- ففي كتابه «ع» إلى حذيفة بن اليمان عامله على المدائن: «و قد ولّيت أموركم حذيفة بن اليمان، و هو ممّن أرضى بهداه، و أرجو صلاحه، و قد أمرته بالإحسان إلى محسنكم و الشدة على مريبكم، و الرفق بجميعكم ...» «1»

5- و في كتابه «ع» إلى أهل مصر لمّا ولّى عليهم قيس بن سعد: «و قد بعثت لكم قيس بن سعد الأنصاري أميرا فوازروه و أعينوه على الحقّ، و قد أمرته بالإحسان إلى محسنكم و الشدّة إلى (على خ. ل) مريبكم، و الرفق بعوامّكم و خواصّكم، و هو ممّن أرضى هديه و أرجو صلاحه و نصحه.» «2»

6- و في الغرر و الدرر للآمدي عن أمير المؤمنين «ع»: «أقم الناس على سنّتهم و دينهم، و ليأمنك برئهم و ليخفك مريبهم و تعاهد ثغورهم و أطرافهم.» «3»

7- و في نهج البلاغة: «و لكني أضرب بالمقبل إلى الحقّ المدبر عنه، و بالسامع المطيع العاصي المريب أبدا.» «4»

أقول: قال ابن الأثير في النهاية:

«قد تكرّر في الحديث ذكر الريب، و هو بمعنى الشكّ، و قيل: هو الشكّ مع التهمة يقال: رابني الشي ء و أرابني بمعنى شككني.» «5»

______________________________

(1)- نهج السعادة 4/ 24.

(2)- نهج السعادة 4/ 28 عن الغارات.

(3)- الغرر و الدرر 2/ 215، الحديث 2419.

(4)- نهج البلاغة، فيض/ 59؛ عبده 1/ 37؛ لح/ 53، الخطبة 6.

(5)-

النهاية 2/ 286.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 571

الفصل الرابع: في مراقبة الأمّة في حاجاتها و خلّاتها و شكاياتها و ما تتوقّعه من الحكومة المركزيّة و في تعهّداتها للحكومة و ما تتوقّعه الحكومة منها:
[تأسيس الدولة ليس لإعمال السلطة و القدرة على العباد]

اعلم أنّ تأسيس الدولة عندنا ليس لإعمال السلطة و القدرة على العباد و الاستبداد عليهم من الحاكم بما شاء و أراد، بل لإدارة أمور الأمّة بالقسط و العدل على طبق موازين الشرع و مصالح الأمّة. فالغرض منها إصلاح أمر الأمّة. و ما هو الحافظ للدولة و الضامن لقدرتها على التنفيذ هو قوّة الأمّة و دفاعها، فلا محالة يتعيّن وجود الارتباط التامّ بين الحكومة و الأمّة و التعرّف على حاجات الطرفين و توقّعاتهما بوسائط منصوبة أو منتخبة يراقبون الأمّة و يتردّدون بينها و بين الحكومة.

و قد كان يطلق في الأعصار الأول للإسلام على هذه الوسائط اسم النقباء و العرفاء.

و في بعض الأخبار الواردة و إن ورد ذمّ العرافة، و لكنّها نظير الأخبار الواردة في ذمّ الإمارة لا يراد بالعرافة فيها إلّا ما كانت من قبل حكّام الجور للتعرّف على من يخالفهم من أهل الصدق و الإيمان كما يظهر ذلك بمراجعة أخبار الباب، و إلّا فرسول اللّه «ص» و كذا أمير المؤمنين «ع» أمضيا في حكمهما و سياستهما لأمور الأمّة أمر النقابة و العرافة، كما سيظهر:

1- ففي سيرة ابن هشام: «أنّ رسول اللّه «ص» حين ما بايعه أهل المدينة في العقبة الثانية قال لهم: «أخرجوا إليّ منكم اثنى عشر نقيبا ليكونوا على قومهم بما فيهم.

فأخرجوا منهم اثنى عشر نقيبا: تسعة من الخزرج و ثلاثة من الأوس ... إنّ رسول اللّه «ص» قال للنقباء: أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريّين لعيسى بن مريم، و أنا كفيل على قومي- يعني المسلمين-. قالوا: نعم.» «1»

______________________________

(1)- سيرة ابن هشام 2/ 85.

دراسات في ولاية الفقيه و

فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 572

و روى هذا في البحار عن علي بن إبراهيم هكذا: «فقال رسول اللّه «ص»:

«أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبا يكفلون عليكم بذلك كما أخذ موسى «ع» من بني إسرائيل اثني عشر نقيبا. فقالوا: اختر من شئت.» «1»

و فيه أيضا عن المناقب هكذا: «أخرجوا إليّ منكم اثنى عشر نقيبا. فاختاروا، ثمّ قال: أبايعكم كبيعة عيسى بن مريم للحواريّين كفلاء على قومهم بما فيهم، و على أن تمنعوني ممّا تمنعون منه نساءكم و أبناءكم. فبايعوه على ذلك.» «2»

أقول: قال اللّه- تعالى-: «وَ لَقَدْ أَخَذَ اللّٰهُ مِيثٰاقَ بَنِي إِسْرٰائِيلَ وَ بَعَثْنٰا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً.» «3»

2- و في التراتيب الإدارية قال:

«ترجم في الإصابة لأسعد بن زرارة فخرّج في ترجمته من طريق الحاكم أنّه لمّا مات جاء بنو النجّار فقالوا: يا رسول اللّه، مات نقيبنا فنقّب علينا. قال: أنا نقيبكم ... و نحوه في ترجمته من الاستبصار.» «4» هذا.

و سيأتي معنى النقيب، و كذا العريف بعد نقل الروايات.

3- و في سنن أبي داود بسنده عن غالب القطّان، عن رجل، عن أبيه، عن جدّه أنهم كانوا على منهل من المناهل فلمّا بلغهم الإسلام جعل صاحب الماء لقوه مأئة من الإبل على أن يسلموا، فأسلموا و قسّم الإبل بينهم، و بدا له أن يرتجعها منهم فأرسل ابنه إلى النبيّ «ص» فقال له: ايت النبيّ «ص» ... فقل له: إنّ أبي شيخ كبير و هو عريف الماء و إنّه يسألك أن تجعل لي العرافة بعده. فأتاه فقال ... إنّ أبي شيخ كبير و هو عريف الماء و إنّه يسألك أن تجعل لي العرافة بعده. فقال: «إنّ

______________________________

(1)- بحار الأنوار 19/ 13، تاريخ نبيّنا «ص»، باب دخوله

الشعب و ...، الحديث 5.

(2)- بحار الأنوار 19/ 26، تاريخ نبيّنا «ص»، باب دخوله الشعب و ...، الحديث 15.

(3)- سورة المائدة (5)، الآية 12.

(4)- التراتيب الإدارية 1/ 236.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 573

العرافة حقّ، و لا بدّ للناس من العرفاء، و لكن العرفاء في النار.» «1»

أقول: المنهل: مورد الماء للشرب و الاستقاء. و يظهر من الحديث أنّ العرافة للماء كان منصبا يفوّض من قبل الدولة، و صريحه كونه حقّا لا مناص منه، فقوله: «لكنّ العرفاء في النار» محمول على الغالب من عدم رعايتهم للحقّ و العدالة.

4- و في صحيح البخاري بسنده عن عروة أنّ مروان و المسور بن مخرمة أخبراه أنّ النبيّ «ص» قام حين جاءه وفد هوازن فسألوه أن يردّ إليهم أموالهم و سبيهم، فقال: إنّ معي من ترون ... فقام النبيّ «ص» في الناس فأثنى على اللّه بما هو أهله ثمّ قال: ... فمن أحبّ منكم أن يطيّب ذلك فليفعل ... فقال الناس: طيّبنا ذلك.

قال: إنّا لا ندري من أذن منكم ممّن لم يأذن فارجعوا حتّى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم، فرجع الناس فكلّمهم عرفاؤهم ثمّ رجعوا إلى النبيّ «ص» فأخبروه أنّهم طيّبوا و أذنوا. «2» هذا.

5- و في أصول الكافي بسنده عن حبيب بن أبي ثابت، قال: «جاء إلى أمير المؤمنين «ع» عسل و تين من همدان و حلوان، فأمر العرفاء أن يأتوا باليتامى، فأمكنهم من رءوس الأزقاق يلعقونها و هو يقسّمها للناس قدحا قدحا. فقيل له:

يا أمير المؤمنين، ما لهم يلعقونها؟ فقال: إنّ الإمام أبو اليتامى و إنّما ألعقتهم هذا برعاية الآباء.» «3»

6- و في الوسائل عن الصدوق بسنده، عن الصادق «ع»، عن آبائه «ع» في

حديث المناهي، قال: قال رسول اللّه «ص»: «من تولّى عرافة قوم أتي به يوم القيامة و يداه مغلولتان إلى عنقه، فإن قام فيهم بأمر اللّه- عزّ و جلّ- أطلقه اللّه، و إن كان ظالما هوى به في نار جهنّم و بئس

______________________________

(1)- سنن ابي داود 2/ 119، كتاب الخراج و الفي ء و الإمارة، باب في العرافة.

(2)- صحيح البخاري 2/ 82، كتاب العتق، باب من ملك من العرب رقيقا ...

(3)- الكافي 1/ 406، كتاب الحجّة، باب ما يجب من ...، الحديث 5.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 574

المصير.» «1»

7- و فيه أيضا عن الصدوق في عقاب الأعمال بسنده عن النبيّ «ص» في حديث، قال: «من تولّى عرافة قوم (و لم يحسن فيهم خ. ل) حبس على شفير جهنّم بكلّ يوم ألف سنة، و حشر و يده مغلولة إلى عنقه، فإن كان قام فيهم بأمر اللّه أطلقها اللّه، و إن كان ظالما هوى به في نار جهنّم سبعين خريفا.» «2»

8- و فيه أيضا عن الكشي بسنده عن عقبة بن بشير، عن أبي جعفر «ع» في حديث، قال: «و أمّا قولك إنّ قومي كان لهم عريف فهلك فأرادوا أن يعرفوني عليهم، فإن كنت تكره الجنّة و تبغضها فتعرف عليهم، يأخذ سلطان جائر بامرئ مسلم فيسفك دمه فتشرك في دمه و لعلّك لا تنال من دنياهم شيئا.» «3»

أقول: و في الحديث دلالة على ما مرّ منّا من انّ ذم العرافة في بعض الروايات كان من جهة أنّ الغالب فيها كان هو العرافة من قبل حكّام الجور، فكان العريف يعرفهم أهل الصدق و الإيمان فيسفكون دماءهم. فوزان هذه الروايات و زان ما ورد في ذمّ

الإمارة، و إلّا فالاجتماع لا يتمّ بلا أمير و عريف، بل يجب التصدّي لهما إن لم يقم بهما الغير كما هو واضح:

9- ففي دعائم الإسلام عن عليّ «ع» أنّه قال: «لا بدّ من إمارة و رزق للأمير، و لا بدّ من عريف و رزق للعريف، و لا بدّ من حاسب و رزق للحاسب، و لا بدّ من قاض و زرق للقاضي.» «4»

بل المجتمع في عالم الآخرة أيضا لا يكون بلا عريف:

______________________________

(1)- الوسائل 12/ 136، الباب 45 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

(2)- الوسائل 12/ 137، الباب 45 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 7.

(3)- الوسائل 11/ 280، الباب 50 من أبواب جهاد النفس، الحديث 10.

(4)- دعائم الإسلام 2/ 538، كتاب آداب القضاة، الحديث 1912.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 575

10- ففي خبر السكوني، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: قال رسول اللّه «ص»: «حملة القرآن عرفاء أهل الجنة.» «1»

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 2، ص: 575

11- و في سنن الدارمي عن عطاء بن يسار، قال: «حملة القرآن عرفاء أهل الجنة.» «2» هذا.

12- و في مسند أحمد بسنده عن أبي هريرة، عن النبيّ «ص»، قال: «ويل للأمراء، ويل للعرفاء، ويل للأمناء. ليتمنّين أقوام يوم القيامة أن ذوائبهم كانت معلقة بالثريّا يتذبذبون بين السماء و الأرض و لم يكونوا عملوا على شي ء.» «3»

13- و فيه أيضا أنّ أبا ذرّ قال لمن حضره في الربذة حين الموت:

«أنشدكم اللّه أن لا يكفنني رجل منكم كان أميرا أو

عريفا أو بريدا.» «4»

14- و في سنن أبي داود بسنده عن المقدام بن معديكرب أنّ رسول اللّه «ص» ضرب على منكبه ثمّ قال له: «أفلحت يا قديم، إن متّ و لم تكن أميرا و لا كاتبا و لا عريفا.» «5»

15- و في الوسائل عن الخصال بسنده عن نوف، عن أمير المؤمنين «ع» في حديث قال: «يا نوف، إيّاك أن تكون عشّارا أو شاعرا أو شرطيّا أو عريفا أو صاحب عرطبة- و هي الطنبور-، أو صاحب كوبة- و هو الطبل-، فإنّ نبيّ اللّه خرج ذات ليلة فنظر إلى السماء فقال: أما إنّها الساعة التي لا تردّ فيها دعوة إلّا دعوة عريف أو دعوة شاعر أو دعوة عاشر أو شرطيّ أو صاحب عرطبة أو صاحب كوبة.» «6»

______________________________

(1)- أصول الكافي 2/ 606، كتاب فضل القرآن، باب فضل حامل القرآن، الحديث 11.

(2)- سنن الدارمي 2/ 470، كتاب فضائل القرآن، باب في ختم القرآن.

(3)- مسند أحمد 2/ 352.

(4)- مسند أحمد 5/ 166.

(5)- سنن أبي داود 2/ 119، كتاب الخراج و الفي ء و الإمارة، باب في العرافة.

(6)- الوسائل 12/ 234، الباب 100 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 12.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 576

16- و في نهج البلاغة عن نوف البكالي عنه «ع»: «يا نوف، إنّ داود- عليه السلام- قام في مثل هذه الساعة من الليل فقال: إنّها ساعة لا يدعو فيها عبد إلّا استجيب له إلّا أن يكون عشّارا أو عريفا أو شرطيا أو صاحب عرطبة (و هي الطنبور) أو صاحب كوبة (و هي الطبل).» «1»

17- و في شرح ابن أبي الحديد عن نصر بن مزاحم:

«و أمر عليّ «ع» بهدم دار حنظلة فهدمت، هدمها

عريفهم شبث بن ربعي و بكر بن تميم» «2»

أقول: و كان سبب ذلك أنّ حنظلة خرج إلى معاوية في ثلاثة و عشرين رجلا من قومه، كما في الكتاب.

18- و في التراتيب الإدارية قال:

«ترجم في الإصابة جندب بن النعمان الأزدي، فنقل عن تاريخ ابن عساكر قال:

قدم أبو عزيز على النبيّ «ص» فأسلم و حسن إسلامه و جعله عريف قومه. و ترجم فيها أيضا رافع بن خديج الأنصاري، فذكر أنّه كان عريف قومه بالمدينة.» «3»

إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

و يستفاد من جميع ذلك مشروعيّة النقابة و العرافة و تعارفهما في عصر النبيّ «ص» و الأئمّة- عليهم السلام- بل ضرورتهما في إدارة المجتمع على وجه صحيح و إن كان المتصدّي لهما في معرض الخطر الديني، و هذا من لوازم كلّ منصب و مقام إلّا من عصمه اللّه- تعالى-.

الكلام في معنى النقيب و العريف:

بقي الكلام في معنى اللفظين، فنقول:

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 1134؛ عبده 3/ 174؛ لح/ 486، الحكمة 104.

(2)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3/ 177.

(3)- التراتيب الإدارية 1/ 236.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 577

1- قال الراغب في المفردات:

«و النقيب: الباحث عن القوم و عن أحوالهم، و جمعه نقباء. قال: «وَ بَعَثْنٰا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً.» «1»

2- و في الصحاح:

«و النقيب: العريف و هو شاهد القوم و ضمينهم، و الجمع النقباء. و قد نقب على قومه ينقب نقابة.» «2»

3- و فيه أيضا:

«بعثوا إليّ عريفهم يتوسّهم، أي عارفهم. و العريف: النقيب و هو دون الرئيس، و الجمع عرفاء.» «3»

4- و في نهاية ابن الأثير:

«في حديث عبادة بن الصامت «و كان من النقباء». النقباء جمع نقيب و هو كالعريف على القوم: المقدّم عليهم الذي يتعرّف

أخبارهم و ينقّب عن أحوالهم، أي يفتش.» «4»

5- و فيه أيضا:

«و فيه: العرافة حقّ، و العرفاء في النار. العرفاء جمع عريف و هو القيّم بأمور القبيلة أو الجماعة من الناس، يلي أمورهم و يتعرّف الأمير منه أحوالهم، فعيل بمعنى فاعل، و العرافة عمله. و قوله: العرافة حقّ، أي فيها مصلحة للناس و رفق في أمورهم و أحوالهم. و قوله: العرفاء في النار، تحذير من التعرض للرئاسة لما في ذلك من الفتنة و أنّه إذا لم يقم بحقّه أثم و استحقّ العقوبة.» «5»

6- و في لسان العرب:

______________________________

(1)- مفردات الراغب/ 529.

(2)- الصحاح للجوهري 1/ 227.

(3)- الصحاح 4/ 1402.

(4)- النهاية 5/ 101.

(5)- النهاية 3/ 218.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 578

«و النقيب: عريف القوم، و الجمع نقباء. و النقيب: العريف و هو شاهد القوم و ضمينهم.» «1»

7- و فيه أيضا:

«عريف القوم: سيّدهم. و العريف: القيّم و السيّد لمعرفته بسياسة القوم ...

و العريف: النقيب و هو دون الرئيس.» «2»

أقول: فظاهر كلمات أهل اللغة كونهما بمعنى واحد أو متقاربين. و قد كان النقيب و العريف رابطا بين القبيلة أو العشيرة، و بين الإمام أو الأمير يتعرّف منه حالاتهم، و كان المتعارف انتخابه من أفراد القبيلة لكونه أعرف بهم من غيره.

و لم يؤخذ في مفهومهما تعرّف خصوص الحالات المتعلّقة بالحرب و القتال، نعم لمّا كانت عمدة نظر الحكّام في تعيين النقباء و العرفاء معرفة القوى المستعدّة للحرب و النضال خصّهما بعض بالجنود:

قال الكتّانى في التراتيب الإداريّة في تعريف العرفاء:

«هم رؤساء الأجناد و قوّادهم، و لعلّهم سمّوا بذلك لأنّ بهم يتعرّف أحوال الجيش. قاله الباجى في المنتقى.» «3»

و في آخر كتاب الفي ء و قسمة الغنائم من المبسوط:

«و

يستحب للإمام أن يجعل العسكر قبائل و طوائف و حزبا حزبا، و يجعل على كلّ قوم عريفا عريفا، لقوله- تعالى-: و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا. و النبيّ «ص» عرّف عام خيبر على كلّ عشرة عريفا.» «4»

و قال العلّامة في التذكرة:

«ينبغي للإمام أن يتّخذ الديوان، و هو الدفتر الذي فيه أسماء القبائل قبيلة قبيلة و يكتب عطاياهم، و يجعل لكلّ قبيلة عريفا و يجعل لهم علامة بينهم و يعقد لهم

______________________________

(1)- لسان العرب 1/ 769.

(2)- لسان العرب 9/ 238.

(3)- التراتيب الإدارية 1/ 235.

(4)- المبسوط 2/ 75.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 579

ألوية لأنّ النّبيّ «ص» عرّف عام خيبر على كلّ عشرة عريفا.» «1»

و كيف كان فعلى إمام الأمّة و رئيسها أن يشرف عليها و يعرف حالات الناس و احتياجاتهم و توقّعاتهم من الحكومة ليسعى في تنظيم أمورهم و رفع حاجاتهم و توقّعاتهم إلى الإمام، و يكون في هذا الأمر ضمانة لبقاء الملك و انتظام الأمور، و لو لا ذلك لخيف الفشل و سقوط الملك.

فهذه شعبة رابعة من شعب التجسّس و الاستخبارات.

قال الكتّاني في التراتيب الإدارية:

«باب في جعل الإمام العين على الناس في بلده: في شمائل الترمذي من حديث ابن أبي هالة الطويل: كان «ص» يسأل الناس عمّا في الناس. قال ابن التلمساني في شرح الشفاء: ليس من باب التجسّس المنهيّ عنه، و إنّما هو ليعرف به الفاضل من المفضول فيكونون عنده في طبقاتهم، و ليس هو من الغيبة المنهيّ عنها، و إنّما هو من باب النصيحة المأمور بها. و قال المناوي على الشمائل: و هذا إرشاد للحكّام إلى أن يكشفوا و يتفحّصوا، بل و لغيرهم ممّن كثر أتباعه كالفقهاء و

الصالحين و الأكابر فلا يغفلوا عن ذلك لئلا يترتّب عليه ما هو معروف من الضرر الذي قد لا يمكن تدارك رفعه.» «2»

أقول: و يجب أن يكون المنصوب لهذا الشأن عاقلا ذكيّا فطنا ثقة عدلا صدوقا ذا صرامة و صراحة لا يمنعه أبّهة الإمام من بيان جميع ما عاينه و شاهده، و أن يكون معاشرا للناس حاضرا في أسواقهم و مجامعهم بحيث يطلع على أهوائهم و أفكارهم و توقّعاتهم، و أن يكون عمدة همّه الدفاع عن الناس و لا سيّما الضعفاء و المحرومين منهم فيرفع حاجاتهم و توقّعاتهم إلى الإمام و يصرّ في انجاح طلباتهم بقدر الإمكان، لا أن يفكّر فقط في فرض سياسة الدولة و آرائها كيف ما كانت عليهم، و في ترضية

______________________________

(1)- التذكرة 1/ 437.

(2)- التراتيب الإدارية 1/ 363.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 580

خاطر السلطان و الأمراء و العمّال فقط.

فإلى هنا تعرّضنا لنبذة يسيرة من مسائل التجسّس و الاستخبارات العامّة، و قد قسمناها إلى أربع شعب كما عرفت. و يبقى هنا بحث في حكم جاسوس العدوّ الأجنبي نتعرّض له إن شاء اللّه في فصل السياسة الخارجية للإسلام، فانتظر.

الجهة الرابعة: في أمور أخر في الاستخبارات ينبغي التنبيه عليها:

الأوّل: [عمل المراقبة و التجسّس عمل خطير]

قد مرّ أنّ عمل المراقبة و التجسّس عمل خطير له مساس تامّ بحريم الناس و حرّياتهم المشروعة فلا يجوز أن يستخدم لهذا العمل إلّا من يكون عاقلا، ذكيّا، ثقة، ملتزما بالشرع، عالما بموازينه و بما يجب و يحرم، رءوفا بالناس، حافظا لأسرارهم، لا يحقّر الناس و لا يريد تذليلهم و لا سيّما بالنسبة إلى ذوي الهيئات و السوابق الحسنة في المجتمع، و لا يكون فيه حقد أو حسد أو بغضاء بالنسبة إلى أحد.

الثاني: [سنخ المراقبة للأعداء يختلف عن سنخ المراقبة للعمّال و للأمّة]

لا يخفى أنّ سنخ المراقبة للأعداء من الكفّار و أهل النفاق المعاندين للإسلام و الدولة الإسلاميّة يختلف عن سنخ المراقبة للعمّال و للأمّة، حيث إنّ الشعبتين الأوليين تلازمان بحسب العادة نوعا من الغلظة و الخشونة و يوجد للمسئولين لهما بسبب ذلك ذهنية خاصّة توقعهم غالبا في سوء الظن و عدم الاعتماد، فلا تناسب

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 581

هذه الحالة لمراقبة الأمّة و كذا العمّال البرءاء غالبا، إذ المراقبة لهما و لا سيّما للأمّة تقتضي رعاية اللطف و الرحمة غالبا، و اجتماع الخصلتين المتضادّتين في شخص واحد نادر جدّا، فلأجل ذلك يترجّح بل يتعيّن تفكيك الشعب بحسب المسؤولين و لا يفوّض الجميع إلى شخص واحد.

و مثله أمر السؤال و التحقيق في أجهزة القضاء أيضا، فيجب أن يكون المحقّق و السائل عن الفرد المؤمن و لا سيّما ذي الهيئة و أهل الفضل غير من شغله التحقيق عن الأعداء من الكفّار و أهل النفاق، فتدبّر.

الثالث: [التجسّس على دخائل الناس فيما يرتبط بحياتهم الفرديّة حرام مؤكّد]

قد عرفت في الجهة الأولى من البحث أنّ التجسّس على دخائل الناس فيما يرتبط بحياتهم الفرديّة أو العائليّة و التفتيش عنها حرام مؤكّد، كما أنّه لا يجوز إذاعة أسرار الناس و عيوبهم الخفيّة الشخصيّة و تحطيم شخصيّاتهم في المجتمع. و كذلك لا يجوز منع الناس و لا سيّما أهل العلم و الفضل من الوعظ و النصيحة لأئمّة المسلمين و العمّال و الأمراء، و النقد و الاعتراض الصحيح على التّخلّفات الشرعيّة و القانونيّة التي تصدر عن بعض المسؤولين في إطار الالتزام بالإسلام و بالنظام العدل، و لا يجوز مزاحمتهم لذلك، و إنّما الذي يجوز بل يجب مؤكّدا التجسس عليه و التفتيش عنه تحرّكات الناس ضدّ الإسلام و

النظام و المصالح العامّة.

و حيث إنّ الأمر في كثير من الموارد يشتبه على الموظّفين و ربّما يدور الأمر بين الواجب المهمّ و الحرام المؤكّد، و الأمر خطير و حسّاس جدّا، و النفس أمّارة بالسوء إلّا ما رحم اللّه و القدرة تبعث النفس على الطغيان و التعدّي غالبا، فلا محالة يتعيّن:

أوّلا: تعيين الخط الفاصل بين ما يجوز و ما لا يجوز بتشريع حدود و قوانين يبيّن فيها بالتفصيل الموارد التي يجوز فيها مراقبة الناس و القبض عليهم و التحقيق منهم، و كيفيّة معاملتهم في التحقيقات، و تنظيم البرامج الصحيحة الدقيقة لذلك، و يبيّن كيفية

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 582

ارتباط المستخبرين بجهاز القضاء و غيره من أجهزة الحكومة، و يميّز وظيفة كلّ منها لئلّا يتدخّل أحد منهم فيما ليس من شأنه و مسئوليّته. و لا يجوز أن يفوّض الأمر بنحو الإطلاق إلى الموظّف في الاستخبارات بحيث يصنع كلّ ما شاء و أراد، كما هو الرائج في الحكومات الاستبداديّة.

و ثانيا: إعمال الدقّة و التعمّق في انتخاب الموظّفين من بين أهل العقل و التجربة و الصدق و الأمانة و الفطنة و الصرامة و الرحمة و الشفقة بالعباد و الالتزام بموازين الإسلام، كما مرّ. و قد مرّ في الفصل الرابع من الباب السادس عند البحث عن السلطة التنفيذيّة روايات كثيرة تدلّ على مواصفات الوزراء و العمّال، فراجع.

و ثالثا: مراقبتهم حينا بعد حين بعيون بصيرة نافذة تراقبهم في أعمالهم و عشرتهم، ثمّ مجازاة المتخلّفين منهم بأشدّ المجازاة، و ليس كلّ ذلك إلّا لخطورة هذه الوظيفة و حسّاسيتها.

و لو فرض انحراف هذه المؤسّسة الخطيرة الدقيقة عن برامجها و أهدافها و لو بنقطة صارت في المآل

فاجعة على الدولة و الأمّة معا، كما شوهد نظيره في كثير من الدول.

أ لا ترى أنّ وقوع انفراج ما في رأس الزاوية يوجب تزايد الانفراج و تباعد الخطين بازدياد البعد عن نقطة الرأس، فتدبّر.

و بما ذكرنا يظهر أنّ جهاز الاستخبارات أيضا يحتاج إلى جهاز استخبار فوقه يراقب موظّفيه و يتجسّس على أعضائه و موظّفيه و لا سيّما إذا اتّسع الجهاز و تكثرت شعبه و أعضاؤه كما في عصرنا.

كيف؟! و يمكن أن يبلغ جهاز الاستخبارات بسعته و كثرة شعبه و قدرته المخوفة و خفاء قراراته و نشاطاته حدّا يتدخّل سرّا في جميع الشؤون و في نصب المقامات و عزلها و إسقاط الحكومات و الدول، بل ربّما يتدخّل في شئون سائر البلاد حتّى في

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 583

تحكيم حكوماتها أو إسقاطها، كما نراه من جهاز.. في الولايات المتّحدة.

فعلى الإمام مراقبة جهاز الأمن و الاستخبارات أشدّ المراقبة.

الرابع: [هل للمستخبر أن يتصدّى في طريق استخباراته للكذب و لسائر المحرّمات]

ربّما يتوهّم من إجازة النبيّ «ص» لبريدة بن الحصيب الأسلمي- الذي أرسله للاستخبار عن بني المصطلق- للكذب و التمويه كما مرّ أنّ للمستخبر أن يتصدّى في طريق استخباراته للكذب، بل و لسائر المحرّمات الشرعيّة من شرب الخمر و أكل لحم الخنزير و ترك الصلاة و الصيام و مصافحة الأجنبيّة بل و الروابط الجنسيّة المحرّمة و نحو ذلك مطلقا كما هو المتعارف بين جواسيس بلاد الكفر و قد يعبّرون عن ذلك بأن الهدف يبرّر الوسيلة.

أقول: هذا بكليّته ممنوع جدّا، إذ الحكومة بنفسها ليست عندنا هدفا بل الهدف ليس إلّا تثبيت موازين الإسلام و تنفيذ أحكامه في المجتمع، و لا تشرع الحكومة و الدولة و الاستخبارات إلّا ما دامت واقعة في طريق ذلك، و يجب

أن يفدّى الجميع في هذا الطريق. نعم، ربّما يتوقّف حفظ النظام أو المصالح العامّة أو تثبيت واجب مهمّ على ارتكاب محرّم ليس بهذه الأهميّة كالكذب و التورية مثلا لحفظ النبيّ «ص» أو نظام العدل مثلا، فيجري هنا موازين باب التزاحم، فالواجب رعاية مرجّحات باب التزاحم، و هذا يختلف بحسب اختلاف الأحكام و الأشخاص و الأصقاع و الأزمنة، كما لا يخفى على أهل الفن. فالقول بتبرير الهدف للوسيلة مطلقا باطل جدّا بحكم العقل و الشرع.

و هذه نكتة مهمّة يجب أن يلتفت إليها الموظّفون في الاستخبارات و في أجهزة التحقيق، إذ قد يشتبه الأمر عليهم بما رأوه أو سمعوه من أعمال الجواسيس و المستخبرين في بلاد الكفر في استخباراتهم حيث يستحلّون كلّ جناية و جريمة في طريق عملهم.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 584

و هل يجوز الانتحار عمدا لأجل التخلّص من العدوّ، كما إذا تيقّنت المرأة المسلمة بأنّها تهتك في عرضها أو علم المسلم بأنّه يعذّب عذابا لا طاقة له به فيعترف بما يضرّ المسلمين؟

في المسألة وجهان. و الظاهر أنّ الواجب رعاية موازين التزاحم و مرجّحاته، و لكن تشخيص المهمّ و الأهمّ يحتاج إلى اطلاع وسيع على أحكام الشرع و موازينه و ليس هذا شأن كلّ أحد.

الخامس: [تعزير المتّهم بمجرد الاتهام ظلم]

قد مرّ منّا في الجهة التاسعة من فصل التعزيرات بحث في تعزير المتّهم للكشف و الاعتراف نذكر ملخّصا منه هنا، و من أراد التفصيل فليراجع هناك.

و محصّل ما ذكرناه أنّ تعزير المتّهم بمجرد الاتهام لكشف ما يحتمل أن يطّلع عليه من فعله أو فعل غيره أو الحوادث و الوقائع الأخر ظلم في حقّه و يخالف حكم الوجدان و سلطة الناس على أنفسهم و براءتهم عن

التهم ما لم تثبت، و قد وردت روايات مستفيضة في حرمة ضرب الناس و تعذيبهم. كما أنّ الاعتراف مع التعذيب لا اعتبار به شرعا كما يدلّ عليه أخبار مستفيضة:

و منها خبر أبي البختري، عن أبي عبد اللّه «ع» أن أمير المؤمنين «ع» قال: «من أقرّ عند تجريد أو تخويف أو حبس أو تهديد فلا حدّ عليه.» «1»

نعم، يجوز حبس المتّهم لكشف الحقّ أو أدائه في حقوق النّاس و لا سيّما في الدم مع احتمال فراره و عدم التمكّن منه:

ففي الوسائل بسند لا بأس به، عن السكوني، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «إنّ

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 497، الباب 7 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 585

النبيّ «ص» كان يحبس في تهمة الدم ستة أيّام، فإن جاء أولياء المقتول بثبت و إلّا خلّى سبيله.» «1»

و قد مرّ في فصل الحبس و السجن أخبار مستفيضة في هذا المجال، فراجع. و إن كان الحكم في غير الدم لا يخلو من إشكال كما مرّ، فراجع. هذا مع التهمة و الاحتمال.

و أمّا إذا علم الحاكم أنّه يوجد عند الشخص اطلاعات نافعة في حفظ النظام و رفع الفتنة أو في تقوية الإسلام أو في إحقاق حقوق المسلمين بحيث يحكم العقل و الشرع بوجوب الإعلام عليه و كان وجوبه واضحا بيّنا له أيضا و هو مع ذلك يكتم الشهادة عنادا جاز حينئذ تعزير المتّهم للكشف و الإعلام فقط من دون أن يترتّب على اعترافه المجازاة، لما عرفت من جواز التعزير على ترك الواجب مطلقا، و المفروض أن الإعلام واجب عليه.

و أمّا في مثل الزنا و اللواط و شرب الخمر و نحو ذلك

من حقوق اللّه المحضة فلا يجب على المرتكب إظهارها، و ليس للحاكم أيضا تهديده أو تعزيره لذلك، بل اللازم في مثلها هو الستر و التوبة إلى اللّه- عزّ و جلّ-.

فهذا ملخّص ما ذكرناه هناك، و التفصيل يطلب من ذلك المقام فقد عقدنا هناك خمس مسائل في هذا المجال، فراجع.

و لا يخفى أنّ تشخيص موارد وجوب الإخبار و الإعلام بحيث يصحّ تعزير الشخص لذلك، و كيفيّة التعزير و نوعه المناسب لهذا الشخص و مقداره اللازم أمور دقيقة لا يجوز تفويضها إلّا إلى من يكون أهلا للتشخيص و واجدا للشرائط التي مرّت من العقل و الفطنة و الصدق و الأمانة مع نوع من الشّفقة و الرحمة، و إلّا حصل الطغيان و التعدّي و صار في المآل فاجعة على الدولة و الأمّة، فتدبّر.

______________________________

(1)- الوسائل 19/ 121، الباب 12 من أبواب دعوى القتل، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 586

السادس: [لا يتوقّف اتّخاذ الشخص عينا و مراقبا على كونه فارغا]

لا يتوقّف اتّخاذ الشخص عينا و مراقبا على كونه فارغا لا شغل له، بل الملاك كونه خبيرا أهلا لذلك واجدا للشرائط التي أشرنا إليها، فيمكن أن يستفاد لهذه المسؤوليّة من نوّاب مجلس الشورى الواقفين على حالات الناخبين لهم و كذلك بعض المسؤولين و أئمّة الجمعة و الجماعات و الخطباء و الأساتذة و المحصلين و بعض الكسبة و السائقين و نحو ذلك فضلا عن مثل رؤساء العشائر و القبائل.

بل الأولى و الأحوط لبيت المال أن يستفاد لذلك من بعض المتطوّعين المخلصين، فإنّ استخدام أفراد كثيرين من بيت المال و تحميل ميزانية كثيرة على عاتق المسلمين خسارة عظيمة عليهم، فمهما أمكن تحصيل المطلوب بأقلّ ما يتوقّف عليه من صرف المال و الوقت وجب ذلك. و

الناس إذا آمنوا بدولتهم صاروا عمّالا متطوّعين لها مع الإيمان و الإخلاص و تعاضدت الدولة و الأمّة و اشتدّ أمر الملك، فالعمدة تحصيل رضا الناس و إيمانهم بالحكومة و خططها، و هذه نكتة مهمّة يجب أن يلتفت إليها كلّ من يريد بقاء الملك و الدولة.

السابع: [هل يرتبط جهاز الاستخبارات بالسلطة التنفيذيّة و يكون جزء منها،]

هل يرتبط جهاز الاستخبارات الإسلامي بالسلطة التنفيذيّة و يكون جزء منها، أو بالسلطة القضائية، أو بالإمام مباشرة؟ في المسألة وجوه:

و ربّما يؤيّد الاحتمال الأوّل، بأنّ إدارة الملك تكون على عهدة رئيس الدولة و وزرائه، و الوزارات المختلفة تحتاج إلى الاستخبارات لمراقبة العدو الخارجي و الداخلي و الموظّفين من قبلها و أوضاع الناس و شكاياتهم.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 587

فإن قلت: الإمام هو المسؤول الأعظم كما مرّ بيانه في الفصل الثالث من الباب، و السلطات الثلاث أعوانه و أعضاده، فيجب أن يكون جهاز الاستخبارات في خدمته ليراقب بسببه السلطات الثلاث بفروعها و يراقب الأمّة أيضا.

قلت: كونه جزء من السلطة التنفيذيّة لا يمنع عن مباشرة الإمام بمسؤوله و أن يأمره بأوامره، أو يأمره بتشكيل شعبة خاصّة تكون تحت اختيار الإمام مباشرة فإنّ الكلّ عمّال له و يكونون تحت سلطته و أمره.

و يؤيّد الاحتمال الثاني: أنّ للاستخبارات مساسا خاصّا بأعمال السلطة القضائيّة، و كأن جهاز الاستخبارات ضابط من ضبّاطها، فإنّ المتخلّفين في جميع الشعب يرجع أمرهم في النهاية إلى جهاز القضاء و ليس لجهاز الاستخبار أيضا القبض على المتّهمين و التحقيق منهم إلّا بإجازة السلطة القضائيّة.

و يؤيّد الاحتمال الثالث، انّ مراقبة رئيس الدولة و وزرائه بفروعها المختلفة من أهمّ شعب الاستخبار، و المناسب أن تكون العين المراقبة غير من يراقب بل أعلى منه و مستولية عليه، و

لعلّ السلطة التنفيذيّة تأبى غالبا من انكشاف أخطائها و انحرافاتها، أو حاجات الناس و شكاياتهم عنها فلا يظهرون الواقعيّات للإمام و يجعلونه في اشتباه و غفلة عمّا يقع في الدوائر و في المجتمعات، و ربّما يقلبون الحقائق عنده لئلّا يظهر تقصيرهم أو ضعفهم، و في ذلك خسارة عظيمة على الدولة و الأمّة معا، بل ربّما يخاف منه ثورة الناس و سقوط الدولة.

أقول: و الأنسب الأولى هو اختيار الثالث، لأنّ الإمام هو الأصل في الحكومة الإسلاميّة و هو الحاكم و المسؤول حقيقة، و مسئوليّة البقيّة من فروع مسئوليّته، فيكون هو إلى الاستخبارات أحوج، فالأنسب أن تكون الاستخبارات مرتبطة به مباشرة و هو يأمر جهاز الاستخبار بالتفاهم مع سائر الأجهزة.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 588

و يحتمل أيضا تعدّد أجهزة الاستخبار، فما يختصّ بمراقبة الأعداء بشعبتيه يشترك بين الإمام و الدولة و يجعل للإمام أيضا جهاز استخبارىّ مستقلّ يراقب به المسؤولين و الأمّة، و لرئيس الدولة و وزرائه أيضا جهاز يخصّه.

و يؤيّد ذلك ما مرّ من أمر أمير المؤمنين «ع» مالكا ببعث العيون على عمّاله مع ما ظهر من أنّ الإمام بنفسه أيضا كان له عيون تخبره.

و كيف كان فالإمام الذي هو الأصل و المسؤول في الحكومة لا مناص له عن الاطّلاع التامّ على عمّاله و أمّته.

قال المسعودي في مروج الذهب:

«ذكر المقري قال: سئل بعض شيوخ بني أميّة و محصّليها عقيب زوال الملك عنهم إلى بني العباس: ما كان سبب زوال ملككم؟ قال: إنّا شغلنا بلذّاتنا عن تفقّد ما كان تفقّده يلزمنا، فظلمنا رعيّتنا فيئسوا من إنصافنا و تمنّوا الراحة منّا، و تحومل على أهل خراجنا فتخلّوا عنّا، و خربت ضياعنا فخلت

بيوت أموالنا، و وثقنا بوزرائنا فآثروا مرافقهم على منافعنا، و امضوا أمورا دوننا، أخفوا علمها عنّا، و تأخر عطاء جندنا فزالت طاعتهم لنا، و استدعاهم أعادينا فتظافروا معهم على حربنا، و طلبنا أعداءنا فعجزنا عنهم لقلّة أنصارنا، و كان استتار الأخبار عنّا من أوكد أسباب زوال ملكنا.» «1»

أقول: فتأمّل في هذه الجملات و لا سيّما الجملة الأخيرة، و عليك بتطبيقها على جميع الأصقاع و الأزمنة.

الثامن: [الهدف من جهاز الاستخبارات في الدولة الإسلاميّة]
اشارة

في آخر فصل الاستخبارات نلفت نظر القارئ الكريم إلى ما لوّحنا إليه أوّلا

______________________________

(1)- مروج الذهب 2/ 194.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 589

من أنّ الهدف من جهاز الاستخبارات في الدولة الإسلاميّة ليس إلّا حفظ مصالح الإسلام و المسلمين و تحكيم نظام العدل و تطمين النفوس و حفظ الحقوق، لا الحفاظ على منافع الرؤساء و الزعماء و تحكيم سلطتهم كيف ما كانوا و أرادوا و لو بإخماد أصوات الأمّة المظلومة و خنقهم و كبت حرّيّاتهم المشروعة، كما قد يتوهّم ذلك من سماع هذا اللفظ بقياسه على أجهزة الأمن و الاستخبارات الرائجة فعلا في أكثر البلاد الإسلاميّة و غيرها من بلاد العالم الثالث.

و عمدة ما أوجب الفساد في أجهزة الأمن الرائجة هي الأمور التالية:
1- فساد نفس الحاكم،

حيث يعتمد في حكمه على إرادة القوى الأجنبيّة الكافرة، لا على إرادة الشعب المسلم و اختياره طبقا للضوابط الإسلاميّة. فيكون مصدرا للفساد و تضييع الحقوق و تضعيف الإسلام و المسلمين و تقوية خطط الكفر، و ينعكس ذلك في جميع أجهزة حكمه و لا سيّما جهاز أمنه و استخباراته، فيأخذون الناس بالتّهمة و الظنّة و يعذبونهم بأنواع العذاب يهتكون حرمات المسلمين و يقتلون النفوس المحترمة، يوجد كلّ ذلك على أساس خطط الكفر و الضلال و إن تسمّوا باسم الإسلام.

و أمّا الحاكم الذي يقوم حكمه على أساس الإسلام و إرادة المسلمين فلا محالة يجب أن يكون جهاز أمنه و استخباراته جهاز أمن و تطمين للمسلمين الملتزمين بموازين الإسلام بلا تخويف و إرهاب، و أن يكون الأصل المحكّم عند مسئوله و موظّفيه حبّ المسلمين و حسن الظنّ بهم و حمل أعمالهم على الصحّة إلى أن يثبت العكس بدليل شرعيّ صحيح. كما أمر اللّه- تعالى- في الكتاب الكريم بقوله: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ

آمَنُوا، اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ، إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ. وَ لٰا تَجَسَّسُوا وَ لٰا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً.» «1»

و عن النّبيّ «ص»: «إيّاكم و الظنّ، فإنّ الظنّ أكذب الحديث. و لا تحسّسوا و لا تجسّسوا و لا تناجشوا.» «2»

______________________________

(1)- سورة الحجرات (49)، الآية 12.

(2)- تفسير القرطبي 16/ 331.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 590

و قد مرّ كثير من الأحاديث في هذا المجال في أوّل الفصل فراجع.

كيف؟! و سيرة إمام المسلمين سيرة رسول اللّه «ص»، و قد قال اللّه- تعالى- في حقّه: «لَقَدْ جٰاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، عَزِيزٌ عَلَيْهِ مٰا عَنِتُّمْ، حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ، بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ.» «1»

فكذلك يجب أن تكون سيرة عمّاله و الموظفين من قبله.

2- إنّ أجهزة الأمن و الاستخبارات

الموجودة فعلا في البلاد الإسلاميّة و العالم الثالث مقلّدة لأجهزة الاستخبارات الغربيّة و الشرقيّة في ثقافتها و تشكيلاتها و أعمالها. و لمّا كان الجوّ الحاكم عند هؤلاء هو معاداة الشعوب الإسلاميّة و المستضعفين و استخدام أجهزتهم لخنق أصواتها سرى ذلك إلى الحكّام المقلّدين لهم و إلى أجهزة استخباراتهم.

بينما يتعيّن على الجهاز الإسلامي أن يكون إسلاميّا في ثقافته و أساليب عمله و تشكيلاته، و أن يحذر عن تقليد أعداء الإسلام حتّى في تسمياته، حيث إنّ الأسامي تكون مرايا للمسمّيات قهرا.

3- إنّ الموظفين في جهاز الأمن و الاستخبارات في أكثر البلاد ينتخبون غالبا من بين الأشخاص الفاسدين

المفسدين البعيدين عن موازين الشرع و الأخلاق، فيصير الجوّ الحاكم على الاستخبارات هو الفساد و الخديعة و الغدر و الكذب و الإرهاب و التعذيب و غيرها من الأخلاق و الأعمال الفاسدة.

بينما يجب أن يكون مسئول الجهاز الإسلامي و جميع موظفيه من خواصّ المتديّنين المتعبّدين من أهل الصدق و الوفاء و الأمانة و العقل و الفطنة، المتخلّقين بالأخلاق الفاضلة الإسلاميّة، كما مرّ.

4- إنّ هدف أجهزة الأمن و الاستخبارات في البلاد و محور عملها هو حفظ الحكّام

و شخص الحاكم الأعظم و تحكيم سلطته كيف ما كان، فكلّ الأمور توزن عندهم بهذا الميزان فقط، و لا عبرة عندهم بغير ذلك من الموازين الشرعيّة

______________________________

(1)- سورة التوبة (9)، الآية 128.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 591

و الأخلاقيّة.

و لكن جهاز الاستخبارات في الدولة الإسلاميّة يجب أن يتقيّد بالموازين الشرعيّة و المعايير الأخلاقيّة. و الهدف منه كما مرّ ليس إلّا حفظ مصالح الإسلام و المسلمين و تحكيم نظام العدل و الإنصاف. و إن كان من أهمّ المصالح أيضا حفظ حريم الإمام في إطار حفظ الإسلام و مقرّراته، فتدبّر.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 593

الفصل التاسع هل يثبت الهلال بحكم الإمام و الوالي أم لا؟

[يثبت الهلال عندنا بأمور]

أقول: يثبت الهلال عندنا بالرؤية، و بالشياع المفيد للعلم أو الاطمينان، بل بالعلم من أي طريق حصل، و بشهادة عدلين إجمالا و إن لم تكن عند الحاكم، و بمضيّ ثلاثين من الشهر السابق، و كذا بحكم الإمام المعصوم بلا إشكال.

و هل يثبت بحكم الحاكم الشرعي غير المعصوم مطلقا، أو لا يثبت مطلقا، أو يفصّل بين ما إذا ثبت له بشاهدين و بين ما إذا ثبت له برؤيته أو بعلمه؟

و على فرض الثبوت فهل يقتصر فيه على الإمام و الوالي الأعظم أو يكفي الفقيه المنصوب من قبله لعمل أو قضاء، أو يكفي في ذلك أيّ فقيه كان و إن لم يكن متصدّيا لعمل أو قضاء؟ في المسألة وجوه.

قال في الحدائق ما ملخّصه:

«قد صرّح جملة من الأصحاب منهم العلّامة و غيره بأنه لا يعتبر في ثبوت الهلال بالشاهدين في الصوم و الفطر حكم الحاكم؛ بل لو رآه عدلان و لم يشهدا عند الحاكم وجب على من سمع شهادتهما و عرف عدالتهما الصوم أو

الفطر ...

و الظاهر أنّ هذا الحكم لا ريب فيه و لا إشكال. و إنما الإشكال في أنّه هل يجب

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 594

على المكلف العمل بحكم الحاكم الشرعي متى ثبت ذلك عنده و حكم به أم لا بدّ من سماعه بنفسه من الشاهدين؟

ظاهر الأصحاب الأوّل بل زاد بعضهم كما سيأتي الاكتفاء برؤية الحاكم الشرعي. و يظهر من بعض أفاضل متأخري المتأخّرين العدم، قال: إنّه لا يجب على المكلف العمل بما ثبت عند الحاكم الشرعي هنا، بل إن حصل الثبوت عنده وجب عليه العمل بمقتضى ذلك و إلّا فلا. و ظاهر كلامه إجراء البحث في غير مسألة الرؤية أيضا، حيث قال: فلو ثبت عند الحاكم غصبيّة الماء فلا دليل على أنّه يجب على المكلّف الاجتناب عنه، و كذا لو حكم بأنّه دخل الوقت في زمان معين.» «1» انتهى كلام الحدائق.

أقول: ظاهر إسناده القول الأوّل إلى ظاهر الأصحاب كونه مشهورا عندهم، و لكنّه- قدّس سرّه- بعد التعرّض لأدلّته و المناقشة فيها قال: «المسألة عندي موضع توقّف و إشكال.»

و الفاضل النراقي أيضا تعرّض للمسألة في المستند و تبع الحدائق في الإشكال فيها بل قوّى العدم «2».

و قال الشهيد في الدروس:

«و هل يكفي قول الحاكم وحده في ثبوت الهلال؟ الأقرب نعم.» «3»

و ظاهر كلامه عدم الفرق بين أنحاء مستند الحكم فيشمل رؤية الحاكم و علمه أيضا.

و في المدارك:

«هل يكفي قول الحاكم الشرعي وحده في ثبوت الهلال؟ فيه وجهان: أحدهما نعم، و هو خيرة الدروس لعموم ما دلّ على أنّ للحاكم أن يحكم بعلمه، و بأنّه

______________________________

(1)- الحدائق الناضرة 13/ 258.

(2)- مستند الشيعة 2/ 132.

(3)- الدروس/ 77.

دراسات في ولاية الفقيه و

فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 595

لو قامت عنده البيّنة فحكم بذلك وجب الرجوع إلى حكمه كغيره من الأحكام، و العلم أقوى من البيّنة، و لأنّ المرجع في الاكتفاء بشهادة العدلين و ما يتحقّق به العدل (العمل. ظ) إلى قوله فيكون مقبولا في جميع الموارد. و يحتمل العدم لإطلاق قوله «ع»: «لا أجيز في رؤية الهلال إلّا شهادة رجلين عدلين.» «1»

و ظاهر كلامه المفروغية من الثبوت بحكمه المستند إلى شهادة العدلين.

و في كفاية السبزواري:

«و في قبول قول الحاكم الشرعي وحده في ثبوت الهلال وجهان: أحدهما نعم و هو خيرة الدروس و هو غير بعيد.» «2»

و في كشف الغطاء:

«سادسها: حكم الفقيه المجتهد المأمون بالنسبة إلى مقلّديه سواء حكم برؤية أو بيّنة أو غيرهما.» «3»

و في الجواهر:

«كما أنّ الظاهر ثبوته بحكم الحاكم المستند إلى علمه، لإطلاق ما دلّ على نفوذه و أنّ الرادّ عليه كالرادّ عليهم «ع» من غير فرق بين موضوعات المخاصمات و غيرها كالعدالة و الفسق و الاجتهاد و النسب و نحوها.» «4»

و في العروة الوثقى في بيان طرق ثبوت هلال رمضان و شوال قال:

«السادس: حكم الحاكم الذي لم يعلم خطأه و لا خطأ مستنده.» «5»

و لم يفرق بين كون مستند حكمه البيّنة أو الرؤية أو غيرهما.

و في الفقه على المذاهب الأربعة:

«لا يشترط في ثبوت الهلال و وجوب الصوم بمقتضاه على الناس حكم الحاكم،

______________________________

(1)- مدارك الاحكام/ 370.

(2)- كفاية الأحكام/ 52.

(3)- كشف الغطاء/ 325.

(4)- جواهر الكلام 16/ 359.

(5)- العروة الوثقى، كتاب الصوم، فصل في طرق ثبوت هلال رمضان و شوال.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 596

و لكن لو حكم بثبوت الهلال بناء على أيّ طريق في مذهبه وجب الصوم على عموم

المسلمين و لو خالف مذهب البعض منهم، لأنّ حكم الحاكم يرفع الخلاف، و هذا متّفق عليه إلّا عند الشافعية.»

و في ذيل الخط:

«الشافعيّة قالوا: يشترط في تحقيق الهلال و وجوب الصوم بمقتضاه على الناس أن يحكم به الحاكم، فمتى حكم به وجب الصوم على الناس و لو وقع حكمه عن شهادة عدل واحد.» «1»

أقول: ظاهر الصدر رجوع استثناء الشافعيّة إلى الحكم الثاني، أعني حجّية حكم الحاكم، و مقتضاه عدم حجيّته عندهم و لكن بملاحظة الذيل يظهر رجوع الاستثناء إلى الحكم الأوّل، أعني عدم اشتراط حكم الحاكم في الشهادة و نحوها من الأمارات. و على هذا فحجيّة الحكم متّفق عليه عندهم.

فهذه بعض كلمات المتأخّرين و لكن بعد الرجوع إلى عدّة من كتب الفقه من الشيعة و السنّة في باب الصوم نرى أنّ مسألة حجيّة حكم الحاكم و وجوب العمل بحكمه في الهلال غير معنونة في كثير من الكتب و لم يتعرّضوا لها في عرض سائر الأمارات مع كثرة الابتلاء بها في الصوم و الفطر و الحجّ في جميع الأعصار.

نعم، يظهر من فحوى كلماتهم في باب ما يثبت به الهلال أنّ حجّيته كأنها كانت مفروغا عنها عندهم، حيث ذكروا أنّ البيّنة أو العدل الواحد على القول باعتباره هل يعتبران مطلقا لكلّ أحد أو يتوقّف اعتبارهما على حكم الحاكم؟

فأصحابنا و أكثر علماء السنّة اعتبروا البيّنة لكلّ أحد و قالوا إنّه لا يشترط حكم الحاكم في حقّ من قامت عنده، و حكى عن الشافعيّة اعتبار حكمه. و لكن كان المناسب البحث في أصل المسألة أيضا، و كأنّهم تركوا البحث فيها هنا لعدم كون حكم الحاكم في عرض سائر الأمارات بل في طولها و مستندا إلى أحدها أو أنّ محلّ

______________________________

(1)- الفقه على المذاهب الأربعة 1/ 551.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 597

البحث في اختيارات الحاكم و حجيّة حكمه و موارد نفوذه كتاب الإمارة أو القضاء. هذا.

و لكن لا أظنّ كون الاعتذارين مبرّرين لترك عنوان المسألة في باب الصوم من الفقه، فتدبّر.

[هل ينفذ حكم الحاكم في الهلال أم لا؟]

اشارة

و كيف كان فهل ينفذ حكم الحاكم في الهلال أم لا؟ ذكروا في المسألة أقوالا ثالثها التفصيل بين ما إذا استند إلى البيّنة، و بين ما إذا استند إلى رؤية الحاكم و علمه كما مرّ من المدارك.

و استدلّ القائل بعدم الحجّية

كما في المستند «1» بالأصل، و بالأخبار الكثيرة المعلّقة للصوم و الفطر على الرؤية أو الشاهدين أو مضى ثلاثين الظاهرة في الحصر، و بالأخبار الناهية عن اتباع الشكّ و الظنّ في أمر الهلال، و معلوم أنّ حكم الحاكم لا يفيد أزيد من الظنّ.

و يرد على ما ذكر أنّ الأصل لا يقاوم الدليل إن ثبت. و ظهور الأخبار في الحصر ممنوع، و مفهومها من قبيل مفهوم اللقب، و الحصر الظاهر في قول الصادق «ع»: «إنّ عليا كان يقول: لا أجيز في الهلال إلّا شهادة رجلين عدلين» «2»، حصر إضافي في قبال شهادة النساء و شهادة العدل الواحد، كما هو واضح.

و مع قيام الدليل على اعتبار الحكم صارت حجيّته قطعيّة كسائر الأمارات المعتبرة، فلا يشمله ما دلّ على النهي عن اتباع الظنّ.

و لعلّ عدم تعرّض الأخبار هنا له لكونه في طول سائر الأمارات و مستندا إليها.

فالعمدة إقامة الدليل على اعتبار الحكم في المقام و أمثاله.

و استدلّ القائل بالحجيّة

بإطلاق الأخبار الدّالة على وجوب الرجوع

______________________________

(1)- مستند الشيعة 2/ 132.

(2)- الوسائل 7/ 207، الباب 11 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 598

إلى الفقهاء المستند فقههم إلى أحاديث أهل البيت و قبول حكمهم، كقول الصادق «ع» على ما في المقبولة: «فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنّما استخفّ بحكم اللّه و علينا ردّ، و الرادّ علينا الرّاد على اللّه.» «1»

و قول صاحب الزمان- عجّل اللّه فرجه- على ما في التوقيع: «و أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم و أنا حجة اللّه عليهم.» «2»

و أمر الهلال من أظهر الحوادث العامّة الواقعة في جميع الأعصار.

إلى غير ذلك ممّا

دلّ على وجوب الرجوع إلى نوّابهم- عليهم السلام-.

و بصحيحة محمّد بن قيس، عن أبي جعفر «ع»، قال: «إذا شهد عند الإمام شاهدان أنّهما رأيا الهلال منذ ثلاثين يوما أمر الإمام بإفطار ذلك اليوم إذا كانا شهدا قبل زوال الشمس، و إن شهدا بعد زوال الشمس أمر الإمام بإفطار ذلك اليوم و أخّر الصلاة إلى الغد فصلّى بهم.» «3»

قال في الحدائق بعد التّعرّض لهذين الدليلين ما ملخّصه:

«و أنت خبير بأن للمناقشة في ذلك مجالا، أمّا المقبولة و نحوها فإنّ المتبادر منها إنّما هو الرجوع فيما يتعلّق بالدعاوى و القضاء بين الخصوم أو الفتوى في الأحكام الشرعية.

و أمّا صحيحة محمّد بن قيس فالظاهر من لفظ الإمام فيها إنّما هو إمام الأصل أو ما هو الأعمّ منه و من أئمّة الجور و خلفاء العامّة المتولّين لأمور المسلمين

نعم، للقائل أن يقول: إذا ثبت ذلك لإمام الأصل ثبت لنائبه لحقّ النيابة، إلّا أنّه لا يخلو أيضا من شوب الإشكال لعدم الوقوف على دليل لهذه الكليّة، و ظهور أفراد كثيرة يختصّ بها الإمام دون نائبه.

و بالجملة فالمسألة عندي موضع توقّف و إشكال لعدم الدليل الواضح في وجوب

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 99، الباب 11 من أبواب صفات القاضى، الحديث 1.

(2)- الوسائل 18/ 101، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9. كذا في كمال الدين ص 484 ط. قم، و لكن لم أجد في الوسائل المطبوع لفظة «عليهم».

(3)- الوسائل 7/ 199، الباب 6 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 599

الأخذ بحكم الحاكم بحيث يشمل موضع النزاع.

ثمّ أنت خبير أيضا بأنّ ما ذكروه من العموم أنّه لو ثبت عند الحاكم بالبيّنة

نجاسة الماء و حرمة اللحم و لم يثبت عند المكلّف لعدم سماعه من البيّنة مثلا فإنّ تنجيس الأوّل و تحريم الثاني بالنسبة إليه بناء على وجوب الأخذ عليه بحكم الحاكم ينافي الأخبار الدّالة على أنّ كلّ شي ء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر، و كلّ شي ء فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتّى تعلم الحرام بعينه فتدعه، حيث إنّهم لم يجعلوا من طرق العلم في القاعدتين المذكورتين حكم الحاكم بذلك و إنّما ذكروا اخبار المالك و شهادة الشاهدين، و على ذلك تدلّ الأخبار أيضا.» «1»

أقول: ما ذكره أخيرا من النقض بمثل نجاسة ماء أو حرمة لحم خاصّ و نحوهما من الموضوعات الجزئيّة الشخصيّة غير وارد، فإنّ أمر الهلال المتوقّف عليه صوم المسلمين وعيدهم و حجّهم و نحو ذلك يكون من الأمور المهمّة العامّة للمسلمين، و ليس أمرا جزئيّا شخصيا بل هو أمر يبتلى به مجتمع المسلمين حينا بعد حين، و كان رسول اللّه «ص» و أمير المؤمنين «ع» و الحكّام و القضاة في جميع الأعصار يهتمون به و كان تحقيقه و إثباته من وظائفهم التي يتولّونها، و لم يكن بناء المسلمين على اعتزال كلّ شخص و انفراده بصومه و فطره و وقوفه و إفاضته، بل كانوا يرجعون فيها إلى ولاة الأمر من الحكّام و نوّابهم، كما يشهد بذلك السيرة المستمرة الباقية إلى أعصارنا و الروايات الكثيرة التي يأتي بعضها.

فأمور الحج مثلا كانت مفوّضة إلى أمير الحاجّ المنصوب من قبل الخلفاء لذلك، و ربّما كانوا هم بأنفسهم يتصدّون لها و الناس كانوا متابعين لهم، و لم يعهد أن يتخلّف مسلم عن أمير الحاجّ أو يسأل المسلمون حاكما عن مستند حكمه و أنّه البيّنة أو العلم الشخصيّ

مثلا، و قد تحقّق في محلّه جواز حكم الحاكم بعلمه.

فإذا منع الإمام الصادق «ع» في المقبولة عن الرجوع إلى قضاة الجور لكونهم

______________________________

(1)- الحدائق الناضرة 13/ 259.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 600

طواغيت و جعل الفقيه من شيعته حاكما بدلهم لرفع حاجات الشيعة فيمكن أن يقال بنفوذ حكمه في كلّ ما كان يرجع فيه إلى القضاة في تلك الأعصار و الظروف و منها كان أمر الهلال قطعا كما هو كذلك في أعصارنا. و إذا أرجع صاحب العصر- عجّل اللّه فرجه- شيعته في الحوادث الواقعة لهم إلى رواة حديثهم فأيّ حادثة واقعة أهمّ و أشدّ ابتلاء من أمر الهلال الذي يبتلى به في يوم واحد مجتمع المسلمين؟

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ مورد السؤال في المقبولة هو المنازعات في مثل الدين و الميراث فلا يعمّ مثل الهلال، و قال «ع»: «فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه.» و كون حكمه في الهلال هو حكمهم «ع» أوّل الكلام، و لا يمكن إثباته بهذه الرواية، فإن الحكم لا يثبت موضوع نفسه، فتأمّل.

كما أنّ إرادة العموم في الحوادث الواقعة في التوقيع غير معلومة بعد كون الجواب مسبوقا بسؤال غير مذكور، و لعلّ المسؤول عنه كان حوادث خاصّة. و الجواب أيضا مجمل، حيث لا يعلم أنّ الإرجاع هل هو في حكم الحوادث فيدلّ على حجيّة الفتوى أو فصلها و حسمها فيدلّ على نفوذ القضاء أو رفع إجمالها ليشمل المقام.

و يمكن دعوى انصرافها إلى خصوص الحوادث المهمّة التي لا مخلص فيها إلّا حكم الحاكم و ليس المقام منه لإمكان معرفة الهلال بغيره من الرؤية و الشهود و نحوهما. هذا.

و امّا ما ذكره في الحدائق من حمل لفظ الإمام

في الصحيحة على إمام الأصل فهو خلاف الظاهر جدّا يظهر ذلك لمن تتبّع موارد استعمال اللفظ في الأبواب المختلفة من الفقه و الحديث، كما مرّ كثير منها في الباب الثالث من هذا الكتاب، فراجع.

و قد عرفت سابقا أن أنس أذهان أصحابنا بإمامة الأئمة الاثنى عشر «ع» صار موجبا لتوهّم كون اللفظ موضوعا لهم أو منصرفا إليهم، مع أنّ لفظ الإمام وضع للقائد الذي يؤتمّ به في الصلاة أو الجهاد أو الحجّ أو جميع الشؤون العامّة بحقّ كان أو بباطل.

فقد أطلق الإمام الصادق «ع» اللفظ على أمير الحاجّ إسماعيل بن عليّ حين

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 601

سقط هو «ع» من بغلته حين الإفاضة من عرفات فوقف عليه إسماعيل فقال له أبو عبد اللّه «ع»: «سر، فإنّ الإمام لا يقف.» «1»

و في رسالة الحقوق لعليّ بن الحسين «ع»: «و كل سائس إمام.» «2»

و بالجملة فالإمام هو القائد في شأن عامّ أو جميع الشؤون العامّة. و المراد به هنا الحاكم العدل و إن لم يكن معصوما كما يقتضيه إطلاق اللفظ، و إن كانت الأئمّة الاثنا عشر مع ظهورهم أحقّ بهذا المنصب الشريف عندنا.

و قد عرفت بالتفصيل أنّ الإمامة و شئونها داخلة في نسج الإسلام و نظامه و أنّها لا تتعطّل في عصر من الأعصار. و تحقيق الهلال و إثباته و تعيين تكليف المسلمين في صيامهم وعيدهم و وقوفهم من أهمّ الوظائف العامّة.

[موارد تصدّي النبيّ «ص» و الخلفاء لأمر الهلال و تعيين تكليف المسلمين]

و قد تصدّى لأمر الهلال و تعيين تكليف المسلمين النبيّ «ص» في عصره بما أنّه كان حاكما عليهم و كذلك أمير المؤمنين و جميع الخلفاء:

1- ففي سنن أبي داود بسنده عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: «جاء أعرابي إلى

النّبيّ «ص» فقال: إنّي رأيت الهلال- قال الحسن في حديثه: يعني رمضان- فقال «ص»: أتشهد أن لا إله إلّا اللّه؟ قال: نعم. قال: أتشهد أنّ محمدا رسول اللّه؟ قال:

نعم. قال «ص»: يا بلال، أذّن في الناس فليصوموا غدا.» «3»

2- و عن عكرمة:

«أنّهم شكّوا في هلال رمضان مرّة فأرادوا أن لا يقوموا و لا يصوموا، فجاء أعرابي من الحرّة فشهد أنّه رأى الهلال، فأتي به النبيّ «ص» فقال: «أتشهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّي رسول اللّه؟» قال: نعم، و شهد انّه رأى الهلال، فأمر بلالا فنادى في الناس أن يقوموا و أن يصوموا.» «4»

______________________________

(1)- الوسائل 8/ 290، الباب 26 من أبواب آداب السفر.

(2)- الخصال للصدوق/ 565 (الجزء 2)، أبواب الخمسين، الحديث 1.

(3)- سنن أبي داود 1/ 547، كتاب الصيام، باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان.

(4)- سنن أبي داود 1/ 547، كتاب الصيام، باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 602

و الخبران يرجعان إلى خبر واحد، و لعلّ ابن عباس سقط من الثاني.

3- و عن ابن عمر، قال:

«ترائى الناس الهلال فأخبرت رسول اللّه «ص» أنّي رأيته «فصام و أمر الناس بصيامه.» «1»

و لعلّ شهادة الأعرابي أو ابن عمر كانت محفوفة بقرائن خارجيّة توجب الوثوق أو الاطمئنان، مضافا إلى ما للرسول «ص» من العلم و الإحاطة، فلا تنافي هذه الروايات لما دلّ على اعتبار التعدّد في الشاهد.

و التفصيل بين هلال رمضان و هلال شوال بكفاية الواحد في الأوّل دون الثاني كما عن بعض فقهاء السّنّة ممنوع عند المشهور من أصحابنا. و التحقيق موكول إلى محلّه.

4- و عن رجل من أصحاب النبيّ «ص» قال:

«اختلف

الناس في آخر يوم من رمضان فقدم أعرابيان فشهدا عند النّبي «ص» باللّه لأهلّا الهلال أمس عشيّة، فأمر رسول اللّه «ص» الناس أن يفطروا و أن يغدوا إلى مصلّاهم.» «2»

5- و في المحلّى لابن حزم: «روينا من طريق أبي عثمان النهدي، قال: قدم على رسول اللّه «ص» أعرابيان، فقال رسول اللّه «ص» «أ مسلمان أنتما؟ قالا: نعم. فأمر الناس فأفطروا أو صاموا.» «3»

6- و روى ابن ماجة بسنده عن أبي عمير بن أنس بن مالك، قال:

«حدّثني عمومتي من الأنصار من أصحاب رسول اللّه «ص» قالوا: «أغمي علينا هلال شوال فأصبحنا صياما فجاء ركب من آخر النهار فشهدوا عند النّبيّ «ص» أنّهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم رسول اللّه «ص» أن يفطروا و أن يخرجوا إلى

______________________________

(1)- سنن أبي داود 1/ 547، كتاب الصيام، باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان.

(2)- سنن أبي داود 1/ 546، كتاب الصيام، باب شهادة رجلين ...

(3)- المحلّى لابن حزم 3/ 237 (الجزء 6)، المسألة 757.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 603

عيدهم من الغد.» «1»

و روى هذا الخبر بعينه في المصنّف، و فيه:

«فأمر النّبيّ «ص» الناس أن يفطروا من يومهم و أن يخرجوا لعيدهم من الغد.» «2»

7- و في الجواهر عن النّبيّ «ص»:

«أنّ ليلة الشكّ أصبح الناس فجاء أعرابيّ إليه فشهد برؤية الهلال فأمر النّبي «ص» مناديا ينادي من لم يأكل فليصم، و من أكل فليمسك.» «3»

و لم أجد الرواية كذلك في كتب السنّة و لكن في صحيح مسلم:

«بعث رسول اللّه «ص» رجلا من أسلم يوم عاشوراء فأمره أن يؤذّن في الناس من كان لم يصم فليصم و من كان أكل فليتمّ صيامه إلى الليل.» «4»

8-

و في الوسائل عن حماد بن عيسى، عن عبد اللّه بن سنان، عن رجل، قال:

«صام عليّ «ع» بالكوفة ثمانية و عشرين يوما شهر رمضان فرأوا الهلال فأمر مناديا ينادي اقضوا يوما فإنّ الشهر تسعة و عشرون يوما.» «5»

9- و في أمّ الشافعي بسنده عن فاطمة بنت الحسين:

«أنّ رجلا شهد عند عليّ «ع» على رؤية هلال رمضان فصام، و أحسبه قال: و أمر الناس أن يصوموا.» «6»

فيظهر من هذه الروايات أنّ رسول اللّه «ص» و أمير المؤمنين «ع» كانا يتصدّيان لأمر الهلال و صوم المسلمين وعيدهم، و يحكمان عليهم بالصوم و الفطر بعد ما ثبت الهلال عندهما. و احتمال كون ذلك من خصائص النبيّ «ص» و الأئمة المعصومين «ع» واضح البطلان لمن ثبت له عدم تعطيل الإمامة و شئونهما في عصر

______________________________

(1)- سنن ابن ماجة 1/ 529، كتاب الصيام، الباب 6، الحديث 1653.

(2)- المصنف لعبد الرزاق 4/ 165، كتاب الصيام، باب أصبح الناس صياما و قد رئي الهلال، الحديث 7339.

(3)- الجواهر 16/ 197.

(4)- صحيح مسلم 2/ 798، كتاب الصيام، باب من أكل في عاشوراء ...، الحديث 1135.

(5)- الوسائل 7/ 214، الباب 14 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 1.

(6)- الأمّ للشافعي 2/ 80.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 604

الغيبة و عدم جواز إهمال الشرع لهذا الأمر الخطير المبتلى به في جميع الأعصار. و لنا في رسول اللّه «ص» أسوة حسنة فيجب التأسّي به فيما لم يثبت اختصاصه به و كذلك الأئمّة «ع».

10- و مضت صحيحة محمد بن قيس، عن أبي جعفر «ع»، قال: «إذا شهد عند الإمام شاهدان أنّهما رأيا الهلال منذ ثلاثين يوما أمر الإمام بإفطار ذلك اليوم.» «1»

11- و

في رواية رفاعة، عن رجل، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «دخلت على أبي العباس بالحيرة فقال: يا با عبد اللّه، ما تقول في الصيام اليوم؟ فقلت: ذاك إلى الإمام إن صمت صمنا، و إن أفطرت أفطرنا. فقال: يا غلام، عليّ بالمائدة فأكلت معه و أنا أعلم و اللّه أنّه يوم من شهر رمضان، فكان إفطاري يوما و قضاؤه أيسر عليّ من أن يضرب عنقي و لا يعبد اللّه.» «2»

و كون الإمام- عليه السلام- في ظرف التقيّة لا يوجب حمل قوله «ع»: «ذاك إلى الإمام» على التقيّة، فإنّه كبرى كليّة لم يكن ضرورة في بيانها لو لم تكن حقّا، و الضرورات تتقدّر بقدرها. و قضاؤه «ع» لا ينافي صحّة العبادة المأتي بها عن تقيّة، فإنّ ترك الصوم ليس عملا وجوديّا حتّى يجزي عن الصوم الواجب.

12- و في رواية أخرى قال «ع»: «فدنوت فأكلت، و قلت: الصوم معك و الفطر معك.» «3»

13- و في رواية ثالثة: «ما صومي إلّا بصومك و لا إفطاري إلّا بإفطارك.» «4»

14- و عن الصدوق بإسناده عن عيسى بن أبي منصور أنّه قال: «كنت عند أبي عبد اللّه «ع» في اليوم الذي يشكّ فيه، فقال «ع»: يا غلام، اذهب فانظر أ صام

______________________________

(1)- الوسائل 7/ 199، الباب 6 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 1.

(2)- الوسائل 7/ 95، الباب 57 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ...، الحديث 5.

(3)- الوسائل 7/ 95، الباب 57 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ...، الحديث 4.

(4)- الوسائل 7/ 95، الباب 57 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ...، الحديث 6.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 605

السلطان أم لا. فذهب ثمّ

عاد فقال: لا، فدعا بالغداء فتغدّينا معه.» «1»

و سند الصدوق الى ابن أبي منصور صحيح و هو أيضا ثقة.

و دلالة هذه الأخبار الكثيرة على أنّ أمر الهلال كان بيد الحاكم الإسلامي و أنّه كان من شئون الحكومة واضحة. و الناس كانوا متابعين لها في الصوم و الفطر و الحجّ، فكان للناس رمضان واحد وعيد واحد و موقف واحد و كان نظامها بيد الحاكم دفعا للاختلاف و الهرج و المرج.

و في الجواهر:

«إنّ احتمال العدم مناف لإطلاق الأدلّة و تشكيك فيما يمكن تحصيل الإجماع عليه خصوصا في أمثال هذه الموضوعات العامّة التي هي من المعلوم الرجوع فيها إلى الحكّام، كما لا يخفى على من له خبرة بالشرع و سياسته و بكلمات الأصحاب في المقامات المختلفة.» «2»

15- و في رواية أبي الجارود قال: «سألت أبا جعفر «ع»: أنّا شككنا سنة في عام من تلك الأعوام في الأضحى فلمّا دخلت على أبي جعفر «ع» و كان بعض أصحابنا يضحّي فقال «ع»: الفطر يوم يفطر الناس، و الأضحى يوم يضحّي الناس، و الصوم يوم يصوم الناس.» «3»

16- و في كنز العمّال عن الترمذي، عن عائشة:

«الفطر يوم يفطر الناس و الأضحى يوم يضحّي الناس.» «4»

17- و روى الترمذي بسنده عن أبي هريرة أنّ النبيّ «ص» قال: «الصوم يوم تصومون و الفطر يوم تفطرون، و الأضحى يوم تضحّون.»

قال الترمذي:

______________________________

(1)- الوسائل 7/ 94، الباب 57 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ...، الحديث 1.

(2)- الجواهر 16/ 360.

(3)- الوسائل 7/ 95، الباب 57 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ...، الحديث 7.

(4)- كنز العمال 8/ 489، الباب 1 من كتاب الصوم من قسم الأقوال، الحديث 23763.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية،

ج 2، ص: 606

«فسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال: إنّما معنى هذا: الصوم و الفطر مع الجماعة و عظم الناس.» «1»

و هذه الروايات و إن ضعف أكثرها من جهة السند و لكنّ الوثوق و الاطمينان بصدور بعضها مضافا إلى صحّة البعض يكفي لإثبات أن أمر الهلال لم يكن أمرا فرديّا بل كان من الأمور العامّة التي كان الحاكم الإسلامي مصدرا لها و أمرا جماعيّا كان الحاكم نظاما له.

و السيرة المستمرّة أيضا شاهدة على ذلك فكان الحاكم في جميع الأعصار مرجعا للناس في صومهم و فطرهم، و كان أمير الحاجّ المنصوب من قبل الإمام يأمر بالوقوف و الإفاضة، و الناس يتّبعونه.

و قد عدّ الماوردي خمسة تكاليف لأمير الحاجّ فقال:

«أحدها: إشعار الناس بوقت إحرامهم و الخروج إلى مشاعرهم ليكونوا له متّبعين و بأفعاله مقتدين.» و ذكر مثله أبو يعلى «2».

و كان أئمّتنا المعصومون- عليهم السلام- و أصحابهم أيضا في مدّة أكثر من مأتي سنة يحجّون في جماعة الناس، و لم يعهد و لم ينقل تخلّفهم عن الناس في الوقوف و الإفاضة و النحر و سائر الأعمال، و لو كان لبان و نقله المؤرّخون و الأصحاب.

و احتمال اتّفاقهم مع الناس و مع أمير الحاجّ في رؤية الهلال بأنفسهم في جميع هذه السنين بعيد جدّا.

و بذلك يظهر اجتزاء العمل بحكم الحاكم من أهل الخلاف أيضا و لا أقلّ في صورة عدم العلم بالخلاف.

و قد مرّ سابقا أنّ الحجّ لم يكن بدون أمير الحاجّ المنصوب لذلك، المتبوع في جميع المواقف.

و قد عقد المسعودي في آخر مروج الذهب بابا لتسمية من حجّ بالناس من سنة

______________________________

(1)- سنن الترمذي 2/ 102، أبواب الصوم، الباب 11، الحديث 693.

(2)- الأحكام السلطانيّة/ 110، باب

ولاية الحجّ، و الأحكام السلطانية لأبي يعلى/ 112، فصل ولاية الحجّ.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 607

ثمان من الهجرة إلى سنة خمس و ثلاثين و ثلاثمائة، فراجع «1».

فروع:

[الأوّل: حكم الحاكم في باب الهلال يعمّ كلّ فقيه واجد للشرائط]

الأوّل: لا يخفى أنّ الدليل على حجيّة حكم الحاكم في باب الهلال إن كان هو المقبولة أو التوقيع الشريف و نحوهما من العمومات فالموضوع فيها هو الفقيه من الشيعة المبتني فقهه على الكتاب و السّنّة و أحاديث الأئمّة «ع»، فيعمّ كلّ فقيه واجد للشرائط سواء تصدّى للإمامة أو القضاء فعلا أو كان منعزلا عنهما.

و أمّا إذا كان الدليل هو الأخبار الخاصّة التي مرّت فالموضوع فيها هو الإمام، و الظاهر منه هو المتصدّي فعلا لمقام الإمامة و زعامة المسلمين. فشمول الحكم لعمّاله في البلاد و للقضاة المنصوبين من قبله محلّ إشكال.

و أشكل من ذلك الفقيه المنعزل عنهما فعلا و إن صلح لهما. اللّهم أن يدّعى ثبوت الولاية الفعلية لكلّ فقيه و أنّ له كلّ ما كان للإمام بمقتضى أدلّة ولاية الفقيه، و لكن نحن ناقشنا في ذلك كما مرّ.

و لكن يمكن أن يقال: نحن نعلم أنّ إبلاغ حكم الخليفة و الإمام الأعظم إلى سائر الأمصار و البلاد في تلك الأعصار لم يكن يتيسّر عادة، فإذا استنبطنا من هذه الروايات و من السيرة المستمرّة إلى اليوم أنّ بناء الشرع كان على توحيد كلمة المسلمين في أمر الهلال و صومهم وعيدهم و مواقف حجّهم فلا محالة يجب أن يتصدّى لذلك في كلّ بلد من ينوب عنه من العمّال و القضاة كما هو المتعارف في أعصارنا في البلاد الإسلاميّة، حيث يتصدّى لأمر الهلال قاضي القضاة في كلّ بلد، و لا سيّما إذا قلنا بأنّه مع اختلاف

الآفاق يكون لكلّ بلد حكم نفسه كما هو المشهور و الأقوى في المسألة.

______________________________

(1)- مروج الذهب 2/ 566.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 608

و المناسب في باب الحجّ تصدّي أمير الحجّاج له و إن لم يكن نفس الإمام، فيجوز بل يجب تصدّيهما له و لا سيّما إذا فوّض الإمام إليهما ذلك بالصراحة.

نعم، في النفس شي ء بالنسبة إلى القضاة و هو أنّ الماوردي و أبا يعلى لم يذكرا ذلك في عداد ما ذكراه من اختيارات القضاة، و لو كان الهلال أمرا مرتبطا بهم في تلك الأعصار كان المناسب تعرّضهما له كما تعرّضا له في ولاية الحج كما مرّ. هذا.

و قد يقال: إنّه يجب على الفقيه كفاية التصدّي له إذا لم يكن الهلال واضحا للناس و اختلفوا فيه، لأنّه من الأمور الحسبيّة التي لا يجوز إهمالها، و لأنّه باب من أبواب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و دفع الهرج و المرج. و يجب على الناس أيضا الرجوع إليهم في ذلك، لأنّه من الحوادث الواقعة التي أمروا بالرجوع فيها إلى رواة حديثهم.

أقول: مقتضى ذلك أن يجب مع عدم الفقيه تصدّي عدول المؤمنين له و نفوذ حكمهم فيه، و الظاهر أنّه لا يقول بذلك أحد، فتدبّر.

الثاني: الحكم عبارة عن إنشاء الإلزام بشي ء أو ثبوت أمر،

و لا يتعيّن أن يقع بلفظ: «حكمت» أو غيره من مشتقّات هذه المادّة أو ما يرادفه، بل يكفي فيه قوله:

«اليوم من رمضان أو شوال، أو يجب عليكم صوم اليوم أو الفطر فيه» و نحو ذلك مما هو حكم واقعا و بالحمل الشائع، فاللازم واقع الحكم لا مفهومه. و في كفاية قوله: «ثبت عندي» اشكال اذ ظاهره الخبر لا الانشاء كما لا يخفى.

الثالث: [ليس حكم الحاكم في الهلال و سائر الموضوعات ملحوظا بنحو السّببيّة]

ليس حكم الحاكم في الهلال و في سائر الموضوعات على القول به ملحوظا بنحو السّببيّة في عرض الواقع و مغيّرا له، بل هو طريق شرعي إلى الواقع و حجّة عليه كسائر الأمارات و الطرق، فلا مجال له مع العلم بالواقع سواء أصابه أم أخطأه. نعم، في باب المنازعات يجب التسليم لحكمه ظاهرا على المترافعين حسما

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 609

لمادّة النزاع كما هو واضح.

و كذلك لا مجال للعمل به إذا علم بتقصير الحاكم في مقدّمات حكمه، لسقوطه بالتقصير عن أهليّة الحكم، و لقول الصادق «ع» في المقبولة: «فإذا حكم بحكمنا.» إذ ليس المراد به العلم بكون حكمه حكمهم- عليهم السلام- و إلّا كان وجوب القبول لذلك لا لأنّه حكمه. بل المراد كون حكمه على أساس حكمهم و موازينه بأن يستند إلى الكتاب و السنّة الصحيحة في قبال من يستند إلى الأقيسة و الاستحسانات الظنيّة فلا يصدق ذلك على من قصّر في مبادي حكمه، بل من غفل عنها و لو كان عن قصور، فتدبّر.

الرابع: أنّ فتوى المجتهد حجة في حقّه و حقّ مقلّديه دون سائر المجتهدين.

و أمّا حكمه في الهلال و نحوه على فرض حجيّته فلا ينحصر في حقّ مقلّديه بل يعمّ المجتهدين أيضا إذا أذعنوا باجتهاده و جامعيّته لشرائط الحكم و عدم تقصيره في مباديه.

و كذلك حكمه في المرافعات و لو كانت الشبهة حكميّة مختلفا فيها بين الفقهاء كما إذا اختلفا في منجّزات المريض مثلا و أنّها من الأصل أو من الثلث فترافعا إليه فحكم بالأصل مثلا فيكون حكمه نافذا حتّى في حقّ من يرى أنّها من الثلث، إذ حسم النزاع يقتضي وجوب الأخذ بحكم الحاكم للمترافعين و إن خالف نظر أحدهما اجتهادا أو تقليدا.

و بالجملة فحكم الحاكم نافذ

حتّى في حقّ سائر المجتهدين إذ الإمام «ع» حكم في التوقيع الشريف بكونهم حجّة له- عليه السلام-، و من الواضح أنّه لا يجوز لأحد مخالفة حجّة الإمام- عليه السلام-.

و لدلالة المقبولة على وجوب قبوله و حرمة ردّه و أنّ ردّه ردّهم- عليهم السلام-، و إطلاقه يشمل المجتهد أيضا. و مورد المقبولة هو الشبهة الحكميّة أو الأعمّ، كما لا يخفى على من راجعها.

و لا ينتقض هذا بالفتوى، فإنّ الفتوى ليس إنشاء لحكم بل هو إخبار عمّا فهمه من الكتاب و السنّة فلا يكون حجّة في حقّ من يقدر على الاستنباط منهما، فتدبّر.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 610

هذا كلّه مضافا إلى أنّ امام المسلمين و المنصوب من قبله إذا حكم بحكم لتوحيد كلمة المسلمين و حفظ نظامهم كما هو كذلك في أمر الهلال فليس لأحد أن يفارق جماعتهم و يخالف الإمام و الوالي قيد شبر، مجتهدا كان أو مقلّدا، كما كان كذلك في عصر النّبيّ «ص» و في عصر أمير المؤمنين «ع» و إلّا لزم اختلال النظام و الهرج و المرج، و لتفصيل المسألة محلّ آخر.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 611

الفصل العاشر في الاحتكار و التسعير

اشارة

لما صارت مسألة احتكار الأمتعة و السلع الضرورية و تسعيرها من أهم مشاكل عصرنا الحاضر و مما بليت بها و بلوازمها و آثارها الحكومات الدارجة، بحيث ربما توشك بسببها على التزلزل و السقوط، و صارت الناحية السياسية فيها تغلب على الناحية الاقتصادية البحتة، كان من المناسب في البحث حول الحكومة الإسلامية التعرض لها، و إن كان محل البحث فيها كتاب التجارة من الفقه، فنقول: فيه جهات من البحث:

الاحتكار

[1]- الاحتكار و الحصار التجاري مشكلة حضارة العصر:

لا يخفى أن الاحتكار ليس أمرا مستحدثا غير معروف في القرون السالفة، بل كان هو في جميع الأعصار مشكلة اجتماعية كبيرة و لا سيما طوال الحروب الواسع

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 612

النطاق، فإنه وليد الحرص و الطمع المجبول عليهما نوع الإنسان. نعم، قد كانت الحكمة في تخمير الإنسان بغريزة الحرص هي أن لا يجمد الإنسان في كسب المعارف و الفضائل و العلوم، و لا يقف فيها عند حدّ خاصّ، بل يجهد دائما في تحصيل العلوم و الفضائل النفسانية و الأعمال الصالحة و الاعتلاء بروحه و نفسه. و لكن الغرائز الأصيلة المقدسة في ذاتها ربما انحرفت عن مسيرها و أهدافها، فأوجب ذلك سقوط الإنسان في المهالك المادية.

و كيف كان، فعملية الاحتكار للسلع و الأمتعة مما يعود تاريخها إلى أولى أعصار حياة الإنسان الاجتماعية و التي كان التبادل التجاري يسود فيها دائما بين أفراد البشر. و كلما اتسعت مجالات التبادل التجاري و تكاملت فنونها كثرت الحكرة و الحصارات الاقتصادية و سرت الى جميع ما يحتاج إليه الإنسان في نفقاته و صناعاته و انتاجاته، فعمت شرورها و كثرت أضرارها.

و قد بلغت سعة مجالاتها في أعصارنا حدا صارت أكبر وسيلة استعمارية تستخدمها الدول الكبرى

المستكبرة ضد الدول و الامم المستضعفة، للضغط عليها و التسلط على سياستها و ثقافتها و ثرواتها.

فيفرض على الرجال العقلاء الملتزمين من العالم الثالث أن يفكروا في حلّ هذه المشكلة التي بليت بها دولهم و أممهم.

و نقول إجمالا: إن الوسيلة الوحيدة لذلك هي التمسك بالإسلام و شرائعه، و توحيد الكلمة تحت لوائه، و قطع العلاقات مع الدول الكبرى الظالمة إلّا بقدر الضرورة. و للتفصيل في ذلك محل آخر.

[2]- مفهوم الاحتكار في اللغة:

قال ابن الأثير في النهاية:

«فيه: «من احتكر طعاما فهو كذا»، أي اشتراه و حبسه ليقلّ فيغلو. و الحكر

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 613

و الحكرة: الاسم منه، و منه الحديث: «انه نهى عن الحكرة»، و منه حديث عثمان: «انه كان يشتري العير حكرة»، أي جملة، و قيل: جزافا. و أصل الحكر:

الجمع و الإمساك ... الحكر بالتحريك: الماء القليل المجتمع، و كذلك القليل من الطعام و اللبن.» «1»

و في لسان العرب:

«الحكر: ادّخار الطعام للتربص. و صاحبه محتكر. ابن سيده: الاحتكار: جمع الطعام و نحوه مما يؤكل و احتباسه انتظار وقت الغلاء به ... و في الحديث: «من احتكر طعاما فهو كذا»، أي اشتراه و حبسه ليقلّ فيغلو. و الحكر و الحكرة: الاسم منه ... و حكره يحكره حكرا: ظلمه و تنقّصه و أساء معاشرته. قال الأزهري:

الحكر: الظلم و التنقص و سوء العشرة. و يقال: فلان يحكر فلانا: إذا أدخل عليه مشقة و مضرة في معاشرته و معايشته ... و الحكر: اللجاجة.» «2»

و في القاموس:

«الحكر: الظلم و إساءة المعاشرة، و الفعل كضرب ... و بالتحريك: ما احتكر، أي احتبس انتظارا لغلائه ... و اللجاجة و الاستبداد بالشي ء ... و الماء المجتمع.» «3»

و في الصحاح:

«احتكار

الطعام: جمعه و حبسه يتربّص به الغلاء و هو الحكرة بالضمّ.» «4»

و في المنجد:

«حكره: أساء عشرته. أدخل عليه مشقة و مضرة في معايشته. ظلمه. تنقصه. حكر حكرا: لجّ ... حكر بالأمر: استبدّ، و منه الاستبداد بحبس البضاعة كي تباع بالكثير. تحكر و احتكر الشي ء: جمعه و احتبسه انتظارا لغلائه فيبيعه بالكثير.» «5»

______________________________

(1)- النهاية 1/ 417.

(2)- لسان العرب 4/ 208.

(3)- القاموس المحيط/ 239.

(4)- الصحاح 2/ 635.

(5)- المنجد/ 146.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 614

أقول: لا يخفى أن المفهوم من كلمات أهل اللغة، أن مفاد الكلمة بحسب أصلها و وضعها هو جمع الشي ء الذي يحتاج إليه الناس، و الاستبداد به و حبسه و منعهم منه، و يلازم ذلك اللجاجة و الظلم و سوء العشرة؛ أو لعل الأصل فيه هو الظلم و سوء العشرة، ثم استعمل في حبس ما يحتاج إليه الناس، لكونه من أظهر مصاديق الظلم.

و كيف كان، فهو بحسب المفهوم، عام لكل ما يحتاج إليه الناس و يكون منعهم منه موجبا للظلم و التنقص، فلا يختص بالطعام. و إضافته إليه في الكلمات من باب المثال لكون الطعام من أظهر الحاجات. هذا.

[3]- مفهوم الاحتكار في كلمات الفقهاء:

و المذكور في كلمات الفقهاء غالبا هو الطعام، أو الأقوات، أو أشياء خاصة:

ففي المقنعة:

«و الحكرة: احتباس الأطعمة مع حاجة أهل البلد إليها و ضيق الأمر عليهم فيها، و ذلك مكروه.» «1»

و في النهاية:

«الاحتكار: هو حبس الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب و السمن من البيع.» «2»

و في المختصر النافع- في عداد المعاملات المكروهة-:

«و الاحتكار و هو حبس الأقوات، و قيل: يحرم» «3»

و في الدروس- في عداد المناهي-:

______________________________

(1)- المقنعة/ 96.

(2)- النهاية للشيخ/ 374.

(3)- المختصر النافع/ 120.

دراسات في ولاية الفقيه و

فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 615

«و منه الاحتكار، و هو حبس الغلات الأربع و السمن و الزيت و الملح على الأقرب فيهما توقعا للغلاء، و الأظهر تحريمه مع حاجة الناس إليه.» «1»

و في القواعد:

«و يحرم الاحتكار على رأي، و هو حبس الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب و السمن و الملح بشرطين: الاستبقاء للزيادة، و تعذّر غيره.» «2»

إلى غير ذلك من كلماتهم الواردة بلسان التعريف للاحتكار.

و لكن الظاهر أن الفقهاء لم يكونوا بصدد تعريف اللفظ بحسب وضعه و مفهومه، بل بصدد تعريف ما ثبت عندهم حرمته أو كراهته بالروايات الواردة، حيث إن المذكور في كثير منها- كما سيأتي- أشياء خاصة، أعني الغلات الأربع و السمن و الزيت.

و الحاصل أن كون اللفظ بحسب الوضع اللغوي مختصا بالأشياء الخاصة و كونها مأخوذة في مفهومه بعيد جدا، و كذلك كونه حقيقة شرعية أو متشرعة لها خاصة.

فهو بحسب المفهوم عام و إن فرض كون المحرّم منه بحسب الأدلّة خصوص الأشياء الستة أو السبعة. و سنعود إلى هذا البحث ثانيا، فانتظر.

[4]- هل الاحتكار محرّم أو مكروه؟ و ذكر بعض الكلمات من الفقهاء:

قال العلامة في المختلف:

«اختلف علماؤنا في الاحتكار هل هو محرم أو مكروه؛ قال الصدوق في مقنعه إنه حرام، و به قال ابن البراج و الظاهر من كلام ابن إدريس. و قال الشيخ في

______________________________

(1)- الدروس/ 332، كتاب المكاسب.

(2)- القواعد 1/ 122.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 616

المبسوط و المفيد إنه مكروه، و به قال أبو الصلاح في المكاسب من كتاب الكافي.

و قال في فصل البيع: إنّه حرام. و الأقرب الكراهة. لنا الأصل عدم التحريم، و ما رواه الحلبي ...» «1»

و في مفتاح الكرامة:

«و الاحتكار منهي عنه إجماعا، كما في نهاية الاحكام. و

مراده ما هو أعم من المكروه بقرينة ما بعده، و قد حكم المصنف بأنه حرام وفاقا للمقنع و الفقيه في ظاهره و الهداية للصدوق على ما نسب اليها و الاستبصار و السرائر و التحرير و التذكرة و الدروس و جامع المقاصد و المسالك و الروضة، و هو قويّ كما في التنقيح و الميسية، و هو المنقول عن القاضي و الحلبي في أحد قوليه و المنتهى ... و القول بالكراهة خيرة المقنعة و النهاية و المبسوط و المراسم و الشرائع و النافع و الإرشاد و المختلف و إيضاح النافع، و هو المنقول عن التقي في القول الآخر.» «2»

أقول: لم أجد كلاما في هذا الباب عن الصدوق في الهداية، و لا تصريحا بالكراهة في النهاية.

نعم، قال في النهاية:

«و يكره بيع الطعام لأنه لا يسلم معه من الاحتكار.» «3» و لكن ليس هذا حكما للاحتكار. هذا.

و لا يتوهّم أن مورد القول بالحرمة هو صورة احتياج الناس إلى الطعام و وجود الضرورة، و مورد القول بالكراهة صورة كثرة المتاع و عدم الضرورة، بل الظاهر أن محطّ القولين معا هو صورة حاجة الناس إلى المتاع و كون الحبس له من ناحية هذا الشخص موجبا للضيق و الشدة عليهم. و أما مع وجود ما يرفع به حاجتهم و عدم وقوعهم في الضيق من ناحية حبس هذا الشخص، فخارج عن مورد القولين هنا

______________________________

(1)- المختلف/ 345.

(2)- مفتاح الكرامة، ج 4، كتاب المتاجر/ 107.

(3)- النهاية للشيخ/ 368.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 617

و لو قيل بالكراهة لوجه آخر، بل ظاهر بعض الكلمات عدم صدق عنوان الاحتكار حينئذ. فكأنّ اللفظ عندهم أخذ في مفهومه الضيق و الشدة، و قد

عرفت أنه المستفاد من كلمات أهل اللغة أيضا. هذا.

ففي مقنع الصدوق:

«و لا بأس أن يشتري الرجل طعاما فلا يبيعه؛ يلتمس به الفضل إذا كان بالمصر طعام غيره. و إذا لم يكن بالمصر طعام غيره، فليس له إمساكه و عليه بيعه و هو محتكر.» «1»

و في نهاية الشيخ:

«و إنّما يكون الاحتكار إذا كان بالناس حاجة شديدة إلى شي ء منها و لا يوجد في البلد غيره، فأمّا مع وجود أمثاله فلا بأس أن يحبسه صاحبه و يطلب بذلك الفضل.» «2»

و في بيع الكافي لأبي الصلاح:

«و لا يحل لأحد أن يحتكر شيئا من أقوات الناس مع الحاجة الظاهرة إليها.» «3»

و في مهذب ابن البراج- في عداد المكاسب المحظورة- قال:

«و احتكار الغلّات عند عدم الناس لها و حاجتهم الشديدة إليها.» «4»

و في الغنية:

«و لا يجوز الاحتكار في الأقوات مع الحاجة الظاهرة إليها.» «5»

و في السرائر:

«و إنّما يكون الاحتكار منهيا عنه إذا كان بالناس حاجة شديدة إلى شي ء منها (الغلات الأربع و السمن) و لا يوجد في البلد غيره.» «6»

______________________________

(1)- الجوامع الفقهية/ 31.

(2)- النهاية/ 374.

(3)- الكافي/ 360.

(4)- المهذب 1/ 346.

(5)- الجوامع الفقهية/ 528.

(6)- السرائر/ 212.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 618

و قد مرّ عن الدروس قوله:

«و الأظهر تحريمه مع حاجة الناس اليه.» «1»

و عن القواعد قوله:

«بشرطين: الاستبقاء للزيادة، و تعذّر غيره.» «2»

هذه بعض الكلمات ممن ظاهره الحرمة.

و قال في المقنعة:

«و الحكرة احتباس الأطعمة مع حاجة أهل البلد إليها و ضيق الأمر عليهم فيها، و ذلك مكروه.» «3»

و في المبسوط:

«و أما الاحتكار فمكروه في الأقوات إذا أضرّ ذلك بالمسلمين و لا يكون موجودا إلّا عند إنسان بعينه.» «4»

و بالجملة فالظاهر أنّ محطّ القولين للأصحاب كان صورة

الحاجة و الشدة، فراجع و تتبع كلماتهم.

و في الشرح الكبير المطبوع في ذيل المغني لابن قدامة الحنبلي:

«و الاحتكار حرام لما روى أبو أمامة ... و الاحتكار المحرّم ما جمع ثلاثة شروط:

أحدها: أن يشتري. فلو جلب شيئا أو أدخل عليه من غلّته شيئا فادّخره لم يكن محتكرا. روي ذلك عن الحسن و مالك ... الثاني: أن يكون قوتا. فأما الإدام و العسل و الزيت و علف البهائم فليس احتكاره بمحرّم ... الثالث: أن يضيق على الناس بشرائه، و لا يحصل ذلك إلّا بأمرين:

أحدهما: أن يكون في بلد يضيق بأهله الاحتكار، كالحرمين و الثغور، قاله أحمد.

فظاهر هذا أن البلاد الواسعة الكبيرة كبغداد و البصرة و مصر و نحوها لا يحرم فيها

______________________________

(1)- الدروس/ 332، كتاب المكاسب.

(2)- القواعد 1/ 122.

(3)- المقنعة/ 96.

(4)- المبسوط 2/ 195.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 619

الاحتكار، لان ذلك لا يؤثر فيها غالبا.

الثاني: أن يكون في حال الضيق، بأن يدخل البلد قافلة فيتبادر ذووا الأموال فيشترونها و يضيقون على الناس، و أما إن اشتراه في حال الاتساع و الرخص على وجه لا يضيق على أحد لم يحرم.» «1»

أقول: ما قاله من عدم تأثير الاحتكار في البلاد الكبيرة إنما كان من جهة أنّه لم يكن يوجد في تلك الأعصار الشركات الواسعة و الحصارات الاقتصادية العظيمة التي ربما تقبض بأياديها و براثنها الخبيثة جميع المنابع المادية لمنطقة كبيرة بل لمناطق كثيرة و تحكم فيها بما تريد و تستخدمها للضغط على الدول فضلا عن الأمم كما توجد في أعصارنا.

و في بدائع الصنائع في فقه الحنفية في تفسير الاحتكار:

«هو أن يشتري طعاما في مصر و يمتنع عن بيعه و ذلك يضر بالناس. و

كذلك لو اشتراه من مكان قريب يحمل طعامه إلى المصر و ذلك المصر صغير و هذا يضرّ به يكون محتكرا. و إن كان مصرا كبيرا لا يضرّ به لا يكون محتكرا.» «2»

و في موسوعة الفقه الاسلامي- عن الرملي الشافعي، و كذا النووي الشافعي في شرحه لصحيح مسلم-:

«أنه اشتراء القوت وقت الغلاء ليمسكه و يبيعه بعد ذلك بأكثر من ثمنه للتضييق.» «3»

فأنت ترى أن الضرر و الضيق مأخوذ في الاحتكار المحرم في كلمات فقهاء السنة أيضا.

______________________________

(1)- المغني 4/ 46، كتاب البيع.

(2)- بدائع الصنائع 5/ 129.

(3)- موسوعة الفقه الإسلامي 3/ 195، في الاحتكار.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 620

[5]- أدلّة الطرفين:

استدلّ القائل بالكراهة و عدم الحرمة بالأصل، و بقاعدة تسلط الناس على أموالهم، المعتضدة بنصوص الاتجار و حسن التعيّش و الحزم و التدبير كما في الجواهر، و بالتعبير بالكراهة في صحيحة الحلبي الآتية.

أقول: الأصل و القاعدة لا يقاومان الروايات الآتية، و صحيحة الحلبي يظهر الجواب عنها في محله.

و احتجّ القائلون بالحرمة بالأخبار الكثيرة الواردة من طرق الفريقين الظاهرة في الحرمة بل في شدتها و كونه موجبا للدخول في النار و في عرض بعض المحرمات الكبيرة كالإدمان على الخمر و القيادة و أكل الربا و نحو ذلك، و بما ورد في إجبار المحتكر على البيع و تنكيله و عقوبته.

و الأقوى هو القول الثاني في مفروض البحث، أعني فيما إذا كان الاحتكار موجبا للضيق و الضرر على الناس، بل لعلّه على ما عرفت لا يصدق في غير هذه الصورة إلّا مجازا.

[6]- أخبار الاحتكار على خمس طوائف:
اشارة

فلنتعرّض لأخبار المسألة، و هي بأجمعها خمس طوائف و إن كان بعضها متداخلا كما سيظهر:

الأولى: ما دلت على منعه مطلقا.

الثانية: ما دلت على المنع مطلقا في خصوص الطعام.

الثالثة: ما دلت على المنع بعد الثلاثة أيام في الشدة، و الأربعين في الخصب.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 621

الرابعة: ما دلت على التفصيل بين انحصار الطعام في البلد أو قلته، و بين غيره؛ فيختص المنع بالأول.

الخامسة: ما دلت على المنع في أشياء خاصة.

الطائفة الأولى- ما دلت على المنع مطلقا:

1- خبر ابن القداح، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: قال رسول اللّه «ص»: «الجالب مرزوق، و المحتكر ملعون.» «1»

و في السند سهل بن زياد، و الأمر فيه سهل.

2- ما رواه ورّام بن أبي فراس في كتابه عن النبي «ص» عن جبرئيل، قال:

«اطلعت في النار فرأيت واديا في جهنم يغلي، فقلت يا مالك، لمن هذا؟ فقال لثلاثة: المحتكرين، و المدمنين الخمر، و القوّادين.» «2»

3- و عن الفقيه، قال:

«و نهى أمير المؤمنين «ع» عن الحكرة في الأمصار.» «3»

و إسناد النهي إلى أمير المؤمنين «ع» بنحو البتّ و الجزم، يدلّ على ثبوت الرواية عند الصدوق، إذ فرق بين هذا التعبير و بين أن يقول مثلا: «روي عن أمير المؤمنين». و ظاهر النهي مادة و صيغة هو الحرمة.

4- و في نهج البلاغة في كتابه «ع» إلى مالك الأشتر، قال في شأن التجار:

«و اعلم- مع ذلك- أن في كثير منهم ضيقا فاحشا، و شحا قبيحا، و احتكارا للمنافع، و تحكما في البياعات، و ذلك باب مضرة للعامة و عيب على الولاة، فامنع من الاحتكار فإن رسول اللّه «ص»

______________________________

(1)- الوسائل 12/ 313، الباب 27 من أبواب آداب التجارة، الحديث 3.

(2)- الوسائل 12/ 314،

الباب 27 من أبواب آداب التجارة، الحديث 11.

(3)- الوسائل 12/ 314، الباب 27 من أبواب آداب التجارة، الحديث 9.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 622

منع منه. و ليكن البيع بيعا سمحا بموازين عدل و أسعار لا تجحف بالفريقين من البائع و المبتاع، فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكّل به و عاقبه في غير إسراف.» «1»

و تقريب الاستدلال أن أمره «ع» بالتنكيل و المعاقبة دليل واضح على الحرمة، لعدم جواز العقوبة على المكروه.

فإن قلت: ظاهر الرواية أن ممنوعية الحكرة ليست بالذات و من قبل اللّه- تعالى- لتكون حرمة فقهية، بل هي من قبل الوالي و من شئون الولاية؛ فهو «ع» أمر مالكا بالمنع منه بولايته كما منع منه رسول اللّه «ص» كذلك. و بعد منع الوالي تصير حراما ولائيا، و لذا قال: «فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه.» و هذا البيان يجري في الرواية السابقة، و كذا اللاحقة أيضا.

قلت: الظاهر أن الحكم الولائي الصادر عن النبي «ص» و كذا عن الأئمة «ع» أيضا يعمّ جميع الأمّة لعموم ولايتهم، اللهم إلّا أن تكون هنا قرينة على الاختصاص. ألا ترى أن أمير المؤمنين «ع» علّل منعه بمنع النبي «ص».

و يظهر للمتتبع في الروايات، أن الأئمة- عليهم السلام- كانوا كثيرا ما يستدلّون في المسائل المختلفة بالأحكام الولائية الصادرة عن النبي «ص»، فولاية النبي «ص» على المؤمنين الثابتة بالآية الشريفة لا تختص بالمؤمنين في عصره فقط. و قوله- تعالى-:

«مٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» «2» يعمّ الأمر و النهي الولائيين أيضا، كما أن جعل الإمام الصادق «ع» الحكومة للفقيه في مقبولة عمر بن حنظلة «3» مع كونه حكما ولائيا لا يختص

بعصر الإمام الصادق «ع»، فتأمل.

5- و في دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين «ع» أنه كتب إلى رفاعة: «انه عن

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 1017، عبده 3/ 110؛ لح/ 438، الكتاب/ 53.

(2)- سورة الحشر (59)، الآية 7.

(3)- الوسائل 18/ 99، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 623

الحكرة، فمن ركب النهي فأوجعه ثم عاقبه بإظهار ما احتكر.» «1»

و رفاعة هذا قالوا في حقه إنه كان قاضيا من قبل أمير المؤمنين «ع» على الأهواز.

6- و فيه أيضا عنه «ع»: «المحتكر آثم عاص.» «2»

7- و فيه أيضا عن جعفر بن محمد «ع»: «و كلّ حكرة تضرّ بالناس و تغلي السعر عليهم فلا خير فيها» «3»

8- و في الغرر و الدرر للآمدي عن أمير المؤمنين «ع»: «الاحتكار رذيلة.» «4»

9- و فيه أيضا عنه «ع»: «الاحتكار داعية الحرمان.» «5»

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 2، ص: 623

10- و فيه أيضا عنه «ع»: «الاحتكار شيمة الفجّار.» «6»

11- و فيه أيضا عنه «ع»: «المحتكر محروم من نعمته» «7»

12- و فيه أيضا عنه «ع»: «كن مقتدرا و لا تكن محتكرا.» «8»

13- و فيه أيضا عنه «ع»: «من طبائع الاغمار إتعاب النفوس في الاحتكار.» «9»

14- و في مستدرك الوسائل، عن الآمدي، عنه «ع»: «المحتكر البخيل جامع لمن لا يشكره، و قادم على من لا يعذره.» «10»

______________________________

(1)- دعائم الإسلام 2/ 36، كتاب البيوع، الفصل 6، الحديث 80.

(2)- دعائم الإسلام 2/ 35، كتاب البيوع، الفصل 6، الحديث 77.

(3)- دعائم الإسلام

2/ 35، كتاب البيوع، الفصل 6، الحديث 78.

(4)- الغرر و الدرر 1/ 39، الحديث 111.

(5)- الغرر و الدرر 1/ 66، الحديث 255.

(6)- الغرر و الدرر 1/ 160، الحديث 606.

(7)- الغرر و الدرر 1/ 127، الحديث 464.

(8)- الغرر و الدرر 4/ 601، الحديث 7139.

(9)- الغرر و الدرر 6/ 28، الحديث 9349.

(10)- مستدرك الوسائل 2/ 468، الباب 21 من أبواب آداب التجارة، الحديث 10.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 624

15- و في صحيح مسلم بسنده عن معمر، قال: قال رسول اللّه «ص»: «من احتكر فهو خاطئ.» «1»

و في رواية أخرى عن معمر، عنه «ص»: «لا يحتكر إلا خاطئ» «2»

و رواها الترمذي أيضا بهذا اللفظ، و قال:

«و في الباب عن عمر و علي و أبي أمامة و ابن عمر. حديث معمر حديث حسن صحيح. و العمل على هذا عند أهل العلم، كرهوا احتكار الطعام، و رخص بعضهم في الاحتكار في غير الطعام.» «3»

و رواها ابن ماجة أيضا بهذا اللفظ، و قال محشي الكتاب في ذيل الحديث:

«إلا خاطئ: بمعنى آثم. و المعنى: لا يجتري على هذا الفعل الشنيع إلّا من اعتاد المعصية. ففيه دلالة على أنها معصية عظيمة لا يرتكبها الإنسان أوّلا، و إنما يرتكبها بعد الاعتياد و بالتدريج.» «4»

16- و في مستدرك الحاكم النيسابوري بسنده عنه «ص»: «من احتكر يريد أن يتغالى بها على المسلمين فهو خاطئ و قد برئ منه ذمة اللّه.» «5»

17- و فيه أيضا بسنده عنه «ص»: «المحتكر ملعون.» «6»

18- و فيه أيضا بسنده عن اليسع بن المغيرة، قال: «مرّ رسول اللّه «ص» برجل بالسوق يبيع طعاما بسعر هو أرخص من سعر السوق فقال: تبيع في سوقنا بسعر هو أرخص

من سعرنا؟ قال: نعم. قال: صبرا و احتسابا؟ قال: نعم. قال: أبشر، فإن الجالب إلى

______________________________

(1)- صحيح مسلم 3/ 1227، كتاب المساقاة، باب تحريم الاحتكار في الأقوات، الحديث 1605.

(2)- صحيح مسلم 3/ 1228، كتاب المساقاة، باب تحريم الاحتكار في الأقوات.

(3)- سنن الترمذي 2/ 369، كتاب البيوع، باب ما جاء في الاحتكار، الحديث 1285.

(4)- سنن ابن ماجة 2/ 728، كتاب التجارات، باب الحكرة، الحديث 2154.

(5)- مستدرك الحاكم 2/ 12، كتاب البيوع.

(6)- مستدرك الحاكم 2/ 11، كتاب البيوع.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 625

سوقنا كالمجاهد في سبيل اللّه، و المحتكر في سوقنا كالملحد في كتاب اللّه.» «1»

و المورد و إن كان هو الطعام، و لكن كلام رسول اللّه «ص» عامّ يعمّ الطعام و غيره.

19- و فيه أيضا بسنده عن معقل بن يسار، قال: سمعت رسول اللّه «ص» يقول: «من دخل في شي ء من أسعار المسلمين ليغلي عليهم كان حقا على اللّه أن يقذفه في معظم جهنم رأسه أسفله.» «2»

20- و في كنز العمال عن معاذ:

«بئس العبد المحتكر: إن أرخص اللّه- تعالى- الأسعار حزن، و إن أغلاها اللّه فرح.» «3»

21- و فيه أيضا عن ابن عمر: «من تمنّى على أمّتي الغلاء ليلة واحدة أحبط اللّه عمله أربعين سنة.» «4»

22- و فيه أيضا عن علي «ع»: «نهى عن الحكرة بالبلد.» «5»

23- و فيه أيضا عن صفوان بن سليم: «لا يحتكر إلّا الخوّانون.» «6»

24- و فيه أيضا عن أبي هريرة: «يحشر الحكّارون و قتلة الأنفس إلى جهنم في درجة.» «7»

25- و فيه أيضا: «أيّها الناس، احفظوا: لا تحتكروا و لا تناجشوا و لا تلقّوا السلعة ...» «8»

______________________________

(1)- مستدرك الحاكم 2/ 12، كتاب البيوع.

(2)- مستدرك الحاكم

2/ 12، كتاب البيوع.

(3)- كنز العمال 4/ 97، الباب 3 من كتاب البيوع من قسم الأقوال، الحديث 9715.

(4)- كنز العمال 4/ 98، الباب 3 من كتاب البيوع من قسم الأقوال، الحديث 9721.

(5)- كنز العمال 4/ 98، الباب 3 من كتاب البيوع من قسم الأقوال، الحديث 9724.

(6)- كنز العمال 4/ 101، الباب 3 من كتاب البيوع من قسم الأقوال، الحديث 9738.

(7)- كنز العمال 4/ 101، الباب 3 من كتاب البيوع من قسم الأقوال، الحديث 9739.

(8)- كنز العمال 4/ 178، الباب 2 من كتاب البيوع من قسم الأفعال، (باب في أحكام البيع و آدابه و محظوراته)، الحديث 10056.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 626

26- و فيه أيضا عن ابن مسعود: «و يقوم المحتكر مكتوب بين عينيه: يا كافر، تبوّأ مقعدك من النار.» «1»

و ظهور هذه الأخبار الكثيرة في حرمة الاحتكار واضح، بل أكثرها يدل على التشديد فيها. و التشكيك في ذلك تشكيك في أمر بيّن.

الطائفة الثانية- ما دلّت على المنع مطلقا في خصوص الطعام:

1- ما رواه الشيخ بسنده عن إسماعيل بن أبي زياد، عن أبي عبد اللّه، عن أبيه «ع»، قال: «لا يحتكر الطعام إلّا خاطئ» «2»

و إسماعيل بن أبي زياد هو السكوني. و السند لا بأس به ظاهرا.

2- و روى الصدوق، قال: قال رسول اللّه «ص»: «لا يحتكر الطعام إلّا خاطئ.» «3»

و قد مضت الرواية بدون لفظ الطعام عن مسلم و الترمذي و ابن ماجة. و إسناد الصدوق بنحو الجزم إلى رسول اللّه «ص» يدلّ على ثبوت الرواية عنده.

3- و في مستدرك الوسائل عن دعائم الإسلام، عن رسول اللّه «ص» أنه نهى عن الحكرة، و قال: «لا يحتكر الطعام إلا خاطئ.» «4»

4- و في مستدرك الحاكم بسنده عن أبي

أمامة قال:

«نهى رسول اللّه «ص» أن يحتكر الطعام.» «5»

______________________________

(1)- كنز العمال 16/ 65، الباب 2 من كتاب المواعظ و الحكم من قسم الأقوال، الحديث 43958.

(2)- الوسائل 12/ 315، الباب 27 من أبواب آداب التجارة، الحديث 12.

(3)- الوسائل 12/ 314، الباب 27 من أبواب آداب التجارة، الحديث 8.

(4)- مستدرك الوسائل 2/ 468، الباب 21 من أبواب آداب التجارة، الحديث 4.

(5)- مستدرك الحاكم 2/ 11، كتاب البيوع.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 627

5- و في مستدرك الوسائل، عن طب النبي، عنه «ص»: «من احتكر على المسلمين طعاما ضربه اللّه بالجذام و الإفلاس.» «1»

6- و في البحار بسنده عن السكوني، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه- عليهم السلام- قال: قال رسول اللّه «ص»: «طرق طائفة من بني إسرائيل ليلا عذاب فأصبحوا و قد فقدوا أربعة أصناف: الطبّالين، و المغنّين، و المحتكرين للطعام، و الصيارفة آكلة الربا منهم.» «2»

و رواه المستدرك عن البحار و الجعفريات مثله «3».

7- و فيه أيضا عن الخصال بسنده عن الثمالي، قال: قال أبو عبد اللّه «ع»: «إن اللّه- عزّ و جلّ- تطوّل على عباده بالحبّة فسلّط عليها القملة، و لو لا ذلك لخزنتها الملوك كما يخزنون الذهب و الفضة.» «4»

8- و روى ابن حزم في المحلّى بسنده عن أبي الحكم:

«أن علي بن أبي طالب أحرق طعاما احتكر بمائة ألف.» «5»

9- و روى فيه أيضا عن حبيش، قال:

«أحرق لي علي بن أبي طالب «ع» بيادر بالسواد كنت احتكرتها لو تركها لربحت فيها مثل عطاء الكوفة.» «6»

10- و في كنز العمال عن أبي أمامة: «أهل المدائن الحبساء في سبيل اللّه، فلا تحتكروا عليهم الطعام و لا تغلوا عليهم الأسعار

...» «7»

______________________________

(1)- مستدرك الوسائل 2/ 468، الباب 21 من أبواب آداب التجارة، الحديث 9.

(2)- بحار الأنوار 100/ 89 (طبعة إيران 103/ 89)، كتاب العقود و الإيقاعات، باب الاحتكار، الحديث 12.

(3)- مستدرك الوسائل 2/ 468، الباب 21 من أبواب آداب التجارة، الحديث 2.

(4)- بحار الأنوار 100/ 87 (طبعة إيران 103/ 87)، كتاب العقود و الإيقاعات، باب الاحتكار، الحديث 3.

(5)- المحلّى 6/ 65 (الجزء 9)، المسألة 1567.

(6)- المحلّى 6/ 65 (الجزء 9)، المسألة 1567.

(7)- كنز العمال 4/ 100، الباب 3 من كتاب البيوع من قسم الأقوال، الحديث 9734.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 628

و ظهور هذه الأخبار في الحرمة أيضا واضح.

و هل تعارض هذه الروايات للطائفة الأولى المطلقة فتحمل الأولى عليها حمل المطلق على المقيد، أو يكون ذكر الطعام في هذه الروايات من باب الغلبة، حيث إن الطعام من أظهر ما يحتاج إليه الإنسان و من أظهر ما شاع فيه الحبس و يكون حبسه موجبا للضيق و الشدة المأخوذين في مفهوم الحكرة؟ و إن شئت قلت: إن المفهوم في هذه الروايات من قبيل مفهوم اللقب و لا حجية له؟ وجهان. و لعل الثاني هو الأظهر.

و حمل المطلق على المقيد إنما يكون مع إحراز وحدة الحكم؛ كما في قوله: «إن ظاهرت فأعتق رقبة»، و قوله: «إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة»، حيث إنه بسبب وحدة السبب يحرز وحدة الحكم، و ليس المقام كذلك لاحتمال حرمة الاحتكار مطلقا، و شدّة الحرمة في مثل الطعام لكون الاحتياج فيه أظهر. هذا مع قطع النظر عن سائر الطوائف من الأخبار الناهية الآتية.

ثم إنه هل يراد بالطعام مطلق ما يطعم من الأقوات و الأغذية، فيعم جميع الغلات الأربع و

غيرها من الأرز و الذرة و نحوهما، أو يراد به خصوص الحنطة، لعدّها من معانيه في اللغة و لاستعماله فيها في بعض الأخبار؟ وجهان:

قال ابن الأثير في النهاية:

«الطعام عامّ في كل ما يقتات من الحنطة و الشعير و التمر و غير ذلك ... و في حديث أبي سعيد: كنّا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام أو صاعا من شعير، قيل: أراد به البرّ ... و قال الخليل: إنّ العالي في كلام العرب أن الطعام هو البرّ خاصة.» «1»

أقول: و فسّر الطعام المذكور في قوله- تعالى-: «وَ طَعٰامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ حِلٌّ لَكُمْ» «2» في أخبارنا بالحبوب و البقول و بالعدس و الحمص و غير ذلك، فراجع

______________________________

(1)- النهاية 3/ 126.

(2)- سورة المائدة (5)، الآية 5.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 629

الوسائل «1».

الطائفة الثالثة- ما دلت على المنع بعد الثلاثة، أو بعد الأربعين يوما:

1- ما رواه السكوني عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «الحكرة في الخصب أربعون يوما، و في الشدة و البلاء ثلاثة أيام. فما زاد على الأربعين يوما في الخصب فصاحبه ملعون، و ما زاد على ثلاثة أيام في العسرة فصاحبه ملعون.» «2»

و السند لا بأس به. و ظاهر الحديث جواز الحكرة في الأربعين و في الثلاثة و المنع بعدهما، فيكون للعددين موضوعية و بظاهره أفتى الشيخ:

قال في النهاية:

«و حدّ الاحتكار في الغلاء و قلّة الأطعمة ثلاثة أيام، و في الرخص و حال السعة أربعون يوما.» «3»

و قال في المختلف:

«قال الشيخ: حدّ الاحتكار في الغلاء و قلّة الأطعمة ثلاثة أيّام، و في الرخص و حال السعة أربعون يوما. و تبعه ابن البراج.» «4»

أقول: يشكل الالتزام بموضوعية الأربعين و الثلاثة شرعا و لو بنحو الأمارة الشرعية المجعولة، بل الظاهر أن

التحديد بهما كان بلحاظ الأعمّ الأغلب. فإن الإنسان و لو في الشدة يتمكن غالبا من تهيئة القوت لثلاثة أيام، فلا يصدق الاحتكار المضرّ إلّا بعد هذه المدة. كما أنه لو تحقق حبس الأقوات أربعين يوما فلا محالة

______________________________

(1)- الوسائل 16/ 380- 382، الباب 51 من أبواب الأطعمة المحرّمة من كتاب الأطعمة و الأشربة.

(2)- الوسائل 12/ 312، الباب 27 من أبواب آداب التجارة، الحديث 1.

(3)- النهاية للشيخ/ 374.

(4)- المختلف/ 346.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 630

يتحقق الضيق و الغلاء للأكثر و لو في حال الخصب. فالملاك في الاحتكار المحرم هو وقوع الناس بسببه في الضيق و الشدة.

قال الشهيد في شرح اللمعة:

«و لا يتقيد بثلاثة أيام في الغلاء، و أربعين في الرخص. و ما روي من التحديد بذلك محمول على حصول الحاجة في ذلك الوقت، لأنه مظنتها.» «1» هذا.

و بهذا البيان يجاب عمّا قد يراد من التمسك بهذه الرواية و أمثالها لنفي حرمة الاحتكار بتقريب أن الزائد على أربعين في الخصب لا يكون حراما قطعا لعدم الضيق و الشدة و مع ذلك وقع اللعن فيه، فيعلم بذلك اجتماع اللعن مع الكراهة أيضا؛ فلا يكون اللعن لما بعد الثلاثة أيضا دليلا على الحرمة.

2- ما رواه ابراهيم بن عبد الحميد، عن موسى بن جعفر «ع»، عن النبي «ص»، و فيه: «و أما الحنّاط فإنه يحتكر الطعام على أمّتي. و لأن يلقى اللّه العبد سارقا أحبّ إليّ من أن يلقاه قد احتكر الطعام أربعين يوما.» «2»

3- رواية أبي مريم، عن أبي جعفر «ع»، قال: «قال رسول اللّه «ص»: «أيّما رجل اشترى طعاما فكبسه أربعين صباحا يريد به غلاء المسلمين ثم باعه فتصدق بثمنه لم يكن

كفارة لما صنع.» «3»

4- و في البحار من كتاب الأعمال المانعة من الجنة بسنده، قال: قال رسول اللّه «ص»: «من احتكر فوق أربعين يوما فإن الجنة توجد ريحها من مسيرة خمسمائة عام و إنه لحرام عليه.» «4»

5- و في مستدرك الوسائل عن طب النبي، عنه «ص» قال: «من حبس طعاما يتربّص به الغلاء أربعين يوما فقد برئ من اللّه و برئ منه.» «5»

______________________________

(1)- الروضة البهية 3/ 299.

(2)- الوسائل 12/ 98، الباب 21 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

(3)- الوسائل 12/ 314، الباب 27 من أبواب آداب التجارة، الحديث 6.

(4)- بحار الأنوار 100/ 89 (طبعة إيران 103/ 89)، كتاب العقود و الإيقاعات، باب الاحتكار، الحديث 11.

(5)- مستدرك الوسائل 2/ 468، الباب 21 من أبواب آداب التجارة، الحديث 9.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 631

6- و في مستدرك الحاكم النيسابوري بسنده، عن ابن عمر، قال: قال رسول اللّه «ص»: «من احتكر طعاما أربعين ليلة فقد برئ من اللّه و برئ اللّه منه. و أيّما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائعا فقد برئت منهم ذمّة اللّه.» «1»

7- و في كنز العمال عن معاذ: «من احتكر طعاما على أمّتي أربعين يوما و تصدق به لم تقبل منه.» «2» و روى نحوه عن أنس «3».

و قد عرفت وجه التقييد بالأربعين و أنه بحسب الأغلبية.

و ظهور هذه الأخبار في الحرمة أيضا واضح. و استفاضتها توجب الوثوق بصدور بعضها، مضافا إلى اعتبار خبر السكوني عندنا.

الطائفة الرابعة- ما دلت على التفصيل بين وجود الطعام في البلد و عدمه:
اشارة

1- صحيحة سالم الحنّاط، قال: قال لي أبو عبد اللّه «ع»: ما عملك؟ قلت:

حنّاط، و ربما قدمت على نفاق، و ربما قدمت على كساد فحبست. قال: فما يقول من قبلك فيه؟

قلت: يقولون: محتكر. فقال «ع»: يبيعه أحد غيرك؟ قلت: ما أبيع أنا من ألف جزء جزء. قال: لا بأس، إنما كان ذلك رجل من قريش يقال له: حكيم بن حزام، و كان إذا دخل الطعام المدينة اشتراه كلّه، فمرّ عليه النبي «ص» فقال: «يا حكيم بن حزام، إيّاك أن تحتكر.» «4»

و السند صحيح، و قوله «ص»: «إياك أن تحتكر» ظاهر في التحذير بوجه شديد، فيلازم الحرمة. و مجرد وجود هذا النحو من التعبير في المكروهات المؤكدة أيضا لا يجوّز

______________________________

(1)- مستدرك الحاكم 12/ 11، كتاب البيوع.

(2)- كنز العمال 4/ 97، الباب 3 من كتاب البيوع من قسم الأقوال، الحديث 9720.

(3)- كنز العمال 4/ 99- 100، الباب 3 من كتاب البيوع من قسم الأقوال، الحديث 9733 و 9735.

(4)- الوسائل 12/ 316، الباب 28 من أبواب آداب التجارة، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 632

رفع اليد عن ظاهره ما لم يثبت الترخيص. نظير ما ذكروه في باب الأوامر و النواهي من وجوب حملهما على الوجوب و الحرمة و إن شاع استعمالهما في الندب و الكراهة أيضا. و قوله «ع»: «يبيعه أحد غيرك»، لا يراد به بيع واحد و لو لم يكن بقدر الكفاية، بل المراد أن يبيع غيره بقدر الكفاية بحيث لا يكون حبسه موجبا للضيق و الشدة.

و قوله «ع»: «لا بأس»، ظاهره نفي الكراهة أيضا، فيحمل على نفيها من حيث الاحتكار، و إلّا فكون الكسب بيع الطعام عدّ بنفسه من المكروهات، لكونه مظنّة للاحتكار، فراجع «1».

و يظهر من هذه الصحيحة أن الاحتكار المضر المنهي عنه هو الذي يصدر من قبل الأفراد أو الشركات التجارية التي تقدم على الحصار الاقتصادي بحيث

يستقر جميع المتاع في قبضتهم و يعاملون معه كيف ما شاءوا كما هو المعمول في عصرنا في الدول الكبرى الرأسمالية. و أمّا بائع الجزء الذي لا يوجب حبسه تأثيرا عميقا في السوق بحيث يستعقب فقد المتاع فلا يكون محتكرا.

2- ما رواه الكليني بسنده عن حذيفة بن منصور، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال:

«نفد الطعام على عهد رسول اللّه «ص» فأتاه المسلمون فقالوا: يا رسول اللّه، قد نفد الطعام و لم يبق منه شي ء إلّا عند فلان، فمره ببيعه. قال: فحمد اللّه و أثنى عليه، ثم قال: يا فلان، إن المسلمين ذكروا أن الطعام قد نفد إلّا شي ء عندك، فأخرجه و بعه كيف شئت و لا تحبسه». و رواه الشيخ أيضا إلّا أنه قال: «فقد»، مكان «نفد» في المواضع الثلاثة «2».

و لا كلام في رجال السند إلّا في حذيفة و محمد بن سنان. و الظاهر أن الأمر فيهما سهل و ليسا في حدّ الضعف الموجب لطرح الرواية بالكلية. و لعل فلان في الحديث كان هو حكيم بن حزام المذكور في الصحيحة السابقة.

و أمره «ص» بإخراج الطعام و بيعه، و نهيه عن حبسه يحتمل أن يكون حكما إلهيا فقهيا و الأمر و النهي منه «ص» إرشاديا، و أن يكون حكما ولائيا مولويا صدر

______________________________

(1)- الوسائل 12/ 97، الباب 21 من أبواب ما يكتسب به.

(2)- الوسائل 12/ 316، الباب 29 من أبواب آداب التجارة، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 633

عنه «ص» بما أنه كان واليا على الأمّة.

و كيف كان، فظاهر الأمر الوجوب، و يجب على الأمّة الأخذ به، و لا يختص بزمانه «ص» و لو على الاحتمال الثاني، فإنه «ص» وليّ

المؤمنين و أولى بهم إلى يوم القيامة. و مقتضى وجوب البيع حرمة الحبس و الاحتكار، مضافا إلى التصريح به.

3- و روى الكليني بسند صحيح عن الحلبي، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال:

سألته عن الرجل يحتكر الطعام و يتربص به، هل يصلح ذلك؟ قال: «إن كان الطعام كثيرا يسع الناس فلا بأس به. و إن كان الطعام قليلا لا يسع الناس فإنه يكره أن يحتكر الطعام و يترك الناس ليس لهم طعام.» و رواه الشيخ أيضا عنه «1».

و لفظ الكراهة بحسب اللغة، و اصطلاح الكتاب و السنة أعم من الحرمة و الكراهة المصطلحة عند الفقهاء. بل لعل ظهورها في الحرمة كان أقوى، كما هو ظاهر لمن تتبع موارد استعمال اللفظ في الكتاب و السنة، كقوله- تعالى-: «وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيٰانَ،» «2» و قوله في سورة الإسراء- بعد النهي عن مثل الزنا، و قتل الأولاد، و أكل مال اليتيم و نحو ذلك-: «كُلُّ ذٰلِكَ كٰانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً.» «3» و نحو ذلك.

و حينئذ فإذا دلّ دليل على كون عمل مكروها للشارع المقدّس فلا يجوز ارتكابه إلّا إذا ورد دليل على الترخيص فيه. نظير ما ذكروه في باب النهي. و حيث إنه «ع» نفى البأس في الجملة الأولى، و الجملة الثانية تكون بيانا لمفهوم الأولى، صار قوله: «فإنه يكره» بمنزلة أن يقول: «فيه بأس» و ظاهره الحرمة أيضا، فتأمل.

هذا، مضافا إلى أن ترك الناس بلا طعام مما يحكم العقل بقبحه، و الحكم بجوازه بعيد من مذاق الشرع جدّا. فكأنّ الإمام «ع» ذكر الجملة للتعليل بأمر ارتكازي يدركه العقل، فتدبر.

______________________________

(1)- الوسائل 12/ 313، الباب 27 من أبواب آداب التجارة، الحديث 2.

(2)- سورة الحجرات (49)،

الآية 7.

(3)- سورة الإسراء (17)، الآية 38.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 634

و كيف كان، فلا ظهور للصحيحة في الكراهة المصطلحة بنحو يرفع به اليد عن ظهور الروايات الكثيرة التي مرّت في الحرمة الشديدة.

4- و روى الصدوق بسنده عن الحلبي، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: سئل عن الحكرة فقال: «إنّما الحكرة أن تشتري طعاما ليس في المصر غيره فتحتكره. فإن كان في المصر طعام أو متاع (أو بيّاع- كا.) غيره فلا بأس أن تلتمس بسلعتك الفضل.» «1»

و روى الكليني نحوه و زاد: «قال: و سألته عن الزبيب فقال: إذا كان عند غيرك فلا بأس بإمساكه» و رواه الشيخ أيضا مع الزيادة «2».

و السند صحيح لا ريب فيه. و يشبه كون هذا الحديث عين الصحيحة السابقة نقلت بالمعنى بتقديم و تأخير، كما يشهد بذلك اتحاد الراوي، و المروي عنه، و المضمون.

5- و في المستدرك عن دعائم الإسلام، عن أبي عبد اللّه «ع»، أنه قال:

«إنما الحكرة أن يشتري طعاما ليس في المصر غيره فيحتكره. فإن كان في المصر طعام أو متاع غيره، أو كان كثيرا يجد الناس ما يشترون فلا بأس به. و إن لم يوجد فإنه يكره أن يحتكر.

و إنما النهي من رسول اللّه «ص» عن الحكرة أن رجلا من قريش يقال له حكيم بن حزام كان إذا دخل المدينة طعام، اشتراه كلّه فمرّ عليه النبي «ص» فقال له: «يا حكيم، إيّاك و أن تحتكر.» «3»

أقول: قوله: «و إنما النهي» عقيب قوله: «فإنه يكره» يمكن أن يستشهد به على إرادة الحرمة من قوله: «يكره»، كما لا يخفى.

فإلى هنا ذكرنا أربع طوائف من أخبار الباب، و بعضها و إن كان قاصرا

سندا أو دلالة إلّا أنه يوجد فيها ما يتم فيهما. مضافا إلى أن كثرتها توجب العلم بصدور

______________________________

(1)- الوسائل 12/ 315، الباب 28 من أبواب آداب التجارة، الحديث 1.

(2)- الوسائل 12/ 315، الباب 28 من أبواب آداب التجارة، الحديث 2، الكافي 5/ 165، كتاب المعيشة، باب الحكرة، الحديث 3.

(3)- مستدرك الوسائل 2/ 468، الباب 22 من أبواب آداب التجارة، الحديث 2؛ عن الدعائم 2/ 35.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 635

بعضها إجمالا. و دلالة الأكثر بل الجميع على الحرمة تامة.

الجمع بين الطوائف الأربع:

لا يخفى أن المستفاد من الطائفة الرابعة من أخبار الباب هو أن الحكرة المنهي عنها إنما هي فيما إذا لم يكن في البلد طعام أو متاع بقدر الكفاية بحيث يكون حبسه موجبا لأن يبقى الناس بلا طعام. بل الظاهر من بعضها أن الحكرة لا تصدق إلّا في هذه الصورة. و يشهد لذلك ما مرّت إليه الإشارة من كون الأصل في الكلمة هو الضرر و الظلم و التنقيص و سوء العشرة و نحو ذلك.

و بهذه الطائفة من الأخبار المصرّحة بالتفصيل تفسّر الأخبار السابقة من الطوائف الثلاث و إن كانت بصورة الإطلاق.

قال الشيخ في الاستبصار بعد نقل الأخبار العامّة:

«هذه الأخبار عامة في النهي عن الاحتكار على كل حال، و قد روي أن المحظور من ذلك هو أنه إذا لم يكن في البلد طعام غير الذي عند المحتكر و يكون واحدا فإنه يلزمه إخراجه و بيعه بما يرزقه اللّه، كما فعل النبي «ص». و ينبغي أن نحمل هذه الأخبار المطلقة على هذه المقيدة.» ثم ذكر صحيحتي الحلبي و صحيحة الحناط «1». هذا.

و قد عرفت منّا أن محطّ القولين من الحرمة و الكراهة أيضا

هو هذه الصورة.

و عرفت أيضا أن ظاهر الأخبار هو الحرمة بل ظاهر كثير منها التشديد فيها و كونه موجبا للدخول في النار و في عرض المحرمات الكبيرة من قبيل الإدمان على الخمر و القيادة و نحوهما.

هذا، مضافا إلى أنه لو لم يكن محرما لم يكن وجه لعقوبة فاعله و إجباره على البيع

______________________________

(1)- الاستبصار 3/ 115، باب النهي عن الاحتكار.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 636

من قبل الحاكم.

كيف؟! و هل يمكن القول برضا الشارع بعمل يوجب الضرر و الضيق على الناس؟ فمناسبة الحكم و الموضوع أيضا تقتضي القول بالحرمة. هذا.

كلام صاحب الجواهر:

و لكن صاحب الجواهر أفتى بالكراهة وفاقا للمحقق في الشرائع، و ذكر الأخبار و حملها على الكراهة، بل قال ما حاصله:

«أنها كادت تكون صريحة في الكراهة، ضرورة كون اللسان لسانها و التأدية تأديتها، و لذا صرّح بها في صحيحة الحلبي، بل ربما أشعر بذلك أيضا التقييد بالأمصار، إذ لا فرق على الحرمة بين المصر و غيره، و إنما يختلف بذلك شدة و ضعفا على الكراهة. و كذلك التفصيل بالأربعين و الثلاثة و غير ذلك من أمارات الكراهة.

و موضوع البحث حبس الطعام انتظارا لعلوّ السعر على حسب غيره من أجناس التجارة، لا مع قصد الإضرار بالمسلمين، و لو شراء جميع الطعام فيسعّره عليهم بما يشاء، أو لأجل صيرورة الغلاء بالناس بسبب ما يفعله، أو لإطباق المعظم على الاحتكار على وجه يحصل الغلاء و الإضرار على وجه ينافي سياسة الناس، أو لغير ذلك من المقاصد التي لا مدخلية لها فيما نحن فيه، مما هو معلوم الحرمة لأمر خارجي.» «1»

أقول: لم يظهر لي أن ما دل على كون المحتكرين و المدمنين على الخمر

و القوّادين في واد من جهنم يغلي، و ما دل على حرمة ريح الجنة على المحتكر، و ما ورد في لعنه و الأمر بتنكيله و عقوبته و إجباره على البيع و كونه أبغض عند اللّه من السارق و نحو

______________________________

(1)- الجواهر 22/ 480.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 637

ذلك كيف يكون لسانها لسان الكراهة و صريحا فيها؟ و التعبير بالكراهة في صحيح الحلبي مرّ الجواب عنه.

و كأنّ صاحب الجواهر جعل محطّ البحث غير ما هو مورده عند الأصحاب و في أخبار الباب بعد حمل بعضها على بعض.

إذ قد عرفت أن محطّ بحث الفقهاء في المسألة، و مورد القولين فيها هو صورة كون الاحتكار موجبا للضرر و الضيق، بل لعلّ اللفظ لا يصدق بحسب مفهومه- على ما استفدناه من اللغة- في غير هذه الصورة. و المستفاد من الأخبار أيضا بعد جمعها و حمل بعضها على بعض حرمة هذه الصورة، كما عرفت.

و التحديد بالثلاثة و بالأربعين يكون بحسب الأعم الأغلب، فإن الشدة و الضيق يحصلان غالبا بعدهما. و ذكر الأمصار أيضا يكون بهذا اللحاظ، فإن الفقدان للأقوات و القحط كانا في الأمصار غالبا.

نعم، لقائل أن يقول: إن النزاع بيننا و بين صاحب الجواهر نزاع لفظي، فإن الصورة التي نحكم فيها بالحرمة، هو أيضا يقول فيها بالحرمة و لكن لا بعنوان الاحتكار بل بعنوان الظلم و الإضرار و نحوهما، فتدبر.

أقسام حبس المتاع:
اشارة

لا يخفى أن حبس المتاع على أقسام:

الأول: أن يكون حبس هذا الشخص، أو حبسه و حبس أمثاله موجبا لفقد المتاع

أو قلّته في السوق، بحيث يقع الناس في ضيق و شدة.

و هذا هو القدر المتيقن من الحكرة و يكون موردا للنهي في صحيحتي الحلبي و الحنّاط و غيرهما من الأخبار. و الظاهر حرمته بمقتضى الأخبار بل بحكم العقل.

سواء وقع الحبس بقصد الإضرار و التضييق أم لا. فالملاك نفس تحقق الضيق.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 638

و لعلّ تشخيص كون الحبس من هذا القبيل يكون من وظائف الحاكم المحيط بأوضاع البلد و احتياجات أهله، و لذا أمر أمير المؤمنين «ع» مالكا و رفاعة بالمنع و النهي عنه و تنكيل المرتكب و معاقبته.

الثاني: أن يحصل بحبسه و حبس أمثاله ترقي القيمة السوقية للمتاع

و لكن لا بنحو يقع الناس في الضيق و الشدة، إذ يوجد من يعرض المتاع كثيرا بقدر الحاجة، و يكون الترقي بنحو يتحمل عادة.

و شمول أدلة النهي لهذه الصورة مشكل بل ممنوع، و لا سيما إذا لم نقل بجواز التسعير على المالك، بل لعلّ المستفاد من إطلاق الصحيحتين و نحوهما عدم الحرمة في هذه الصورة.

نعم، قد يقال: إن ما دل على اللعن بعد الأربعين في الخصب يدل على الحرمة بعد الأربعين مطلقا، فيشمل المقام أيضا، و لكنه مشكل لقوة احتمال كون ذكر الثلاثة و الأربعين بلحاظ الأعم الأغلب، كما مر.

الثالث: أن يكون الحبس لانتظار النفاق و الرواج.

فإن الأمتعة حين حصادها و ورودها في السوق من جميع النواحي ربما تواجه الكساد و نزول القيمة، فربما تحبس للأزمنة الآتية فرارا من الكساد. و التجار كما يراعون في تجاراتهم أسعار الأمكنة و البلدان المختلفة و رغباتها يراعون أسعار الأزمنة و رغباتها أيضا، و كلما احتاج الناس إلى الأمتعة عرضوها بأسعار عادلة.

و لا يخفى أن هذه تجارة مربحة مرغّب فيها شرعا، و لا يصدق على هذا النحو من الحبس مفهوم الحكرة أصلا.

الرابع: أن يكون حبسه لادّخار قوت سنته؛ له و لعياله،

لا للبيع و التجارة.

و قد تعارف ادّخار الناس لقوت سنتهم و إن صار إقدام الكثير منهم لهذا الأمر موجبا لرواج المتاع و ترقي قيمته قهرا.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 639

و هذا أيضا مما لا إشكال فيه، بل يظهر من الروايات استحبابه:

ففي رواية ابن بكير، عن أبي الحسن «ع»، قال: قال رسول اللّه «ص»: «إن النفس إذا أحرزت قوتها استقرت.»

و في رواية معمر بن خلّاد أنه سأل أبا الحسن الرضا «ع» عن حبس الطعام سنة فقال: أنا أفعله. يعني بذلك إحراز القوت.

و في رواية أخرى عن الرضا «ع» أنه سمعه يقول: كان أبو جعفر و أبو عبد اللّه «ع» لا يشتريان عقدة حتى يدخلا طعام السنة، و قالا: «إن الانسان إذا أدخل طعام سنة خفّ ظهره و استراح.» إلى غير ذلك من الأخبار، فراجع «1».

الطائفة الخامسة- ما دلت على أن الحكرة المنهي عنها إنما هي في أمور خاصة:

1- ما رواه المشايخ الثلاثة عن غياث، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «ليس الحكرة إلا في الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب و السمن.» و رواه الصدوق بإسناده عن غياث بن ابراهيم، عن جعفر بن محمد، عن أبيه إلا أنه قال: «و الزبيب و السمن و الزيت.» «2»

و سند الكليني و الشيخ الى غياث، صحيح. و غياث بن إبراهيم وثقه النجاشي «3» و بعض آخر و إن اختلف في مذهبه، و الأكثر على أنه بتريّ. «4»

2- ما رواه في الخصال بسنده عن السكوني، عن جعفر بن محمد، عن آبائه «ع» عن النبي «ص»، قال: «الحكرة في ستة أشياء: في الحنطة و الشعير و التمر و الزيت و السمن

______________________________

(1)- الوسائل 12/ 320، الباب 31 من أبواب آداب التجارة.

(2)- الوسائل 12/ 313، الباب

27 من أبواب آداب التجارة، الحديث 4.

(3)- رجال النجاشي/ 215 (طبعة أخرى 305). و تنقيح المقال 2/ 366.

(4)- رجال النجاشي/ 215 (طبعة أخرى 305). و تنقيح المقال 2/ 366.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 640

و الزبيب.» «1»

و سند الرواية هكذا: «حمزة بن محمد العلوي، عن علي بن ابراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني». و حمزة بن محمد و إن لم يوثق في كتب الرجال و لكن ربما يقال إن كثرة رواية الصدوق عنه مترضيا عليه تدلّ على مدحه، و بقية السند لا بأس بها.

3- ما رواه الحميري في قرب الإسناد عن السندي بن محمد، عن أبي البختري، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، أن عليا «ع» كان ينهى عن الحكرة في الأمصار، فقال: «ليس الحكرة إلا في الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب و السمن.» «2»

و أبو البختري، هو وهب بن وهب. و قالوا في حقه:

«إنه ضعيف عامي المذهب و كان كذّابا.» «3»

4- و في مستدرك الوسائل عن دعائم الإسلام عن عليّ «ع»: «ليس الحكرة إلا في الحنطة و الشعير و الزبيب و الزيت و التمر.» «4»

5- و فيه أيضا عن طب النبي، قال «ص»: «الاحتكار في عشرة، و المحتكر ملعون: البر و الشعير و التمر و الزبيب و الذرة و السمن و العسل و الجبن و الجوز و الزيت.» «5»

هذه هي الأخبار الحاصرة للحكرة المنهي عنها في أشياء خاصة.

و لا يوجد في هذه الروايات الخمس صحيح أعلائي أصلا، و لا يوجد في الكتب الأربعة إلّا واحدة منها. فمن حصر الحجية بالصحيح الأعلائي كصاحبي المعالم و المدارك يشكل له الأخذ بها. و من حصرها على الكتب الأربعة يشكل

له الأخذ بغير خبر غياث.

______________________________

(1)- الوسائل 12/ 314، الباب 27 من أبواب آداب التجارة، الحديث 10.

(2)- الوسائل 12/ 314، الباب 27 من أبواب آداب التجارة، الحديث 7.

(3)- راجع تنقيح المقال 3/ 281.

(4)- مستدرك الوسائل 2/ 468، الباب 21 من أبواب آداب التجارة، الحديث 5.

(5)- مستدرك الوسائل 2/ 468، الباب 21 من أبواب آداب التجارة، الحديث 8.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 641

[مدار الفتوى هو الحصر في الأشياء الخاصة]

و كيف كان، بعد الأخذ بهذه الروايات فالذي تقتضيه الصناعة الفقهية في بادئ الأمر هو تحكيمها على المطلقات السابقة و حمل المطلقات السابقة عليها.

و الذي عليه مدار الفتوى لأكثر أصحابنا أيضا، هو الحصر في الأشياء الخاصة أو في الأطعمة أو الأقوات. و صرّح كثير منهم بعدم جريان الحكرة في غيرها:

ففي النهاية:

«الاحتكار هو حبس الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب و السمن من البيع. و لا يكون الاحتكار في شي ء سوى هذه الأجناس.» «1»

و في المبسوط:

«و أما الاحتكار فمكروه في الأقوات إذا أضرّ ذلك بالمسلمين ... و الأقوات التي يكون فيها الاحتكار: الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب و الملح و السمن.» «2»

و في الوسيلة لابن حمزة:

«الاحتكار يدخل في ستة أشياء: الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب و السمن و الملح.

و لا احتكار مع فقد الحاجة.» «3»

و في السرائر:

«و نهى عن الاحتكار. و الاحتكار عند أصحابنا هو حبس الحنطة و الشعير و التمر.

و الزبيب و السمن من البيع. و لا يكون الاحتكار المنهي عنه في شي ء من الأقوات سوى هذه الأجناس.» «4»

و في الشرائع:

«و إنما يكون في الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب و السمن، و قيل: و في الملح.» «5» و مثله في

______________________________

(1)-

النهاية للشيخ/ 374.

(2)- المبسوط 2/ 195.

(3)- الجوامع الفقهية/ 745.

(4)- السرائر/ 212.

(5)- الشرائع 2/ 21.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 642

المختصر النافع «1»

و في القواعد:

«و هو حبس الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب و السمن و الملح.» «2»

و مثله في المنتهى إلا أنّه قال: «و قيل: و الملح.» «3»

و في التذكرة مثل ما في القواعد، ثم قال:

«و تحريم الاحتكار مختص بالأقوات، منها التمر و الزبيب، و لا يعمّ جميع الأطعمة، قاله الشافعي.» «4»

و في الدروس:

«و هو حبس الغلات الأربع و السمن و الزيت و الملح على الأقرب فيهما.» «5»

و في اللمعة:

«ترك الحكرة في سبعة: الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب و السمن و الزيت و الملح.» «6»

هذا.

و في المقنعة:

«و الحكرة: احتباس الأطعمة مع حاجة أهل البلد إليها و ضيق الأمر عليهم فيها.» «7»

و في الكافي لأبي الصلاح:

«و لا يحل لأحد أن يحتكر شيئا من أقوات الناس مع الحاجة الظاهرة إليها.» «8»

و في الغنية:

«و لا يجوز الاحتكار في الأقوات مع الحاجة الظاهرة إليها.» «9»

______________________________

(1)- المختصر النافع/ 120.

(2)- القواعد 1/ 122.

(3)- المنتهى 2/ 1007.

(4)- التذكرة 1/ 585.

(5)- الدروس/ 332، كتاب المكاسب.

(6)- اللمعة الدمشقية 3/ 298.

(7)- المقنعة/ 96.

(8)- الكافي/ 360.

(9)- الجوامع الفقهية/ 528.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 643

و في المقنع للصدوق:

«و إذا لم يكن بالمصر طعام غيره فليس له إمساكه و عليه بيعه و هو محتكر.» «1»

إلى غير ذلك من كلمات الأصحاب في المسألة. و قد رأيت أن الأشياء الخاصة المذكورة في كلماتهم متخذة من الأخبار، غير الملح، فإنه غير مذكور فيها و لكن الشيخ ذكره في المبسوط و تبعه آخرون. و لعلّه لشدة الحاجة إليه.

و

بالجملة، فالحكرة المنهي عنها عند أصحابنا على ما عرفت، كانت منحصرة في الأطعمة، أو الأقوات، أو الأشياء الخمسة أو الستة أو السبعة المذكورة. و مستندهم الأخبار المذكورة بعد حمل مطلقاتها على المقيّدات منها.

و أما فقهاء السنة، فعن الرملي من فقهاء الشافعية و النووي في شرحه لصحيح مسلم في تعريف الاحتكار:

«أنّه اشتراء القوت وقت الغلاء ليمسكه و يبيعه بعد ذلك بأكثر من ثمنه للتضييق.» «2»

و قد عرفت نقل التذكرة أيضا عن الشافعي.

و قد مرّت عبارة الشرح الكبير في فقه الحنابلة، حيث اشترط في الاحتكار المحرم ثلاثة شروط، و قال:

«الثاني: أن يكون قوتا. فأما الإدام و العسل و الزيت و علف البهائم فليس احتكاره بمحرم.» «3»

فعند الشافعي و أحمد يختص الاحتكار بقوت الانسان.

نعم في سنن أبي داود قال:

«سألت أحمد ما الحكرة؟ قال: ما فيه عيش الناس.» «4» و لعله أعم من القوت.

و في بدائع الصنائع للكاشاني في فقه الحنفية:

______________________________

(1)- الجوامع الفقهية/ 31.

(2)- موسوعة الفقه الإسلامي 3/ 195، في الاحتكار.

(3)- المغني 4/ 47، كتاب البيع.

(4)- سنن أبي داود 2/ 243، كتاب الإجارة، باب في النهي عن الحكرة.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 644

«ثم الاحتكار يجري في كل ما يضرّ بالعامّة عند أبي يوسف، قوتا كان أو لا. و عند محمد لا يجري الاحتكار إلّا في قوت الناس و علف الدواب من الحنطة و الشعير و التبن و القتّ.» «1»

و في المدوّنة الكبرى في فقه مالك:

«و سمعت مالكا يقول: الحكرة في كل شي ء في السوق من الطعام و الكتاب و الزيت و جميع الأشياء و الصوف و كل ما يضرّ بالسوق.» قال: «و السمن و العسل و العصفر و كل شي ء؟» قال مالك: «يمنع

من يحتكره، كما يمنع من الحبّ».

قلت: «فإن كان ذلك لا يضرّ بالسوق؟» قال مالك: «فلا بأس بذلك إذا كان لا يضر بالسوق.» «2» هذا.

[7]- هل تختصّ الحكرة المنهي عنها بأقوات الإنسان، أو الأشياء الخاصة أم لا؟

قد ظهر لك أن ظاهر كلمات أصحابنا الإمامية حصر الحكرة المنهي عنها في أقوات الإنسان، أو الأشياء الخاصة المذكورة في الروايات. و هو الذي تقتضيه الأخبار في بادئ النظر بعد جمعها و حمل بعضها على بعض. و هو المنسوب الى الشافعي و أحمد أيضا، و لكن الحنفية و المالكية يكون الموضوع عندهم أعم من ذلك، فيشمل كل ما يحتاج إليه الإنسان في حياته و عيشه. فما هو الحق في المسألة؟

أقول: الظاهر أن حرمة الاحتكار أو كراهته ليس حكما تعبديا بلا ملاك أو بملاك غيبي لا يعرفه أبناء نوع الإنسان. بل الملاك له على ما هو المستفاد من أخبار

______________________________

(1)- بدائع الصنائع 5/ 129.

(2)- المدوّنة الكبرى 3/ 290، باب ما جاء في الحكرة.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 645

الباب أيضا هو حاجة الناس إلى المتاع و ورود الضيق و الضرر عليهم من فقده.

ففي صحيح الحلبي: «إن كان الطعام كثيرا يسع الناس فلا بأس به. و إن كان قليلا لا يسع الناس فإنه يكره أن يحتكر الطعام و يترك الناس ليس لهم طعام.» «1»

يظهر من هذه الصحيحة علة الحكم و ملاكه، و أن نظر الشارع الحكيم في تشريعه إلى كون الناس في سعة و أن لا يتركوا بلا طعام يتوقف عليه حياتهم.

و في ذيل صحيحته الأخرى بنقل الكليني: «و سألته عن الزبيب فقال: إذا كان عند غيرك فلا بأس بإمساكه.» «2»

و اتفقت الروايات و الفتاوى في الزبيب، مع أنه كثيرا ما تكون حاجة الناس إلى كثير من الأمتعة

أكثر بمراتب من حاجتهم إلى مثل الزبيب.

و قد ذكر الزيت أيضا في بعض الروايات الحاصرة و أفتى به الفقهاء، و أنت تعلم أن الزيت ليس مما تحتاج إليه عامة الناس، بل كان إداما في بعض المناطق، كالشامات و أمثالها.

و قد كثرت البلاد التي تنحصر أقوات أهلها في الأرز أو الذرة مثلا، و يصير احتكارهما موجبا لصيرورتهم بلا طعام. فهل يجوز احتكارهما في هذه البلاد، و لا يجوز احتكار مثل الزبيب أو الزيت فيها؟ و هل تكون حاجتهم إلى الأرز أو الذرة أقل من حاجتهم إلى الزبيب؟!

بل و ربما تكون حاجة الناس إلى بعض الأشياء من غير الأقوات أيضا في زمان أو بلد خاص أشد بمراتب من حاجتهم إلى مثل الزيت و الزبيب. كما إذا شاع مرض في منطقة خاصة و اشتدت حاجة الناس إلى دواء خاص يتوقف عليه حفظ حياتهم أو سلامتهم فاحتكره بعض الصيادلة، أو وقعت الحكرة في جميع الألبسة الصيفية و الشتوية و موادّها الأولية، أو في مثل الوقود و المياه و الأراضي و نحوها و وقع

______________________________

(1)- الوسائل 12/ 313، الباب 27 من أبواب آداب التجارة، الحديث 2.

(2)- الوسائل 12/ 315، الباب 28 من أبواب آداب التجارة، الحديث 2؛ عن الكافي 5/ 165، كتاب المعيشة، باب الحكرة، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 646

الناس في ضيق شديد لذلك.

و قد أوضح أمير المؤمنين «ع» في كتابه إلى مالك ما هو الملاك في المنع من الاحتكار، فقال في شأن التجار:

«و اعلم- مع ذلك- أن في كثير منهم ضيقا فاحشا، و شحّا قبيحا، و احتكارا للمنافع، و تحكما في البياعات، و ذلك باب مضرة للعامة و عيب على الولاة؛

فامنع من الاحتكار.» «1»

و لم يذكر «ع» الاشياء الخاصة، و لا الأقوات مع كونه في مقام البيان.

و بالجملة، ليست أحكام الشريعة الإسلامية جزافية بلا ملاك، بل شرّعت على أساس المصالح و المفاسد. و ليست أيضا لزمان خاص أو مكان خاص، بل شرّعت لكافّة الناس في جميع البلدان إلى يوم القيامة. و حاجات الناس و ضروريات معاشهم تختلف بحسب الأزمنة و الحالات و الظروف. و إطلاقات الروايات الكثيرة الناهية عن مطلق الحكرة تشمل الجميع. و مناسبة الحكم و الموضوع، و ملاحظة الملاك أيضا تقتضيان الأخذ بالاطلاق. و الأخبار الحاصرة أيضا بنفسها مختلفة؛ فترى الزيت مذكورا فيما روي عن النبي «ص» و لم يذكر فيما روي عن أمير المؤمنين «ع»، و ترى الملح مذكورا في كلام الشيخ و من بعده و لم يذكر في كلام من قبله و لا في الروايات، فاحدس من جميع ذلك عدم انحصار الاحتكار المحرم في أشياء خاصة.

[8]- وجوه الحمل في الأخبار الحاصرة:
اشارة

فإن قلت: فعلى أيّ محمل تحمل الأخبار الحاصرة؟

قلت: يحتمل فيها وجوه:

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 1017؛ عبده 3/ 110؛ لح/ 438، الكتاب 53.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 647

الأول: أن تكون القضية فيها خارجية لا حقيقيّة

بتقريب أن الأشياء الخاصة كانت عمدة ما يحتاج إليه الناس في عصر صدور الخبر و في تلك الظروف، و لا محالة كانت هي التي تقع موردا للحكرة و الحبس و لم يكن غيرها من الأمتعة قليلة بحيث تحتكر أو كثيرة المصرف بحيث يرغب في حبسها و حكرتها، أو يضرهم فقدها على فرض الحبس، و بهذا يوجّه أيضا ذكر الزيت فيما روي عن النبي «ص»، و تركه فيما روي عن أمير المؤمنين «ع».

الثاني: ما ربما ينسبق إلى الخاطر من أن فتوى أبي حنيفة و مالك

فقيهي العراق و الحجاز لعله كان موردا لعمل الخلفاء و عمّالهم في البلاد في عصر الإمام الصادق «ع»، و كانوا باستناد ذلك يتعرضون لأموال الناس باسم المنع عن الحكرة مع أن غير الأشياء الخاصة لم يكن في ذلك العصر في معرض الحاجة الشديدة بحيث يدخل في عنوان الحكرة و يكون مجوّزا لتدخل الحكومة، نظير ما هو المشاهد في عصرنا من الأعمال الحادّة الصادرة من بعض المحاكم الإفراطية، فأراد الإمام الصادق «ع» ردعهم عن ذلك ببيان أن عملهم على خلاف الموازين.

و الظاهر أن لحن التعبير في الروايات الحاصرة يشعر بأنه كان في تلك الأعصار من يصرّ على عموم الحكرة وسعتها لسائر الأشياء، فحكى «ع» قول النبي «ص» و قول أمير المؤمنين «ع» لإلزامهم، و في الحقيقة هذا بيان آخر لكون القضية خارجية لا حقيقيّة.

[الثالث:] تعيين موضوعات الحكرة من شئون الوالي:

الثالث: أن الحصر في الروايات الحاصرة لم يكن حكما فقهيا كليا لجميع الأزمنة و الظروف، بل حكما ولائيا لعصر خاص و مكان خاص، فيكون تعيين الموضوع من

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 648

شئون الحاكم بحسب ما يراه من احتياجات الناس في عصره و مجال حكمه.

و المناسب للشريعة السمحة السهلة المشرّعة لجميع الأعصار و الظروف أن يشرّع فيها الكلّيات القابلة للانطباق في كل عصر و مكان، و يفوّض تعيين الموضوعات الجزئية لها إلى الحكّام و الولاة.

نظير ما احتملناه في باب الزكاة من أن المشرّع في الكتاب الكريم كان أصل وجوب الزكاة و أخذ الصدقات من أموال الناس، و تعيين الموضوع لها فوّض إلى الولاة و الحكام على حسب تشخيصهم للثروات العمومية. و تعيين الموضوعات التسعة من قبل النبي «ص» كان حكما ولائيا صدر عنه بما أنه كان

واليا على المسلمين في عصره و كان عمدة ثروة العرب الموضوعات التسعة، كما ربما يشعر بذلك بعض التعبيرات الواردة في الروايات كقوله «ع»: «وضع رسول اللّه «ص» الزكاة على تسعة أشياء و عفا عمّا سوى ذلك.» «1»

و بالجملة، تعيين موضوعات الحكرة من شئون الوالي في كل عصر. و تعيينها في الأخبار الحاصرة كان من هذا القبيل فلا يعمّ جميع الأعصار، فتدبّر.

و مما يشهد لكون أمر الحكرة و النهي عنها من شئون الولاة و الحكام أمر أمير المؤمنين «ع» مالكا و رفاعة بالنهي عن الحكرة و معاقبة من تخلّف، بل أمر رسول اللّه «ص» بالإخراج و البيع في خبر حذيفة، فتدبّر.

فإن قلت: قد مرّ منكم أن الاحكام الولائية الصادرة عن النبي «ص» و الأئمّة- عليهم السلام- أيضا مثل الأحكام الإلهية تعمّ جميع المسلمين إلى يوم القيامة.

قلت: نعم و لكن إذا لم تكن قرينة على الاختصاص. فمنعه «ص» عن الاحتكار يعمّ جميع الأعصار، كنفيه الضرر و الضرار. و أما حصر الحكرة في الأشياء الخاصة فيفهم من الدقة في ملاك الحكم كونه مختصا بعصر خاص، فتدبّر.

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 32، الباب 8 من أبواب ما تجب فيه الزكاة.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 649

[9]- نقل كلام بعض الفقهاء:

و صاحب الجواهر بعد ما أفتى بكراهة الاحتكار بذاته و حرمته مع قصد الإضرار، أو حصول الغلاء و الإضرار بفعله، أو بإطباق المعظم عليه قال:

«بل هو كذلك في كل حبس لكل ما تحتاجه النفوس المحترمة و يضطرّون اليه و لا مندوحة لهم عنه من مأكول أو مشروب أو ملبوس أو غيرها، من غير تقييد بزمان دون زمان، و لا أعيان دون أعيان، و لا انتقال بعقد، و لا تحديد بحدّ،

بعد فرض حصول الاضطرار. بل الظاهر تسعيره حينئذ بما يكون مقدورا للطالبين إذا تجاوز الحد في الثمن. بل لا يبعد حرمة قصد الاضطرار بحصول الغلاء و لو مع عدم حاجة الناس و وفور الأشياء. بل قد يقال بالتحريم بمجرد قصد الغلاء و حبّه و إن لم يقصد الإضرار. و يمكن تنزيل القول بالتحريم على بعض ذلك.» «1»

و فيه أيضا:

«و لو اعتاد الناس طعاما في أيام القحط مبتدعا جرى فيه الحكم لو بني فيه على العلة. و في الأخبار ما ينادي بأن المدار على الاحتياج، و هو مؤيد للتنزيل على المثال، و إن كان فيه ما لا يخفى.» «2»

فهو- قدّس سرّه- قائل بالتعميم و لكن بملاك الحاجة و الاضطرار.

و ممن أفتى بالتعميم من الفقهاء المتأخرين آية اللّه الأصفهاني- طاب ثراه- فإنه قال في كتابه وسيلة النجاة:

«الاحتكار و هو حبس الطعام و جمعه يتربّص به الغلاء حرام مع ضرورة المسلمين و حاجتهم و عدم وجود من يبذلهم قدر كفايتهم ... و إنّما يتحقق الاحتكار بحبس

______________________________

(1)- الجواهر 22/ 481.

(2)- الجواهر 22/ 483.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 650

الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب و الدهن، و كذا الزيت و الملح على الأحوط لو لم يكن أقوى، بل لا يبعد تحققه في كل ما يحتاج إليه عامة أهالي البلد من الأطعمة، كالأرز و الذرة بالنسبة إلى بعض البلاد.» «1»

أقول: الأرز و الذرة لم يذكرا في الروايات الحاصرة. فمن تعدّيه إليهما يظهر أنه- طاب ثراه- حمل الأشياء المذكورة في الروايات على كونها من باب المثال الظاهر للأشياء الضرورية التي يحتاج إليها الإنسان. و حينئذ فيمكن أن يقال بأنه لا خصوصية للأرز و الذرة.

اللهم

إلا أن يقال: إن المستفاد من الروايات و كلمات الفقهاء كون الموضوع خصوص القوت و الطعام، فلا يتعدى الى غير الأقوات، فتدبر.

و قال المحقق الحائري- طاب ثراه- في كتابه ابتغاء الفضيلة في شرح الوسيلة:

«إذا فرض الاحتياج إلى غير الطعام من الأمور الضرورية للمسلمين كالدواء و الوقود في الشتاء بحيث استلزم من احتكارها الحرج و الضرر على المسلمين فمقتضى ما تقدم من دلالة دليل الحرج و الضرر حرمته و إن لم تصدق عليه لغة الاحتكار.

و يمكن التمسك بالتذييل الذي هو في مقام التعليل بحسب الظاهر المتقدم في معتبر الحلبي، بناء على أنّه إذا كان الظاهر أن التعليل بأمر ارتكازي فيحكم بإلغاء قيد الطعام، لأنه ليس بحسب الارتكاز إلا من جهة توقف حفظ النفس عليه. فإذا وجد الملاك المذكور في الدواء مثلا فلا ريب أنه بحكمه عرفا، و هذا يوجب الغاء الخصوصية المأخوذة في التعليل.» «2»

أقول: استدلاله للتعميم بذيل صحيحة الحلبي حسن جدّا. و احتماله عدم صدق لغة الاحتكار عليه في غاية الضعف، لما مرّ منّا من أنّ اللفظ بحسب اللغة لم يؤخذ

______________________________

(1)- وسيلة النجاة 2/ 8.

(2)- ابتغاء الفضيلة 1/ 197.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 651

فيه العناوين و الأشياء الخاصة، و إنما ذكرها الفقهاء في تعريفهم له إذ كانوا بصدد تحديد ما هو الموضوع عندهم للحرمة أو الكراهة بحسب الأدلة. هذا.

و السيد الأستاذ الإمام- مدّ ظلّه- في تحرير الوسيلة منع التعميم فقال:

«و الأقوى عدم تحققه إلا في الغلات الأربع و السمن و الزيت، نعم هو أمر مرغوب عنه في مطلق ما يحتاج إليه الناس، لكن لا يثبت لغير ما ذكر أحكام الاحتكار.» «1»

[10]- هل يشترط فيه الاشتراء أم لا؟

قال العلامة في المنتهى:

«قال مالك و الأوزاعي

إنما يثبت الاحتكار بشرط أن يشتري. و لو جلب شيئا أو دخل من غلّته شي ء فادّخره لم يكن محتكرا.» «2» و ظاهره ارتضاء هذا القول.

و في مفتاح الكرامة- في شرائط الاحتكار-:

«و زاد في نهاية الإحكام أن يكون قد اشتراه. فلو جلب أو ادّخر من غلّته فلا بأس.

و هو المحكي عن ظاهر المنتهى، و مال إليه في جامع المقاصد أو قال به.» «3»

و قد مر عن الشرح الكبير لابن قدامة أنه قال في شروط الاحتكار:

«أحدها: أن يشتري. فلو جلب شيئا أو أدخل عليه من غلته شيئا فادخره لم يكن محتكرا، روي ذلك عن الحسن و مالك.» «4»

و في بدائع الصنائع في تفسير الاحتكار:

«هو أن يشتري طعاما في مصر و يمتنع عن بيعه و ذلك يضرّ بالناس. و كذلك

______________________________

(1)- تحرير الوسيلة 1/ 502، المسألة 23 من المكاسب المحرمة.

(2)- المنتهى 2/ 1007.

(3)- مفتاح الكرامة ج 4، كتاب المتاجر/ 108.

(4)- المغني 4/ 46.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 652

لو اشتراه من مكان قريب يحمل طعامه الى المصر.» «1»

و في موسوعة الفقه الإسلامي عن الشافعية:

«أنه اشتراء القوت وقت الغلات ليمسكه و يبيعه بعد ذلك بأكثر من ثمنه للتضييق.» «2» هذا.

و لكن كلمات أكثر أصحابنا الإمامية و لا سيّما المتقدمين منهم مطلقة تشمل صورة الاشتراء و غيره. كما أن أكثر أخبار الباب أيضا مطلقة. نعم، في إحدى صحيحتي الحلبي، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «إنما الحكرة أن تشتري طعاما و ليس في المصر غيره فتحتكره.» «3»

و ظاهر كلمة «إنما» هو الحصر. كما أن المذكور في صحيحة الحناط أن حكيم بن حزام كان إذا دخل الطعام المدينة اشتراه كله، الحديث «4». و الموضوع في خبر

أبي مريم أيضا اشتراء الطعام «5».

أقول: الظاهر أن الحصر في صحيحة الحلبي إنما يكون في قبال الفقرة الثانية، أعني قوله: «فإن كان في المصر طعام أو متاع غيره فلا بأس أن تلتمس بسلعتك الفضل»، لا في قبال كون الملكية بغير الاشتراء. فيكون ذكر الاشتراء من باب المثال و الغلبة، و يشهد لذلك عدم ذكره في الصحيحة الأخرى للحلبي «6». و قد عرفت استظهار كونهما رواية واحدة لوحدة الراوي، و المروي عنه، و المضمون.

و كون المورد في صحيح الحناط و خبر أبي مريم خصوص الاشتراء لا يدل على الاختصاص و نفي الغير.

و النهي عن الاحتكار إنما هو لرفع الضيق و الحاجة عن الناس، كما أشار إلى

______________________________

(1)- بدائع الصنائع 5/ 129.

(2)- موسوعة الفقه الإسلامي 3/ 195، في الاحتكار.

(3)- الوسائل 12/ 315، الباب 28 من أبواب آداب التجارة، الحديث 1.

(4)- الوسائل 12/ 316، الباب 28 من أبواب آداب التجارة، الحديث 3.

(5)- الوسائل 12/ 314، الباب 27 من أبواب آداب التجارة، الحديث 6.

(6)- الوسائل 12/ 313، الباب 27 من أبواب آداب التجارة، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 653

ذلك في الصحيحة بقوله «ع»: «و يترك الناس ليس لهم طعام.» فلا دخالة لخصوصية الاشتراء في ذلك.

قال الشيخ الأعظم- قدّس سرّه- في المكاسب بعد الاستدلال بذلك:

«و عليه فلا فرق بين أن يكون ذلك من زرعه، أو من ميراث، أو يكون موهوبا له، أو كان قد اشتراه لحاجة فانقضت الحاجة و بقي الطعام لا يحتاج إليه المالك فحبسه متربّصا للغلاء.» «1»

[11]- اشتراط كون الاستبقاء للزيادة:

الظاهر أن مورد البحث هو صورة كون الاستبقاء للزيادة في الثمن. فلو استبقاه لحاجة نفسه و عائلته، أو للبذر لم يكن محتكرا و لم

يحرم، اللهم إلا في بعض الفروض.

ففي الوسيلة لابن حمزة:

«و إذا احتبس لقوته و قوت عياله لم يكن ذلك احتكارا.» «2»

و قال في الشرائع:

«بشرط أن يستبقيها للزيادة في الثمن.» «3»

و في الجواهر في شرح العبارة:

«لا إشكال نصا و فتوى بل و لا خلاف كذلك في أن الاحتكار يكره أو يحرم [بشرط ان يستبقيها للزيادة في الثمن]، فلو استبقاها لحاجة إليها للبذر أو نحوه لم يكن به بأس. بل الظاهر عدم كونه احتكارا كما دلّ عليه النص و الفتوى.» «4»

و في المختصر النافع:

______________________________

(1)- المكاسب/ 213.

(2)- الجوامع الفقهية/ 745.

(3)- الشرائع 2/ 21.

(4)- الجواهر 22/ 483.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 654

«و تتحقق الكراهية إذا استبقاه لزيادة الثمن و لم يوجد باذل (بائع خ. ل) غيره.» «1»

و في القواعد:

«بشرطين: الاستبقاء للزيادة، و تعذر غيره.» «2»

إلى غير ذلك من الكلمات الدالة على كون مورد البحث صورة إرادة الزيادة في القيمة و الغلاء.

و في رواية أبي مريم: «يريد به غلاء المسلمين.» «3»

و في صحيحة الحلبي: «فلا بأس أن تلتمس بسلعتك الفضل.» «4»

و في رواية الحاكم النيسابوري عن النبي «ص»: «من احتكر يريد أن يتغالى بها على المسلمين فهو خاطئ.» «5»

إلى غير ذلك من الروايات. و كيف كان فالظاهر وضوح المسألة.

نعم، يستحب مساواة الناس حالة الغلاء و لو ببيع ما عنده من الجيّد إذا لم يقدر الناس إلّا على الرديّ:

1- ففي خبر حماد قال: «أصاب أهل المدينة قحط حتى أقبل الرجل الموسر يخلط الحنطة بالشعير و يأكله و يشتري ببعض الطعام. و كان عند أبي عبد اللّه «ع» طعام جيّد قد اشتراه أول السنة فقال لبعض مواليه: اشتر لنا شعيرا فاخلطه بهذا الطعام، أو بعه. فإنّا نكره

أن نأكل جيّدا و يأكل الناس رديّا.» «6»

2- و في خبر معتّب، قال: قال أبو عبد اللّه «ع»- و قد يزيد السعر بالمدينة-: كم

______________________________

(1)- المختصر النافع/ 120.

(2)- القواعد 1/ 122.

(3)- الوسائل 12/ 314، الباب 27 من أبواب آداب التجارة، الحديث 6.

(4)- الوسائل 12/ 315، الباب 28 من أبواب آداب التجارة، الحديث 1.

(5)- مستدرك الحاكم 2/ 12، كتاب البيوع.

(6)- الوسائل 12/ 321، الباب 32 من أبواب آداب التجارة، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 655

عندنا من طعام؟ قال: قلت: عندنا ما يكفينا أشهرا كثيرة. قال: أخرجه و بعه. قال:

قلت له: و ليس بالمدينة طعام. قال: بعه. فلما بعته قال: اشتر مع الناس يوما بيوم.

و قال: يا معتّب، اجعل قوت عيالي نصفا شعيرا و نصفا حنطة، فإن اللّه يعلم أني واجد أن أطعمهم الحنطة على وجهها، و لكني أحببت أن يراني اللّه قد أحسنت تقدير المعيشة «1».

[12]- إجبار المحتكر على البيع:

1- قال المفيد في المقنعة:

«و للسلطان أن يكره المحتكر على إخراج غلّته و بيعها في أسواق المسلمين إذا كانت بالناس حاجة ظاهرة إليها.» «2»

2- و قال الشيخ في النهاية:

«و متى ضاق على الناس الطعام و لم يوجد إلا عند من احتكره كان على السلطان أن يجبره على بيعه و يكرهه عليه.» «3»

3- و في المبسوط:

«فمتى احتكر و الحال على ما وصفناه أجبره السلطان على البيع دون سعر بعينه.» «4»

4- و في الكافي لأبي الصلاح:

«و إذا فعل، خوطب في إخراجها إلى أسواق المسلمين. فإن امتنع، أكره على ذلك.» «5»

5- و في الوسيلة:

______________________________

(1)- الوسائل 12/ 321، الباب 32 من أبواب آداب التجارة، الحديث 2.

(2)- المقنعة/ 96.

(3)- النهاية/ 374.

(4)- المبسوط 2/ 195.

(5)- الكافي/ 360.

دراسات في ولاية

الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 656

«فإذا احتبس المبيع و مسّت الحاجة إليه من الناس و لم يبعه أجبر على البيع دون السعر.» «1»

6- و في السرائر:

«و متى ضاق على الناس الطعام و لم يوجد إلّا عند من احتكره كان على السلطان و الحكام من قبله أن يجبره على بيعه و يكرهه عليه.» «2»

7- و في الشرائع:

«و يجبر المحتكر على البيع.» «3» و مثله في المختصر «4».

8- و في القواعد:

«و يجبر على البيع لا التسعير على رأي.» «5»

9- و في الدروس:

«فيجبر على البيع حينئذ.» «6»

إلى غير ذلك من كلمات الأصحاب.

10- و في الحدائق:

«لا خلاف بين الأصحاب في أن الإمام يجبر المحتكرين على البيع، و عليه تدلّ جملة من الأخبار المتقدمة.» «7»

11- و في الجواهر:

«و كيف كان فقد قيل: لا خلاف بين الأصحاب في أن الإمام و من يقوم مقامه و لو عدول المسلمين [يجبر المحتكر على البيع]، بل عن جماعة الإجماع عليه على القولين.» «8»

______________________________

(1)- الجوامع الفقهية/ 745.

(2)- السرائر/ 212.

(3)- الشرائع 2/ 21.

(4)- المختصر النافع/ 120.

(5)- القواعد 1/ 122.

(6)- الدروس/ 332، كتاب المكاسب.

(7)- الحدائق 18/ 64.

(8)- الجواهر 22/ 485.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 657

12- و في مكاسب الشيخ الأعظم:

«الظاهر عدم الخلاف كما قيل في إجبار المحتكر على البيع حتى على القول بالكراهة، بل عن المهذب البارع الإجماع، و عن التنقيح كما في الحدائق عدم الخلاف فيه. و هو الدليل المخرج عن قاعدة عدم الإجبار لغير الواجب، و لذا ذكرنا أن ظاهر أدلة الإجبار تدلّ على التحريم لأن إلزام غير اللازم خلاف القاعدة.» «1»

أقول: و يدل على الحكم، بعد وضوحه و الإجماع و عدم الخلاف المدعى، أمر النبي

«ص» بالبيع و عدم الحبس في خبر حذيفة السابق، و إخراج الحكرة إلى بطون الأسواق في خبر ضمرة الآتي، و أمر أمير المؤمنين «ع» مالكا و رفاعة بالمنع من الاحتكار و النهي عنه و عقاب من تخلّف، كما مرّ. هذا.

و في الجواهر:

«و لو تعذّر الإجبار قام الحاكم مقامه، بل ظاهر بعض قيامه مقامه مع عدم تعذر الإجبار خصوصا الإمام، و ان كان قد يناقش بأنه خلاف المأثور.» «2»

______________________________

(1)- المكاسب/ 213.

(2)- الجواهر 22/ 485.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 658

التسعير:

[13]- هَل يجوز التسعير أم لا؟ و ذكر بعض كلمات الفقهاء فيه:

اختلفت كلماتهم في ذلك، و الأكثر على المنع بل في مفتاح الكرامة:

«إجماعا و أخبارا متواترة كما في السرائر، و بلا خلاف كما في المبسوط، و عندنا كما في التذكرة.» «1»

أقول: 1- في نهاية الشيخ:

«و لا يجوز له أن يجبره على سعر بعينه، بل يبيعه بما يرزقه اللّه- تعالى- و لا يمكنه من حبسه أكثر من ذلك.» «2»

2- و في المبسوط:

«فصل في حكم التسعير: لا يجوز للإمام و لا النائب عنه أن يسعّر على أهل الأسواق متاعهم من الطعام و غيره، سواء كان في حال الغلاء أو في حال الرخص، بلا خلاف. و روي عن النبي «ص» أنّ رجلا أتاه فقال: سعّر على أصحاب الطعام، فقال: بل أدعو اللّه. ثم جاء آخر فقال: يا رسول اللّه، سعّر على أصحاب الطعام، فقال: بل اللّه يرفع و يخفض. و إنّي لأرجو أن ألقى اللّه و ليست لأحد عندي مظلمة. فإذا ثبت ذلك، فإذا خالف إنسان من أهل السوق بزيادة سعر أو نقصانه

______________________________

(1)- مفتاح الكرامة، ج 4، كتاب المتاجر/ 109.

(2)- النهاية/ 374.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 659

فلا اعتراض

لأحد عليه.» «1»

3- و فيه أيضا:

«فمتى احتكر و الحال على ما وصفناه أجبره السلطان على البيع دون سعر بعينه.» «2»

4- و في الغنية:

«و لا يجوز إكراه الناس على سعر مخصوص.» «3»

5- و في الشرائع:

«و لا يسعّر عليه. و قيل: يسعّر. و الأول أظهر.» «4»

6- و في المختصر:

«و هل يسعّر عليه؟ الأصح، لا.» «5»

7- و في القواعد:

«و يجبر على البيع، لا التسعير على رأي.» «6»

8- و لكن في المقنعة:

«و له أن يسعّرها على ما يراه من المصلحة و لا يسعّرها بما يخسر أربابها فيها.» «7»

9- و في وسيلة ابن حمزة:

«أجبر على البيع دون السعر إلا إذا تشدّد. و إن خالف أحد في السوق بزيادة أو نقصان لم يعترض عليه.» «8»

10- و في الدروس:

______________________________

(1)- المبسوط 2/ 195.

(2)- المبسوط 2/ 195.

(3)- الجوامع الفقهية/ 528.

(4)- الشرائع 2/ 21.

(5)- المختصر النافع/ 120.

(6)- القواعد 1/ 122.

(7)- المقنعة/ 96.

(8)- الجوامع الفقهية/ 745.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 660

«و لا يسعّر عليه إلّا مع التشدّد.» «1»

و لعلّ المراد بالتشدّد هو الإجحاف، كما في كلام آخرين:

11- ففي مفتاح الكرامة هكذا:

«و في الوسيلة و المختلف و الايضاح و الدروس و اللمعة و المقتصر و التنقيح أنه يسعّر عليه إن أجحف في الثمن، لما فيه من الإضرار المنفي.» «2»

هذه بعض كلمات الفقهاء من أصحابنا.

و أما فقهاء السنة:

12- فقال العلامة في المنتهى:

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 2، ص: 660

«على الإمام أن يجبر المحتكرين على البيع، و ليس له أن يجبرهم على التسعير بل يتركهم يبيعوا كيف شاءوا. به

قال أكثر علمائنا و هو مذهب الشافعي. و قال المفيد و سلار «ره»: للإمام أن يسعّر عليهم فيسعّر بسعر البلد. و به قال مالك.» «3»

13- و في موسوعة الفقه الإسلامي:

«نصّ المالكية على أن من اشترى الطعام من الأسواق و احتكره و أضرّ بالناس فإن الناس يشتركون فيه بالثمن الذي اشتراه به.» «4»

14- و فيه أيضا:

«صرّح الحنابلة بأن لوليّ الأمر أن يكره المحتكرين على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند ضرورة الناس إليه. مثل من عنده طعام يحتاج إليه الناس في مخمصة، فإن من اضطرّ إلى طعام غيره أخذه منه بغير اختياره بقيمة المثل. و لو امتنع عن بيعه إلّا بأكثر من سعره أخذه منه بقيمة المثل ... و من هنا ذهب كثير من الفقهاء إلى القول بأن من حقّ الإمام، بل من واجبه، أن يسعّر السلع و أن يمنع الناس أن

______________________________

(1)- الدروس/ 332، كتاب المكاسب.

(2)- مفتاح الكرامة، ج 4، كتاب المتاجر/ 109.

(3)- المنتهى 2/ 1007.

(4)- موسوعة الفقه الإسلامي 3/ 198، في الاحتكار.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 661

يبيعوا إلا بقيمة المثل و لا يشتروا إلا بها بلا تردّد في ذلك عند أحد من العلماء.» «1»

فقد ظهر بما حكيناه من الكلمات أن المسألة خلافية بين فقهاء الفريقين، و لكن الأكثر من فقهائنا على منع التسعير اللهم إلّا مع إجحاف المالك.

و استدل العلامة- طاب ثراه- في المنتهى على المنع بالأخبار المروية من الفريقين و ستأتي، و بأن الأصل تحريم نقل مال الغير عنه بغير اذنه، و لأنه مال فلم يجز منعه من بيعه بما تراضيا عليه، و لان فيه مفسدة لأنه ربما سمع الجالب بذلك فلا يقدم بسلعته و ربما سمع

صاحب البضاعة بالإكراه فحبس ماله عنده فيحصل الإضرار بالجانبين: جانب المالك في منع بيع سلعته، و جانب أهل البلد في منع الجلب إليهم «2».

[14]- أخبار التسعير:

1- ما رواه الكليني بسنده عن حذيفة بن منصور، عن أبي عبد اللّه «ع» قال:

«نفد الطعام على عهد رسول اللّه «ص» فأتاه المسلمون فقالوا: يا رسول اللّه، قد نفد الطعام و لم يبق منه شي ء إلا عند فلان، فمره ببيعه. قال: فحمد اللّه و أثنى عليه، ثم قال: «يا فلان، إنّ المسلمين ذكروا أن الطعام قد نفد إلا شي ء عندك، فأخرجه و بعه كيف شئت و لا تحبسه.» و رواه الشيخ أيضا بسنده إلا أنه قال «فقد»، مكان «نفد» في المواضع الثلاثة «3».

و قد مرّ الحديث و أنه لا كلام في رجاله إلا في حذيفة و محمد بن سنان. و الظاهر أن الأمر فيهما سهل.

فرسول اللّه «ص» رخّصه في البيع كيف شاء و لم يسعّر عليه.

______________________________

(1)- موسوعة الفقه الإسلامي 3/ 198، في الاحتكار.

(2)- المنتهى 2/ 1007.

(3)- الوسائل 12/ 316، الباب 29 من أبواب آداب التجارة، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 662

2- ما رواه الشيخ بسنده عن الحسين بن عبيد اللّه بن ضمرة، عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب «ع» أنه قال: رفع الحديث إلى رسول اللّه «ص» أنه مرّ بالمحتكرين فأمر بحكرتهم أن تخرج إلى بطون الأسواق، و حيث تنظر الأبصار إليها. فقيل لرسول اللّه «ص»: لو قوّمت عليهم، فغضب رسول اللّه «ص» حتى عرف الغضب في وجهه فقال: «أنا أقوّم عليهم؟! إنما السعر إلى اللّه؛ يرفعه إذا شاء و يخفضه إذا شاء.» «1» و رواه الصدوق أيضا في الفقيه مرسلا،

و في التوحيد بسند موثوق به «2».

3- ما رواه الصدوق في الفقيه، قال: قيل للنبي «ص» لو سعّرت لنا سعرا، فإن الأسعار تزيد و تنقص. فقال «ص»: «ما كنت لألقى اللّه ببدعة لم يحدث إليّ فيها شيئا، فدعوا عباد اللّه يأكل بعضهم من بعض، و إذا استنصحتم فانصحوا» و رواه في التوحيد أيضا إلى قوله: من بعض «3».

4- ما رواه أيضا بإسناده عن أبي حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين «ع»، قال:

«إن اللّه- عزّ و جلّ- و كلّ بالسعر ملكا يدبّره بأمره.» و رواه في التوحيد أيضا بسند صحيح «4».

5- ما رواه أيضا عن أبي حمزة الثمالي، قال: ذكر عند علي بن الحسين «ع» غلاء السعر فقال: «و ما عليّ من غلائه، إن غلا فهو عليه، و ان رخص فهو عليه.» و رواه في التوحيد كالذي قبله «5».

6- ما رواه الكليني بسنده عن محمد بن أسلم، عمن ذكره، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «إن اللّه- عزّ و جلّ- و كلّ بالسعر ملكا فلن يغلو من قلة و لن يرخص من كثرة.» «6»

______________________________

(1)- الوسائل 12/ 317، الباب 30 من أبواب آداب التجارة، الحديث 1. الفقيه 3/ 265، الحديث 3955 التوحيد/ 388، باب القضاء و القدر، الحديث 33.

(2)- الوسائل 12/ 317، الباب 30 من أبواب آداب التجارة، الحديث 1. الفقيه 3/ 265، الحديث 3955 التوحيد/ 388، باب القضاء و القدر، الحديث 33.

(3)- الوسائل 12/ 318، الباب 30 من أبواب آداب التجارة، الحديث 2.

(4)- الوسائل 12/ 318، الباب 30 من أبواب آداب التجارة، الحديث 3.

(5)- الوسائل 12/ 318، الباب 30 من أبواب آداب التجارة، الحديث 4.

(6)- الوسائل 12/ 318، الباب 30 من أبواب آداب التجارة، الحديث 5.

دراسات

في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 663

7- ما رواه أيضا بسنده عن يعقوب بن يزيد، عمن ذكره، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «إن اللّه وكّل بالأسعار ملكا يدبّرها.» «1»

8- و في سنن أبي داود بسنده عن أبي هريرة أن رجلا جاء فقال: يا رسول اللّه، سعّر. فقال: «بل أدعو»، ثمّ جاء رجل فقال: يا رسول اللّه، سعّر. فقال: «بل اللّه يخفض و يرفع. و إني لأرجو أن ألقى اللّه و ليس لأحد عندي مظلمة.» «2»

9- و فيه أيضا بسنده عن أنس بن مالك، قال: قال الناس: يا رسول اللّه، غلا السعر فسعّر لنا، فقال رسول اللّه «ص»: «إن اللّه هو المسعّر القابض الباسط الرازق. و إني لأرجو أن ألقى اللّه و ليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم و لا مال.» «3»

و رواه ابن ماجة أيضا «4». و أحمد في المسند «5».

و روى نحوه عبد الرزاق في المصنف عن الحسن، قال: «غلا السعر مرة بالمدينة فقال الناس. الحديث» «6».

10- و روى ابن ماجة بسنده عن أبي سعيد، قال: غلا السعر على عهد رسول اللّه «ص» فقالوا: لو قوّمت يا رسول اللّه، قال: «إني لأرجو أن أفارقكم و لا يطلبني أحد منكم بمظلمة ظلمته.» «7»

11- و روى عبد الرزاق في المصنف بسنده عن سالم بن أبي الجعد، قال: قيل للنبي «ص» سعّر لنا الطعام، فقال: «إن غلاء السعر و رخصه بيد اللّه. و إني أريد أن ألقى

______________________________

(1)- الوسائل 12/ 318، الباب 30 من أبواب آداب التجارة، الحديث 6.

(2)- سنن أبي داود 2/ 244، كتاب الإجارة، باب في التسعير.

(3)- سنن أبي داود 2/ 244، كتاب الاجارة، باب في التسعير.

(4)- سنن ابن

ماجة 2/ 741، كتاب التجارات، الباب 27، الحديث 2200.

(5)- مسند أحمد 3/ 156.

(6)- المصنف 8/ 205 باب هل يسعّر، الحديث 14897.

(7)- سنن ابن ماجة، 2/ 742، كتاب التجارات، الباب 27، الحديث 2201.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 664

اللّه لا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في مال و لا دم.» «1»

إلى غير ذلك من الروايات في هذا الباب. و روى بعضها أبو يوسف في كتاب الخراج، فراجع «2».

[15]- متى يجوز التسعير؟

أقول: السعر العادي الطبيعي دائر مدار الظروف و الشرائط الطبيعية، من كثرة المتاع و قلته، و كثرة الرغبات و قلتها، و مصارف الإنتاج و التوزيع، و أجرة الحمل و النقل و الحفظ و غير ذلك من الجهات الطبيعية.

و بعبارة أخرى: السعر المتعارف معلول لمسألة العرض و الطلب و الظروف الطبيعية و الاجتماعية. و أمر الجميع ينتهي إلى مشيّة اللّه و إرادته الحاكمة على نظام الوجود.

و الظاهر أن قول رسول اللّه «ص»: «إنّما السعر إلى اللّه يرفعه إذا شاء و يخفضه إذا شاء» «3»، و ما مر من الأئمة «ع» في أمر السعر أيضا لا يراد به إلّا هذا السعر الطبيعي المتعارف أو ما يقرب منه، فإنه الذي يكون إلى اللّه لا ما يقع إجحافا و ظلما من المالك بعد الحصار الاقتصادي.

فكأنّ القوم أرادوا من النبي «ص» التصرف في السعر الطبيعي و التسعير بما دون المتعارف، فغضب «ص» عليهم لذلك و أحال السعر إلى ما يقتضيه العرض و الطلب و نحوهما من العوامل الطبيعية.

و أما إذا فرض إيجاد الحصار الاقتصادي فلا محالة يحتاج إلى تدخّل الحكومة و الإلزام من قبلها بمقدار الضرورة. و لا يجوز التجاوز عنه، فإن حرمة مال المؤمن

______________________________

(1)- المصنف 8/

205، باب هل يسعّر، الحديث 14899.

(2)- كتاب الخراج/ 49.

(3)- الوسائل 12/ 317، الباب 30 من أبواب آداب التجارة، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 665

كحرمة دمه، و الناس مسلطون على أموالهم بحكم الشرع و العقل، و لا يتصرف في مال الغير إلا بإذنه أو بتجارة عن تراض. فلا يجوز الإجبار بأكثر من الضرورة الاجتماعية التي يحكم برعايتها العقل و الشرع، فقد ترتفع الضرورة بالأمر بإخراج المتاع و عرضه على الناس فقط. و قد يواجه الحاكم إجحاف المالك بما يعسر على المجتمع تحمّله فيمنعه عن الإجحاف و الإضرار. و قد لا تعالج المشكلة إلا بالتسعير.

و قد يواجه الحاكم تعنت المالك و استبداده و عصيانه لأوامر الحاكم بالكلية فيتدخل بنفسه في بيع الأمتعة المحتكرة بثمن المثل.

و بالجملة، فروايات المنع من التسعير بكثرتها ناظرة إلى الموارد الغالبة التي لا تصل فيها النوبة إلى تسعير الحاكم بل تنحلّ المشكلة بمجرد عرض المتاع و كثرته في السوق.

قال الصدوق في كتاب التوحيد:

«فما كان من الرخص و الغلاء عن سعة الأشياء و قلتها فإن ذلك من اللّه- عزّ و جلّ- و يجب الرضا بذلك و التسليم له. و ما كان من الغلاء و الرخص بما يؤخذ الناس به لغير قلة الأشياء و كثرتها من غير رضا منهم به، أو كان من جهة شراء واحد من الناس جميع طعام بلد فيغلو الطعام لذلك، فذلك من المسعّر و المتعدي بشرى طعام المصر كله، كما فعله حكيم بن حزام: كان إذا دخل الطعام المدينة اشتراه كله فمرّ عليه النبي «ص» فقال: يا حكيم بن حزام، إياك أن تحتكر.» «1»

و في المسالك- بعد استظهار المصنف عدم التسعير- قال:

«إلا مع الإجحاف

و إلّا لانتفت فائدة الإجبار، إذ يجوز أن يطلب في ماله ما لا يقدر على بذله أو يضرّ بحال الناس، و الغرض دفع الضرر.» «2»

و في الروضة:

«و لا يجوز التسعير في الرخص مع عدم الحاجة قطعا. و الأقوى أنه مع الإجحاف

______________________________

(1)- التوحيد/ 389.

(2)- المسالك 1/ 177.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 666

حيث يؤمر به لا يسعّر عليه أيضا بل يؤمر بالنزول عن المجحف و إن كان في معنى التسعير إلّا أنّه لا ينحصر في قدر خاص.» «1»

و في الجواهر:

«نعم لا يبعد ردّه مع الإجحاف، كما عن أبي حمزة و الفاضل في المختلف و ثاني الشهيدين و غيرهم لنفي الضرر و الضرار. و لأنه لو لا ذلك لانتفت فائدة الإجبار، اذ يجوز أن يطلب في ماله ما لا يقدر على بذله و يضرّ بحال الناس. و الغرض دفع الضرر. و ليس ذلك من التسعير و لذا تركه الأكثر. فما عن بعضهم من عدم جواز ذلك أيضا للإطلاق، و صحيح ابن سنان عن أبي عبد اللّه «ع» أنه قال في تجار قدموا أرضا اشتركوا على أن لا يبيعوا بيعهم إلا بما أحبوا، قال: «لا بأس»، و قوله «ع» في خبر حذيفة: «بعه كيف شئت» واضح الضعف. ضرورة تقييد الإطلاق بما عرفت مما هو أقوى منه. و خروج الصحيح عما نحن فيه. و الاذن بالبيع كيف يشاء محمول على ما هو الغالب من عدم اقتراح المجحف.» «2»

و يدل على كون المنع من الإجحاف من وظائف الحاكم، مضافا إلى وضوحه، ما مرّ من كلام أمير المؤمنين «ع» في كتابه إلى مالك الأشتر، حيث قال: «فامنع من الاحتكار، فإن رسول اللّه «ص» منع منه.

و ليكن البيع بيعا سمحا بموازين عدل و أسعار لا تجحف بالفريقين من البائع و المبتاع.»

و قد روى هذا العهد قبل الشريف الرضي- قدّس سرّه- الحسن بن علي بن شعبة في تحف العقول بتفاوت، و في الدعائم باختلاف كثير.

و النص نفسه يؤكّد صحته إجمالا، مضافا إلى اشتهاره بين الأصحاب. و ذكر النجاشي و الشيخ في الفهرست في اصبغ بن نباتة سندهما إليه، و لا بأس بالسند إجمالا.

______________________________

(1)- الروضة البهية 3/ 299.

(2)- الجواهر 22/ 486.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 667

خاتمة [في تحالف أرباب المتاع]

صحيح ابن سنان الذي حكاه صاحب الجواهر آنفا و إن دل على جواز تحالف أرباب المتاع جميعا على سعر خاص لاستزادة في الربح، و لكن هذا فيما إذا لم يوجب التحالف المذكور إجحافا بالناس و إلا فهو مرجوح عند العقل و الشرع.

و بالجملة، فمجرد التحالف على سعر خاص مما لا بأس به بل قد يكون ضرورة ليمنع من تنزل قيمة المتاع و تضرر أهله، و لكن اللازم رعاية الإنصاف و عدم الإجحاف في التسعير.

فروى الكليني بسنده عن أبي جعفر الفزاري، قال: «دعا أبو عبد اللّه «ع» مولى يقال له: مصادف، فاعطاه ألف دينار، و قال له: تجهّز حتى تخرج إلى مصر، فإن عيالي قد كثروا. قال: فتجهز بمتاع و خرج مع التجار إلى مصر، فلما دنوا من مصر استقبلهم قافلة خارجة من مصر فسألوهم عن المتاع الذي معهم ما حاله في المدينة- و كان متاع العامّة- فأخبروهم أنّه ليس بمصر منه شي ء، فتحالفوا و تعاقدوا على أن لا ينقصوا متاعهم من ربح الدينار دينارا، فلما قبضوا أموالهم انصرفوا إلى المدينة، فدخل مصادف على أبي عبد اللّه «ع» و معه

كيسان؛ كل واحد ألف دينار. فقال:

جعلت فداك هذا رأس المال، و هذا الآخر ربح. فقال: إن هذا الربح كثير، و لكن ما صنعتم في المتاع؟ فحدثه كيف صنعوا و كيف تحالفوا، فقال: سبحان اللّه، تحلفون على قوم مسلمين أن لا تبيعوهم إلّا بربح الدينار دينارا؟! ثم أخذ أحد الكيسين و قال: هذا رأس مالي، و لا حاجة لنا في هذا الربح. ثم قال: يا مصادف: مجالدة السيوف أهون من طلب الحلال.» «1»

فالإمام «ع» في هذه الرواية لم يخطئ أصل التحالف على السعر، و إنما خطأ التحالف على ربح الدينار دينارا الذي كان يعدّ إجحافا، فتدبر.

______________________________

(1)- الوسائل 12/ 311، الباب 26 من أبواب آداب التجارة، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 669

الفصل الحادي عشر في وجوب اهتمام الإمام و عمّاله بالأموال العامّة للمسلمين

اشارة

و حفظها، و صرفها في مصارفها المقرّرة، و رعاية العدل في قسمها، و التسوية فيها، و إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، و قطع أيادي الغاصبين عنها بمصادرتها

[تسوية عليّ ع بين الناس]

1- ففي روضة الكافي بسند صحيح، عن محمّد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «لما وليّ عليّ «ع» صعد المنبر فحمد اللّه و أثنى عليه ثمّ قال: إنّي و اللّه لا أرزؤكم من فيئكم درهما ما قام لي عذق بيثرب، فليصدّقكم أنفسكم، أ فتروني مانعا نفسي و معطيكم؟ قال: فقام إليه عقيل- كرّم اللّه وجهه- فقال له: و اللّه لتجعلني و أسود بالمدينة سواء؟! فقال: اجلس أما كان هاهنا أحد يتكلّم غيرك؟! و ما فضلك عليه إلّا بسابقة أو بتقوى؟» «1»

أقول: قوله: «لا أرزؤكم»، أي لا أنقصكم. قوله: «فليصدّقكم أنفسكم»، أي ليقل أنفسكم لكم صدقا في ذلك و يؤمن أنفسكم به.

2- و فيه أيضا: خطب أمير المؤمنين «ع» فحمد اللّه و أثنى عليه ثمّ قال: «أيّها

______________________________

(1)- الكافي 8/ 182 (الروضة)، الحديث 204. و رواه عنه في الوسائل 11/ 79، الباب 39 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 670

الناس، إنّ آدم لم يلد عبدا و لا أمة، و إنّ الناس كلّهم أحرار، و لكنّ اللّه خوّل بعضكم بعضا، فمن كان له بلاء فصبر في الخير فلا يمنّ به على اللّه- عزّ و جلّ-. ألا و قد حضر شي ء و نحن مسوّون فيه بين الأسود و الأحمر. فقال مروان لطلحة و الزبير: ما أراد بهذا غيركما. قال: فأعطى كلّ واحد ثلاثة دنانير، و أعطى رجلا من الأنصار ثلاثة دنانير، و جاء بعد غلام أسود فأعطاه ثلاثة

دنانير، فقال الأنصاري: يا أمير المؤمنين، هذا غلام اعتقته بالأمس تجعلني و إيّاه سواء؟! فقال: إنّي نظرت في كتاب اللّه فلم أجد لولد إسماعيل على ولد إسحاق فضلا.» «1»

أقول: قوله: «فمن كان له بلاء فصبر ...» لعلّه لبيان أنّ من له بلاء و صبر فقد وقع أجره على اللّه و اللّه- تعالى- يوجره لا محالة، فليس له أن يتوقّع التفضيل في العطايا لذلك. فإنّ العطايا على أساس الحاجات لا الفضائل، كما يأتي بيانه.

3- و في فروع الكافي بسند فيه إرسال، عن أبي مخنف الأزدي، قال: أتى أمير المؤمنين «ع» رهط من الشيعة فقالوا: يا أمير المؤمنين، لو أخرجت هذه الأموال ففرّقتها في هؤلاء الرؤساء و الأشراف و فضّلتهم علينا حتّى إذا استوسقت الأمور عدت إلى أفضل ما عوّدك اللّه من القسم بالسّويّة و العدل في الرعيّة. فقال أمير المؤمنين «ع»: «أ تأمرونّي- و يحكم- أن أطلب النصر بالظلم و الجور فيمن ولّيت عليه من أهل الإسلام؟! لا و اللّه لا يكون ذلك ما سمر السمير و ما رأيت في السماء نجما، و اللّه لو كانت أموالهم مالي لساويت بينهم فكيف و إنّما هي أموالهم؟»

قال: ثمّ أزم ساكتا طويلا ثمّ رفع رأسه فقال:

«من كان فيكم له مال فإيّاه و الفساد، فإنّ إعطاءه في غير حقّه تبذير و إسراف و هو يرفع ذكر صاحبه في الناس و يضعه عند اللّه، و لم يضع امرؤ ماله في غير حقّه و عند غير أهله إلّا حرّمه اللّه شكرهم و كان لغيره ودّهم، فإن بقي معه منهم بقية ممّن يظهر الشكر له و يريه النصح فإنّما ذلك ملق منه و كذب، فإن زلّت بصاحبهم النعل ثمّ احتاج إلى معونتهم

و مكافأتهم فألأم خليل و شرّ

______________________________

(1)- الكافي 8/ 69 (الروضة)، الحديث 26.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 671

خدين، و لم يضع امرؤ ماله في غير حقّه و عند غير أهله إلّا لم يكن له من الحظّ فيما أتى إلّا محمدة اللئام و ثناء الأشرار ما دام عليه منعما مفضلا، و مقالة الجاهل ما أجوده و هو عند اللّه بخيل، فأيّ حظّ أبور و أخسّ (أخسر خ. ل) من هذا الحظ؟ و أيّ فائدة معروف أقلّ من هذا المعروف، فمن كان منكم له مال فليصل به القرابة و ليحسن منه الضيافة و ليفكّ به العاني و الأسير و ابن السبيل، فإن الفوز بهذه الخصال مكارم الدنيا و شرف الآخرة.» «1»

و روى صدر الرواية في الوسائل عن الكافي، و كذا عن السرائر نحوه «2».

أقول: أزم عن الكلام من باب ضرب: أمسك عنه.

4- و في كتاب الغارات بسنده: «أنّ طائفة من أصحاب عليّ «ع» مشوا إليه فقالوا: يا أمير المؤمنين، أعط هذه الأموال و فضّل هؤلاء الأشراف من العرب و قريش على الموالي و العجم و من تخاف خلافه من الناس و فراره، قال: و إنّما قالوا له ذلك للذي كان معاوية يصنع من أتاه، فقال لهم عليّ «ع»: «أ تأمروني أن أطلب النصر بالجور إلخ» و ذكر قريبا ممّا في الكافي، فراجع «3».

و روى نحوه في الوسائل عن أمالي ابن الشيخ «ره». و في المستدرك عن أمالي المفيد، فراجع «4».

5- و في نهج البلاغة: و من كلام له «ع» لمّا عوتب على التسوية في العطاء:

«أ تأمرونّي أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه؟ و اللّه ما أطور به ما سمر سمير

و ما أمّ نجم في السماء نجما، لو كان المال لي لسوّيت بينهم، فكيف و إنّما المال مال اللّه؟! ألا و إنّ إعطاء المال في غير حقّه تبذير و إسراف، و هو يرفع صاحبه في الدنيا و يضعه في الآخرة، و يكرمه في الناس و يهينه عند اللّه. و لم يضع امرؤ ماله في غير حقّه و لا عند غير أهله إلّا حرّمه اللّه شكرهم و كان لغيره ودّهم، فإن

______________________________

(1)- فروع الكافي 4/ 31، (ط. القديم 1/ 170)، كتاب الزكاة، باب وضع المعروف موضعه، الحديث 3.

(2)- الوسائل 11/ 80، الباب 39 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.

(3)- الغارات 1/ 75.

(4)- الوسائل 11/ 81، الباب 39 من أبواب جهاد العدو، الحديث 6؛ و المستدرك 2/ 260، الباب 35 من أبواب جهاد العدو، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 672

زلّت به النعل يوما فاحتاج إلى معونتهم فشرّ خدين و ألأم خليل.» «1»

أقول: طار به: قرب منه. و السمر محركة: الليل و حديثه. و السمير: الدهر و المسامر. و ما سمر سمير، أي ما اختلف الليل و النهار. و المقصود أنّي لا أقرب منه و لا أفعله مدى الدهر. و الخدين: الصديق.

و في شرح ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح الخطبة، قال:

«و اعلم أنّ هذه مسألة فقهيّة، و رأي عليّ «ع» و أبي بكر فيها واحد و هو التسوية بين المسلمين في قسمة الفي ء و الصدقات، و إلى هذا ذهب الشافعي. و أمّا عمر فإنّه لمّا ولّى الخلافة فضّل بعض الناس على بعض: ففضل السابقين على غيرهم، و فضّل المهاجرين من قريش على غيرهم من المهاجرين، و فضّل المهاجرين كافّة على

الأنصار كافّة، و فضّل العرب على العجم، و فضّل الصريح على المولى. و قد كان أشار على أبي بكر أيّام خلافته بذلك فلم يقبل، و قال: إنّ اللّه لم يفضّل أحدا على أحد و لكنّه قال: «إِنَّمَا الصَّدَقٰاتُ لِلْفُقَرٰاءِ وَ الْمَسٰاكِينِ» و لم يخصّ قوما دون قوم، فلمّا أفضت إليه الخلافة عمل بما كان أشار به أوّلا. و قد ذهب كثير من فقهاء المسلمين إلى قوله، و المسألة محلّ اجتهاد، و للإمام أن يعمل بما يؤدّيه إليه اجتهاده، و إن كان اتّباع عليّ «ع» عندنا أولى، و لا سيّما إذا عضده موافقة أبي بكر على المسألة. و إن صحّ الخبر أنّ رسول اللّه «ص» سوّى فقد صارت المسألة منصوصا عليها لأنّ فعله «ع» كقوله.» «2» انتهى كلام ابن أبي الحديد.

أقول: لا يخفى أنّ محلّ البحث في التسوية و التفضيل هو العطايا المعطاة مجانا من الفي ء و الصدقات في غير المؤلفة قلوبهم لحاجة الأشخاص، و واضح أنّه لا وجه للتفضيلات الّتي ذكروها في ذلك كتفضيل الأسود على الأحمر، أو العرب على

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 389؛ عبده 2/ 10؛ لح/ 183، الخطبة 126. و في الصالح و الفيض: «لا أطور»، و في الصالح: «فشرّ خليل و ألأم خدين».

(2)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 8/ 111.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 673

العجم و نحو ذلك. بل و السوابق الحسنة و الفضائل العلميّة و القربات عند اللّه- تعالى- أيضا لا توجب التفضيل في العطايا الملحوظ فيها رفع الحاجة في المعيشة، بل فضائلهم بينهم و بين اللّه كما في الخبر الآتي. نعم، كثرة الحاجة و العائلة تكون ملاكا للتفضيل في ذلك.

و أمّا استخدام

الأشخاص و استيجارهم لأعمال خاصّة فهو تابع لقيمة العمل في المجتمع. و قيمة الأعمال و التخصّصات لا محالة تختلف حسب الأصقاع و الأزمنة كما هو واضح. فاللازم فيه إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه حتّى تنتظم الأمور.

6- و في الوسائل عن الشيخ بسنده، عن حفص بن غياث، قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول- و سئل عن قسم بيت المال- فقال: «أهل الإسلام هم أبناء الإسلام أسوّي بينهم في العطاء و فضائلهم بينهم و بين اللّه، أجعلهم كبني رجل واحد، لا يفضّل أحد منهم لفضله و صلاحه في الميراث على آخر ضعيف منقوص. قال: و هذا هو فعل رسول اللّه «ص» في بدو أمره. و قد قال غيرنا: أقدّمهم في العطاء بما قد فضّلهم اللّه بسوابقهم في الإسلام إذا كان بالإسلام قد أصابوا ذلك فأنزلهم على مواريث ذوي الأرحام بعضهم أقرب من بعض و أوفر نصيبا لقربه من الميّت، و إنّما ورثوا برحمهم، و كذلك كان عمر يفعله.» «1»

7- و في نهج البلاغة من كلام له «ع» كلّم به عبد اللّه بن زمعة و هو من شيعته، و ذلك أنّه قدم عليه في خلافته يطلب منه مالا فقال «ع»: «إنّ هذا المال ليس لي و لا لك، و إنّما هو في ء للمسلمين و جلب أسيافهم، فإن شركتهم في حربهم كان لك مثل حظّهم، و إلّا فجناة أيديهم لا تكون لغير أفواههم.» «2»

[عتاب على ع في حفظ بيت المال]

8- و فيه أيضا من كتاب له «ع» إلى زياد بن أبيه، و هو خليفة عامله:

عبد اللّه بن عباس على البصرة- و عبد اللّه عامل أمير المؤمنين «ع» يومئذ عليها و على كور الأهواز و فارس و كرمان-: «و إنّي أقسم باللّه قسما صادقا

لئن بلغني أنّك خنت من في ء

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 81، الباب 39 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 3.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 728؛ عبده 2/ 253؛ لح/ 353، الخطبة 232.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 674

المسلمين شيئا صغيرا أو كبيرا لأشدّن عليك شدّة تدعك قليل الوفر ثقيل الظهر ضئيل الأمر، و السلام.» «1»

أقول: في ء المسلمين ما لهم من غنيمة أو خراج. و الوفر: المال الواسع. و الضئيل:

الضعيف النحيف. فهو «ع» هدّده بأخذ المال و مصادرته ليرجع إلى أهله.

9- و فيه أيضا من كتاب له «ع» إلى مصقلة بن هبيرة الشيباني، و هو عامله على أردشير خرّة: «بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت إلهك، و أغضبت إمامك: أنّك تقسم في ء المسلمين الذي حازته رماحهم و خيولهم، و أريقت عليه دماؤهم، فيمن اعتامك من أعراب قومك، فو الذي فلق الحبّة و برأ النسمة، لئن كان ذلك حقّا لتجدنّ بك عليّ هوانا، و لتخفنّ عندي ميزانا، فلا تستهن بحقّ ربّك، و لا تصلح دنياك بمحق دينك، فتكون من الأخسرين أعمالا. ألا و إنّ حقّ من قبلك و قبلنا من المسلمين في قسمة هذا الفي ء سواء، يردون عندي عليه، و يصدرون عنه.» «2»

أقول: أردشير خرّة بضم الخاء و تشديد الراء: كورة من كور فارس، و الظاهر أنّه ما يسمّى في عصرنا «فيروزآباد». و أردشير خرّة أصله: فرّه أردشير. اعتام: اختار العيمة، أي خيار المال. و اعتامك: اختارك. و القبل بكسر ففتح: ظرف بمعنى عند.

[حساب علي ع عاملي بيت المال]

10- و فيه أيضا و من كتاب له «ع» إلى بعض عمّاله: «أمّا بعد، فقد بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت ربّك، و عصيت إمامك، و أخزيت

أمانتك. بلغني أنّك جرّدت الأرض فأخذت ما تحت قدميك، و أكلت ما تحت يديك فارفع إليّ حسابك، و اعلم أنّ حساب اللّه أعظم من حساب الناس، و السلام.» «3»

و لعلّ المخاطب في الكتاب هو ابن عباس، كما يأتي بيانه في الكتاب التالي.

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 870؛ عبده 3/ 22؛ لح/ 377، الكتاب 20.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 961؛ عبده 3/ 76؛ لح/ 415، الكتاب 43.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 955؛ عبده 3/ 72؛ لح/ 412، الكتاب 40.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 675

11- و فيه أيضا من كتاب له «ع» إلى بعض عمّاله: «أمّا بعد، فإنّي كنت أشركتك في أمانتي، و جعلتك شعاري و بطانتي، و لم يكن رجل من أهلي أوثق منك في نفسي لمواساتي و موازرتي و أداء الأمانة إليّ، فلمّا رأيت الزمان على ابن عمّك قد كلب، و العدوّ قد حرب، و أمانة الناس قد خزيت، و هذه الأمّة قد فنكت و شغرت، قلبت لابن عمّك ظهر المجن ففارقته مع المفارقين و خذلته مع الخاذلين، و خنته مع الخائنين، فلا ابن عمّك آسيت، و لا الأمانة أدّيت، و كأنّك لم تكن اللّه تريد بجهادك، و كأنّك لم تكن على بيّنة من ربّك، و كأنّك إنّما كنت تكيد هذه الأمّة عن دنياهم، و تنوي غرّتهم عن فيئهم، فلمّا أمكنتك الشدّة في خيانة الأمّة أسرعت الكرّة و عاجلت الوثبة، و اختطفت ما قدرت عليه من أموالهم المصونة لأراملهم و أيتامهم اختطاف الذئب الأزلّ دامية المعزى الكسيرة، فحملته إلى الحجاز رحيب الصدر بحمله غير متأثّم من أخذه كأنّك- لا أبا لغيرك- صدرت إلى أهلك تراثا من أبيك و أمّك. فسبحان اللّه! أما

تؤمن بالمعاد؟ أو ما تخاف نقاش الحساب؟

أيّها المعدود- كان- عندنا من ذوي الألباب كيف تسيغ شرابا و طعاما و أنت تعلم أنّك تأكل حراما و تشرب حراما؟ و تبتاع الإماء و تنكح النساء من مال اليتامى و المساكين و المؤمنين و المجاهدين الذين أفاء اللّه عليهم هذه الأموال و أحرز بهم هذه البلاد؟!!

فاتّق اللّه و اردد إلى هؤلاء القوم أموالهم، فإنّك إن لم تفعل ثمّ أمكنني اللّه منك لأعذرنّ إلى اللّه فيك، و لأضربنّك بسيفي الذي ما ضربت به أحدا إلّا دخل النار!

و اللّه لو أنّ الحسن و الحسين فعلا مثل الذي فعلت ما كانت لهما عندي هوادة، و لا ظفرا منّى بإرادة حتّى آخذ الحقّ منهما و أزيل الباطل عن مظلمتهما. و أقسم باللّه رب العالمين: ما يسرّني أنّ ما أخذته من أموالهم حلال لي أتركه ميراثا لمن بعدي، فضحّ رويدا فكأنّك قد بلغت المدى، و دفنت تحت الثرى، و عرضت عليك أعمالك بالمحل الذي ينادي الظالم فيه بالحسرة، و يتمنّى المضيّع فيه الرجعة، و لات حين مناص.» «1»

أقول: أشركتك في أمانتي، المراد بها بيت المال الذي في يده، أو أمر الولاية،

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 956؛ عبده 3/ 72؛ لح/ 412، الكتاب 41.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 676

و قد كتب هو «ع» إلى أشعث بن قيس عامله على آذربيجان: «إنّ عملك ليس لك بطعمة و لكنّه في عنقك أمانة.» «1» و الشعار بالفتح و الكسر: ما يلي الشعر من الثياب.

و بطانة الرجل: خاصّته. و كلب الرجل: اشتدّ. و حرب العدوّ: استأسد و اشتدّ غضبه. و خزيت أمانة الناس: هانت. و الفنك: التعدّي و الغلبة بلا حقّ. و شغرت

الأمّة: خلت من الخير و قيل: تفرّقت. و ظهر المجنّ في الحرب يكون إلى طرف العدوّ فإذا قلبه فكأنّه صار مع العدوّ. و أسرعت الكرّة: أي حملت على أموال الناس. و الذئب الأزلّ: خفيف الوركين، فإنّها أسرع لوثبته. و الدامية: المجروحة المدمية. و التأثّم:

التحرّز من الإثم. و الهوادة: المصالحة و المصانعة. فضحّ رويدا: أمر بالاناة و السكون.

قالوا و أصلها الرجل يطعم إبله ضحى و يسيرها مسرعا ليسير فلا يشبعها، فيقال له:

ضحّ رويدا. هذا.

و لعلّ المخاطب في هذا الكتاب و الذي قبله شخص واحد.

و اختلف في المراد منه: فقيل إنّه عبيد اللّه بن عباس عامله «ع» على اليمن و الذي لحق في نهاية الأمر بمعاوية. و قيل إنّه عبد اللّه بن عباس عامله على البصرة و الأهواز و فارس و ملازمه في أكثر ملاحمه و حروبه.

و ربّما يشهد لهذا القول التعبيرات الواردة في الكتاب من قوله «ع»: «أشركتك في أمانتي و جعلتك شعاري و بطانتي و لم يكن في أهلي رجل أوثق منك في نفسي»، و قوله: «قلبت لابن عمّك»، و قوله: «فلا ابن عمّك آسيت»، و قوله: «أيّها المعدود- كان- عندنا من ذوي الألباب» إلى غير ذلك من تعبيرات الكتاب.

و روى الكشّي في عبد اللّه بن عباس بسنده عن الزهري، قال:

«سمعت الحارث يقول: استعمل عليّ «ع» على البصرة عبد اللّه بن عبّاس، فحمل كلّ مال في بيت المال بالبصرة و لحق بمكّة و ترك عليّا «ع»، و كان مبلغه ألفي ألف درهم، فصعد عليّ «ع» المنبر حين بلغه ذلك فبكا فقال: «هذا ابن عمّ رسول اللّه «ص» في علمه و قدره يفعل مثل هذا فكيف يؤمن من كان دونه، اللّهم إنّي

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/

839؛ عبده 3/ 7؛ لح/ 366، الكتاب 5.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 677

قد مللتهم فأرحني منهم و اقبضني إليك غير عاجز و لا ملول.»

قال الكشّي:

قال شيخ من أهل اليمامة يذكر عن معلى بن هلال، عن الشعبي قال: لما احتمل عبد اللّه بن عباس بيت مال البصرة و ذهب به إلى الحجاز كتب إليه علي بن أبي طالب- و ذكر قريبا من الكتاب الذي مرّ من نهج البلاغة. ثمّ قال-:

فكتب إليه عبد اللّه بن عباس: «أمّا بعد، فقد أتاني كتابك تعظم عليّ إصابة المال الذي أخذته من بيت مال البصرة، و لعمري إنّ لي في بيت مال اللّه أكثر ممّا أخذت، و السّلام.»

قال: فكتب إليه عليّ بن أبي طالب «ع»: «أمّا بعد، فالعجب كلّ العجب من تزيين نفسك أنّ لك في بيت مال اللّه أكثر ممّا أخذت و أكثر ممّا لرجل من المسلمين، فقد أفلحت إن كان تمنّيك الباطل و ادعاؤك ما لا يكون، ينجيك من الإثم و يحلّ لك ما حرّم اللّه عليك، عمّرك اللّه إنّك لأنت العبد المهتدى إذن، فقد بلغني أنّك اتّخذت مكّة وطنا، و ضربت بها عطنا تشتري مولّدات مكّة و الطائف، تختارهنّ على عينك و تعطي فيهنّ مال غيرك. و إنّي لأقسم باللّه ربّي و ربّك ربّ العزّة ما يسرّني أنّ ما أخذت من أموالهم لي حلال أدعه لعقبى ميراثا، فلا غرور أشد باغتباطك بأكله رويدا رويدا، فكأنّ قد بلغت المدى و عرضت على ربّك و المحلّ الذي تتمنّى الرجعة، و المضيّع للتوبة كذلك، و ما ذلك و لات حين مناص. و السلام.»

قال: فكتب إليه عبد اللّه بن عباس: «أمّا بعد، فقد

أكثرت عليّ، فو اللّه لأن ألقى اللّه بجميع ما في الأرض من ذهبها و عقيانها أحبّ إليّ من أن ألقى اللّه بدم رجل مسلم.» «1» انتهى كلام الكشي.

و روى قريبا من ذلك ابن أبي الحديد في الشرح، فراجع «2».

أقول: ليس المقام مقام تحقيق هذه المسألة التاريخيّة و بيان صحّتها و سقمها،

______________________________

(1)- اختيار معرفة الرجال/ 60- 62.

(2)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16/ 170.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 678

و ربّما يخطر ببعض الأذهان أنّ حبر الأمّة و عالمها و من روي أنّه دعا له النّبيّ «ص» بالفقه و الحكمة و التأويل، و عرف حاله في المحبّة و الإخلاص لأمير المؤمنين «ع» و النصر له و الذبّ عنه في المواقف الخطيرة كيف يمكن أن يصدر عنه هذه الخيانة!! و كلّ من يقرأ التواريخ و السير يظهر له ثناؤه الدائم لأمير المؤمنين «ع» و ذكره لفضائله و مناقبه، و خصامه و مشاقته لمعاوية حتّى بعد شهادة أمير المؤمنين «ع» و قد كان معاوية يستميل الأشخاص و يجتذبهم بالأموال كما اجتذب عبيد اللّه أخاه و لم يسمع ميل عبد اللّه إلى ساحته أبدا، فيعلم بذلك طهارة ذيله و كذب القصّة. هذا.

و لكن نقول: الروايات التي نقلنا بعضها من الكشي أخبار ضعاف بل و يعلم عداوة بعض رواتها لأهل البيت فلا يعتمد عليها، و لكن ما حكاه السيد الرضي «ره» في نهج البلاغة قد أطبقت الرواة على روايته و ذكر في أكثر كتب السير كما في شرح ابن أبي الحديد، و يشكل حمله على أخيه عبيد اللّه مع ما فيه من القرائن التي مرّت.

و الذي يسهّل الخطب أنّ ابن عباس مع جلالته و

عظم قدره لم يكن عندنا معصوما، و لعلّه بعد ما أيس من دوام الحكومة العادلة الحقة و اطمأنّ بأنّ الحكومة سوف تقع في أيدي الأعداء و قد علم سجيّة بني أميّة و شيمتهم و أنّهم لا محالة ينتقمون يوما من بني هاشم و يمنعونهم حقوقهم و يضيّقون الأمر عليهم قد فكّر في ادّخار بيت المال ليوم الشدّة و المآل، و النفس أمارة بالسوء إلّا ما رحم اللّه و من شأنها دائما التوجيه و التبرير، و قد كفى المرء نبلا أن تعدّ معايبه كما قيل.

و هل لم نر في جميع الأعصار من رجال العلم و الدين رجالا كانوا مخلصين ملتزمين و لكن بعد ما أقبلت الدنيا إليهم و صاروا مراجع للأموال العامّة وقع منهم أو من بعض حواشيهم و أولادهم ما لم يكن يترقّب من الإسراف و التبذير و ادّخار الأموال العامّة و الاستبداد بها في ضوء بعض التوجيهات؟ فنعوذ باللّه من وساوس النفس و هواجسها. هذا.

و لكن بعد اللتيا و التي يشكل الجزم بكون المخاطب في الخطبتين هو عبد اللّه بن

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 679

عباس، و ليس لتعقيب الموضوع أثر عمليّ شرعيّ، و اللّه العالم بالأمور.

[طلب عقيل زيادة عن حقه من بيت المال]

12- و في نهج البلاغة أيضا: «و اللّه لأن أبيت على حسك السعدان مسهّدا و أجرّ في الأغلال مصفّدا، أحبّ إليّ من أن ألقى اللّه و رسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد و غاصبا لشي ء من الحطام، و كيف أظلم أحدا لنفس يسرع إلى البلى قفولها و يطول في الثرى حلولها؟! و اللّه لقد رأيت عقيلا و قد أملق حتّى استماحني من برّكم صاعا، و رأيت صبيانه شعث الشعور غير الألوان

من فقرهم كأنّما سوّدت وجوههم بالعظلم، و عاودني مؤكّدا و كرّر عليّ القول مرددا، فأصغيت إليه سمعي فظنّ أني أبيعه ديني و أتبع قياده مفارقا طريقتي، فأحميت له حديدة ثمّ أدنيتها من جسمه ليعتبر بها، فضجّ ضجيج ذي دنف من ألمها، و كاد أن يحترق من ميسمها، فقلت له: ثكلتك الثواكل يا عقيل، أ تئنّ من حديدة أحماها إنسانها للعبه، و تجرّني إلى نار سجرها جبّارها لغضبه؟! أ تئن من الأذى و لا أئنّ من لظى؟!

و أعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة في وعائها و معجونة شنئتها كأنّما عجنت بريق حيّة أو قيئها، فقلت: أ صلة أم زكاة أم صدقة؟ فذلك محرّم علينا أهل البيت فقال: لا ذا و لا ذاك و لكنّها هديّة، فقلت هبلتك الهبول، أ عن دين اللّه أتيتني لتخدعني؟ أ مختبط أم ذو جنّة أم تهجر؟

و اللّه لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي اللّه في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت (ما فعلته خ. ل)، و إن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها، ما لعليّ و لنعيم يفنى، و لذّة لا تبقى؟! نعوذ باللّه من سبات العقل و قبح الزلل و به نستعين.» «1»

أقول: و إنّما ذكرنا الخطبة بتمامها، لاشتمالها على ما ينبغي لكلّ من يتصدّى للولاية العامّة و يتسلّط على الأموال العامّة و بيت مال المسلمين أن يلاحظها و يطالعها و يجعلها نصب عينيه و يعتبر بها.

و السعدان بالفتح: نبت له شوك و يقال له: حسك السعدان، و تشبّه به حلمة الثدي. و المسهّد: الأرق و القليل النوم. و المصفّد: المقيّد. و القفول: الرجوع.

و الاستماحة: طلب العطيّة. و العظلم كزبرج: نبت يصبغ به

ما يراد اسوداده.

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 713؛ عبده 2/ 243؛ لح/ 346، الخطبة 224.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 680

و سجّرها: أوقدها. و الظاهر أن قوله: فذلك محرّم إشارة إلى الزكاة و الصدقة. و كذلك قول الأشعث: لاذا و لا ذاك، و على هذا فالمراد بالهدية و الصلة واحد. و الهبول بالفتح: المرأة التي اعتادت بثكل الولد. و جلب الشعيرة بالضم و قيل بالكسر:

قشرها.

و في شرح ابن أبي الحديد:

«قوله: «بملفوفة في وعائها» كان أهدى له الأشعث بن قيس نوعا من الحلواء تأنق فيه. و كان- عليه السلام- يبغض الأشعث، لأنّ الأشعث كان يبغضه، و ظنّ الأشعث أنّه يستميله بالمهاداة لغرض دنيوي كان في نفس الأشعث. و كان أمير المؤمنين «ع» يفطن لذلك و يعلمه، و لذلك ردّ هدية الأشعث، و لو لا ذلك لقبلها، لأنّ النّبيّ «ص» قبل الهدية، و قد قبل عليّ «ع» هدايا جماعة من أصحابه.

و دعاه بعض من كان يأنس إليه إلى حلواء عملها يوم نوروز فأكل و قال: لم عملت هذا؟ فقال: لأنّه يوم نوروز: فضحك و قال: نورزوا لنا في كلّ يوم إن استطعتم.» «1»

13- و في شرح ابن أبي الحديد: «سأل معاوية عقيلا عن قصّة الحديدة المحماة المذكورة. فبكى و قال: أنا أحدثك يا معاوية عنه «ع»، ثمّ أحدّثك عمّا سألت:

نزل بالحسين ابنه ضيف فاستسلف درهما اشترى به خبزا، و احتاج إلى الإدام فطلب من قنبر خادمهم أن يفتح له زقّا من زقاق عسل جاءتهم من اليمن فأخذ منه رطلا، فلمّا طلبها- عليه السلام- ليقسّمها، قال: يا قنبر، أظنّ أنّه حدث بهذا الزقّ حدث، فأخبره، فغضب- عليه السلام- و قال: عليّ بحسين! فرفع عليه

الدرّة فقال: بحقّ عمّي جعفر- و كان إذا سئل بحق جعفر سكن- فقال له: ما حملك أن أخذت منه قبل القسمة؟ قال:

إنّ لنا فيه حقّا، فإذا أعطيناه رددناه. قال: فداك أبوك! و إن كان لك فيه حقّ فليس لك أن تنتفع بحقّك قبل أن ينتفع المسلمون بحقوقهم! أما لو لا أنّي رأيت رسول اللّه «ص» يقبّل ثنيتك لأوجعتك ضربا. ثمّ دفع إلى قنبر درهما كان مصرورا في ردائه و قال: اشتر به خير عسل تقدر عليه.

______________________________

(1)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11/ 247.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 681

قال عقيل: و اللّه لكأنّي أنظر إلى يدي عليّ، و هي على فم الزقّ، و قنبر يقلب العسل فيه، ثمّ شدّه و جعل يبكي، و يقول: اللّهم اغفر لحسين فإنّه لم يعلم!

فقال معاوية: ذكرت من لا ينكر فضله، رحم اللّه أبا حسن، فلقد سبق من كان قبله، و أعجز من يأتي بعده! هلم حديث الحديدة.

قال: نعم، أقويت و أصابتني مخمصة شديدة، فسألته فلم تند صفاته فجمعت صبياني و جئته بهم، و البؤس و الضرّ ظاهران عليهم، فقال: ايتني عشيّة لأدفع إليك شيئا.

فجئته يقودني أحد ولدى، فأمره بالتنحّي، ثمّ قال: ألا فدونك. فأهويت حريصا قد غلبني الجشع- أظنّها صرّة- فوضعت يدي على حديدة تلتهب نارا، فلمّا قبضتها نبذتها و خرت كما يخور الثور تحت يد جازره، فقال لي: ثكلتك أمّك! هذا من حديدة أوقدت لها نار الدنيا، فكيف بك و بي غدا إن سلكنا في سلاسل جهنّم. ثمّ قرأ: «إذ الأغلال في أعناقهم و السلاسل يسحبون.»

ثمّ قال: ليس لك عندي فوق حقّك الذي فرضه اللّه لك إلّا ما ترى، فانصرف إلى

أهلك.

فجعل معاوية يتعجّب و يقول: هيهات هيهات! عقمت النساء أن يلدن مثله.» «1»

أقول: و روى نظير قصّة الحسين و العسل في المناقب «2» عن الفائق في شأن الحسن بن علي «ع»، و لعلّهما واحدة وقع في إحداهما تصحيف.

و رواه في البحار عن المناقب، فراجع «3».

[عطاء الحسن ع للعقيل من ماله]

14- و في المناقب عن جمل أنساب الأشراف: «و قدّم عليه عقيل فقال للحسن: اكس عمّك. فكساه قميصا من قمصه و رداء من أرديته، فلمّا حضر العشاء فإذا هو خبز و ملح فقال عقيل: ليس إلّا ما أرى؟ فقال: أو ليس هذا من نعمة اللّه فله الحمد كثيرا. فقال: أعطني ما أقضى به ديني و عجّل سراحي حتّى أرحل عنك،

______________________________

(1)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11/ 253.

(2)- المناقب لابن شهرآشوب 1/ 375.

(3)- بحار الأنوار 41/ 112، تاريخ أمير المؤمنين «ع»، الباب 107 (باب جوامع مكارم أخلاقه)، الحديث 22.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 682

قال: فكم دينك يا أبا يزيد؟ قال: مأئة ألف درهم. قال: و اللّه ما هي عندي و لا أملكها و لكن اصبر حتّى يخرج عطائي فأواسيكه، و لو لا أنّه لا بدّ للعيال من شي ء لأعطيتك كلّه، فقال عقيل:

بيت المال في يدك و أنت تسوّفني إلى عطائك! و كم عطاؤك و ما عسى يكون و لو أعطيتنيه كلّه؟! فقال: ما أنا و أنت فيه إلّا بمنزلة رجل من المسلمين. و كانا يتكلّمان فوق قصر الإمارة مشرفين على صناديق أهل السوق. فقال له عليّ «ع»: إن أبيت يا أبا يزيد ما أقول فانزل إلى بعض هذه الصناديق فاكسر أقفاله و خذ ما فيه. فقال: و ما في هذه الصناديق؟ قال: فيها أموال

التجّار.

قال: أ تأمرني ان أكسر صناديق قوم قد توكّلوا على اللّه و جعلوا فيها أموالهم؟

فقال أمير المؤمنين «ع»: أ تأمرني أن أفتح بيت مال المسلمين فأعطيك أموالهم و قد توكّلوا على اللّه و أقفلوا عليها؟ و إن شئت أخذت سيفك و أخذت سيفي و خرجنا جميعا إلى الحيرة فإن بها تجّارا مياسير فدخلنا على بعضهم فأخذنا ماله. فقال: أو سارقا جئت؟! قال: تسرق من واحد خير من أن تسرق من المسلمين جميعا. قال له: أ فتأذن لي أن أخرج إلى معاوية؟ فقال له:

قد أذنت لك. قال: فأعنّي على سفري هذا. قال: يا حسن أعط عمّك أربعمائة درهم فخرج عقيل و هو يقول:

سيغنيني الذي أغناك عنّي و يقضي ديننا ربّ قريب.

و ذكر عمرو بن العاص (عمرو بن العلاء- البحار) أن عقيلا لمّا سأل عطاءه من بيت المال، قال له أمير المؤمنين «ع»: تقيم إلى يوم الجمعة. فأقام فلمّا صلّى أمير المؤمنين «ع» الجمعة قال لعقيل: «ما تقول فيمن خان هؤلاء أجمعين؟ قال: بئس الرجل ذاك. قال: فأنت تأمرني أن أخون هؤلاء و أعطيك.» و رواه عنه في البحار. «1»

[علي ع و إطفاء سراج بيت المال]

15- و فيه أيضا: «و سمعت مذاكرة أنّه دخل عليه عمرو بن العاص ليلة و هو في بيت المال، فطفئ السراج و جلس في ضوء القمر، و لم يستحلّ أن يجلس في الضوء من

______________________________

(1)- المناقب لابن شهرآشوب 1/ 376؛ و رواه في بحار الأنوار 41/ 113، تاريخ أمير المؤمنين «ع»، الباب 107 (باب جوامع مكارم أخلاقه)، الحديث 23.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 683

غير استحقاق.» «1»

16- و في تعليقات إحقاق الحقّ عن كتاب المناقب المرتضوية، قال: «كان أمير المؤمنين عليّ

«ع» دخل ليلة في بيت المال يكتب قسمة الأموال فورد عليه طلحة و زبير فأطفأ السراج الذي بين يديه و أمر بإحضار سراج آخر من بيته فسألاه عن ذلك فقال: كان زيته من بيت المال لا ينبغي أن نصاحبكم في ضوئه.» «2»

[انتزع الحلل من الناس و ردّها في البزّ]

17- و في المناقب أيضا عن تاريخ الطبري و فضائل أمير المؤمنين عن ابن مردويه أنّه لمّا أقبل من اليمن تعجّل إلى النّبيّ «ص» و استخلف على جنده الذين معه رجلا من أصحابه فعمد ذلك الرجل فكسا كلّ رجل من القوم حلّة من البزّ الذي كان مع عليّ «ع» فلمّا دنى جيشه خرج عليّ «ع» ليتلقّاهم فإذا هم عليهم الحلل، فقال: ويلك ما هذا؟ قال: كسوتهم ليتجمّلوا إذا قدموا في الناس. قال:

ويلك، من قبل أن ينتهي إلى رسول اللّه «ص»؟! قال: فانتزع الحلل من الناس و ردّها في البزّ.

و أظهر الجيش شكاية لما صنع بهم.

ثمّ روى عن الخدري أنّه قال: شكا الناس عليّا فقام رسول اللّه «ص» خطيبا فقال: «أيّها الناس، لا تشكوا عليّا، فو اللّه إنّه لخشن في ذات اللّه.» «3»

[طلحة و الزبير جاءا إلى أمير المؤمنين «ع» ليزيد في حقّهم]

18- و فيه أيضا: «و في رواية عن أبي الهيثم بن التيهان و عبد اللّه بن أبي رافع أنّ طلحة و الزبير جاءا إلى أمير المؤمنين «ع» و قالا: ليس كذلك كان يعطينا عمر.

قال: فما كان يعطيكما رسول اللّه «ص»؟ فسكتا. قال: أ ليس كان رسول اللّه «ص» يقسّم بالسّويّة بين المسلمين؟ قالا: نعم. قال: «فسنّة رسول اللّه «ص» أولى بالاتباع عندكم أم سنّة عمر؟

قالا: سنّة رسول اللّه. يا أمير المؤمنين، لنا سابقة و عناء و قرابة. قال: سابقتكما أقرب أم سابقتي؟ قالا: سابقتك. قال: فقرابتكما أم قرابتي؟ قالا: قرابتك. قال: فعناؤكما أعظم من

______________________________

(1)- المناقب لابن شهرآشوب 1/ 377.

(2)- إحقاق الحق 8/ 539.

(3)- المناقب لابن شهرآشوب 1/ 377.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 684

عنائي؟ قالا: عناؤك. قال: فو اللّه ما أنا و أجيري هذا إلّا بمنزلة واحدة.

و أومى بيده إلى الأجير.» «1»

و روى نحوه في المستدرك عن دعائم الإسلام. و في هذا الباب من المستدرك روايات أخر تناسب المقام، فراجع «2».

[إحدى بنات أمير المؤمنين «ع» استعارت من أمين بيت المال]

19- و في التهذيب و الوسائل في حديث أنّ إحدى بنات أمير المؤمنين «ع» استعارت من أمين بيت المال علي بن أبي رافع عقد لؤلؤ كان فيه عارية مضمونة، فقال له أمير المؤمنين «ع»: «أ تخون المسلمين؟» فقال: معاذ اللّه أن أخون المسلمين.

فقال: كيف أعرت بنت أمير المؤمنين العقد الذي في بيت مال المسلمين بغير أذني و رضاهم؟

فقال: يا أمير المؤمنين، إنّها ابنتك و سألتني أن أعيرها إيّاه تتزيّن به فأعرتها إيّاه عارية مضمونة مردودة فضمنته في مالي و عليّ أن أردّه سليما إلى موضعه. قال:

فردّه من يومك، و إيّاك أن تعود لمثل هذا فتنالك عقوبتي ثمّ أولى لابنتي لو كانت أخذت العقد على غير عارية مضمونة مردودة لكانت إذا أول هاشميّة قطعت يدها في سرقة. قال: فبلغ مقالته ابنته فقالت له: يا أمير المؤمنين، أنا ابنتك و بضعة منك، فمن أحقّ بلبسه منّي؟

فقال لها أمير المؤمنين «ع»: يا بنت علي بن أبي طالب، لا تذهبنّ بنفسك عن الحقّ، أ كلّ نساء المهاجرين تتزين في هذا العيد بمثل هذا؟! قال: فقبضته منها و رددته إلى موضعه «3».

[لا يحلّ للخليفة من مال اللّه إلّا قصعتان]

20- و في كنز العمّال عن عليّ «ع»، قال: «لا يحلّ للخليفة من مال اللّه إلّا قصعتان: قصعة يأكلها هو و أهله، و قصعة يطعمها.» (كر) «4».

21- و فيه أيضا عن عليّ «ع»، قال: سمعت رسول اللّه «ص» يقول: «لا يحلّ للخليفة من مال اللّه إلّا قصعتان: قصعة يأكل منها هو و أهله، و قصعة يضعها بين يدي الناس.»

______________________________

(1)- المناقب لابن شهرآشوب 1/ 378.

(2)- مستدرك الوسائل 2/ 260، الباب 35 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.

(3)- تهذيب الأحكام 10/ 151، كتاب الحدود، باب الزيادات، الحديث 37؛ و

الوسائل 18/ 521، الباب 26 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 1.

(4)- كنز العمال 5/ 773، الباب 2 من كتاب الخلافة مع الإمارة من قسم الأفعال، الحديث 14348.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 685

(كرحم) «1». و رواهما ابن عساكر في تاريخه، فراجع «2».

[بيع علي ع سيفه لأربعة دراهم]

22- و في تاريخ ابن عساكر بسنده عن مجمع التيمي، قال: خرج عليّ بن أبي طالب «ع» بسيفه إلى السوق فقال: «من يشتري منّي سيفي هذا؟ فلو كان عندي أربعة دراهم أشتري بها إزارا ما بعته.» «3»

[ما بنى عليّ آجرّة على آجرّة و لا لبنة على لبنة]

23- و فيه أيضا بسنده عن سفيان، يقول: «ما بنى عليّ آجرّة على آجرّة و لا لبنة على لبنة و لا قصبة على قصبة، و إن كان ليؤتى بحبوبه من المدينة في جراب.» «4»

[ما قال أمير المؤمنين «ع» حين التوجّه إلى الكوفة]

24- و في كتاب الجمل للشيخ المفيد: «روى أبو مخنف لوط بن يحيى عن رجاله، قال: لما أراد أمير المؤمنين «ع» التوجّه إلى الكوفة قام في أهل البصرة فقال:

ما تنقمون عليّ يا أهل البصرة؟ و أشار إلى قميصه و ردائه فقال: و اللّه إنّهما لمن غزل أهلي، ما تنقمون منّي يا أهل البصرة؟ و أشار إلى صرّة في يده فيها نفقته فقال: و اللّه ما هي إلّا من غلّتي بالمدينة فإن أنا خرجت من عندكم بأكثر ممّا ترون فأنا عند اللّه من الخائنين.» «5»

25- و في كتاب الغارات بإسناده عن بكر بن عيسى، قال: كان عليّ «ع» يقول: «يا أهل الكوفة، إذا أنا خرجت من عندكم بغير رحلي و راحلتي و غلامي فأنا خائن.

و كانت نفقته تأتيه من غلّته بالمدينة من ينبع. و كان يطعم الناس الخبز و اللّحم و يأكل من الثريد بالزيت. الحديث.» و رواه ابن أبي الحديد في الشرح «6».

[ما قال عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب لعليّ «ع»]

26- و في الغارات أيضا بسنده عن حبيب بن أبي ثابت، قال: قال عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب لعليّ «ع»: يا أمير المؤمنين، لو أمرت لي بمعونة أو نفقة، فو اللّه

______________________________

(1)- كنز العمال 5/ 773، الباب 2 من كتاب الخلافة مع الإمارة من قسم الأفعال، الحديث 14349.

(2)- تاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام علي بن أبي طالب 3/ 187.

(3)- تاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام علي بن أبي طالب 3/ 189.

(4)- تاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام علي بن أبي طالب 3/ 188.

(5)- الجمل/ 224.

(6)- الغارات 1/ 68؛ و شرح البلاغة لابن أبي الحديد 2/ 200.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 686

ما عندي إلّا أن أبيع بعض

علوفتي، قال له: لا و اللّه، ما أجد لك شيئا إلّا أن تأمر عمّك أن يسرق فيعطيك.» «1»

أقول: عن المجلسي «ره» أن العلوفة: الناقة أو الشاة تعلفها و لا ترسلها فترعى «2».

و روى الرواية ابن أبي الحديد، إلّا أنّه قال: «إلّا أن أبيع دابّتي.» «3»

[التسوية بين العرب و العجم]

27- و في الغارات أيضا بسنده عن ابي اسحاق الهمداني: «أنّ امرأتين أتتا عليّا «ع» عند القسمة إحداهما من العرب و الأخرى من الموالي، فأعطى كلّ واحدة خمسة و عشرين درهما و كرّا من الطعام، فقالت العربيّة: يا أمير المؤمنين، إنّي امرأة من العرب، و هذه امرأة من العجم؟! فقال عليّ «ع»: إنّي و اللّه لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفي ء فضلا على بني إسحاق.» و رواه عنه في الوسائل. و روى نحوه ابن أبي الحديد. «4»

28- و في شرح ابن أبي الحديد:

«روى عليّ بن محمّد بن أبي يوسف المدائني عن فضيل بن الجعد قال: آكد الأسباب في تقاعد العرب عن أمير المؤمنين «ع» أمر المال، فإنّه لم يكن يفضّل شريفا على مشروف، و لا عربيا على عجميّ، و لا يصانع الرؤساء و أمراء القبائل كما يصنع الملوك و لا يستميل أحدا إلى نفسه. و كان معاوية بخلاف ذلك فترك الناس عليّا و التحقوا بمعاوية.» «5» هذا.

[تعويد ما ذهب من بيت المال إلى محلّه]

29- و في نهج البلاغة فيما ردّه «ع» على المسلمين من قطائع عثمان: «و اللّه لو وجدته قد تزوّج به النساء و ملك به الإماء لرددته، فإنّ في العدل سعة، و من ضاق عليه العدل

______________________________

(1)- الغارات 1/ 66.

(2)- الغارات ج 1 في ذيل ص 67.

(3)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2/ 200.

(4)- الغارات 1/ 69؛ و الوسائل 11/ 81، الباب 39 من أبواب جهاد العدو، الحديث 4؛ و شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2/ 200.

(5)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2/ 197.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 687

فالجور عليه أضيق.» «1»

أقول: و لعلّ المقصود أنّ في العدل سعة

الإمام و الأمّة معا، فإنّ الأمّة تطمئنّ نفوسها تحت لواء العدل فتنقاد قهرا للحكومة العادلة الحافظة لحقوقها، و بذلك يرى الحاكم أيضا سعة و راحة، و أمّا جور الحاكم فيوجب في المآل مخالفة الأمّة له و ثورتها عليه فيضيق الأمر على الإمام و الأمّة معا، فتدبّر.

و في شرح ابن أبي الحديد المعتزلي:

«القطائع ما يقطعه الإمام بعض الرعيّة من أرض بيت المال ذات الخراج و يسقط عنه خراجه، و يجعل عليه ضريبة يسيرة عوضا عن الخراج، و قد كان عثمان أقطع كثيرا من بني أميّة و غيرهم من أوليائه و أصحابه قطائع من أرض الخراج على هذه الصورة ...

و هذه الخطبة ذكرها الكلبي مرويّة مرفوعة إلى أبي صالح، عن ابن عباس «رض»: أنّ عليّا- عليه السلام- خطب في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة فقال: «ألا إنّ كلّ قطيعة أقطعها عثمان و كلّ مال أعطاه من مال اللّه فهو مردود في بيت المال، فإنّ الحقّ القديم لا يبطله شي ء، و لو وجدته و قد تزوّج به النساء و فرّق في البلدان لرددته إلى حاله، فإنّ في العدل سعة، و من ضاق عليه الحقّ فالجور عليه أضيق.» ...

قال الكلبي: «ثمّ أمر- عليه السلام- بكل سلاح وجد لعثمان في داره ممّا تقوّى به على المسلمين فقبض، و أمر بقبض نجائب كانت في داره من ابل الصدقة فقبضت، و أمر بقبض سيفه و درعه، و أمر أن لا يعرض لسلاح وجد له لم يقاتل به المسلمين، و بالكفّ عن جميع أمواله التي وجدت في داره و في غير داره، و أمر أن ترتجع الأموال التي أجاز بها عثمان حيث أصيبت أو أصيب أصحابها. فبلغ ذلك عمرو بن العاص- و كان

بأيلة من أرض الشام، أتاها حيث وثب الناس على عثمان فنزلها- فكتب إلى معاوية: ما كنت صانعا فاصنع إذ قشرك ابن أبي طالب من كلّ مال تملكه

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 66؛ عبده 1/ 42؛ لح/ 57، الخطبة 15.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 688

كما تقشر عن العصا لحاها.» «1»

30- و قال المسعودي في مروج الذهب:

«و انتزع عليّ «ع» أملاكا كانت لعثمان أقطعها جماعة من المسلمين، و قسم ما في بيت المال على الناس و لم يفضل أحدا على أحد.» «2»

31- و في دعائم الإسلام:

«روينا عن عليّ «ع» أنّه لمّا بايعه الناس أمر بكلّ ما كان في دار عثمان من مال و سلاح و كلّ ما كان من أموال المسلمين فقبضه، و ترك ما كان لعثمان ميراثا لورثته.» «3»

32- و فيه أيضا: «روينا عنه «ع» أنّه خطب الناس بعد أن بايعوه فقال في خطبته: «ألا و كلّ قطعة أقطعها عثمان أو مال أعطاه من مال اللّه فهو ردّ على المسلمين في بيت ما لهم، فإنّ الحقّ لا يذهبه الباطل، و الذي فلق الحبّة و برئ النسمة لو وجدته قد تزوّج به النساء و تفرّق في البلدان لرددته على أهله، فإنّ في الحقّ و العدل لكم سعة و من ضاق به العدل فالجور به أضيق.» «4»

أقول: يظهر من الحديث الشريف برواياته المختلفة المتقاربة أنّ من التكاليف و الوظائف المهمّة الموضوعة على عاتق الحاكم الإسلامي مضافا إلى إحقاق حقوق الضعفاء من الأقوياء، هو ردّ الأموال العامّة المغصوبة المتعلّقة بالمجتمع، إلى بيت مال المسلمين، و يعبّر عن هذا بالمصادرة. و مرور الزمان و التداول بالأيدي المتعاقبة و التفرّق في البلدان لا يوجب ذلك

كلّه بطلان الحقّ و عدم ردّه، اللّهم إلّا أن يرى الإمام من وجد عنده المال مصرفا شرعيّا له فيحسبه عليه.

______________________________

(1)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1/ 269.

(2)- مروج الذهب 2/ 4.

(3)- دعائم الإسلام 1/ 396، كتاب الجهاد.

(4)- دعائم الإسلام 1/ 396، كتاب الجهاد.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 689

و قد ترى الناس في هذه المسألة غالبا مفرطا أو مفرّطا. فقد يتوهّم أن ما مضى مضى فلا يتعرّض له أصلا، و قد يتوهم أنّ الغاصب يؤخذ بأشقّ الأحوال فيصادر حتّى أمواله المحلّلة الشخصيّة، و كلاهما باطلان. فأموال بيت المال تردّ إلى بيت المال، و أمواله الشخصيّة المحلّلة لا يجوز التصرّف فيها بغير إذنه، فتدبّر.

33- و يحتمل أن يكون من هذا القبيل أيضا ما حكم به أمير المؤمنين «ع» بالنسبة إلى منذر بن الجارود عامله على إصطخر، حيث كتب إليه: «أمّا بعد، فإنّ صلاح أبيك غرّني منك فإذا أنت لا تدع انقيادا لهواك ... فاقبل إليّ حين تنظر في كتابي، و السلام.» فأقبل فعزله و أغرمه ثلاثين ألفا. «1» و الكتاب مذكور في نهج البلاغة بتفاوت «2».

و لعلّ المتتبّع يعثر على أكثر من هذا، فتتبّع.

خاتمة [في بعض ما حكي عن الخليفة الثاني]

من المناسب أن نذكر في هذا المجال بعض ما حكي عن الخليفة الثاني نذكرها من شرح ابن أبي الحديد المعتزلي على نهج البلاغة:

1- و فد على عمر و فد فيه رجال الناس من الآفاق، فوضع لهم بسطا من عباء، و قدّم إليهم طعاما غليظا، فقالت له ابنته حفصة أمّ المؤمنين: إنّهم وجوه الناس و كرام العرب، فأحسن كرامتهم.

فقال: يا حفصة، أخبريني بألين فراش فرشته لرسول اللّه «ص»، و أطيب طعام أكله عندك؟

قالت: أصبنا كساء ملبّدا عام

خيبر فكنت أفرشه له فينام عليه، و إنّي رفعته ليلة،

______________________________

(1)- تاريخ اليعقوبي 2/ 179.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 1073؛ عبده 3/ 145؛ لح/ 461، الكتاب 71.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 690

فلمّا أصبح قال: ما كان فراشي الليلة؟ قلت: فراشك كلّ ليلة، إلّا أنّي الليلة رفعته لك ليكون أوطأ، فقال: أعيديه لحالته الأولى، فإنّ وطأته منعتني الليلة من الصلاة.

و كان لنا صاع من دقيق سلت فنخلته يوما و طبخته له، و كان لنا قعب من سمن فصببته عليه، فبينا هو- عليه السلام- يأكل إذ دخل أبو الدرداء، فقال: أرى سمنكم قليلا، و إن لنا لقعبا من سمن. قال:- عليه السلام-: فارسل فأت به.

فجاء به فصبّه عليه فأكل، فهذا أطيب طعام أكله عندي رسول اللّه «ص».

فأرسل عمر عينيه بالبكاء، و قال لها: و اللّه لا أزيدهم على ذلك العباء و ذلك الطعام شيئا، و هذا فراش رسول اللّه «ص» و هذا طعامه «1»

2- لمّا قدم عتبة بن فرقد آذربيجان اتي بالخبيص، فلمّا أكله وجد شيئا حلوا طيّبا فقال: لو صنعت من هذا لأمير المؤمنين! فجعل له خبيصا في منقلين عظيمين، و حملهما على بعيرين إلى المدينة. فقال عمر: ما هذا؟ قالوا: الخبيص فذاقه فوجده حلوا، فقال للرسول: ويحك، أ كلّ المسلمين عندكم يشبع من هذا؟ قال: لا.

قال: فارددهما. ثمّ كتب إلى عتبة: أمّا بعد، فإنّ خبيصك الذي بعثته ليس من كدّ أبيك و لا من كدّ أمّك أشبع المسلمين ممّا تشبع منه في رحلك، و لا تستأثر فإنّ الأثرة شرّ، و السلام. «2»

أقول: الخبيص: ضرب من الحلواء، هذا.

فليتنبّه و ليعتبر شيعة الخليفة الثاني الناسبون أنفسهم إليه من الرؤساء و الشيوخ المترفين المتسلطين

على منابع ثروة المسلمين و ذخائرهم الذين يصرفون الأموال العامة في مصالح أنفسهم فيسرفون و يبذرون و يقامرون و يشترون القاعات و المستغلات بأثمان غالية في أروبا و أمريكا و يهيّئون لأنفسهم وسائل الفحشاء و الترف،

______________________________

(1)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 12/ 34.

(2)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 12/ 35.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 691

و المسلمون في شتّى البلاد يكابدون أنواع الفقر المالي و الصحّي و الإعلامي و الثقافي، فعليهم إن لم يكن لهم دين أن يكونوا لا محالة أحرارا في دنياهم.

3- و روى عتبة بن فرقد أيضا، قال: قدمت على عمر بحلواء من بلاد فارس في سلال عظام. فقال: ما هذه؟ قلت: طعام طيّب أتيتك به. قال: ويحك! و لم خصصتني به؟ قلت: أنت رجل تقضي حاجات الناس أوّل النهار فأحببت إذا رجعت إلى منزلك أن ترجع إلى طعام طيّب فتصيب منه فتقوى على القيام بأمرك. فكشف عن سلّة منها فذاق فاستطاب، فقال: عزمت عليك يا عتبة إذا رجعت إلّا رزقت كلّ رجل من المسلمين مثله! قلت: و الذي يصلحك يا أمير المؤمنين لو أنفقت عليه أموال قيس كلّها لما وسع ذلك. قال: فلا حاجة لي فيه إذا. «1»

4- كان عمر يصادر خونة العمّال، فصادر أبا موسى الأشعري، و كان عامله على البصرة و قال له: بلغني أنّ لك جاريتين، و أنّك تطعم الناس من جفنتين، و أعاده بعد المصادرة إلى عمله. «2»

5- و صادر أبا هريرة، و أغلظ عليه و كان عامله على البحرين، فقال له: ألا تعلم أنّي استعملتك على البحرين و أنت حاف لا نعل في رجلك! و قد بلغني أنّك بعت أفراسا

بألف و ستمائة دينار. قال أبو هريرة: كانت لنا أفراس فتناتجت. فقال: قد حبست لك رزقك و مئونتك، و هذا فضل. قال أبو هريرة: ليس ذلك لك. قال: بلى، و اللّه و أوجع ظهرك! ثمّ قام إليه بالدرة فضرب ظهره حتّى أدماه، ثمّ قال: ايت بها، فلما أحضرها، قال أبو هريرة: سوف أحتسبها عند اللّه. قال عمر: ذاك لو أخذتها من حلّ و أدّيتها طائعا، أما و اللّه ما رجت فيك أميمة أن تجبى أموال هجر و اليمامة و أقصى البحرين لنفسك، لا للّه و لا للمسلمين، و لم ترج فيك أكثر من رعية الحمر.

و عزله «3».

6- و صادر الحارث بن وهب أحد بني ليث بكر بن كنانة، و قال له: ما قلاص و أعبد

______________________________

(1)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 12/ 35.

(2)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 12/ 42.

(3)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 12/ 42.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 692

بعتها بمائة دينار؟ قال: خرجت بنفقة لي فاتّجرت فيها. قال: و إنا و اللّه ما بعثناك للتجارة، أدّها. قال: أما و اللّه لا أعمل لك بعدها. قال: انا و اللّه لا أستعملك بعدها. ثمّ صعد المنبر، فقال: يا معشر الأمراء، إنّ هذا المال لو رأينا أنّه يحلّ لنا لأحللناه لكم، فأمّا إذ لم نره يحلّ لنا و ظلفنا أنفسنا عنه فاظلفوا عنه أنفسكم، فإنّي و اللّه ما وجدت لكم مثلا إلّا عطشان ورد اللجّة، و لم ينظر الماتح، فلمّا روى غرق «1».

7- و كتب عمر إلى عمرو بن العاص و هو عامله في مصر: «أمّا بعد، فقد بلغني أنّه قد ظهر لك مال من إبل

و غنم و خدم و غلمان، و لم يكن لك قبله مال، و لا ذلك من رزقك، فأنّى لك هذا؟! و لقد كان لي من السابقين الأوّلين من هو خير منك، و لكنّي استعملتك لغنائك، فإذا كان عملك لك و علينا، بم نؤثرك على أنفسنا؟! فاكتب إليّ من أين مالك؟ و عجّل، و السلام.»

فكتب إليه عمرو بن العاص: «قرأت كتاب أمير المؤمنين، و لقد صدق، فأمّا ما ذكره من مالي، فإنّي قدمت بلدة، الأسعار فيها رخيصة و الغزو فيها كثير، فجعلت فضول ما حصل لي من ذلك فيما ذكره أمير المؤمنين. و اللّه يا أمير المؤمنين، لو كانت خيانتك لنا حلالا ما خنّاك حيث ائتمنتنا فاقصر عنّا عناك، فإنّ لنا أحسابا إذا رجعنا إليها أغنتنا عن العمل لك، و أمّا من كان لك من السابقين الأوّلين فهلّا استعملتهم! فو اللّه ما دققت لك بابا.»

فكتب إليه عمر: «أمّا بعد، فإنّي لست من تسطيرك و تشقيقك الكلام في شي ء، إنّكم معشر الأمراء أكلتم الأموال، و أخلدتم إلى الأعذار، فإنّما تأكلون النار و تورّثون العار، و قد وجّهت إليك محمد بن مسلمة ليشاطرك على ما في يديك. و السلام.»

فلما قدم إليه محمّد اتّخذ له طعاما و قدمه إليه، فأبى أن يأكل، فقال: مالك لا تأكل طعامنا؟ قال: إنّك عملت لي طعاما هو تقدمة للشرّ، و لو كنت عملت لي طعام الضيف لأكلته، فابعد عنّي طعامك و احضر لي مالك، فلمّا كان الغد

______________________________

(1)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 12/ 42.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 693

و أحضر ماله جعل محمد يأخذ شطرا و يعطي عمروا شطرا فلمّا رأى عمرو

ما جاز محمد من المال قال: يا محمّد، أقول؟ قال: قل ما تشاء. قال: لعن اللّه يوما كنت فيه واليا لابن الخطاب ...» «1»

______________________________

(1)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 12/ 43.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 695

الفصل الثاني عشر في وجوب اهتمام الإمام و عمّاله بأمر الضعفاء و الأرامل و الأيتام و من لا حيلة له:

[النّبيّ «ص» أولى بكلّ مؤمن من نفسه و من ترك دينا فعليه ص]

1- ففي أصول الكافي بسنده عن سفيان بن عيينة، عن أبي عبد اللّه «ع» أنّ النّبيّ «ص» قال: «أنا أولى بكلّ مؤمن من نفسه، و عليّ أولى به من بعدي.» فقيل له: ما معنى ذلك؟ فقال: «قول النّبيّ «ص»: من ترك دينا أو ضياعا فعليّ، و من ترك مالا فلورثته، فالرجل ليست له على نفسه ولاية إذا لم يكن له مال، و ليس له على عياله أمر و لا نهي إذا لم يجر عليهم النفقة، و النبيّ و أمير المؤمنين- عليهما السلام- و من بعدهما ألزمهم هذا، فمن هناك صاروا أولى بهم من أنفسهم. و ما كان سبب إسلام عامّة اليهود إلّا من بعد هذا القول من رسول اللّه «ص» و أنّهم آمنوا على أنفسهم و على عيالاتهم.» «1»

أقول: الضياع بالفتح: العيال كما في النهاية، و بالكسر جمع ضائع «2».

و قوله: ألزمهم هذا، قال في مرآة العقول:

______________________________

(1)- أصول الكافي 1/ 406، كتاب الحجة، باب ما يجب من حقّ الإمام ...، الحديث 6.

(2)- النهاية لابن الأثير 3/ 107.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 696

«لعلّ الضمير المستتر راجع إلى اللّه- تعالى-، و الضمير البارز إلى النّبيّ «ص» و الأئمّة- عليهم السلام-، و الإشارة إلى الإنفاق و أداء الديون.» «1»

2- و في البحار عن الصدوق في معاني الأخبار بسنده عن الرضا «ع»، قال:

«صعد النبيّ «ص» المنبر فقال: من ترك دينا

أو ضياعا فعليّ و إليّ، و من ترك مالا فلورثته. فصار بذلك أولى بهم من آبائهم و أمّهاتهم، و صار أولى بهم منهم بأنفسهم. و كذلك أمير المؤمنين «ع» بعده جرى ذلك له مثل ما جرى لرسول اللّه «ص».» «2».

3- و في مسند أحمد عن النّبيّ «ص»: «أنا أولى بكلّ مؤمن من نفسه، فمن ترك دينا أو ضياعا فإليّ، و من ترك مالا فللوارث.» «3»

أقول: و هذا المضمون مستفيض بل متواتر في كتب الفريقين و لا سيّما في كتب السنّة، فراجع.

4- و في أصول الكافي بسنده عن صباح بن سيّابة، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال:

قال رسول اللّه «ص»: «أيّما مؤمن أو مسلم مات و ترك دينا لم يكن في فساد و لا إسراف فعلى الإمام أن يقضيه، فإن لم يقضه فعليه إثم ذلك. إنّ اللّه- تبارك و تعالى- يقول: «إِنَّمَا الصَّدَقٰاتُ لِلْفُقَرٰاءِ وَ الْمَسٰاكِينِ. الآية.» فهو من الْغٰارِمِينَ و له سهم عند الإمام، فإن حبسه فإثمه عليه.» «4»

5- و فيه أيضا بسنده عن علي بن موسى الرضا «ع»: «المغرم إذا تديّن أو استدان في حقّ أجّل سنة، فإن اتّسع و إلّا قضى عنه الإمام من بيت المال.» «5»

6- و في خبر موسى بن بكر، قال: قال لي أبو الحسن «ع»: «من طلب هذا الرزق من حلّه ليعود به على نفسه و عياله كان كالمجاهد في سبيل اللّه، فإن غلب عليه فليستدن على اللّه

______________________________

(1)- مرآة العقول 4/ 342 (ط. القديم 1/ 306)، كتاب الحجة، باب ما يجب من حق الإمام ...، الحديث 6.

(2)- بحار الأنوار 27/ 242، كتاب الإمامة، باب حق الإمام على الرعية و ...، الحديث 1.

(3)- مسند أحمد 2/ 464.

(4)- أصول الكافي

1/ 407، كتاب الحجة، باب ما يجب من حقّ الإمام ...، الحديث 7.

(5)- أصول الكافي 1/ 407، كتاب الحجة، باب ما يجب من حقّ الإمام ...، الحديث 9.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 697

و على رسوله «ص» ما يقوت به عياله. فإن مات و لم يقضه كان على الإمام قضاؤه، فإن لم يقضه كان عليه وزره. إنّ اللّه- عزّ و جلّ- يقول: «إِنَّمَا الصَّدَقٰاتُ لِلْفُقَرٰاءِ وَ الْمَسٰاكِينِ وَ الْعٰامِلِينَ عَلَيْهٰا» إلى قوله: «وَ الْغٰارِمِينَ.» فهو فقير مسكين مغرم.» «1»

إلى غير ذلك من الروايات الواردة بهذا المضمون، و قد مرّ بعضها في الباب الثالث في فصل الزكاة، فراجع.

[كتاب عليّ «ع» لمالك حين ولّاه مصر]

7- و في نهج البلاغة في كتابه «ع» لمالك حين ولّاه مصر: «ثمّ اللّه اللّه في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين و المحتاجين و أهل البؤسى و الزمنى، فإنّ في هذه الطبقة قانعا و معترّا، و احفظ للّه ما استحفظك من حقّه فيهم، و اجعل لهم قسما من بيت مالك، و قسما من غلّات صوافي الإسلام في كلّ بلد، فإنّ للأقصى منهم مثل الذي للأدنى. و كلّ قد استرعيت حقّه فلا يشغلنّك عنهم بطر، فإنّك لا تعذر بتضييعك التافه لإحكامك الكثير المهمّ، فلا تشخص همّك عنهم، و لا تصعّر خدّك لهم. و تفقّد أمور من لا يصل إليك منهم ممّن تقتحمه العيون و تحقّره الرجال، ففرّغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية و التواضع، فليرفع إليك أمورهم. ثم اعمل فيهم بالإعذار إلى اللّه يوم تلقاه، فإنّ هؤلاء من بين الرعيّة أحوج إلى الإنصاف من غيرهم، و كلّ فأعذر إلى اللّه في تأدية حقّه إليه. و تعهّد أهل اليتم و ذوي

الرقّة في السنّ ممّن لا حيلة له، و لا ينصب للمسألة نفسه، و ذلك على الولاة ثقيل [و الحقّ كلّه ثقيل] و قد يخفّفه اللّه على أقوام طلبوا العاقبة فصبّروا أنفسهم و وثقوا بصدق موعود اللّه لهم.

و اجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرغ لهم فيه شخصك، و تجلس لهم مجلسا عامّا فتتواضع فيه للّه الذي خلقك، و تقعد عنهم جندك و أعوانك من أحراسك و شرطك حتّى يكلمك متكلّمهم غير متتعتع، فإنّي سمعت رسول اللّه «ص» يقول في غير موطن: «لن تقدّس أمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقّه من القوى غير متتعتع.» ثمّ احتمل الخرق منهم و العيّ، و نحّ عنهم الضيق و الأنف، يبسط اللّه عليك بذلك أكناف رحمته، و يوجب لك ثواب طاعته، و أعط ما أعطيت هنيئا، و امنع في إجمال و إعذار.» «2»

______________________________

(1)- الوسائل 13/ 91، الباب 9 من أبواب الدين، الحديث 2.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 1019؛ عبده 3/ 111؛ لح/ 438، الكتاب 53.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 698

أقول: البؤسى بضم الباء: شدة الفقر. و الزمنى جمع زمين: المصاب بالزمانة.

و القانع: السائل المتذلّل. و المعترّ بتشديد الراء: المتعرّض للعطاء بلا سؤال. و الصوافي جمع صافية: أرض الغنيمة. و البطر: الطغيان بالنعمة. و التافه: القليل. و صعّر خدّه: أماله تهاونا و كبرا. تقتحمه العيون: تكره النظر إليه احتقارا. و التعتعة في الكلام: التردّد فيه من عجز وعيّ. و الخرق بالضم: العنف. و العيّ بالكسر: العجز عن النطق. و الأنف محركة: الاستكبار و الاستنكاف. و الأكناف: الأجنحة.

8- و في نهج البلاغة أيضا من عهد له- عليه السّلام- إلى بعض عمّاله، و قد بعثه على الصدقة: «آمره بتقوى

اللّه في سرائر أمره و خفيّات عمله، حيث لا شاهد غيره و لا وكيل دونه.

و آمره أن لا يعمل بشي ء من طاعة اللّه فيما ظهر فيخالف إلى غيره فيما أسرّ. و من لم يختلف سرّه و علانيته، و فعله و مقالته فقد أدّى الأمانة و اخلص العبادة.

و آمره أن لا يجبههم و لا يعضههم و لا يرغب عنهم تفضّلا بالإمارة عليهم، فإنّهم الإخوان في الدين، و الأعوان على استخراج الحقوق.

و إن لك في هذه الصدقة نصيبا مفروضا و حقّا معلوما و شركاء أهل مسكنة، و ضعفاء ذوي فاقة، و إنّا موفّوك حقّك فوفّهم حقوقهم، و إلّا فإنّك من أكثر الناس خصوما يوم القيامة، و بؤسا لمن خصمه عند اللّه الفقراء و المساكين و السائلون و المدفوعون و الغارم و ابن السبيل. و من استهان بالأمانة و رتع في الخيانة و لم ينزّه نفسه و دينه عنها فقد أحلّ بنفسه في الدنيا الذلّ و الخزي و هو في الآخرة أذلّ و أخزى. و إنّ أعظم الخيانة خيانة الأمّة و أفظع الغشّ غشّ الأئمّة.» «1»

أقول: قوله: «فيخالف إلى غيره» هو مصبّ النهي كما لا يخفى. و جبهه: ضرب جبهته. و عضهه: بهته و شتمه. و البؤس: شدّة الحاجة. و قوله: «و بؤسا» دعاء. و الخزي جمع الخزية، أي البليّة.

[وصية علي ع في اليتامى]

9- و في نهج البلاغة أيضا في وصية له بعد ما ضربه ابن ملجم: «اللّه اللّه في

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 884؛ عبده 3/ 30؛ لح/ 382، الكتاب 26.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 699

الأيتام، فلا تغبّوا أفواههم و لا يضيعوا بحضرتكم.» «1»

10- و في أصول الكافي بسنده عن حبيب بن أبي ثابت،

قال: «جاء إلى أمير المؤمنين «ع» عسل و تين من همدان و حلوان، فأمر العرفاء أن يأتوا باليتامى فأمكنهم من رءوس الأزقاق يلعقونها، و هو يقسّمها للناس قدحا قدحا. فقيل له:

يا أمير المؤمنين، ما لهم يلعقونها؟ فقال: إنّ الإمام أبو اليتامى و إنّما ألعقتهم هذا برعاية الآباء.» «2»

[حمل علي ع قربة الماء على كتفه للمرأة و السؤال عن حالها]

11- و في مناقب ابن شهرآشوب في مناقب أمير المؤمنين «ع» عن أبي نعيم:

«و كان «ع» بشره دائم و ثغره باسم، غيث لمن رغب، و غياث لمن وهب (رهب.

ظ) مآل الآمل و ثمال الأرامل، يتعطّف على رعيّته و يتصرّف على مشيته و يكلأه بحجّته، و يكفيه بمهجته.

و نظر عليّ إلى امرأة على كتفها قربة ماء فأخذ منها القربة فحملها إلى موضعها و سألها عن حالها فقالت: بعث عليّ بن أبي طالب صاحبي إلى بعض الثغور فقتل و ترك عليّ صبيانا يتامى و ليس عندي شي ء، فقد ألجأتني الضرورة إلى خدمة الناس.

فانصرف و بات ليلته قلقا، فلمّا أصبح حمل زنبيلا فيه طعام فقال بعضهم: أعطني أحمله عنك، فقال: من يحمل وزري عنّي يوم القيامة

فأتى و قرع الباب، فقالت: من هذا؟ قال: أنا ذلك العبد الذي حمل معك القربة، فافتحي فإنّ معي شيئا للصبيان. فقالت: رضي اللّه عنك، و حكم بيني و بين عليّ بن أبي طالب.

فدخل و قال: إنّي أحببت اكتساب الثواب فاختاري بين أن تعجنين و تخبزين، و بين أن تعلّلين الصبيان لأخبز أنا. فقالت: أنا بالخبز أبصر و عليه أقدر و لكن شأنك

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 977؛ عبده 3/ 86؛ لح/ 421، الكتاب 47.

(2)- أصول الكافي 1/ 406؛ كتاب الحجة، باب ما يجب من حق الإمام ...، الحديث 5.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه

الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 700

و الصبيان، فعلّلهم حتى أفرغ من الخبز.

فعمدت إلى الدقيق فعجنته و عمد عليّ «ع» إلى اللحم فطبخه و جعل يلقم الصبيان من اللحم و التمر و غيره، فكلّما ناول الصبيان من ذلك شيئا قال: يا بنيّ اجعل عليّ بن أبي طالب في حلّ ممّا مرّ في أمرك. فلمّا اختمر العجين قالت: يا عبد اللّه، سجّر التنور. فبادر لسجره، فلمّا أشعله و لفح في وجهه جعل يقول: ذق يا عليّ، هذا جزاء من ضيّع الأرامل و اليتامى.

فرأته امرأة تعرفه فقالت: ويحك، هذا أمير المؤمنين!

قال: فبادرت المرأة و هي تقول: و احيائي منك يا أمير المؤمنين!

فقال: بل و احيائي منك يا أمة اللّه فيما قصرت في أمرك!» «1» و رواه في البحار أيضا عن المناقب «2»، هذا.

و لا يخفى أنّه في هذه الأعصار التي اتسعت فيها مجالات الحياة و كثرت الضعفاء و الزمنى و الأيتام و من لا حيلة له، و يتصوّر أعمال يمكن أن يتصدّى لها بعض هذه الصنوف فالواجب على الإمام و عمّاله تنظيم برامج واسعة لإحداث أشغال مناسبة لهذه الصنوف حتّى لا يحسّوا بالفقر و الاحتياج و لا تحطّم شخصيّاتهم مهما أمكن، و يتّسع الأعمال و الإنتاجات أيضا. فهذا أولى و أحوط لهم من التصدّق عليهم مجانا الملازم غالبا لتحقيرهم و إحساسهم للحقارة و الاحتياج.

______________________________

(1)- المناقب لابن شهرآشوب 1/ 382.

(2)- بحار الأنوار 41/ 51، تاريخ أمير المؤمنين، الباب 104 (باب حسن خلقه و حلمه و عفوه)، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 701

الفصل الثالث عشر في السياسة الخارجية للإسلام و معاملته مع الأقلّيّات غير المسلمة

اشارة

و فيها جهات من البحث نتعرض لها إجمالا:

الجهة الأولى: في أن الإسلام دين و سياسة، و تشريع و حكومة:

قد مرّ منّا في الباب الثالث من الكتاب أنّه بالمداقّة في الكتاب العزيز، و بالتتبع في أحاديث الفريقين من الشيعة و السنة، و فتاوى فقهائهم في الأبواب المختلفة من الطهارة إلى الديات يظهر أنّ الإسلام ليس- كما يزعمه بعض بسطاء المسلمين، بل و بعض علماء الدين، نتيجة لإلقاءات المستعمرين و أياديهم الخبيثة- ليس منحصرا في أعمال عبادية و آداب و مراسيم شخصية فقط من دون التفات إلى المسائل الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية، بل هو نظام جامع كافل لجميع ما يحتاج إليه الإنسان في معاشه و معاده، من بدو تكوّنه إلى آخر مراحل حياته من الشؤون الفردية و الاجتماعية، و ما يجب أو ينبغي أن يكون عليه الإنسان في علاقته بخالقه و حاكمه و عائلته و أمّته و سائر الأمم ممن أسلم أو لم يسلم. و انّه بحسب

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 702

المحتوى غنيّ قويّ معتمد على الوحي الإلهي قابل للانطباق على جميع الأمكنة و الأزمنة، و إنّه يحقّق لتابعيه الاستقلال و الحرّيّة و الرقى و التكامل في جميع المجالات.

و ليس الإسلام منحصرا بمجرد التقنين و التشريع فقط، بل شرّعت أحكامه و مقرراته على أساس الحكومة الصالحة المنفذة لقوانينه العادلة. فهو دين و سياسة، و تشريع و حكومة، فراجع ما حرّرناه بالتفصيل.

الجهة الثانية: في أن الحاكم هو اللّه- تعالى-:

قد مرّ في أوّل الباب السادس أن الحكومة الإسلامية ليس يراد بها السلطة على المسلمين و الحكم عليهم و على بلادهم بما يريده الحاكم و يهواه كما هو دأب الملوك المستبدّة، بل يراد بها تنفيذ مقررات الإسلام و حدوده و إدارة شئون الأمّة على أساس ما شرّعه اللّه- تعالى- و أنزله على رسوله في شتّى مجالات

الحياة من العبادة و السياسة و الاقتصاد و الآداب و الأحكام.

ففي الحقيقة الحاكم هو اللّه- تعالى- مالك البلاد و العباد، العالم بما ينفعهم أو يضرّهم. و النبي الأكرم «ص» هو المبلّغ لأحكامه- تعالى-، و المنفذ لها. و يخلفه في ذلك الأئمّة الهداة، و الخلفاء الصالحون في جميع الأعصار إلى يوم القيامة؛ فلا يجوز تعطيل برامج الإسلام و لا الحكومة المنفذة لها في عصر من الأعصار.

الجهة الثالثة: في أن الإسلام دين عامّ عالمي أبديّ:

اشارة

ليس الإسلام على ما يرى في بعض المنشورات المعاندة دينا لجزيرة العرب أو

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 703

شريعة للعرب فقط. بل هو دين عالمي أتى به النبي الأكرم «ص» لجميع البشر إلى يوم القيامة. فهو خاتم الأديان، و النبي «ص» خاتم النبيين و لا نبيّ بعده إلى يوم القيامة، كما نطقت بذلك آيات الكتاب العزيز و الأخبار المتواترة:

[الآيات]

1- قال اللّه- تعالى-: «وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلّٰا كَافَّةً لِلنّٰاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ النّٰاسِ لٰا يَعْلَمُونَ.» «1»

2- و قال: «يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّٰهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ، لٰا إِلٰهَ إِلّٰا هُوَ، يُحيِي وَ يُمِيتُ؛ فَآمِنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ كَلِمٰاتِهِ، وَ اتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.» «2»

3- و قال: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدىٰ وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ.»* «3»

4- و قال: «وَعَدَ اللّٰهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضىٰ لَهُمْ، وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لٰا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً، وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ.» «4»

5- و قال: «مٰا كٰانَ مُحَمَّدٌ أَبٰا أَحَدٍ مِنْ رِجٰالِكُمْ وَ لٰكِنْ رَسُولَ اللّٰهِ وَ خٰاتَمَ النَّبِيِّينَ وَ كٰانَ اللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً.» «5»

6- و في مجمع البيان- في تفسير سورة الجمعة في ذيل قوله تعالى: «وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ لَمّٰا يَلْحَقُوا بِهِمْ.» «6»-:

______________________________

(1)- سورة السبأ (34)، الآية 28.

(2)- سورة الأعراف (7)، الآية 158.

(3)- سورة التوبة (9)، الآية 33.

(4)- سورة النور (24)، الآية 55.

(5)- سورة الأحزاب (33)، الآية 40.

(6)-

سورة الجمعة (62)، الآية 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 704

«قيل: هم الأعاجم و من لا يتكلم بلغة العرب؛ فإن النبيّ «ص» مبعوث إلى من شاهده و إلى كل من بعدهم من العرب و العجم. عن ابن عمر و سعيد بن جبير، و روي ذلك عن أبي جعفر «ع».

و روي أنّ النبيّ «ص» قرأ هذه الآية، فقيل له من هؤلاء؟ فوضع يده على كتف سلمان و قال: لو كان الإيمان في الثّريّا لنالته رجال من هؤلاء.» «1»

[الروايات]

7- و فيه أيضا في تفسير سورة الأحزاب: «و صحّ الحديث عن جابر بن عبد اللّه، عن النبي «ص»، قال: إنّما مثلي في الأنبياء كمثل رجل بنى دارا فأكملها و حسّنها إلّا موضع لبنة، فكان من دخل فيها فنظر إليها قال: ما أحسنها إلّا موضع هذه اللبنة، قال «ص»: فأنا موضع اللبنة، ختم بي الأنبياء. و أورده البخاري و مسلم في صحيحيهما.» «2»

8- و في نهج البلاغة: «ثمّ إنّ هذا الإسلام دين اللّه الذي اصطفاه لنفسه ... ثمّ جعله لا انفصام لعروته، و لا فكّ لحلقته، و لا انهدام لأساسه، و لا زوال لدعائمه، و لا انقلاع لشجرته، و لا انقطاع لمدّته، و لا عفاء لشرائعه، و لا جذّ لفروعه.» «3»

و الأخبار في خاتمية الإسلام، و أن حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، و حرامه حرام إلى يوم القيامة كثيرة جدّا من طرق الفريقين:

9- و من ذلك صحيحة زرارة، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن الحلال و الحرام فقال: «حلال محمد حلال أبدا إلى يوم القيامة و حرامه حرام أبدا إلى يوم القيامة لا يكون غيره و لا يجي ء غيره.» «4»

[مكاتيب النبي ص إلى الملوك]
اشارة

و قد راسل النبي «ص» الملوك من غير العرب و في خارج الجزيرة و دعاهم إلى قبول الإسلام و التسليم له «ص» هم و أممهم، كما ضبطها المحدّثون و المورّخون، فلنذكر بعضها تيمّنا و تأييدا لما ذكر- نذكرها من كتاب مجموعة الوثائق السياسية.

______________________________

(1)- مجمع البيان 5/ 284 (الجزء 10).

(2)- مجمع البيان 4/ 362 (الجزء 8).

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 638؛ عبده 2/ 200؛/ لح 313- 314، الخطبة 198.

(4)- الكافي 1/ 58، كتاب فضل العلم، باب البدع و ...، الحديث 19.

دراسات في ولاية الفقيه و

فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 705

و من أراد التفصيل و الاطلاع على منابع النقل و أسنادها فليرجع إليه و إلى سائر الكتب المؤلفة في هذا الموضوع:

1- كتابه «ص» إلى النجاشي ملك الحبشة:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم

من محمد رسول اللّه إلى النجاشي: الأصحم ملك الحبشة.

سلّم أنت. فإنّي أحمد إليك اللّه (الذي لا إله إلّا هو)، الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، و أشهد أنّ عيسى بن مريم روح اللّه و كلمته، ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى، فخلقه اللّه من روحه و نفخه كما خلق آدم بيده و نفخه.

و إنّي أدعوك إلى اللّه وحده لا شريك له، و الموالاة على طاعته، و أن تتبعني و تؤمن بالّذي جاءني، فإنّي رسول اللّه.

و قد بعثت إليك ابن عمي جعفرا و نفرا معه من المسلمين، فإذا جاءك فاقرهم ودع التجبّر، فإنّي أدعوك و جنودك إلى اللّه، فقد بلّغت و نصحت، فاقبلوا نصحي، و السلام على من اتّبع الهدى.»

و في رواية أخرى لهذا الكتاب وجدت بخاتم النبي «ص» هكذا:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم

من محمد رسول اللّه إلى النجاشي عظيم الحبشة.

سلام على من اتبع الهدى.

أمّا بعد، فإنّي أحمد إليك اللّه الذي لا إله إلّا هو، الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن.

و أشهد أنّ عيسى بن مريم روح اللّه و كلمته، ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى من روحه و نفخه كما خلق آدم بيده.

و إنّي أدعوك إلى اللّه وحده لا شريك له، و الموالاة على طاعته، و أن تتبعني و توقن بالذي جاءني، فإنّي رسول اللّه. و إنّي أدعوك و جنودك إلى اللّه- عزّ و جلّ-، و قد بلغت و نصحت فاقبلوا نصيحتي، و السلام على من اتبع الهدى. محمّد رسول اللّه.»

«1»

______________________________

(1)- الوثائق السّياسيّة/ 100- 103، الرقم 21.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 706

2- كتاب آخر له «ص» إليه:

بسم اللّه الرحمن الرحيم

«هذا كتاب من محمّد النبيّ إلى النجاشي الأصحم عظيم الحبشة.

سلام على من اتبع الهدى، و آمن باللّه و رسوله، و شهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبة و لا ولدا، و أن محمدا عبده و رسوله.

و أدعوك بدعاية الإسلام، فإنّي أنا رسوله فأسلم تسلّم و «يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم: ألّا نعبد إلّا اللّه و لا نشرك به شيئا، و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون اللّه، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون.» فإن أبيت فعليك إثم النصارى من قومك.» «1»

أقول: و لعلّه «ص» كتب إليه كتابين في وقتين.

3- كتابه «ص» إلى هر قل عظيم الروم:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم

من محمّد عبد اللّه و رسوله إلى هر قل عظيم الروم.

سلام على من اتبع الهدى.

أمّا بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، و أسلم يؤتك اللّه أجرك مرّتين، فإن توليت فعليك إثم الأريسيين. و «يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم: ألّا نعبد إلّا اللّه و لا نشرك به شيئا، و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون اللّه، فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون.» «2»

4- كتاب آخر له «ص» إلى قيصر الروم:

«من محمد رسول اللّه إلى صاحب الروم.

إني أدعوك إلى الإسلام، فإن أسلمت فلك ما للمسلمين و عليك ما عليهم. فإن لم تدخل في الإسلام فأعط الجزية، فإن اللّه- تبارك و تعالى- يقول: «قٰاتِلُوا الَّذِينَ لٰا يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ لٰا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ،

______________________________

(1)- الوثائق السياسية/ 103، الرقم 22.

(2)- الوثائق السياسية/ 109، الرقم 26.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 707

وَ لٰا يُحَرِّمُونَ مٰا حَرَّمَ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ لٰا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ حَتّٰى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صٰاغِرُونَ.» و إلّا فلا تحل بين الفلّاحين و بين الإسلام أن يدخلوا فيه، أو يعطوا الجزية.» «1»

5- كتابه «ص» إلى المقوقس عظيم القبط:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم من محمد عبد اللّه و رسوله إلى المقوقس عظيم القبط.

سلام على من اتبع الهدى.

أمّا بعد فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك اللّه أجرك مرّتين، فإن تولّيت فعليك إثم القبط: «يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم: ألّا نعبد إلّا اللّه و لا نشرك به شيئا و لا يتّخذ بعضنا بعضا أربابا من دون اللّه، فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون.» «2»

6- رواية أخرى عن نصّ كتابه «ص» إلى المقوقس:

«من محمد رسول اللّه إلى صاحب مصر و الإسكندرية.

أمّا بعد فإن اللّه- تعالى- أرسلني رسولا و أنزل عليّ قرآنا، و أمرني بالإعذار و الإنذار و مقاتلة الكفّار حتّى يدينوا بديني، و يدخل الناس في ملّتي. و قد دعوتك إلى الإقرار بوحدانية اللّه- تعالى-، فإن فعلت سعدت و إن ابيت شقيت، و السلام.» «3»

7- كتابه «ص» إلى أبرويز عظيم فارس:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم

من محمد رسول اللّه إلى كسرى عظيم فارس.

سلام على من اتبع الهدى، و آمن باللّه و رسوله، و شهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له و أن محمّدا عبده و رسوله.

______________________________

(1)- الوثائق السّياسيّة/ 110، الرقم 27.

(2)- الوثائق السّياسيّة/ 135، الرقم 49.

(3)- الوثائق السّياسيّة/ 138، الرقم 51.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 708

و أدعوك بدعاء اللّه، فإنّي أنا رسول اللّه إلى الناس كافّة لأنذر من كان حيّا و يحقّ القول على الكافرين. فأسلم تسلم، فإن أبيت فإنّ إثم المجوس عليك.» «1»

8- كتابه «ص» إلى كسرى أيضا:

«من محمد رسول اللّه إلى كسرى عظيم فارس، أن أسلم تسلم. من شهد شهادتنا و استقبل قبلتنا و أكل ذبيحتنا فله ذمّة اللّه و ذمّة رسوله.» «2»

9- كتابه «ص» إلى الهرمزان عامل لكسرى:

«من محمد رسول اللّه «ص» إلى الهرمزان.

إنّي أدعوك إلى الإسلام أسلم تسلم.» «3»

إلى غير ذلك من الروايات، فراجع محالّها. و قد مرّ في بحث القوة التنفيذية عن الكتاني أسامي رسله «ص» إلى الملوك.

الجهة الرابعة: في أن الإسلام يدعو إلى الحق و العدالة:

قد فطر اللّه- تعالى- آدم و ذرّيّته على الحق و العدل و أودع فيهم العقول الحاكمة بهما، و لكن النفس أمّارة بالسّوء و شياطين الجن و الإنس حرصاء على إغوائهم، فاحتاجوا إلى عقول منفصلة، فبعث اللّه النبيين مبشرين و منذرين ليستأدوهم ميثاق الفطرة و يثيروا لهم دفائن العقول:

1- قال اللّه- تعالى- «لَقَدْ أَرْسَلْنٰا رُسُلَنٰا بِالْبَيِّنٰاتِ وَ أَنْزَلْنٰا مَعَهُمُ الْكِتٰابَ وَ الْمِيزٰانَ لِيَقُومَ

______________________________

(1)- الوثائق السّياسيّة/ 140، الرقم 53.

(2)- الوثائق السّياسيّة/ 143، الرقم 53/ ألف.

(3)- الوثائق السّياسيّة/ 144، الرقم 54.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 709

النّٰاسُ بِالْقِسْطِ.» «1»

2- و قال: «إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسٰانِ وَ إِيتٰاءِ ذِي الْقُرْبىٰ، وَ يَنْهىٰ عَنِ الْفَحْشٰاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.» «2»

3- و قال: «قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ.» «3»

4- و قد أمر اللّه- تعالى- نبيّنا بالدعوة إلى الحق و التبليغ له، فقال: «ادْعُ إِلىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جٰادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ.» «4»

و قد ذكر ثلاث مراتب للدعوة حسب اختلاف الناس في التعقل و في الانقياد.

5- و قال: «فَلِذٰلِكَ فَادْعُ وَ اسْتَقِمْ كَمٰا أُمِرْتَ وَ لٰا تَتَّبِعْ أَهْوٰاءَهُمْ.» «5»

6- و قال: «يٰا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمٰا بَلَّغْتَ رِسٰالَتَهُ وَ اللّٰهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّٰاسِ.» «6»

و قد صرف هو «ص» ليله و نهاره و جميع قواه و

طاقاته في دعوة الأمّة و هدايتهم حتى كاد أن يبخع نفسه على آثارهم، و بعث رسله و سفراءه إلى القبائل و إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام. و قد اتّبعته الأمّة أيضا في الدعوة و بسط العدل و إقامة المعروف، كما هو واضح.

7- و في الكتاب الكريم: «قُلْ هٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللّٰهِ عَلىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي،

______________________________

(1)- سورة الحديد (57)، الآية 25.

(2)- سورة النحل (16)، الآية 90.

(3)- سورة الأعراف (7)، الآية 29.

(4)- سورة النحل (16)، الآية 125.

(5)- سورة الشورى (42)، الآية 15.

(6)- سورة المائدة (5)، الآية 67.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 710

وَ سُبْحٰانَ اللّٰهِ وَ مٰا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ.» «1»

و الآيات و الروايات من طرق الفريقين في وجوب الدعوة إلى الحق و إرشاد الجاهل و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و إقامة الحق و العدل كثيرة فوق حدّ الإحصاء. و قد مرّ في بحث القضاء آيات و روايات كثيرة دالّة على اهتمام الإسلام بالقسط و العدل و اقامة الحقّ.

فلا يسمح لأحد من المسلمين بالسكوت في قبال الطغاة و الظالمين، بل إنّ الجهاد الذي حثّ عليه العقل و الشرع ليس إلّا الدفاع عن الحق و العدالة كما مرّ تفصيل ذلك في فصل الجهاد.

فقوله- تعالى-: «وَ مٰا لَكُمْ لٰا تُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجٰالِ وَ النِّسٰاءِ وَ الْوِلْدٰانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنٰا أَخْرِجْنٰا مِنْ هٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظّٰالِمِ أَهْلُهٰا، وَ اجْعَلْ لَنٰا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، وَ اجْعَلْ لَنٰا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً» «2» مشعر بأن لزوم القتال في سبيل بسط التوحيد و الدفاع عن المستضعفين أمر يحكم به العقل و الفطرة، فوبّخهم اللّه- تعالى- على تركه. و كثير من

الناس يغلب عليهم الهوى و على طبعهم التجاوز و الاعتداء و لا يقيمهم على الحق و العدالة إلّا القوة و السيف، كما قال رسول اللّه على ما في الكافي عن الإمام الصادق «ع»: «الخير كلّه في السيف و تحت ظلّ السيف و لا يقيم الناس إلّا السيف.» «3» و عن أمير المؤمنين «ع»: «إنّ اللّه فرض الجهاد و عظّمه و جعله نصره و ناصره، و اللّه ما صلحت دنيا و لا دين إلّا به.» «4»

و لا يجوز قتال أحد من الكفار إلّا بعد دعائهم إلى الإسلام و الالتزام بشرائعه، فإن لم يجيبوا حلّ قتالهم:

فعن الكافي بسند لا بأس به عن أمير المؤمنين «ع»، قال: «بعثني رسول اللّه «ص»

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 2، ص: 710

______________________________

(1)- سورة يوسف (12)، الآية 108.

(2)- سورة النساء (4)، الآية 75.

(3)- الوسائل 11/ 5، الباب 1 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 1.

(4)- الوسائل 11/ 9، الباب 1 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 15.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 711

إلى اليمن فقال: يا عليّ، لا تقاتلن أحدا حتى تدعوه إلى الإسلام، و أيم اللّه لأن يهدي اللّه- عزّ و جلّ- على يديك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس و غربت ...» «1»

و الالتزام بالدين أمر اختياري للبشر و لا إكراه في الدين، و لكن أكثر الناس بفطرتهم التي فطر اللّه الناس عليها متمايلون إلى دين الحق إذا عرض عليهم صحيحا. فلو وقفت أمام عرضه عليهم و طرحه لهم السلطات

الكافرة أو الظالمة التي اتخذت مال اللّه دولا و عباده خولا، كما هو المشاهد غالبا في المجتمعات، وجب من باب اللطف قتالها و رفع شرها عن الأمم.

و قد قال اللّه- تعالى-: «وَ قٰاتِلُوهُمْ حَتّٰى لٰا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّٰهِ.» «2»

و عن رسول اللّه «ص»: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلّا اللّه، فإذا قالوها منعوا منّي دماءهم و أموالهم إلّا بحقها، و حسابهم على اللّه- عزّ و جلّ-.» «3»

و بالجملة، فالجهاد في الإسلام للدفاع عن التوحيد الذي هو حقّ اللّه على عباده و عن حقوق المستضعفين، لا السلطة على البلاد و العباد على ما هو دأب المستعمرين:

فعن أبي جعفر «ع» في بيان حدود الجهاد: «و أوّل ذلك الدعاء إلى طاعة اللّه من طاعة العباد، و إلى عبادة اللّه من عبادة العباد، و إلى ولاية اللّه من ولاية العباد ... و ليس الدعاء من طاعة عبد إلى طاعة عبد مثله.» «4»

و كيف كان، فالواجب على الأمّة الإسلامية بشعوبها إدامة خطّ النبي «ص» و تعقيب أهدافه القيّمة و أن يصرفوا جميع طاقاتهم و إمكاناتهم البدنية و المالية و السياسية و الثقافية في بسط التوحيد و العدالة و رفع الظلم و الفساد و العمل على تحقيق شرائط ذلك و ظروفه و تقوية المجاهدين في سبيل اللّه و المدافعين عن حقوق المستضعفين في جميع البلاد الإسلامية، قاصيها و دانيها، و إن اختلفوا في العنصر

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 30، الباب 10 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 1.

(2)- سورة الأنفال (8)، الآية 39.

(3)- سنن أبي داود 2/ 41، كتاب الجهاد، باب على ما يقاتل المشركون؟

(4)- الوسائل 11/ 7، الباب 1 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 8.

دراسات

في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 712

و اللون و اللغة، فإن المسلمين جميعا أمّة واحدة لا تفرّقهم و لا تحكم عليهم الفروقات المادية من العنصرية و اللون و اللغة و الوطن، كما سيأتي في البند الآتي.

الجهة الخامسة: في أنّ المسلمين بأجمعهم أمّة واحدة و لا فضل لأحد منهم على أحد إلّا بالتقوى:

العناصر التي تحقق مفهوم الأمّة الواحدة خارجا هي الأرض و الجنسية و اللغة و اللون و المصلحة المشتركة و الفكر و العقيدة، و لا شك أنّ لكلّ من هذه تأثيرا في تحقيق الوحدة بين الأفراد و في نشوء الإنسان و تربيته، فإن الإنسان ليس منعزلا في حياته عن الشؤون المادية و خواصّها و آثارها.

و لكنه من الواضح لكلّ أحد أنّ إنسانيّة الإنسان و كرامته ليس ببدنه و مزاجه و قواه المادية، بل بعقله و فكره و آرائه، و الذي يحكم على قلبه و روحه هو فكره و إيمانه الذي يعتبره أعزّ الأشياء لديه بحيث يضحّي نفسه في طريقه. فلو فرضنا مواطنين ولدا على أرض واحدة و اشتركا في جميع العناصر المادية و لكنهما اختلفا في العقيدة و الفكر، نراهما كل يوم يتناحران و يتشاجران و لا يوجد بينهما العلاقة و المحبة.

و بالعكس؛ لو فرضنا إنسانين اختلفا في الوطن و العناصر المادية و لكنهما اتفقا في العلاقات الروحية و الأفكار و الآراء، نراهما متحابين متجاذبين كأنّهما روح واحد في جسدين. و لا يمتاز الإنسان عن سائر أنواع الحيوان إلّا بروحه و فكره و عقائده.

فالوحدة في الفكر و الإيمان هي القادرة على جمع أفراد الإنسان و إيجاد العلاقة بينهم، لا وحدة الوطن و العنصر.

و لأجل ذلك ترى الإسلام يحكم بوحدة الأمّة الإسلامية و أخوة المؤمنين بما هم مؤمنون، و لا يرى للامتيازات المادية من الجنس و اللغة

و اللون شأنا بحيث توجب فضيلة للإنسان في قبال الفضائل الروحية و فضيلة الإيمان و التقوى:

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 713

1- قال اللّه- تعالى-: «يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ إِنّٰا خَلَقْنٰاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثىٰ وَ جَعَلْنٰاكُمْ شُعُوباً وَ قَبٰائِلَ لِتَعٰارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّٰهِ أَتْقٰاكُمْ.» «1»

2- و قال: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ.» «2»

3- و قال: «فَإِنْ تٰابُوا وَ أَقٰامُوا الصَّلٰاةَ وَ آتَوُا الزَّكٰاةَ فَإِخْوٰانُكُمْ فِي الدِّينِ.» «3»

4- و قال: «إِنَّ هٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وٰاحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ.» «4»

5- و قال: «وَ إِنَّ هٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وٰاحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ.» «5»

بناء على كون الأمّة في الآيتين بمعنى الجماعة، لا بمعنى الدين و الملّة كما قيل.

فالمسلمون كلّهم أمّة واحدة و ربّهم واحد و دينهم واحد و نبيّهم واحد و كتابهم واحد، و لا ميز لأحد منهم إلّا بالتقوى و التسليم لأوامر اللّه، الموجبة لكمال روحه و رقيّه و التي بها تحصل كرامة الإنسان و شرفه.

6- و عن رسول اللّه «ص»: «أيّها الناس، ألا إنّ ربّكم واحد، و إنّ أباكم واحد. ألا لا فضل لعربي على عجمي، و لا عجمي على عربي، و لا لأسود على أحمر، و لا لأحمر على أسود إلّا بالتقوى.» «6»

7- و عنه «ص» في حجة الوداع: «أيّها الناس، إنّ ربّكم واحد، و إنّ أباكم واحد.

كلّكم لآدم، و آدم من تراب. «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّٰهِ أَتْقٰاكُمْ» و ليس لعربي على عجمي فضل إلّا

______________________________

(1)- سورة الحجرات (49)، الآية 13.

(2)- سورة الحجرات (49)، الآية 10.

(3)- سورة التوبة (9)، الآية 11.

(4)- سورة الأنبياء (21)، الآية 92.

(5)- سورة المؤمنين (23)، الآية 52.

(6)- تفسير القرطبي 16/ 342، ذيل الآية 13 من سورة

الحجرات.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 714

بالتقوى. ألا هل بلّغت؟ قالوا: نعم. قال: فليبلغ الشاهد الغائب.» «1»

8- و عن أبي جعفر الباقر «ع»، قال: صعد رسول اللّه «ص» المنبر يوم فتح مكة فقال:

«أيّها الناس إن اللّه قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية و تفاخرها بآبائها. ألا إنّكم من آدم «ع»، و آدم من طين. ألا إنّ خير عباد اللّه عبد اتّقاه. إنّ العربية ليست بأب والد، و لكنها لسان ناطق؛ فمن قصر به عمله لم يبلغه حسبه. ألا إنّ كلّ دم كان في الجاهلية أو إحنة- و الإحنة: الشحناء- فهي تحت قدمي هذه إلى يوم القيامة.» «2»

9- و عنه «ص» في خطبته في مسجد الخيف: «المسلمون إخوة؛ تتكافى دماؤهم و يسعى بذمّتهم أدناهم.» «3»

10- و في رواية أخرى عنه «ص»: «المؤمنون إخوة تتكافأ دماؤهم، و هم يد على من سواهم؛ يسعى بذمّتهم أدناهم.» «4»

11- و عنه «ص» أيضا في حجة الوداع: «أيّها الناس، اسمعوا قولي و اعقلوه، تعلمنّ أنّ كلّ مسلم أخ للمسلم، و أنّ المسلمين إخوة فلا يحلّ لا مرئ من أخيه إلّا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمن أنفسكم، اللهم هل بلّغت؟» «5»

12- و عنه «ص» أيضا: «إنّ اللّه- تعالى- جعل الإسلام دينه، و جعل كلمة الإخلاص حسنا له، فمن استقبل قبلتنا، و شهد شهادتنا، و أحلّ ذبيحتنا فهو مسلم، له ما لنا و عليه ما علينا.» «6»

13- و عن أمير المؤمنين «ع»، قال: «من استقبل قبلتنا، و أكل ذبيحتنا، و آمن بنبيّنا،

______________________________

(1)- تحف العقول/ 34.

(2)- الكافي 8/ 246 (الروضة)، الحديث 342.

(3)- الكافي 1/ 403، كتاب الحجة، باب ما أمر النبيّ «ص» بالنصيحة لأئمّة المسلمين ...، الحديث

1.

(4)- الكافي 1/ 404، كتاب الحجة، باب ما أمر النبيّ «ص» بالنصيحة لأئمّة المسلمين ...، الحديث 2.

(5)- سيرة ابن هشام 4/ 251.

(6)- بحار الأنوار 65/ 288 (طبعة إيران 68/ 288)، كتاب الإيمان و الكفر، الباب 24 (باب الفرق بين الإيمان و الإسلام)، الحديث 47؛ عن «نوادر الراوندي»، عن موسى بن جعفر «ع» عنه «ص».

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 715

و شهد شهادتنا دخل في ديننا؛ أجرينا عليه حكم القرآن، و حدود الإسلام، ليس لأحد على أحد فضل إلّا بالتقوى. ألا و إنّ للمتقين عند اللّه أفضل الثواب، و أحسن الجزاء و المآب.» «1»

14- و عن رسول اللّه «ص»: «مثل المؤمنين في توادّهم و تعاطفهم و تراحمهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه شي ء تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمّى.» «2»

15- و في صحيحة أبي بصير، قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: «المؤمن أخو المؤمن كالجسد الواحد، إن اشتكى شيئا منه وجد ألم ذلك في سائر جسده، و أرواحهما من روح واحدة. و إنّ روح المؤمن لأشدّ اتّصالا بروح اللّه من اتصال شعاع الشمس بها.» «3»

16- و في خبر مفضل بن عمر، قال أبو عبد اللّه «ع»: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ بنو أب و أمّ، و إذا ضرب على رجل منهم عرق سهر له الآخرون.» «4»

17- و في خبر علي بن عقبة، عن أبي عبد اللّه «ع»: «المؤمن أخو المؤمن، عينه و دليله، لا يخونه و لا يظلمه و لا يغشّه و لا يعده عدة فيخلفه.» «5»

18- و في رواية الفضيل بن يسار، قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه و لا يخذله و لا يغتابه

و لا يخونه و لا يحرمه.» «6»

19- و في خبر الحارث بن المغيرة، قال أبو عبد اللّه «ع»: «المسلم أخو المسلم، هو عينه و مرآته، و دليله، لا يخونه و لا يخدعه و لا يظلمه و لا يكذبه و لا يغتابه.» «7»

20- و عن الصادق «ع»: «المسلم أخو المسلم. و حق المسلم على أخيه المسلم أن لا يشبع

______________________________

(1)- بحار الأنوار 65/ 292 (طبعة إيران 68/ 292)، كتاب الإيمان و الكفر، الباب 24، الحديث 52.

(2)- مسند أحمد 4/ 270.

(3)- الكافي 2/ 166، كتاب الإيمان و الكفر، باب أخوّة المؤمنين بعضهم لبعض، الحديث 4.

(4)- الكافي 2/ 165، كتاب الإيمان و الكفر، باب أخوّة المؤمنين بعضهم لبعض، الحديث 1.

(5)- الكافي 2/ 166، كتاب الإيمان و الكفر، باب أخوّة المؤمنين بعضهم لبعض، الحديث 3.

(6)- الكافي 2/ 167، كتاب الإيمان و الكفر، باب أخوّة المؤمنين بعضهم لبعض، الحديث 11.

(7)- الكافي 2/ 166، كتاب الإيمان و الكفر، باب أخوّة المؤمنين بعضهم لبعض، الحديث 5.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 716

و يجوع أخوه، و لا يروى و يعطش أخوه، و لا يكتسي و يعرى أخوه، فما أعظم حق المسلم على أخيه المسلم.» «1»

21- و عن أبي عبد اللّه «ع» أنّ النبي «ص» قال: «من أصبح لا يهتمّ بأمور المسلمين فليس منهم. و من سمع رجلا ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم.» «2»

22- و في خبر أبي المعزا، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «يحقّ على المسلمين الاجتهاد في التواصل و التعاون على التعاطف و المواساة لأهل الحاجة و تعاطف بعضهم على بعض حتى تكونوا كما أمركم اللّه- عزّ و جلّ-: «رُحَمٰاءُ بَيْنَهُمْ» متراحمين، مغتمّين لما

غاب عنكم من أمرهم، على ما مضى عليه معشر الأنصار على عهد رسول اللّه «ص».» «3»

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الواردة من طرق الفريقين في هذا المجال.

و أوصيك أن تراجع في هذا الباب أيضا القصص المحكية عن النبي «ص» و الأئمّة المعصومين، الحاكية عن روح المؤاخاة و المواساة بين طبقات المسلمين و إلغاء الامتيازات المادية و العنصرية التي يهتمّ بها أبناء الدنيا.

و من هذا القبيل الروايات الواردة في تزويج النّبيّ زينب بنت جحش لزيد بن حارثة، و تزويجه ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب لمقداد، و خطبته للذلفاء بنت زياد بن لبيد من شرفاء الأنصار لجويبر الأسود المحتاج، و خطبة محمد بن علي بن الحسين ابنة رجل من الأشراف لمنجح بن رباح، و تزوّج علي بن الحسين بمولاة له أعتقها و تزوجها. إلى غير ذلك من القصص، راجع فروع الكافي «4». و قصة جويبر قصّة عجيبة جدّا.

و بالجملة، فالمسلمون لو خلّوا و فطرتهم و وظيفتهم الإسلامية فكلّهم أمّة واحدة

______________________________

(1)- سفينة البحار 1/ 12، في كلمة الأخ؛ عن البحار 71/ 221 (طبعة إيران 74/ 221)؛ عن «الاختصاص».

(2)- الكافي 2/ 164، كتاب الإيمان و الكفر، باب الاهتمام بأمور المسلمين ...، الحديث 5.

(3)- الكافي 2/ 175، كتاب الإيمان و الكفر، باب التراحم و التعاطف، الحديث 4.

(4)- الكافي 5/ 339- 347، كتاب النكاح، باب أن المؤمن كفو المؤمنة، و ما بعده.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 717

و دينهم واحد و إلههم واحد و نبيّهم و كتابهم واحد. و من الواجب أن يحكم عليهم و على بلادهم حكم واحد و تسوسهم سياسة واحدة، كما كان كذلك في صدر الإسلام، و لكن أعداء الإسلام

ألقوا بينهم التعصبات الباطلة و الخلافات العنصرية المادية، و مزّقوهم بذلك كلّ ممزّق و أشعلوا بينهم نيران الفتنة و سلطوا عليهم أياديهم الخبيثة و عملاءهم الظلمة المتأيدين بعلماء السوء، و بذلك تسلطوا على بلادهم و ثقافتهم و ذخائرهم. فيا مصيبة للإسلام و المسلمين من هاتين الشجرتين الخبيثتين، وقى اللّه المسلمين شرّهما بحق محمد و آله.

فليتنبه المسلمون و ليستيقظوا من نوم الغفلة العميقة و يلتفتوا إلى أنّ العدوّ الإسرائيلي جمع أبناءه من شتّى أرجاء العالم باسم الدين و تحت لواء الدين، من دون أن يفرّق بينهم باللغة و اللون و الوطن، و شكّل بذلك قوة و قدرة ضدّ الإسلام و المسلمين، بينما راح المسلمون مع كثرة عددهم وسعة بلادهم و ذخائرهم يعنونون القوميات: العربية و الفارسية و التركية و نحوها فخسروا بذلك أمام إسرائيل الغاصبة المعادية. فهذه نتيجة الافتراق و ذلك ثمرة الاتفاق.

و على هذا فيفرض على الحكومة الإسلامية و أمّتها أن لا تحصر نظرها و إمكاناتها على منطقة خاصة و مجتمع خاص، بل تلتفت إلى جميع المسلمين في شتّى البلاد أقاصيها و أدانيها، فتوجد لهم بقدر الوسع وسائل التعلم و الثقافة و الدفاع، و يسعى في توحيد كلمتهم و رفع الفقر و الاستضعاف و الظلم عنهم و رفع شرّ الأعداء الخارجيين و الداخليين عنهم و عن بلادهم، و الميسور من ذلك كله لا يترك بالمعسور، و ما لا يدرك كله لا يترك كله كما هو واضح بالعقل و الشرع، فتنبّه.

الجهة السادسة: في النهي عن تولّي الكفار و اتخاذهم بطانة:

قد اهتم الإسلام باستقلال المسلمين و مجدهم و عزّهم و أن لا يستولي عليهم الكفار

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 718

أو يستغلّوهم أو يجدوا عليهم سبيلا.

و لعلك لا تجد

في الكتاب الكريم بعد مسألة الجهاد مسألة سياسية عنى بها القرآن الكريم بمثل هذه المسألة المهمّة التي هي أساس السياسة الخارجية للإسلام، حيث إنّ الكفر ملّة واحدة يعاند بتمام وجوده الإسلام، و الكافرون بأجمعهم أعداء ألدّاء للمسلمين. و العدوّ همّه المعاداة و الإضرار بخصيمه علنا أو سرّا و لو تحت ستار التظاهر بالصداقة و التعطف و باسم العمران و الحماية، كما بلي المسلمون بذلك في القرون الأخيرة.

و قد أخبرنا اللّه- تعالى- بالحقد و العداوة الكامنة في قلوب الكفار و المشركين في آيات كثيرة:

1- كقوله- تعالى-: «مٰا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتٰابِ وَ لَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ.» «1»

2- و قال: «إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ، وَ إِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهٰا، وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا لٰا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً، إِنَّ اللّٰهَ بِمٰا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ.» «2»

3- و قال: «وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتٰابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمٰانِكُمْ كُفّٰاراً، حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مٰا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ.» «3»

4- و قال في حق اليهود: «فَبِمٰا نَقْضِهِمْ مِيثٰاقَهُمْ لَعَنّٰاهُمْ وَ جَعَلْنٰا قُلُوبَهُمْ قٰاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوٰاضِعِهِ وَ نَسُوا حَظًّا مِمّٰا ذُكِّرُوا بِهِ، وَ لٰا تَزٰالُ تَطَّلِعُ عَلىٰ خٰائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلّٰا قَلِيلًا مِنْهُمْ.» «4»

5- و قال في حق المشركين: «كَيْفَ وَ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لٰا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَ لٰا ذِمَّةً،

______________________________

(1)- سورة البقرة (2)، الآية 105.

(2)- سورة آل عمران (3)، الآية 120.

(3)- سورة البقرة (2)، الآية 109.

(4)- سورة المائدة (5)، الآية 13.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 719

يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوٰاهِهِمْ وَ تَأْبىٰ قُلُوبُهُمْ وَ أَكْثَرُهُمْ فٰاسِقُونَ.» «1»

إلى غير ذلك من آيات الكتاب العزيز الواردة في هذا المجال.

و

لأجل ذلك فرض اللّه- تعالى- على الأمّة الإسلامية أن تتجهز دائما بأنواع أجهزة الدفاع و أكملها و تعدّ لنفسها ما استطاعت من قوة و سلاح لإرهاب العدوّ و إخافته حتى لا يخطر ببالهم الهجمة على بلاد المسلمين، من غير فرق بين من عرف عداوته و غيرهم ممن يحتمل هجمته من العناصر الخارجية و الداخلية، و رغّب في إنفاق المال في هذا السبيل فقال- تعالى-

6-: «وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ، وَ مِنْ رِبٰاطِ الْخَيْلِ، تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّٰهِ وَ عَدُوَّكُمْ وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لٰا تَعْلَمُونَهُمُ، اللّٰهُ يَعْلَمُهُمْ. وَ مٰا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لٰا تُظْلَمُونَ.» «2»

كما بالغ و شدّد في النهي عن تولّي الكفار و اتخاذهم بطانة بحيث يطلعون على أسرار المسلمين و دواخلهم:

7- قال اللّه- تعالى-: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، لٰا تَتَّخِذُوا بِطٰانَةً مِنْ دُونِكُمْ، لٰا يَأْلُونَكُمْ خَبٰالًا، وَدُّوا مٰا عَنِتُّمْ، قَدْ بَدَتِ الْبَغْضٰاءُ مِنْ أَفْوٰاهِهِمْ وَ مٰا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ، قَدْ بَيَّنّٰا لَكُمُ الْآيٰاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ* هٰا أَنْتُمْ أُولٰاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَ لٰا يُحِبُّونَكُمْ، وَ تُؤْمِنُونَ بِالْكِتٰابِ كُلِّهِ، وَ إِذٰا لَقُوكُمْ قٰالُوا آمَنّٰا وَ إِذٰا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنٰامِلَ مِنَ الْغَيْظِ، قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّٰهَ عَلِيمٌ بِذٰاتِ الصُّدُورِ.» «3»

8- و قال: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، لٰا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ الْكُفّٰارَ أَوْلِيٰاءَ، وَ اتَّقُوا اللّٰهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.» «4»

9- و قال: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، لٰا تَتَّخِذُوا الْكٰافِرِينَ أَوْلِيٰاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، أَ تُرِيدُونَ أَنْ

______________________________

(1)- سورة التوبة (9)، الآية 8.

(2)- سورة الأنفال (8)، الآية 60.

(3)- سورة آل عمران (3)، الآية 118 و 119.

(4)- سورة

المائدة (5)، الآية 57.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 720

تَجْعَلُوا لِلّٰهِ عَلَيْكُمْ سُلْطٰاناً مُبِيناً.» «1»

10- و قال: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، لٰا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِيٰاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ كَفَرُوا بِمٰا جٰاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ، يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَ إِيّٰاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللّٰهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهٰاداً فِي سَبِيلِي وَ ابْتِغٰاءَ مَرْضٰاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ أَنَا أَعْلَمُ بِمٰا أَخْفَيْتُمْ وَ مٰا أَعْلَنْتُمْ، وَ مَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوٰاءَ السَّبِيلِ.» «2»

11- و قال: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، لٰا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصٰارىٰ أَوْلِيٰاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ، وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، إِنَّ اللّٰهَ لٰا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّٰالِمِينَ* فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسٰارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشىٰ أَنْ تُصِيبَنٰا دٰائِرَةٌ، فَعَسَى اللّٰهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلىٰ مٰا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نٰادِمِينَ.» «3»

12- و قال: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلىٰ أَعْقٰابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خٰاسِرِينَ* بَلِ اللّٰهُ مَوْلٰاكُمْ وَ هُوَ خَيْرُ النّٰاصِرِينَ.» «4»

إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الناهية عن موالاة الكفار و موادّتهم و إطاعتهم و الاعتماد عليهم.

فتأمّل في هذه الآيات الشريفة و انظر كيف بلي المسلمون في أعصارنا بولاة و حكّام مرضى القلوب ضعفاء النفوس قد حطّموا شخصيات أنفسهم و قداسة أممهم و جعلوا بلادهم و ثقافتهم و ذخائرهم و إمكاناتهم المتنوعة تحت سيطرة الكفار و الصهاينة، معتذرين بالخشية من أن تصيبهم دائرة!

فعسى اللّه أن يأتي بالفتح العاجل للمسلمين في شتّى البلدان، كما أتى به في إيران الإسلامية بإيمانهم و استقامتهم و اتحادهم، و وجود القيامة الجازمة فيهم،

______________________________

(1)- سورة النساء (4)، الآية 144.

(2)- سورة الممتحنة (60)، الآية 1.

(3)-

سورة المائدة (5)، الآية 51- 52.

(4)- سورة آل عمران (3)، الآية 149 و 150.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 721

و يسقط هؤلاء الفسقة الخونة من عروش القدرة الشيطانية و السلطة الطاغوتية في مزبلة التاريخ و مهملاته، كما سقط أمثالهم، و تقطع أيادي الكفر و عملائه من أصلها إن شاء اللّه- تعالى-.

فانظر إلى آثار رحمة اللّه- تعالى- و انتظر رحمته الواسعة.

و لكن على المسلمين الهمّة و الثورة ضد هذه السلطات الطّاغوتية، فإن اللّه- تعالى- «لٰا يُغَيِّرُ مٰا بِقَوْمٍ حَتّٰى يُغَيِّرُوا مٰا بِأَنْفُسِهِمْ.»

الجهة السابعة: في مداراة الكفار و حفظ حقوقهم و حرمتهم:

قد ظهر بما مرّ أنّ كيان الإسلام و مجد المسلمين يستدعيان الحفاظ على الاستقلال في الثقافة و السياسة و الاقتصاد، و الحذر من وقوعهم في حبائل الكفر و شباكاته.

و لكن نقول: إنّ ذلك كلّه لا ينافي مداراة الكفّار و دعوتهم إلى الحق، بل و البرّ و الإحسان إليهم و تأليفهم كيما يرغبوا في الإسلام، بل و التعاهد و إيجاد العلاقات السياسية و الاقتصادية معهم إذا رآه الحاكم صلاحا للإسلام و المسلمين مع رعاية الاحتياط و الالتفات إلى جميع الجوانب و الجهات كيلا يتغفلوا أحيانا:

1- قال اللّه بعد الأمر بإعداد القوة في قبال الكفار: «وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهٰا، وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللّٰهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.» «1»

2- و قال بعد الأمر بقتال الكفار: «إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثٰاقٌ أَوْ جٰاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقٰاتِلُوكُمْ أَوْ يُقٰاتِلُوا قَوْمَهُمْ، وَ لَوْ شٰاءَ اللّٰهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقٰاتَلُوكُمْ،

______________________________

(1)- سورة الأنفال (8)، الآية 61.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 722

فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقٰاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمٰا جَعَلَ اللّٰهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا.» «1»

3-

و قال: «لٰا يَنْهٰاكُمُ اللّٰهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقٰاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّمٰا يَنْهٰاكُمُ اللّٰهُ عَنِ الَّذِينَ قٰاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ وَ ظٰاهَرُوا عَلىٰ إِخْرٰاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ، وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ.» «2»

4- و قال: «وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجٰارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّٰى يَسْمَعَ كَلٰامَ اللّٰهِ، ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ، ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لٰا يَعْلَمُونَ.» «3»

5- و قال: «وَ لٰا تُجٰادِلُوا أَهْلَ الْكِتٰابِ إِلّٰا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ.» «4»

6- و قد عاهد رسول اللّه «ص» مشركي مكّة و يهود المدينة و نصارى نجران و غيرهم، و كان يعاشرهم و يعاملهم بالآداب و الأخلاق الحسنة، و قد جعله اللّه- تعالى- أسوة لنا فقال: «لَقَدْ كٰانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّٰهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كٰانَ يَرْجُوا اللّٰهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللّٰهَ كَثِيراً.» «5»

7- و في سنن أبي داود، عن رسول اللّه «ص»: «ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلّفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة.» «6»

8- و في فتوح البلدان للبلاذري، عنه «ص»: «من ظلم معاهدا و كلّفه فوق طاقته فأنا حجيجه.» «7»

9- و في كتاب أمير المؤمنين للأشتر النخعي: «و أشعر قلبك الرّحمة للرّعية و المحبّة لهم

______________________________

(1)- سورة النساء (4)، الآية 90.

(2)- سورة الممتحنة (60)، الآية 8 و 9.

(3)- سورة التوبة (9)، الآية 6.

(4)- سورة العنكبوت (29)، الآية 46.

(5)- سورة الأحزاب (33)، الآية 21.

(6)- سنن أبي داود 2/ 152، كتاب الخراج و الفي ء و الإمارة، باب في تعشير أهل الذمّة ...

(7)- فتوح البلدان/ 167.

دراسات في ولاية الفقيه

و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 723

و اللطف بهم، و لا تكوننّ عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان: إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق.» «1»

فيجب على حاكم المسلمين الرّحمة لرعيّته و اللطف بهم و إن لم يكونوا مسلمين.

و يجب على المسلمين أن يجذبوا بسيرتهم و أخلاقهم كل إنسان و إن كان كافرا.

10- و في حديث أنّه مرّ شيخ مكفوف كبير يسأل، فقال أمير المؤمنين «ع»:

ما هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، نصرانيّ. فقال أمير المؤمنين «ع»: استعملتموه حتى إذا كبر و عجز منعتموه؟ أنفقوا عليه من بيت المال.» «2»

و يرى أمير المؤمنين «ع» لأعراض أهل الكتاب و أموالهم حرمة مثل ما يراه لأعراض المسلمين و أموالهم، فقد قال «ع»- بعد ما سمع إغارة خيل معاوية على الأنبار و تعرضهم لنساء المسلمين و لنساء أهل الذمة-

11-: «و لقد بلغني أنّ الرّجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة و الأخرى المعاهدة، فينتزع حجلها و قلبها و قلائدها و رعاثها، ما تمنع منه إلّا بالاسترجاع و الاسترحام، ثم انصرفوا وافرين؛ ما نال رجلا منهم كلم و لا أريق لهم دم، فلو أنّ امرأ مسلما مات من بعد هذا أسفا ما كان به ملوما بل كان به عندي جديرا.» «3»

12- و قال «ع» في كتاب أرسله إلى عمّاله على الخراج: «و لا تبيعنّ للناس في الخراج كسوة شتاء و لا صيف و لا دابّة يعتملون عليها و لا عبدا، و لا تضربنّ أحدا سوطا لمكان درهم، و لا تمسّنّ مال أحد من الناس: مصلّ و لا معاهد إلّا أن تجدوا فرسا أو سلاحا يعدى به على أهل الإسلام، فإنّه لا ينبغي للمسلم أن يدع

ذلك في أيدي أعداء الإسلام فيكون شوكة عليه.» «4»

13- و قد بلغ احترام الإسلام للذميّ حدّا يسمح له أن يخاصم إمام المسلمين

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 993؛ عبده 3/ 93؛ لح/ 427، الكتاب 53.

(2)- الوسائل 11/ 49، الباب 19 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 1.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 95؛ عبده 1/ 64؛ لح/ 69- 70، الخطبة 27.

(4)- نهج البلاغة، فيض/ 984؛ عبده 3/ 90؛ لح/ 425، الكتاب 51.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 724

و يطالبه بالبيّنة لدعواه، كما اتفق ذلك في قصّة درع أمير المؤمنين «ع» و مخاصمته في عصر خلافته مع رجل من اليهود عند شريح القاضي، و قد مرّ الحديث في مبحث المساواة أمام القانون، فراجع «1».

و لم يكتف الإسلام باحترام الأحياء من أهل الكتاب بل ترى النبي «ص» يحترم بنفسه أمواتهم و يأمرنا بذلك أيضا:

14- ففي صحيح البخاري بسنده، عن جابر بن عبد اللّه، قال: «مرّ بنا جنازة فقام لها النبي «ص» و قمنا به، فقلنا: يا رسول اللّه، إنّها جنازة يهوديّ. قال: «إذا رأيتم الجنازة فقوموا.» «2»

15- و فيه أيضا: «كان سهل بن حنيف و قيس بن سعد قاعدين بالقادسية، فمرّوا عليهما بجنازة، فقاما، فقيل لهما: إنّها من أهل الأرض، أي من أهل الذمّة، فقالا: إنّ النبي «ص» مرّت به جنازة فقام فقيل له: إنّها جنازة يهودي، فقال:

أ ليست نفسا.» «3»

أقول: فهذا منطق الإسلام يرى للإنسان و حتّى لجنازته بأيّ ملّة و دين كان حرمة و شأنا ما لم يتجاوز على حقوق غيره. هذا.

و قد وجد اليهود و النصارى و المجوس في ظلّ الحكومات الإسلامية من كرامة العيش و الحرمة في جميع مجالات الحياة: من السياسة

و الاقتصاد و الحرّيّة في اكتساب العلوم و الصنائع ما لم يجدوه في ظلّ الحكومات المسيحية و غيرها. و قد كانت الدول المسيحية في أروبا يستعبدون اليهود و يذلّونهم و يسومونهم سوء العذاب، و كانت البلاد الإسلامية ملجأ لهم و ملاذا يتمتعون فيها بأحسن ما كان يتمتع به المسلمون، كما شهدت بذلك التواريخ. و لكنك رأيت في نهاية الأمر كيف جبروا

______________________________

(1)- راجع ص 193 من الكتاب.

(2)- صحيح البخاري 1/ 228، في الجنائز، باب من قام لجنازة يهوديّ.

(3)- صحيح البخاري 1/ 228، في الجنائز، باب من قام لجنازة يهوديّ.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 725

و يجبرون إحسان المسلمين إليهم و كافئوهم في مجازر فلسطين و لبنان، فنرجو من اللّه العزيز المنتقم الجبّار أن يخذلهم و يضرب عليهم الذلّة و المسكنة بأيدي المسلمين الغيارى، و يخلص القدس الشريف من براثنهم الخبيثة إن شاء اللّه- تعالى-.

الجهة الثامنة: في الأمان و الهدنة:

اشارة

لا يخفى أنّه من المناسب هنا البحث في ثلاث مسائل متقاربة متناسبة تعرّض لها الفقهاء في كتاب الجهاد، و هي مسألة إعطاء الأمان للعدوّ، و مسألة الجزية، و مسألة الهدنة.

و المراد بالأول أن يعطي الإمام أو نائبه، أو فرد من المسلمين و لو كان من أدناهم الذمام و الأمان لفرد أو فئة من الكفار المقاتلين.

و المراد بالثاني الضريبة المقرّرة على الكفار من أهل الكتاب أو غيرهم على الخلاف في ذلك على أن يقرّوا على دينهم عائشين في ظلّ الحكومة الإسلامية آمنين في الأموال و الأعراض و النفوس.

و المراد بالثالث ما يعقده الإمام أو نائبه مع المقاتلين من ترك القتال في مدّة مع العوض أو بلا عوض على ما يراه من مصلحة الإسلام و المسلمين.

و لكن لما

كانت دائرة هذه المسائل واسعة جدّا و محل بحثها الكتب الفقهية الموسوعة أحلنا التفصيل فيها إلى محلها، و نبحث عن الجزية بحثا بسيطا في الباب الثامن من الكتاب المعقود للبحث عن المنابع المالية للدولة الإسلامية.

و أمّا الأمان و الهدنة فنشير إليهما هنا بذكر بعض الآيات و الروايات و الكلمات لاطّلاع القارئ إجمالا:

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 726

1- عقد الأمان:

1- قال اللّه- تعالى-: «وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجٰارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّٰى يَسْمَعَ كَلٰامَ اللّٰهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ.» «1»

2- و عن رسول اللّه «ص» في خطبته في مسجد الخيف: «المسلمون إخوة، تتكافأ دماؤهم و يسعى بذمّتهم أدناهم.» «2»

3- و روى السكوني، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: قلت له: ما معنى قول النبي «ص»: يسعى بذمّتهم أدناهم؟ قال: لو أنّ جيشا من المسلمين حاصروا قوما من المشركين فأشرف رجل فقال: أعطوني الأمان حتى ألقى صاحبكم و أناظره، فأعطاه أدناهم الأمان وجب على أفضلهم الوفاء به.» «3»

4- و روى مسعدة بن صدقة، عن أبى عبد اللّه «ع» أنّ عليّا «ع» أجاز أمان عبد مملوك لأهل حصن من الحصون، و قال: «هو من المؤمنين.» «4»

5- و عن محمد بن الحكم، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «لو أنّ قوما حاصروا مدينة فسألوهم الأمان فقالوا: لا، فظنّوا أنّهم قالوا: نعم، فنزلوا إليهم كانوا آمنين.» «5»

6- و قال الشيخ في المبسوط:

«عقد الأمان جائز للمشركين، لقوله- تعالى-: «وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجٰارَكَ

______________________________

(1)- سورة التوبة (9)، الآية 6.

(2)- الكافي 1/ 403، كتاب الحجة، باب ما أمر النبيّ «ص» بالنصيحة لأئمة المسلمين ...، الحديث 1.

(3)- الوسائل 11/ 49، الباب 20 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 1.

(4)- الوسائل 11/

49، الباب 20 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 2.

(5)- الوسائل 11/ 50، الباب 20 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 4.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 727

فَأَجِرْهُ حَتّٰى يَسْمَعَ كَلٰامَ اللّٰهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ.» و عقد النبي «ص» الأمان للمشركين عام الحديبية.

فإذا ثبت جوازه نظر، فإن كان العاقد الإمام جاز أن يعقده لأهل الشرك كلّهم في جميع البقاع و الأماكن، لأنّ إليه النظر في مصالح المسلمين، و هذا من ذلك.

و إن كان العاقد خليفة الإمام على إقليم فإنّه يجوز أن يعقد لمن يليه من الكفار دون جميعهم، لأن إليه النظر في ذلك دون غيرها.

و إن كان العاقد آحاد المسلمين جاز أن يعقد لآحادهم و الواحد و العشرة. و لا يجوز أن يعقد لأهل بلد عام و لا لأهل إقليم، لأنّه ليس له النظر في مصالح المسلمين.

فإذا ثبت جوازه لآحاد المسلمين فإن كان العاقد حرّا مكلفا جاز بلا خلاف، و إن كان عبدا صحّ، سواء كان مأذونا له في القتال أو غير مأذون- و فيه خلاف- لقوله «ص»: «يسعى بذمّتهم أدناهم.» و أدناهم: عبيدهم.

و أمّا المرأة فيصحّ أمانها بلا خلاف، لأنّ أم هاني بنت أبي طالب أجارت رجلا من المشركين يوم فتح مكّة فأجاز النبي «ص» أمانها و قال: أجرنا من أجرت، و آمنّا من آمنت.

و الصبي و المجنون لا يصحّ أمانهما لأنّهما غير مكلفين.» «1»

7- و في الشرائع:

«و يجوز أن يذمّ الواحد من المسلمين لآحاد من أهل الحرب، و لا يذمّ عامّا و لا لأهل إقليم. و هل يذمّ لقرية أو حصن؟ قيل: نعم، كما أجاز عليّ «ع» ذمام الواحد لحصن من الحصون. و قيل: لا، و هو الأشبه. و فعل

عليّ «ع» قضيّة في واقعة فلا يتعدّى.

و الإمام يذمّ لأهل الحرب عموما و خصوصا. و كذا من نصبه الإمام للنظر في جهة يذمّ لأهلها. و يجب الوفاء بالذمام ما لم يكن متضمنا لما يخالف الشرع.» «2»

______________________________

(1)- المبسوط 2/ 14.

(2)- الشرائع 1/ 314.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 728

8- و في كتاب الجهاد من بداية المجتهد لابن رشد:

«و اتّفقوا على جواز تأمين الإمام. و جمهور العلماء على جواز أمان الرجل الحرّ المسلم إلّا ما كان ابن الماجشون يرى أنّه موقوف على إذن الإمام.

و اختلفوا في أمان العبد و أمان المرأة فالجمهور على جوازه، و كان ابن الماجشون و سحنون يقولان: أمان المرأة موقوف على إذن الإمام. و قال أبو حنيفة: لا يجوز أمان العبد إلّا أن يقاتل.» «1»

2- الهدنة و ترك القتال:

1- قال اللّه- تعالى-: «إِلَّا الَّذِينَ عٰاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَ لَمْ يُظٰاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً، فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلىٰ مُدَّتِهِمْ، إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ.» «2»

2- و قال: «إِلَّا الَّذِينَ عٰاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرٰامِ، فَمَا اسْتَقٰامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ، إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ.» «3»

فجعل اللّه- تعالى- الوفاء بالمعاهدة من آثار التقوى و لوازمه.

3- و قال: «وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهٰا، وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللّٰهِ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.» «4»

4- و في نهج البلاغة: «و لا تدفعنّ صلحا دعاك إليه عدوّك [و] للّه فيه رضا، فإنّ في الصلح دعة لجنودك و راحة من همومك و أمنا لبلادك، و لكن الحذر كلّ الحذر من عدوّك بعد صلحه، فإنّ العدوّ ربما قارب ليتغفّل، فخذ بالحزم و اتّهم في ذلك حسن الظّنّ.» «5»

______________________________

(1)- بداية المجتهد 1/ 370 (طبعة أخرى 1/ 326).

(2)- سورة التوبة (9)،

الآية 4.

(3)- سورة التوبة (9)، الآية 7.

(4)- سورة الأنفال (8)، الآية 61.

(5)- نهج البلاغة، فيض/ 1027؛ عبده 3/ 117؛ لح/ 442، الكتاب 53.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 729

5- و قال الشيخ في المبسوط:

«الهدنة و المعاهدة واحدة، و هو وضع القتال و ترك الحرب إلى مدّة من غير عوض.

و ذلك جائز، لقوله- تعالى-: «وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهٰا»، و لأنّ النبي «ص» صالح قريشا عام الحديبية على ترك القتال عشر سنين ...

و ليس يخلو الإمام من أن يكون مستظهرا أو غير مستظهر، فإن كان مستظهرا و كان في الهدنة مصلحة للمسلمين و نظر لهم بأن يرجو منهم الدخول في الإسلام أو بذل الجزية فعل ذلك، و إن لم يكن فيه نظر للمسلمين بل كانت المصلحة في تركه بأن يكون العدوّ قليلا ضعيفا و إذا ترك قتالهم اشتدّت شوكتهم و قرّوا فلا تجوز الهدنة، لأنّ فيها ضررا على المسلمين.

فإذا هادنهم في الموضع الذي يجوز فيجوز أن يهادنهم أربعة أشهر بنصّ القرآن العزيز، و هو قوله- تعالى-: «فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ». و لا يجوز إلى سنة و زيادة عليها ...

فأمّا إذا لم يكن الإمام مستظهرا على المشركين، بل كانوا مستظهرين عليه، لقوّتهم و ضعف المسلمين أو كان العدوّ بالبعد منهم و في قصدهم التزام مؤن كثيرة فيجوز أن يهادنهم إلى عشر سنين، لأنّ النبي «ص» هادن قريشا عام الحديبية إلى عشر سنين، ثمّ نقضوها من قبل نفوسهم.» «1»

أقول: و الظاهر أنّ قوله: «من غير عوض» يريد به عدم اشتراط كون الهدنة بعوض، لا أنّ شرط العوض غير جائز.

6- و لذا قال العلّامة في التذكرة:

«المهادنة و الموادعة و المعاهدة ألفاظ مترادفة،

معناها وضع القتال و ترك الحرب مدّة بعوض و غير عوض. و هي جائزة بالنصّ و الإجماع.» «2»

______________________________

(1)- المبسوط 2/ 50- 51.

(2)- التذكرة 1/ 447.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 730

7- و في المغني لابن قدّامة الحنبلي:

«و معنى الهدنة أن يعقد لأهل الحرب عقدا على ترك القتال مدّة بعوض و بغير عوض، و تسمّى مهادنة و موادعة و معاهدة. و ذلك جائز بدليل قول اللّه- تعالى-:

«بَرٰاءَةٌ مِنَ اللّٰهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عٰاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.» و قال- سبحانه-: «وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهٰا.» و روى مروان و مسور بن مخرمة أنّ النبي «ص» صالح سهيل بن عمرو بالحديبية على وضع القتال عشر سنين. و لأنّه قد يكون بالمسلمين ضعف، فيهادنهم حتى يقوى المسلمون ...» «1»

8- و في التذكرة:

«و يشترط في صحة عقد الذمّة أمور أربعة:

الأوّل: أن يتولّاه الإمام أو من يأذن له، لأنّه من الأمور العظام ...

الثاني: أن يكون للمسلمين إليه حاجة و مصلحة إمّا لضعفهم عن المقاومة فينتظر الإمام قوّتهم، و إمّا لرجاء إسلام المشركين، و إمّا لبذل الجزية منهم و التزام أحكام الإسلام. و لو لم تكن هناك مصلحة للمسلمين، بأن يكون في المسلمين قوّة و في المشركين ضعف و يخشى قوّتهم و اجتماعهم إن لم يبادرهم بالقتال، لم تجز له مهادنتهم ...

و الثالث: أن يخلو العقد من شرط فاسد- و هو حقّ كلّ عقد- فإن عقدها الإمام على شرط فاسد مثل أن يشترط ردّ النساء أو مهورهنّ أو ردّ السلاح المأخوذ منهم أو دفع المال إليهم مع عدم الضرورة الداعية إلى ذلك ... فهذه الشروط كلها فاسدة يفسد بها عقد الهدنة ...

الرابع: المدّة، و يجب ذكر

المدّة التي يهادنهم عليها.» «2»

أقول: فهذا بحث بسيط إجمالي عن مسألتي الأمان و الهدنة، و قد عرفت أنّ محل بحثهما التفصيلي كتاب الجهاد من الفقه، فراجع.

______________________________

(1)- المغني 10/ 517.

(2)- التذكرة 1/ 447.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 731

الجهة التاسعة: في وجوب الوفاء بالعهد و حرمة الغدر و لو مع الكفار:

اشارة

إذا عاهدت الحكومة الإسلامية أو أمّتها دولة أو فردا من الكفّار، أو مؤسسة تجارية أو خدماتية لهم، و استحكم العقد بينهما وجب الوفاء به و لا يجوز نقضه بوجه إلّا مع تخلّف الطرف و نقضه. و يدلّ على ذلك العقل و الشرع:

[الآيات]

1- قال اللّه- تعالى- في سورة المائدة: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ.» «1»

افتتح اللّه- تعالى- هذه السورة بإيجاب الوفاء بكل عهد. و التعبير فيه يشعر بكونه من لوازم الإيمان.

و شدّد في هذه السورة أمر الميثاق من المسلمين و اليهود و النصارى:

2- فقال: «وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّٰهِ عَلَيْكُمْ وَ مِيثٰاقَهُ الَّذِي وٰاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنٰا وَ أَطَعْنٰا.» «2»

3- و قال: «وَ لَقَدْ أَخَذَ اللّٰهُ مِيثٰاقَ بَنِي إِسْرٰائِيلَ وَ بَعَثْنٰا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً.» «3»

4- و قال: «فَبِمٰا نَقْضِهِمْ مِيثٰاقَهُمْ لَعَنّٰاهُمْ وَ جَعَلْنٰا قُلُوبَهُمْ قٰاسِيَةً.» «4»

5- و قال: «وَ مِنَ الَّذِينَ قٰالُوا إِنّٰا نَصٰارىٰ أَخَذْنٰا مِيثٰاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمّٰا ذُكِّرُوا بِهِ.» «5»

فسورة المائدة كأنّها سورة العقد و الميثاق.

و عدّ اللّه- تعالى- من صفات المؤمنين و خواصّهم رعاية العهد:

______________________________

(1)- سورة المائدة (5)، الآية 1.

(2)- سورة المائدة (5)، الآية 7.

(3)- سورة المائدة (5)، الآية 12.

(4)- سورة المائدة (5)، الآية 13.

(5)- سورة المائدة (5)، الآية 14.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 732

6- فقال: «وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَمٰانٰاتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ رٰاعُونَ.»* «1»

7- و قال: «وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اللّٰهِ إِذٰا عٰاهَدْتُمْ، وَ لٰا تَنْقُضُوا الْأَيْمٰانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهٰا وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اللّٰهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا، إِنَّ اللّٰهَ يَعْلَمُ مٰا تَفْعَلُونَ.» «2»

8- و قال: «وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كٰانَ مَسْؤُلًا.» «3»

و إطلاق الآيات يشمل معاهدات المسلمين مع الكفار أيضا، مضافا إلى التصريح بها في بعض

الآيات الشريفة:

9- فقال: «إِلَّا الَّذِينَ عٰاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَ لَمْ يُظٰاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً، فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلىٰ مُدَّتِهِمْ، إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ.» «4»

10- و قال: «كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللّٰهِ وَ عِنْدَ رَسُولِهِ، إِلَّا الَّذِينَ عٰاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرٰامِ، فَمَا اسْتَقٰامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ، إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ.» «5»

فجعل الوفاء بالعهد في الآيتين من لوازم التقوى.

[الروايات]

11- و عن حبّة العرني، قال: قال أمير المؤمنين «ع»: «من ائتمن رجلا على دمه ثم خاس به فأنا من القاتل بري ء، و إن كان المقتول في النار.» «6»

12- و عن عبد اللّه بن سليمان، قال: سمعت أبا جعفر «ع» يقول: «ما من رجل أمّن رجلا على ذمّة (على دمه خ. ل) ثم قتله إلّا جاء يوم القيامة يحمل لواء الغدر.» «7»

______________________________

(1)- سورة المؤمنين (23)، الآية 8.

(2)- سورة النحل (16)، الآية 91.

(3)- سورة الإسراء (17)، الآية 34.

(4)- سورة التوبة (9)، الآية 4.

(5)- سورة التوبة (9)، الآية 7.

(6)- الوسائل 11/ 51، الباب 20 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 6.

(7)- الوسائل 11/ 50، الباب 20 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 733

13- و عن السكوني، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: قلت له: ما معنى قول النبي «ص»: «يسعى بذمّتهم أدناهم»؟ قال: «لو أنّ جيشا من المسلمين حاصروا قوما من المشركين فأشرف رجل فقال: أعطوني الأمان حتى ألقى صاحبكم و أناظره، فأعطاه أدناهم الأمان، وجب على أفضلهم الوفاء به.» «1»

14- و في الخصال بسنده، عن ابن مسعود، عن النبي «ص»، قال: «أربع من كنّ فيه فهو منافق، و إن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة

من النفاق حتى يدعها: من إذا حدّث كذب، و إذا وعد أخلف، و إذا عاهد غدر، و إذا خاصم فجر.» «2»

15- و في نهج البلاغة: «إنّ الوفاء توأم الصدق، و لا أعلم جنّة أوقى منه. و لا يغدر من علم كيف المرجع. و لقد أصبحنا في زمان قد اتّخذ أكثر أهله الغدر كيسا، و نسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة، ما لهم؟ قاتلهم اللّه! قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة، و دونه مانع من أمر اللّه و نهيه، فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها و ينتهز فرصتها من لا حريجة «3» له في الدين.» «4»

16- و في سنن أبي داود بسنده، عن عمرو بن عبسة، قال: سمعت رسول اللّه «ص» يقول: «من كان بينه و بين قوم عهد فلا يشدّ عقدة و لا يحلّها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء.» «5»

17- و فيه أيضا بسنده، عن أبي بكرة، قال: قال: رسول اللّه «ص»: «من قتل معاهدا في غير كنهه «6» حرّم اللّه عليه الجنة.» «7»

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 49، الباب 20 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 1.

(2)- الخصال 1/ 254، باب الأربعة، الحديث 129.

(3)- الحريجة: التحرّز من الآثام.

(4)- نهج البلاغة، فيض/ 126؛ عبده 1/ 88؛ لح/ 83، الخطبة 41.

(5)- سنن أبي داود 2/ 76، كتاب الجهاد، باب في الإمام يكون بينه و بين العدو عهد فيسير إليه.

(6)- يعني في غير وقته و غاية عهده.

(7)- سنن أبي داود 2/ 76، كتاب الجهاد، باب في الوفاء للمعاهد و حرمة ذمّته.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 734

18- و فيه أيضا بسنده، عن ابن عمر أنّ رسول اللّه «ص» قال: «إنّ الغادر

ينصب له لواء يوم القيامة، فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان.» «1»

و قد أكّد أمير المؤمنين «ع» على حفظ العهود و الذمم و لو كانت مع العدوّ، و بالغ في الحثّ عليه:

19- فقال في كتابه إلى مالك: «و إن عقدت بينك و بين عدوّك عقدة، أو ألبسته منك ذمّة فحط عهدك بالوفاء، و ارع ذمّتك بالأمانة، و اجعل نفسك جنّة دون ما أعطيت، فإنّه ليس من فرائض اللّه شي ء الناس أشدّ عليه اجتماعا مع تفرّق أهوائهم و تشتّت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود.

و قد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب الغدر، فلا تغدرنّ بذمّتك و لا تخيسنّ بعهدك و لا تختلنّ عدوّك، فإنه لا يجترئ على اللّه إلّا جاهل شقيّ.

و قد جعل اللّه عهده و ذمّته أمنا أفضاه بين العباد برحمته، و حريما يسكنون إلى منعته، و يستفيضون إلى جواره، فلا إدغال و لا مدالسة و لا خداع فيه، و لا تعقد عقدا تجوّز فيه العلل، و لا تعوّلنّ على لحن قول بعد التأكيد و التوثقة، و لا يدعونّك ضيق أمر لزمك فيه عهد اللّه إلى طلب انفساخه بغير الحقّ، فإنّ صبرك على ضيق أمر ترجو انفراجه و فضل عاقبته خير من غدر تخاف تبعته، و ان تحيط بك من اللّه فيه طلبة فلا تستقيل فيها دنياك و لا آخرتك.» «2»

20- و في المستدرك، عن دعائم الإسلام، عن عليّ «ع» أن رسول اللّه «ص» قال له فيما عهد إليه: «و إيّاك و الغدر بعهد اللّه و الإخفار لذمته، فإن اللّه جعل عهده و ذمته أمانا أمضاه بين العباد برحمته. و الصبر على ضيق ترجو انفراجه خير من غدر تخاف أوزاره

و تبعاته و سوء عاقبته.» «3»

______________________________

(1)- سنن أبي داود 2/ 75، كتاب الجهاد، باب في الوفاء بالعهد.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 1027؛ عبده 3/ 117؛ لح/ 442- 443، الكتاب 53.

(3)- مستدرك الوسائل 2/ 250، الباب 19 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 735

فهذه: سياسة الإسلام المبنية على أساس الصدق و الوفاء بالعهود و الذمم و لو كانت مع الأعداء و أعقب الوفاء بها ضيقا و شدّة، فلا مدالسة و لا خداع و لو مع الاعداء.

نعم، سياسة أبناء الدنيا و أهل الهوى مبنيّة على أساس الغدر و الخداع، كما تراه. و من يتّهم أمير المؤمنين «ع» بعدم السياسة فلا محالة يريد بها هذه السياسة المبنية على الكذب و الغدر، و قد قال- عليه السّلام-: «و اللّه ما معاوية بأدهى منّي و لكنه يغدر و يفجر، و لو لا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس.» «1» هذا.

و الوفاء بالعهد على ما ذكره أمير المؤمنين «ع» من الفضائل التي اجتمع عليه الناس مع تفرقهم في الآراء و الأهواء، و لزمه المشركون أيضا فيما بينهم مع كونهم دون المسلمين في العقائد و الأخلاق. فهو أمر فطري تستحسنه عقول جميع الناس، و يجب على كل مسلم أن يلتزم به و لو فرض كونه بضرره و كان الطرف كافرا.

و لو لا ذلك لم يعتمد أحد على أحد، و اختلّ النظام فأعقب ذلك الضرر لجميع البشر.

[رسول اللّه «ص» كان يلتزم بمعاهداته]

21- و قد اهتم بذلك رسول اللّه «ص» في سيرته؛ فكان يلتزم بمعاهداته ما لم يخن صاحبه:

فهو «ص» في الحديبية بعد ما تمّ عقد الصلح بينه و بين سهيل بن عمرو من قبل المشركين و كان في

عهده معهم أنّه «من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم»، فبينا هو «ص» يكتب الكتاب هو و سهيل إذ جاء أبو جندل، و كان ممن أسلم من قبل، فقام سهيل و ضرب وجهه و قال يا محمّد، قد لجّت القضية بيني و بينك قبل أن يأتيك هذا. قال: صدقت. فجعل سهيل يجرّه ليردّه إلى قريش، و جعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته يا معشر المسلمين، أ أردّ إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ فقال رسول اللّه «ص»: «يا أبا جندل، اصبر و احتسب، فإنّ اللّه جاعل لك و لمن معك من المستضعفين فرجا و مخرجا. إنّا قد عقدنا بيننا و بين القوم صلحا و أعطيناهم على ذلك و أعطونا عهد اللّه، و إنّا

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 648؛ عبده 2/ 206؛ لح/ 318، الخطبة 200.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 736

لا نغدر بهم.» «1»

و لما رجع رسول اللّه «ص» إلى المدينة أتاه أبو بصير عتبة بن أسيد، و كان ممن حبس بمكة، فلمّا قدم على رسول اللّه «ص» كتب فيه الأزهر و الأخنس إلى رسول اللّه «ص» و بعثا رجلا من بني عامر و معه مولى لهم فقدما على رسول اللّه «ص» بكتاب الأزهر و الأخنس، فقال رسول اللّه «ص»: «يا أبا بصير، إنّا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، و لا يصلح لنا في ديننا الغدر، و إنّ اللّه جاعل لك و لمن معك من المستضعفين فرجا و مخرجا فانطلق إلى قومك.» قال: يا رسول اللّه، أ تردّني إلى المشركين يفتنونني في ديني؟ قال: «يا أبا بصير، انطلق فإنّ اللّه- تعالى- سيجعل لك و لمن معك

من المستضعفين فرجا و مخرجا.» «2»

و قول سهيل: «لجّت القضية»، أي تمّت المعاهدة بيني و بينك.

فتدبّر في اهتمام رسول اللّه «ص» و عنايته بعهده، بحيث لا يرضى بالتخلّف عنه و لو في طريق مصلحة بعض من آمن به و التجأ إليه.

[وفاء عليّ ع بعهده بعد التحكيم]

22- و في وقعة صفّين بعد ما أصرّ أكثر جند أمير المؤمنين «ع» على التحكيم و اختيار أبي موسى الأشعري لذلك، و اضطرّ أمير المؤمنين إلى قبوله، لمّا رجعوا عن ذلك و قالوا له «ع»: «قد كانت منّا زلّة حين رضينا بالحكمين، فرجعنا و تبنا، فارجع أنت يا عليّ كما رجعنا ...»، قال أمير المؤمنين «ع»: «و يحكم، أبعد الرضا و الميثاق و العهد نرجع؟ أ و ليس اللّه- تعالى- قال: «أَوْفُوا بِالْعَهْدِ»، و قال: «وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اللّٰهِ إِذٰا عٰاهَدْتُمْ وَ لٰا تَنْقُضُوا الْأَيْمٰانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهٰا وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اللّٰهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا». فأبى عليّ «ع» أن يرجع «3». هذا.

و قد تحصل لك من جميع ما ذكرناه في هذا الفصل في السياسة الخارجية للإسلام

______________________________

(1)- راجع سيرة ابن هشام 3/ 332- 333.

(2)- راجع سيرة ابن هشام 3/ 337.

(3)- وقعة صفّين/ 514. و الآيتان من سورتي الإسراء (17)، الرقم 34؛ و النحل (16)، الرقم 91.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 737

و معاملة المسلمين للكفّار أنّ الإسلام دين و سياسة معا، و هو دين عامّ عالميّ أبديّ و دين حق و عدالة، فيجب دعوة جميع الناس إليه و الدفاع عنه و عمن أسلم في شرق الأرض و غربها. و أنّ جميع المسلمين أمّة واحدة لا يحكم عليهم إلّا الإسلام. و أن الكفر بشعبه أيضا ملّة واحدة، و هو يعاند بجميع شعبه

الإسلام، فيجب أن يستعدّ المسلمون و يتجهزوا و يعدّوا القوى في قبال الكفّار و أن يتركوا موالاتهم و اتخاذهم بطانة.

كلّ ذلك لأداء حقّ اللّه و حقّ الإنسانية و الدفاع عن التوحيد و عن العدالة.

و لكن مع ذلك كلّه لو لم يقاتلوا المسلمين و لم يظاهروا عليهم جاز معاملتهم بالبرّ و القسط و التعاهد معهم إذا اقتضته مصلحة الإسلام و المسلمين. و هم ما داموا يوفون بعهدهم و مواثيقهم وجب على الحكومة الإسلامية و الأمّة المسلمة رعاية عهودهم و مواثيقهم، فهي من لوازم الإيمان و التقوى على ما ظهر من نصّ الكتاب العزيز.

نعم، إذا هم غدروا بالمسلمين و نقضوا العهد ارتفعت حرمتهم قهرا بما عملته أيديهم. كما أنّه لو ظهرت أمارات الغدر و الخيانة فالصبر ربّما يكون مخالفا للحزم و الاحتياط و موجبا لسلطتهم على المسلمين على حين غفلة منهم.

فعلى حاكم المسلمين حينئذ إعلامهم بقطع العلاقات احتياطا للإسلام و الأمّة، و لا يجوز له قتالهم قبل الإبلاغ و الإعلام:

قال اللّه- تعالى-: «الَّذِينَ عٰاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَ هُمْ لٰا يَتَّقُونَ* فَإِمّٰا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ* وَ إِمّٰا تَخٰافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيٰانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلىٰ سَوٰاءٍ، إِنَّ اللّٰهَ لٰا يُحِبُّ الْخٰائِنِينَ.» «1»

______________________________

(1)- سورة الأنفال (8)، الآية 56- 58.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 738

الجهة العاشرة: في الحصانة السياسية للسفراء و الرسل:

للسفراء و الرسل حصانة سياسية و احترام خاصّ عند حاكم الإسلام، بحيث يجترئ أحدهم أن يبلغ رسالته و يبرز عقائده المخالفة بجدّ و صراحة من دون أن يعرضه خوف أو يلحقه ضرر:

1- فعن قرب الإسناد، عن السندي بن محمد، عن أبي البختري، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن

آبائه «ع»، قال: قال رسول اللّه «ص»: «لا يقتل الرسل و لا الرهن.» «1»

2- و في سيرة ابن هشام أنّ مسيلمة كتب إلى رسول اللّه «ص»: «من مسيلمة رسول اللّه إلى محمد رسول اللّه: سلام عليك. أمّا بعد فإنّي قد أشركت في الأمر معك، و إنّ لنا نصف الأرض و لقريش نصف الأرض و لكن قريشا قوم يعتدون.»

فقدم إليه رسولان بهذا الكتاب، فقال لهما: ما تقولان أنتما؟ قالا: نقول كما قال.

فقال «ص»: «أما و اللّه لو لا أنّ الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما.» ثمّ كتب إلى مسيلمة:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم من محمد رسول اللّه إلى مسيلمة الكذّاب: السلام على من اتبع الهدى، أمّا بعد فإنّ الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتقين.» و ذلك في آخر سنة عشر «2».

3- و في سنن أبي داود بسنده، عن نعيم بن مسعود، قال: سمعت رسول اللّه «ص» يقول لهما حين قرءا كتاب مسيلمة: «ما تقولان أنتما؟» قالا: نقول كما

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 90، الباب 44 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 2.

(2)- سيرة ابن هشام 4/ 247.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 739

قال. قال: «أما و اللّه لو لا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما.» «1»

4- و فيه أيضا بسنده، عن عبد اللّه، قال: سمعت رسول اللّه «ص» يقول:

«لو لا أنّك رسول لضربت عنقك.» «2»

5- و في سنن البيهقي بسنده، عن عبد اللّه، قال: «مضت السنة أن لا تقتل الرسل.» «3»

6- و في سنن أبي داود أيضا بسنده، عن أبي رافع، قال: بعثتني قريش إلى رسول اللّه «ص» فلما رأيت رسول اللّه «ص» ألقى في قلبي الإسلام، فقلت:

يا رسول اللّه،

إنّي و اللّه لا أرجع إليهم أبدا، فقال رسول اللّه «ص»: «إنّي لا أخيس بالعهد و لا أحبس البرد، و لكن ارجع فإن كان في نفسك الذي في نفسك الآن فارجع.» قال:

فذهبت ثم أتيت النبي «ص» فأسلمت «4».

أقول: و البرد جمع البريد: و هو الرسول. و لعلّ كلام رسول اللّه «ص» ناظر إلى أمر ارتكازي تحكم به الفطرة، فإنّ الحفاظ على الأنظمة الاجتماعية يتوقف على حفظ الروابط الاجتماعية من حصانة الرسل و الكتب و الوفاء بالمعاهدات و نحو ذلك، و لذلك ترى استقرار سيرة العقلاء على الاهتمام بأمر السفراء و الرسل و حصانتهم.

7- و في أنساب الأشراف للبلاذري في ذكر الصحيفة التي كتبها معاوية إلى عليّ «ع» قال: «فلمّا رآها عليّ قال: ويلك، ما وراءك؟ قال: أخاف أن تقتلني، قال: و لم أقتلك و أنت رسول؟!» «5»

______________________________

(1)- سنن أبي داود 2/ 76، كتاب الجهاد، باب في الرسل.

(2)- سنن أبي داود 2/ 76، كتاب الجهاد، باب في الرسل.

(3)- سنن البيهقي 9/ 212، كتاب الجزية، باب السنّة ان لا يقتل الرسل.

(4)- سنن أبي داود 2/ 75، كتاب الجهاد، باب في الإمام يستجنّ به في العهود.

(5)- أنساب الأشراف 2/ 211.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 740

الجهة الحادية عشرة: في حكم جاسوس العدوّ:

من المسائل المهمة التي تبتلى بها الأنظمة و الدول استخبارات العدوّ الأجنبي بأياديه و جواسيسه الداخلية و الخارجية النافذة في المجتمعات و الدوائر و الجنود و مراكز التصميم و القرار.

و الخسارة المترتبة عليها كثيرة و لا سيما في المعارك و الحروب، فيجب على الحاكم المدبّر العاقل مراقبة أعمال الأفراد و حركاتهم و التهيؤ الدائم في قبالها. إذ ربّ غفلة عن ذلك توجب هزيمة فظيعة و خسارة فادحة

لا يجبرها شي ء، و لعلّ قوله- تعالى- بعد الأمر بإعداد القوّة في قبال الكفّار: «و آخرين من دونهم لا تعلمونهم، اللّه يعلمهم» ناظر إلى هذا الطابور الخامس و الشبكة الداخلية التي يستخدمها العدوّ للتجسّس و الاطلاع على إمكانات المسلمين و روحياتهم.

و يظهر من الآثار و الروايات الإسلامية أنّ الجزاء المناسب لهذا الذنب العظيم هو القتل و الإعدام إلّا أن يعفى عنه لجهات مبرّرة له، فإنّ عظم الجناية و جزاءها متناسبان للشرور و الخسارات المترتبة عليها. فلنذكر بعض الروايات:

1- بعد ما نقض المشركون معاهدة الحديبية و رأى رسول اللّه «ص» عنادهم للإسلام و منعهم عن بسط الحق و العدالة، صمّم «ص» على فتح مكة و رفع شرّهم و كسر شوكتهم بمفاجأتهم و الوقوع عليهم بلا تهيؤ منهم، فأعلم الناس أنّه سائر إلى مكّة، و أمرهم بالجدّ و التهيؤ، و قال: «اللّهم خذ العيون و الأخبار عن قريش حتّى نبغتها في بلادها.» فتجهّز الناس، فلمّا أجمع رسول اللّه «ص» المسير إلى مكّة كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول اللّه «ص»، ثمّ أعطاه امرأة و جعل لها جعلا على أن تبلغه قريشا، فجعلته في رأسها ثمّ فتلت عليه قرونها

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 741

و خرجت به، و أتى رسول اللّه الخبر من السماء، فبعث علي بن أبي طالب و الزبير بن العوّام فقال: أدركا المرأة، فخرجا حتّى أدركاها فاستنزلاها فالتمسا في رحلها فلم يجدا شيئا، فقال لها عليّ بن أبي طالب: إنّي أحلف باللّه ما كذب رسول اللّه «ص» و لا كذبنا، و لتخرجنّ الكتاب أو لنكشفنّك، فلما رأت الجدّ منه قالت: أعرض، فأعرض

فحلّت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب فدفعته إليه، فأتى به رسول اللّه «ص»، فدعا رسول اللّه «ص» حاطبا فقال: يا حاطب، ما حملك على هذا؟ فقال: يا رسول اللّه، أما و اللّه إنّي لمؤمن باللّه و رسوله، ما غيرت و لا بدّلت، و لكني كنت امرأ ليس لي في القوم من أصل و لا عشيرة و كان لي بين أظهرهم ولد و أهل فصانعتهم عليهم. فقال عمر بن الخطاب: يا رسول اللّه، دعني فلأضرب عنقه فإنّ الرجل قد نافق، فقال رسول اللّه «ص»: و ما يدريك يا عمر، لعلّ اللّه قد اطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، فأنزل اللّه- تعالى- في حاطب: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِيٰاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ.» انتهى ما في سيرة ابن هشام ملخصا «1».

و روى نحوه أبو داود في الجهاد من سننه و فيه: «فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول اللّه «ص»: قد شهد بدرا، و ما يدريك لعلّ اللّه اطّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.» «2»

و روى قصة حاطب أيضا علي بن إبراهيم في تفسيره في تفسير سورة الممتحنة «3»، و الطبرسي في مجمع البيان «4»، و البخاري في كتاب الجهاد «5». و يوجد في النقول اختلافات جزئية، فراجع.

و رسول اللّه «ص» لم يردع عمر عما اعتقده من جواز قتل المنافق المتجسس، بل لعلّه «ص» قرّره على ذلك و لكنه جعل سابقة حاطب في الإسلام و في بدر مبرّرا

______________________________

(1)- سيرة ابن هشام 4/ 39- 41.

(2)- سنن أبي داود 2/ 44- 45، كتاب الجهاد، باب في حكم الجاسوس إذا كان مسلما.

(3)-

تفسير علي بن إبراهيم 2/ 361.

(4)- مجمع البيان 5/ 269- 270 (الجزء 9).

(5)- صحيح البخاري 2/ 170، كتاب الجهاد و السير، باب الجاسوس.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 742

للعفو عنه، فلا ينافي ذلك كون جزاء العمل بطبعه هو القتل كما يظهر من الروايات الآتية.

فما في جهاد المبسوط «1» من عدم حلّ قتل الجاسوس المسلم تمسكا بعدم استحلال النبي «ص» لقتل حاطب قابل للمناقشة.

2- و في المغازي للواقدي في غزوة المريسيع (بني المصطلق) ما ملخصه:

«فلمّا نزل رسول اللّه ببقعاء أصاب عينا للمشركين، فقالوا له: ما وراءك؟ أين الناس؟ قال: لا علم لي بهم. قال عمر: لتصدقنّ أو لأضربنّ عنقك. قال: فأنا رجل من بلمصطلق تركت الحارث بن أبي ضرار قد جمع لكم الجموع و تجلب إليه ناس كثير و بعثني إليكم لآتيه بخبركم و هل تحركتم من المدينة، فأتى عمر بذلك رسول اللّه «ص» فأخبره الخبر، فدعاه رسول اللّه «ص» إلى الإسلام فأبى، فقال عمر: يا رسول اللّه، اضرب عنقه. فقدمه رسول اللّه «ص» فضرب عنقه.» «2»

3- و في مستدرك الوسائل عن دعائم الإسلام: «و الجاسوس و العين إذا ظفر بهما قتلا.

كذلك روينا عن أهل البيت.» «3»

4- و في سنن أبي داود بسنده، عن سلمة بن الأكوع، قال: أتى النبي «ص» عين من المشركين و هو في سفر، فجلس عند أصحابه ثم انسلّ، فقال النبي «ص»:

«اطلبوه فاقتلوه.» قال: فسبقتهم إليه فقتلته و أخذت سلبه فنفلني إيّاه «4».

5- و فيه أيضا عن سلمة، قال: غزوت مع رسول اللّه «ص» هوازن، قال: فبينما نحن نتضحّى و عامّتنا مشاة و فينا ضعفة إذ جاء رجل على جمل أحمر، فانتزع طلقا من حقو البعير فقيّد

به جملة ثمّ جاء يتغدّى مع القوم، فلمّا رأى ضعفتهم و رقّة ظهرهم

______________________________

(1)- المبسوط 2/ 15.

(2)- المغازي 1/ 406.

(3)- مستدرك الوسائل 3/ 249، الباب 1 من أبواب الدفاع، الحديث 1.

(4)- سنن أبي داود 2/ 45، كتاب الجهاد، باب في الجاسوس المستأمن.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 743

خرج يعدو إلى جمله فأطلقه ثمّ أناخه فقعد عليه، ثم خرج يركضه، و اتبعه رجل من أسلم على ناقة و رقاء هي أمثل ظهر القوم، قال: فخرجت أعدو فأدركته و رأس الناقة عند ورك الجمل و كنت عند ورك الناقة، ثمّ تقدمت حتى كنت عند ورك الجمل ثمّ تقدمت حتى أخذت بخطام الجمل فأنخته، فلمّا وضع ركبته بالأرض اخترطت سيفي فأضرب رأسه فندر، فجئت براحلته و ما عليها أقودها فاستقبلني رسول اللّه «ص» في الناس مقبلا فقال: «من قتل الرجل؟» فقالوا: سلمة بن الأكوع.

قال: «له سلبه أجمع.» «1» و رواه مسلم أيضا في صحيحه «2»

أقول: الطلق محركة: العقال من جلد. و حقو البعير: كشحه. و الظهر: المركوب.

و قوله: فندر، أي انفصل عن جسده و مات.

6- و فيه أيضا بسنده، عن فرات بن حيان أنّ رسول اللّه «ص» أمر بقتله و كان عينا لأبي سفيان و كان حليفا لرجل من الأنصار، فمرّ بحلقة من الأنصار فقال: إنّي مسلم، فقال رجل من الأنصار: يا رسول اللّه إنّه يقول: إني مسلم، فقال رسول اللّه «ص»: «إنّ منكم رجالا نكلهم إلى إيمانهم، منهم فرات بن حيّان.» «3»

7- و في إرشاد المفيد: «فلما بلغ معاوية بن أبي سفيان وفاة أمير المؤمنين «ع» و بيعة الناس ابنه الحسن «ع» دسّ رجلا من حمير إلى الكوفة و رجلا من بني

القين إلى البصرة ليكتبا إليه بالأخبار و يفسدا على الحسن «ع» الأمور، فعرف ذلك الحسن «ع» فأمر باستخراج الحميري من عند لحّام (حجام خ. ل) بالكوفة، فأخرج و أمر بضرب عنقه، و كتب إلى البصرة باستخراج القيني من بني سليم، فأخرج و ضربت عنقه. و كتب الحسن «ع» إلى معاوية: أمّا بعد فإنّك دسست الرجال للاحتيال

______________________________

(1)- سنن أبي داود 2/ 45، كتاب الجهاد، باب في الجاسوس المستأمن.

(2)- صحيح مسلم 3/ 1374، كتاب الجهاد و السير، الباب 13 (باب استحقاق القاتل سلب القتيل)، الحديث 1754.

(3)- سنن أبي داود 2/ 45، كتاب الجهاد، باب في الجاسوس الذمّيّ.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 744

و الاغتيال و أرصدت العيون، كأنّك تحبّ اللقاء، و ما أوشك ذلك ...» «1»

و بالجملة، فالظاهر أنّ استحقاق الجواسيس للقتل كان أمرا واضحا في عصر النبي «ص» و الأئمّة «ع» و إن كان قد يعفى عنهم لجهات مبرّرة.

هذا مضافا إلى صدق عنوان المنافق و المفسد و المحارب و الباغي على الجاسوس غالبا، فتدبّر.

و في خراج أبي يوسف:

«و سألت يا أمير المؤمنين عن الجواسيس يوجدون و هم من أهل الذمّة أو أهل الحرب أو من المسلمين، فإن كانوا من أهل الحرب أو من أهل الذمّة ممن يؤدّي الجزية من اليهود و النصارى و المجوس فاضرب أعناقهم، و إن كانوا من أهل الإسلام معروفين فأوجعهم عقوبة و أطل حبسهم حتى يحدثوا توبة.

قال أبو يوسف: و ينبغي للإمام أن تكون له مسالح على المواضع التي تنفذ إلى بلاد أهل الشرك من الطرق، فيفتشون من مرّ بهم من التجّار؛ فمن كان معه سلاح أخذ منه و ردّ، و من كان معه رقيق ردّ،

و من كانت معه كتب قرئت كتبه؛ فما كان من خبر من أخبار المسلمين قد كتب به أخذ الذي أصيب معه الكتاب و بعث به إلى الإمام ليرى فيه رأيه.» «2»

و الحاصل أنّ حفظ النظام الذي هو من أهمّ الفرائض يتوقف على سياسة الحزم مع المنافقين و جواسيس الأعداء، كما يتوقف على بعث العيون و المراقبين ليستخبروا مكائد العدوّ و قراراته.

و الفرق بين جاسوس العدوّ و جاسوس المسلمين أنّ الأوّل يقوّي جانب الكفر و الفساد، و الثاني يقوّي نظام الحق و العدل، فيجب دفع شرّ الأوّل و تقوية الثاني، فتدبّر.

______________________________

(1)- الإرشاد للمفيد/ 170 (طبعة أخرى/ 188).

(2)- الخراج/ 189.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 745

الجهة الثانية عشرة: في ذكر بعض معاهدات النبي «ص» مع الكفّار من أهل الكتاب و غيرهم:

اشارة

من المناسب في هذا الفصل ذكر بعض معاهدات النبي «ص» مع الكفّار تتميما للفائدة و التفصيل موكول إلى الكتب المفصّلة:

1- عهد كتبه «ص» بين أهل المدينة:
اشارة

بعد ما ورد النبي «ص» يثرب- المدينة- عقد وثيقة سياسية تحدّد العلاقات الإنسانية و الحقوق المتقابلة بين أهل المدينة من المسلمين و اليهود و غيرهم، و تعتبر قانونا أساسيّا للدولة الإسلامية التي أسّسها النبي «ص» في المدينة:

ففي سيرة ابن هشام: «قال ابن إسحاق: و كتب رسول اللّه «ص» كتابا بين المهاجرين و الأنصار، و ادع فيه يهود و عاهدهم، و أقرّهم على دينهم و أموالهم، و شرط لهم، و اشترط عليهم:

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ هذا كتاب من محمد النبي «ص»، بين المؤمنين و المسلمين من قريش و يثرب، و من تبعهم فلحق بهم و جاهد معهم، إنهم أمّة واحدة من دون الناس. المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم، و هم يفدون عانيهم بالمعروف و القسط بين المؤمنين. و بنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، كلّ طائفة تفدي عانيها بالمعروف و القسط بين المؤمنين. و بنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، و كلّ طائفة منهم تفدى عانيها بالمعروف و القسط بين المؤمنين و بنو الحارث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، و كلّ طائفة تفدي عانيها بالمعروف و القسط بين المؤمنين. و بنو جشم

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 746

على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، و كلّ طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف و القسط بين المؤمنين.

و بنو النجّار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، و كلّ طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف و القسط بين المؤمنين. و بنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، و كلّ طائفة تفدي عانيها

بالمعروف و القسط بين المؤمنين. و بنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، و كلّ طائفة تفدي عانيها بالمعروف و القسط بين المؤمنين. و بنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، و كلّ طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف و القسط بين المؤمنين.

و إنّ المؤمنين لا يتركون مفرحا بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل.

قال ابن هشام: المفرح: المثقل بالدين و الكثير العيال. قال الشاعر:

إذا أنت لم تبرح تؤدّي أمانة و تحمل أخرى أفرحتك الودائع.

و أن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه. و إنّ المؤمنين المتقين (أيديهم- الأموال) على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، و إنّ أيديهم عليه جميعا، و لو كان ولد أحدهم.

و لا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر. و لا ينصر كافرا على مؤمن. و إنّ ذمّة اللّه واحدة، يجير عليهم أدناهم.

و إنّ المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس. و إنّه من تبعنا من يهود فإنّ له النصر و الأسوة، غير مظلومين و لا متناصرين عليهم. و إنّ سلم المؤمنين واحد، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل اللّه إلّا على سواء و عدل بينهم. و إنّ كلّ غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضا.

و إنّ المؤمنين يبئ بعضهم على (عن خ. ل) بعض بما نال دماءهم في سبيل اللّه.

و إنّ المؤمنين المتقين على أحسن هدي و أقومه. و إنّه لا يجير مشرك مالا لقريش و لا نفسا، و لا يحول دونه على مؤمن. و إنّه من اعتبط مؤمنا قتلا عن بيّنة فإنّه قود به إلّا أن يرضى وليّ المقتول، و إنّ المؤمنين عليه كافة، و لا يحلّ لهم إلّا قيام

عليه. و إنّه لا يحل لمؤمن أقرّ بما في هذه الصحيفة، و آمن باللّه و اليوم الآخر أن ينصر محدثا و لا يؤويه، و إنّه من نصره أو آواه فإنّ عليه لعنة اللّه و غضبه يوم القيامة، و لا يؤخذ منه صرف و لا عدل.

و إنّكم مهما اختلفتم فيه من شي ء، فإنّ مردّه إلى اللّه- عزّ و جلّ-، و إلى محمّد «ص».

و إنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. و إنّ يهود بني عوف أمّة مع المؤمنين، لليهود

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 747

دينهم، و للمسلمين دينهم، مواليهم و أنفسهم إلّا من ظلم و أثم فإنّه لا يوتغ إلّا نفسه و أهل بيته. و إنّ ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف. و إنّ ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف. و إنّ ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف. و إنّ ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف. و إنّ ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف. و إن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلّا من ظلم و أثم فإنّه لا يوتغ إلّا نفسه و أهل بيته. و إن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم. و إنّ لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف. و إنّ البرّ دون الإثم. و إنّ موالي ثعلبة كأنفسهم. و إنّ بطانة يهود كأنفسهم. و إنّه لا يخرج منهم أحد إلّا بإذن محمد «ص»، و إنه لا ينحجز على ثار جرح. و إنّه من فتك فبنفسه فتك، و أهل بيته إلّا من ظلم. و إنّ اللّه على أبرّ هذا.

و إنّ على اليهود نفقتهم، و على

المسلمين نفقتهم. و إنّ بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة. و إنّ بينهم النصح و النصيحة و البرّ دون الإثم. و إنّه لا يأثم امرؤ بحليفه، و إنّ النصر للمظلوم. و إنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. و إنّ يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة. و إنّ الجار كالنفس غير مضارّ و لا آثم. و إنّه لا تجار حرمة إلّا بإذن أهلها.

و إنّه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإنّ مردّه إلى اللّه- عزّ و جلّ-، و إلى محمد رسول اللّه «ص». و إنّ اللّه على أتقى هذه الصحيفة و أبرّه. و إنّه لا تجار قريش و لا من نصرها. و إنّ بينهم النصر على من دهم يثرب، و إذا دعوا إلى صلح يصالحونه و يلبسونه فإنّهم يصالحونه و يلبسونه، و إنّهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنّه لهم على المؤمنين إلّا من حارب في الدين، على كل أناس حصّتهم من جانبهم الذي قبلهم. و إنّ يهود الأوس مواليهم و أنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البرّ المحض من أهل هذه الصحيفة.

قال ابن هشام: و يقال: مع البرّ المحسن من أهل هذه الصحيفة.

قال ابن إسحاق: و إنّ البرّ دون الإثم، لا يكسب كاسب إلّا على نفسه. و إنّ اللّه على أصدق ما في هذه الصحيفة و أبرّه. و إنّه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم و آثم، و إنّه من خرج آمن و من قعد آمن إلّا من ظلم أو أثم، و إنّ اللّه جار لمن برّ و اتّقى، و محمّد رسول اللّه «ص».» «1»

______________________________

(1)- سيرة ابن هشام 2/ 147- 150.

دراسات في ولاية

الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 748

أقول: و رواه مع اختلاف أبو عبيد في الأموال «1» و رواه أيضا في مجموعة الوثائق السياسيّة «2».

و إنّما ذكرناه بطوله لكونه أقدم عهد سياسي باق و أطوله في الإسلام و الحجر الأساسي للحكومة الإسلامية، و يكون دليلا واضحا على بعد نظر رسول اللّه «ص» و عظمته السياسية، فقد ربط بهذا العهد جميع أهل المدينة من الأوس و الخزرج و اليهود، مع ما كان بينهم من التنازع و التناحر، و جعل منهم حصنا منيعا في قبال الكفر و الشرك، و أسّس لهم دولة عادلة تحت لوائه و حكمه.

و الربعة و روي «رباعة» بالكسر و الفتح: الحال و العادة التي كانوا عليها في الدماء و الديات. و العاني: الأسير. و المعاقل جمع المعقلة: الديات. و المفرح بفتح الراء:

المثقل بدين أو دية أو فداء، فيجب على المسلمين أن يعينوه. و الدسيعة: العطية العظيمة. و الظاهر أنّ معنى الجملة أنّه يجب على المؤمنين أن يتعاونوا على دفع كلّ من طلب منهم عطية على وجه الظلم و الإثم. و الأسوة: العون، و التسلية، و المساواة.

و في النهاية: «يعقب بعضها بعضا، أي يكون الغزو بينهم نوبا.» «3» و يبئ بمعنى يقرّ أو يرجع، و لعلّ الثاني أنسب، فيرجع معناه إلى معنى ما سبقه. و قوله: «لا يجير مشرك مالا لقريش و لا نفسا»، أي لا يجوز لمشرك من أهل يثرب أن يحمي مالا لقريش و لا نفسا. و اعتبطه، أي قتله بلا جناية منه توجب قتله. و الصرف: التوبة. و العدل: الفداء. و «إنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين»، أي يؤدّون حصّتهم من نفقة الحرب. لا يوتغ، أي لا يهلك. لا ينحجز على

ثار جرح، أي لا يمنع من طلب الجرح بقصاص أو دية. و «إنّ اللّه على أبرّ هذا»، أي على الرضا به و يكون مع من يكون أطوع لهذا العهد. دهم يثرب:

هاجمها.

______________________________

(1)- الأموال/ 260- 264، الرقم 518.

(2)- الوثائق السياسيّة/ 59- 62، الرقم 1.

(3)- النّهاية لابن الأثير 3/ 267.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 749

و العهد كما ترى يشتمل على أصول مهمة أهمّها:

1- جعل المسلمين على اختلاف شعوبهم و قبائلهم أمّة واحدة في قبال سائر الناس.

2- إقرار المهاجرين و قبائل الأنصار كلّا منهم على عاداتهم و سننهم في أحكام الديات و الدماء. و قد نسخ ذلك فيما بعد بما ورد في الحدود و القصاص و الديات في الإسلام.

3- يجب على كل طائفة أن تفدي أسيرها بالمعروف و القسط.

4- على المؤمنين إعانة المثقل منهم بفداء أو دية.

5- على المؤمنين أن يقيموا بأجمعهم على القائم بينهم بالظلم و الإثم و العدوان و الفساد و لو كان ولدا لأحدهم.

6- لا يقتل مؤمن بكافر، و لا ينصر كافر على مؤمن.

7- يجوز لأدنى المسلمين أن يجير عليهم أيّ شخص أراد.

8- لا يسمح لمشرك أن يجير مالا أو دما لمشرك من قريش.

9- القاتل للمؤمن يقاد منه إلّا أن يرضى وليّ المقتول بالدية.

10- لا يسمح لأحد أن ينصر محدثا أو يؤويه.

11- لقبائل اليهود و مواليهم و بطانتهم حقوقهم العامة من الأمن و الحرية في الدين و سائر الشؤون بشرط أن يسايروا المسلمين، و إنّ عليهم مثل ما على المؤمنين من نفقة الحرب في قبال المهاجمين.

12- على جميع أهل هذا العهد القيام في قبال من هاجم المدينة، و إن دعا أحد الطرفين إلى الصلح فله ذلك إلّا من حارب في الدين.

13- الجار كالنفس غير مضارّ و لا

آثم.

14- النبي «ص» مرجع لهم في المشاكل و الخصومات الواقعة بين المسلمين أو بين اليهود أو بين المسلمين و بين اليهود.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 750

2- هدنة الحديبية:

في أواخر السنة السادسة من الهجرة خرج رسول اللّه «ص» بمن معه معتمرا لا يريد حربا، و أحرم بالعمرة و سار حتى نزل الحديبية، و فيها وقعت بيعة الرضوان.

و صمّمت قريش على منعهم من دخول مكّة. و تبادل النبي «ص» بينه و بينهم سفراء، ثمّ بعثت قريش سهيل بن عمرو إليه «ص» و قالوا له ايت محمدا فصالحه، و لا يكن في صلحه إلّا أن يرجع عنا عامه هذا، فو اللّه لا تحدث العرب عنّا انّه دخلها علينا عنوة أبدا. فتراجع سهيل و رسول اللّه «ص»، ثمّ جرى بينهما الصلح، فدعا رسول اللّه «ص» عليّا «ع» و أمره بكتابته، و هذه صورته:

«باسمك اللّهم هذا ما صالح عليه محمد بن عبد اللّه سهيل بن عمرو.

و اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس و يكفّ بعضهم عن بعض، [على أنّه من قدم مكة من أصحاب محمد «ص» حاجّا أو معتمرا أو يبتغي من فضل اللّه فهو آمن على دمه و ماله، و من قدم المدينة من قريش مجتازا إلى مصر أو إلى الشام يبتغي من فضل اللّه فهو آمن على دمه و ماله.]

على أنّه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم، و من جاء قريشا ممّن مع محمّد لم يردّوه عليه.

و أنّ بيننا عيبة مكفوفة، و أنّه لا إسلال و لا إغلال.

و أنّه من أحبّ أن يدخل في عقد محمّد و عهده دخله، و من أحبّ أن يدخل

في عقد قريش و عهدهم دخل فيه.

و أنت ترجع عنّا عامك هذا، فلا تدخل علينا مكة. و أنّه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثا، معك سلاح الراكب، السيوف في القرب، و لا تدخلها بغيرها.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 751

[و على أنّ هذا الهدى حيث ما جئناه و محلّه فلا تقدمه علينا.] ...

أشهد على الصلح رجال من المسلمين و رجال من المشركين ... «1»

أقول: الإسلال: الغارة الظاهرة أو سلّ السيوف، و الإغلال: الخيانة.

3- عهد أمان منه «ص» ليهود بني عاديا من تيماء:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمّد رسول اللّه لبني عاديا: إنّ لهم الذمّة و عليهم الجزية، و لا عداء و لا جلاء، الليل مدّ و النهار شدّ، و كتب خالد بن سعيد.» «2»

أقول: العداء: الظلم و التجاوز. و الجلاء: الإخراج عن الوطن. «الليل مدّ و النهار شدّ»، يعني أنّه حلف أبد لطول أمد يزيده طلوع الشمس شدّا و ظلام الليل مدّا.

4- معاهدته «ص» مع أهل أيلة:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم هذه أمنة من اللّه و محمّد النبيّ رسول اللّه ليحنّة بن رؤبة و أهل أيلة. سفنهم و سيّارتهم في البرّ و البحر، لهم ذمّة اللّه و ذمّة محمد النبيّ، و من كان معهم من أهل الشام و أهل اليمن و أهل البحر.

______________________________

(1)- الوثائق السياسية/ 77 و 80، الرقم 11؛ و سيرة ابن هشام 3/ 331- 332؛ و الأموال/ 206- 209، الرقم 440 و ما بعده، باختلاف في النقل و قد نقلناه من الوثائق.

(2)- الوثائق السّياسيّة/ 98، الرقم 19.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 752

فمن أحدث منهم حدثا فإنّه لا يحول ماله دون نفسه، و إنّه طيّب لمن أخذه من الناس.

و إنّه لا يحلّ أن يمنعوا ماء يردونه، و لا طريقا يريدونه من برّ أو بحر.»

هذا كتاب جهيم بن الصلت و شرحبيل بن حسنة بإذن رسول اللّه «1».

5- دعوته «ص» أساقفة نجران:

«من محمد رسول اللّه إلى أساقفة نجران:

بسم إله إبراهيم و إسحاق و يعقوب،

أمّا بعد فإنّي أدعوكم إلى عبادة اللّه من عبادة العباد، و أدعوكم إلى ولاية اللّه من ولاية العباد. فإن أبيتم فالجزية. و إن أبيتم آذنتكم بحرب. و السلام.» «2»

6- كتابه «ص» لأبي الحارث بن علقمة أسقف نجران:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم من محمّد النّبيّ، إلى الأسقف أبي الحارث، و أساقفة نجران و كهنتهم، و من تبعهم، و رهبانهم:

إنّ لهم ما تحت أيديهم من قليل و كثير، من بيعهم و صلواتهم و رهبانيتهم، و جوار اللّه و رسوله.

لا يغيّر أسقف من أسقفيّته، و لا راهب من رهبانيّته، و لا كاهن من كهانته. و لا يغيّر حقّ من حقوقهم و لا سلطانهم، و لا شي ء ممّا كانوا عليه. [على ذلك جوار اللّه و رسوله أبدا] ما نصحوا و اصطلحوا فيما عليهم غير مثقلين بظلم و لا ظالمين.» «3»

______________________________

(1)- الوثائق السّياسيّة/ 117، الرقم 31؛ و الأموال/ 258، الرقم 514، بتفاوت بينهما.

(2)- الوثائق السّياسيّة/ 174، الرقم 93.

(3)- الوثائق السّياسيّة/ 179، الرقم 95.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 753

7- معاهدته «ص» مع نصارى نجران:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم هذا ما كتب محمّد النّبيّ رسول اللّه لأهل نجران ... و لنجران و حاشيتها جوار اللّه و ذمّة محمّد النّبيّ رسول اللّه على أموالهم، و أنفسهم، و ملّتهم، و غائبهم، و شاهدهم، و عشيرتهم، و بيعهم، و كل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير. لا يغيّر أسقف من اسقفيّته، و لا راهب من رهبانيّته، و لا كاهن من كهانته. و ليس عليهم دنيّة (ربّيّة خ. ل)، و لا دم جاهلية، و لا يحشرون، و لا يعشرون، و لا يطأ أرضهم جيش. و من سأل منهم حقّا فبينهم النّصف غير ظالمين و لا مظلومين.

و من أكل ربا من ذي قبل فذمّتي منه بريئة. و لا يؤخذ رجل منهم بظلم آخر.

و على ما في هذا الكتاب جوار اللّه و ذمّة محمّد النّبيّ رسول اللّه حتى يأتي اللّه بأمره، ما نصحوا

و أصلحوا ما عليهم، غير مثقلين بظلم.» «1»

أقول: قوله: «لا يحشرون»، أي لا يندبون إلى المغازي و لا تضرب عليهم البعوث.

و «لا يعشرون»: لا يؤخذ منهم العشر.

و روى في الوثائق من تاريخ النسطوريين نسختين طويلتين لمكتوب النّبيّ «ص» إلى نجران تشتملان على مسائل مهمّة جدّا، و لكن من المحتمل كونهما موضوعتين، فراجع «2».

______________________________

(1)- الوثائق السّياسيّة/ 175- 176، الرقم 94، و راجع أيضا فتوح البلدان/ 76 و الأموال لأبي عبيد/ 244، الرقم 503.

(2)- الوثائق السّياسيّة/ 181- 190، الرقم 96 و 97.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 755

الفصل الرّابع عشر في إشارة إجمالية إلى اهتمام الإسلام بالقوى العسكرية:

[الدفاع في نظام الطبيعة أمر طبيعيّ ضروري]

قد مرّ منّا في الفصل السادس من السير الإجمالي في روايات الفقه الإسلامي من الباب الثالث بحث في الجهاد و الدفاع و تعرّض لبعض الآيات و الروايات الواردة فيهما، فراجع.

و نقول هنا إجمالا انّ ما ذكروه من الجهاد الابتدائي للدعوة إلى الإسلام يرجع بوجه إلى الدفاع أيضا، كما مرّ بيانه.

و دفاع الإنسان عن نفسه و عما يتعلق به أمر يحكم بحسنه و ضرورته العقل و الفطرة. بل الحيوانات أيضا مفطورة على ذلك و مجهّزة في خلقتها بأجهزة الدفاع.

و كما أودع اللّه- تعالى- في بناء روح الإنسان و غيره من الحيوانات شهوة الغذاء لحفظ البدن، فكذلك أودع فيه قوة الغضب أيضا لينبعث قهرا إلى الدفاع عن نفسه و عما يتعلّق به. و كما خلق في الدم الكريات الحمر لنقل المواد النافعة إلى جميع أجزاء البدن، فكذلك خلق فيه الكريّات البيض أيضا لتدافع عن ملك البدن في قبال الجراثيم المفسدة المهاجمة.

فالدفاع في نظام الطبيعة أمر طبيعيّ ضروري لا محالة. و كما يحتاج الفرد إلى

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 756

الدفاع

عن منافعه و مصالحه، فكذلك الأمّة و المجتمع.

فقوام الدّولة و الأمّة بقدرتهما العسكرية، و بقدر ما تجهّزت الأمّة بالعدّة و العدّة، و القوى العسكرية الراقية تقدر على البقاء في مجالات الحياة و الحفاظ على كيانها و استقلالها و أمنها.

و لكن الجنود و الأجهزة العسكرية يجب أن تنظّم و تراقب جدّا تحت قيادة صالحة عادلة، لتجعل في خدمة الشعب و الدّين الحقّ لا في خدمة الشخص و مصالحه و مصالح أقاربه كما في بعض البلاد، و لا وسيلة للتّجاوز على حقوق النّاس و أموالهم و التسلّط على البلاد و العباد بالظلم و الفساد كما هو المشاهد في أكثر البلاد و لا سيّما في الدول الإمبريالية الغربية و الشرقية.

[بعض الآيات الدّالة على اهتمام الإسلام بالقوى العسكرية]

و كيف كان، فلنذكر بعض الآيات و الروايات الدّالة على اهتمام الإسلام بالقوى العسكرية و إعدادها و تقويتها:

1- قال اللّه- تعالى-: «وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِبٰاطِ الْخَيْلِ، تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّٰهِ وَ عَدُوَّكُمْ وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لٰا تَعْلَمُونَهُمُ، اللّٰهُ يَعْلَمُهُمْ. وَ مٰا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لٰا تُظْلَمُونَ.» «1»

فالآية الشريفة تتضمن نكات ينبغي الإشارة إليها:

أ- ضرورة القوة العسكرية، حيث إنّ المجتمع الإنساني يتألف من أفراد و أقوام مختلفين في الطباع و الأفكار و الأهواء، و يوجد بينهم التضادّ في المنافع و السنن، فلو لا التهيّؤ و التجهّز و إعداد القوّة لتجرأ الطرف على الهجوم و الغلبة.

ب- و الواجب هو إعداد القوّة بمفهومها الوسيع، و هي كلّ ما يتقوّى به على حفظ النظام و الدفاع عنه من أنواع السلاح و إحداث الجامعات و المعاهد الحربية و مصانع الطيّارات و الهليكوبترات النظامية و تربية الرجال المدرّبين و الأخصّائيين

في الفنون العسكرية و نحو ذلك، و يختلف ذلك باختلاف الأحوال و الأزمان و البلاد

______________________________

(1)- سورة الأنفال (8)، الآية 60.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 757

و الشرائط. و الخيل كان أقوى المراكب و أسرعها في تلك الأعصار. و كان من أهمّ القوى حينئذ مرابطة الفرسان في ثغور البلاد، و في كلّ عصر يكون حفظ الثغور في أعلى مراتب الأهميّة، كما لا يخفى.

ج- المخاطب في الآية هو الأمّة لا النّبيّ «ص» أو إمام المسلمين فقط، فتشعر الآية بأن المسؤول في هذه الوظيفة ليس هو النّبيّ أو الحاكم بانفراده، بل على كلّ فرد من آحاد المسلمين أن يقوم بذلك على حدّ استطاعته فيتدرّب في بعض ما يتعلّق بالحرب و ينفق في سبيله، و إن كان التصدّي لبعض شئونها المهمة و تنظيم برامجها من وظائف الحكومة بما أنّها ممثّلة جميع الأمّة، و لها أن تفرض التجنيد الإجباري و تعلّم فنون الحرب إذا رأته صلاحا للإسلام و المسلمين.

د- إنّ إعداد القوّة ليس لإشعال نار الحرب، و ليس التكليف منحصرا في مورد وجد العدوّ و تحقق الهجوم فعلا، بل الغرض من إعداد القوى و رقابة الثغور إرهاب العدوّ الموجود أو المفروض المحتمل و إخافته جدّا، ليحصل الأمن في البلاد و تطمئن النفوس في عقر دارهم. و يطلق على هذا السلم المسلّح.

ه- إنّ العدوّ لا ينحصر فيمن يعلم عداوته، بل لعلّ بعض من يظنّه الإنسان سلما مواليا للمسلمين و يتظاهر بالإسلام يكون بحسب الواقع من ألدّ الأعداء كالطابور الخامس و المنافقين، و لعلّ التهيؤ في قبالهم يحتاج إلى مئونة أكثر، كما لا يخفى.

و- إنّ إعداد القوّة يتوقف على نفقات كثيرة لا يتمكن منها إلّا بالتعاون

الاجتماعي و تطوّع الجميع في سبيل اللّه، فرغب في ذلك بقوله: «وَ مٰا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ.» و إطلاقها يشمل إنفاق الأموال و النفوس و غيرهما، فتدبّر.

2- و في مجمع البيان في تفسير الآية قال: «روى عقبة بن عامر عن النبي «ص»: أنّ القوّة الرّمي.» «1»

______________________________

(1)- مجمع البيان 2/ 555 (الجزء 4).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 758

3- و في الوسائل، عن الكافي بسنده، عن عبد اللّه بن المغيرة، رفعه، قال: قال رسول اللّه «ص» في قول اللّه- عزّ و جلّ-: «وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِبٰاطِ الْخَيْلِ»، قال: الرّمي. «1»

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 2، ص: 758

4- و فيه أيضا، عن الكافي بسنده، عن طلحة بن زيد، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «الرّمي سهم من سهام الإسلام.» «2»

5- و في تفسير نور الثقلين، عن تفسير العياشي، عن أبي عبد اللّه «ع» في قول اللّه: «وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ»، قال: سيف و ترس «3».

6- و فيه أيضا، عن تفسير علي بن إبراهيم: قوله: «و أعدّوا لهم ما استطعتم من قوة»، قال: السلاح «4».

7- و في الدّرّ المنثور في تفسير الآية، عن أحمد و مسلم و أبي داود و ابن ماجة و غيرهم، عن عقبة بن عامر الجهني، قال: سمعت النبي «ص» يقول و هو على المنبر:

«و أعدّوا لهم ما استطعتم من قوة، ألا إنّ القوّة الرّمي، ألا إنّ القوّة الرّمي.» قالها ثلاثا

«5».

8- و فيه أيضا، عن ابن المنذر، عن مكحول، قال: ما بين الهدفين روضة من رياض الجنة، فتعلّموا الرّمي، فإنّي سمعت اللّه- تعالى- يقول: و أعدّوا لهم ما استطعتم من قوة. قال: فالرّمي من القوّة «6».

9- و فيه أيضا، عن أبي الشيخ و ابن مردويه، عن ابن عباس في قوله: و أعدّوا لهم

______________________________

(1)- الوسائل 13/ 348، الباب 2 من كتاب السبق و الرماية، الحديث 3.

(2)- الوسائل 13/ 348، الباب 2 من كتاب السبق و الرماية، الحديث 2.

(3)- نور الثقلين 2/ 164، الحديث 139.

(4)- نور الثقلين 2/ 165، الحديث 140.

(5)- الدرّ المنثور 3/ 192.

(6)- الدّرّ المنثور 3/ 192.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 759

ما استطعتم من قوّة، قال: الرّمي و السّيوف و السّلاح «1».

[بعض الروايات الدّالة على اهتمام بالرمي و السباحة]

10- و في الوسائل، عن الكافي بسنده، عن عبد اللّه بن المغيرة- رفعه- قال: قال رسول اللّه «ص» في حديث: «كلّ لهو المؤمن باطل إلّا في ثلاث: في تأديبه الفرس، و رميه عن قوسه، و ملاعبته امرأته، فإنّهن حقّ.» «2»

أقول: الظاهر أنّ المراد بالباطل هنا هو الهدر لا الأمر المحرّم، إذ لا دليل على حرمة اللهو بلا رهان في البين و قد ورد عن النبي «ص» انه قال: «الهوا و العبوا، فإنّي أكره أن يرى في دينكم غلظة.» «3»

11- و فيه أيضا، عن الصدوق في الفقيه، قال: قال الصادق «ع»: «إنّ الملائكة لتنفر عند الرهان و تلعن صاحبه ما خلا الحافر و الخفّ و الريش و النصل، و قد سابق رسول اللّه «ص» أسامة بن زيد و أجرى الخيل.» «4»

12- و فيه أيضا، عن الشيخ بسنده، عن العلاء بن سيّابة، عن أبي عبد اللّه «ع» في

حديث أنّ رسول اللّه «ص» قد أجرى الخيل و سابق، و كان يقول: «إنّ الملائكة تحضر الرهان في الخفّ و الحافر و الريش، و ما سوى ذلك فهو قمار حرام.» «5»

إلى غير ذلك مما ورد في الرهان و المسابقة في كتب الفريقين.

13- و فيه أيضا، عن الكليني بسنده، عن عليّ بن إسماعيل- رفعه- قال:

قال رسول اللّه «ص»: «اركبوا و ارموا، و أن ترموا أحبّ إليّ من أن تركبوا.» ثم قال: «كل لهو المؤمن باطل إلّا في ثلاث: في تأديبه الفرس، و رميه عن قوسه، و ملاعبته امرأته، فانّهنّ حقّ، ألا إنّ

______________________________

(1)- الدّر المنثور 3/ 192.

(2)- الوسائل 13/ 347، الباب 1 من كتاب السبق و الرماية، الحديث 5.

(3)- نهج الفصاحة/ 105، الحديث 531.

(4)- الوسائل 13/ 347، الباب 1 من كتاب السبق و الرماية، الحديث 6.

(5)- الوسائل 13/ 349، الباب 3 من كتاب السبق و الرماية، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 760

اللّه- عزّ و جلّ- ليدخل بالسهم الواحد الثلاثة الجنة: عامل الخشبة، و المقوّي به في سبيل اللّه، و الرامي به في سبيل اللّه.» و روى عن الشيخ أيضا نحوه «1».

14- و في الدّر المنثور، عن أبي داود و الترمذي و ابن ماجة و الحاكم و البيهقي، عن عقبة بن عامر الجهني، قال: سمعت رسول اللّه «ص» يقول: «إنّ اللّه ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه الذي يحتسب في صنعته الخير، و الذي يجهّز به في سبيل اللّه، و الذي يرمي به في سبيل اللّه.» و قال: «ارموا و اركبوا، و أن ترموا خير من أن تركبوا.» و قال:

«كلّ شي ء يلهو به ابن آدم فهو باطل إلّا ثلاثة:

رميه عن قوسه، و تأديبه فرسه، و ملاعبته أهله، فإنّهن من الحقّ، و من علم الرمي ثمّ تركه فهي نعمة كفرها.» «2»

أقول: من تسويغ الإسلام للرهان و السبق في الخيل و الخفّ و الرمي بل ترغيبه فيه مع تحريمه الرهان في غير ذلك يعلم مقدار اهتمام الإسلام بتدرّب المسلمين في فنون الحرب و تهيئهم للدفاع و الجهاد في سبيل اللّه.

و المذكور في الروايات و فتاوى الأصحاب في باب السبق و إن كان خصوص الخيل و الخفّ و الرمي، و لكن من المحتمل إلغاء الخصوصية و تنقيح المناط، فيتعدّى إلى جميع الوسائل العسكرية الحديثة من الطائرات و الهليكوبترات النظامية و الأساطيل البحرية و المدرّعات و المدافع و القنابل و الصواريخ و نحو ذلك، لوضوح مناط الحكم و ملاكه و ليس حكما تعبّديّا محضا لمصالح غيبية لا يعلمها إلّا اللّه- تعالى-. و محلّ التحقيق في المسألة كتاب السّبق و الرّماية من الفقه.

15- و في الدّر المنثور أيضا، عن البيهقي، عن ابن عمر، قال: قال رسول اللّه «ص»: «علّموا أبناءكم السباحة و الرمي، و المرأة المغزل.» «3»

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 107، الباب 58 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 3.

(2)- الدّر المنثور 3/ 192.

(3)- الدّرّ المنثور 3/ 194.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 761

16- و فيه أيضا بسنده، عن أبي رافع، قال: قال رسول اللّه «ص»: «حقّ الولد على الوالد أن يعلّمه الكتابة و السباحة و الرمي.» «1»

17- و في كنز العمّال، عن أبي رافع: «حقّ الولد على والده أن يعلّمه الكتابة و السباحة و الرماية، و أن لا يرزقه إلّا طيبا.» «2»

و رواه في نهج الفصاحة و زاد في آخره: «و أن يزوّجه إذا

بلغ.» «3»

[الجنود على صنفين]

أقول: حيث إنّ الدفاع عن الإسلام و كيان المسلمين و بلادهم و ثقافتهم من أهمّ الفرائض الإسلامية و وجب على المسلمين أن يقوموا به في أيّ حال إلى أن يتصدّى له من فيه الكفاية فلأجل ذلك كان التدرّب في الفروسيّة و الرمي أمرا ضروريّا ينبغي أن يهتمّ به كلّ مسلم، و لذلك وقع الترغيب و التحريص على تعلّم الرّمي و التدرّب فيه بنحو عامّ، و واضح أنّ ذلك يختلف بحسب اختلاف آلات الحرب في الأعصار و البلاد.

و الإسلام بإيجابه الجهاد على المسلمين جعل المسلمين بأجمعهم جندا واحدا للإسلام.

و من أحسن الجيوش و أنجحها الجيوش المتطوّعة المقبلون إلى الجهاد و الدفاع محتسبين به إلى اللّه- تعالى- بالإيمان و الإخلاص، حيث إنّ سلاح الإيمان من أقوى الأسلحة و أقطعها. و هكذا كان الأمر في صدر الإسلام، و لأجل ذلك كان عشرون صابرون منهم يغلبون مأتين مع قلة الوسائل و الأجهزة.

و لا ينافي هذا استخدام الحكومة أيضا لجنود منظمة ثابتة مجهزة باحدث الأسلحة و الأجهزة و يفرض لهم العطاء المستمر احتياطا لحفظ البلاد و الثغور.

و قد صرّح بهذين الصنفين من الجنود الماوردي في الأحكام السلطانية، فقال:

______________________________

(1)- الدّرّ المنثور 3/ 194.

(2)- كنز العمّال 16/ 443، الباب 7 من كتاب النكاح من قسم الأفعال، الحديث 45340.

(3)- نهج الفصاحة/ 293، الحديث 1394.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 762

«و هم صنفان: مسترزقة، و متطوّعة. فأمّا المسترزقة فهم أصحاب الديوان من أهل الفي ء و الجهاد، يفرض لهم العطاء من بيت المال من الفي ء بحسب الغناء و الحاجة.

و أمّا المتطوعة فهم الخارجون عن الديوان من البوادي و الأعراب و سكّان القرى و الأمصار، الذين خرجوا في النفير

الذي ندب اللّه- تعالى- إليه بقوله: «انْفِرُوا خِفٰافاً وَ ثِقٰالًا، وَ جٰاهِدُوا بِأَمْوٰالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ.»

و في قوله- تعالى-: «خِفٰافاً وَ ثِقٰالًا» أربعة تأويلات: أحدها: شبّانا و شيوخا؛ قاله الحسن و عكرمة. و الثاني: أغنياء و فقراء؛ قاله أبو صالح. و الثالث: ركبانا و مشاة؛ قاله أبو عمرو. و الرابع: ذا عيال و غير ذي عيال؛ قاله الفراء.

و هؤلاء يعطون من الصدقات دون الفي ء من سهم رسول اللّه، المذكور في آية الصدقات، و لا يجوز أن يعطوا من الفي ء لأنّ حقّهم في الصدقات. و لا يعطى أهل الفي ء المسترزقة من الديوان من مال الصدقات لأنّ حقهم في الفي ء. و لكلّ واحد من الفريقين مال لا يجوز ان يشارك غيره فيه. و جوّز أبو حنيفة صرف كل واحد من المالين إلى كلّ واحد من الفريقين بحسب الحاجة ...» «1»

أقول: مراده من «سهم رسول اللّه» هو سهم سبيل اللّه، إذ كان رسول اللّه «ص» يصرفه في الجهاد. و يحتمل التصحيف و الغلط، و المذكور في أبي يعلى سهم سبيل اللّه، فراجع «2».

ثمّ إنّ الظاهر جواز إعطاء كل من الصنفين من كل من المالين، بل لعلّ الزكاة قسم من أقسام الفي ء العائد إلى بيت المال و لذا كان الواجب في عصر النبي «ص» إيصالها إليه.

و قال الشيخ في المبسوط:

«الغزاة على ضربين: المتطوعة، و هم الذين إذا نشطوا غزوا و إذا لم ينشطوا اشتغلوا

______________________________

(1)- الأحكام السلطانيّة/ 36.

(2)- الأحكام السلطانيّة/ 39.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 763

بمعايشهم. فهؤلاء لهم سهم من الصدقات، فإذا غنموا في دار الحرب شاركوا الغانمين و أسهم لهم.

و الضرب الثاني هم الذين أرصدوا أنفسهم للجهاد. فهؤلاء لهم من

الغنيمة الأربعة أخماس. و يجوز عندنا أن يعطوا أيضا من الصدقة من سهم ابن السبيل لأنّ الاسم يتناولهم، و تخصيصه يحتاج إلى دليل.» «1» هذا.

و لم يتغلّب الكفّار على بلاد المسلمين و جميع شئونهم، و ما ضعف المسلمون و ما استكانوا إلّا بعد ما أغفلوا بسبب تسويلات الكفّار و عملائهم و علماء السوء المرتزقة و العلماء السذّج، عن مسائل الجهاد و الدفاع، و عن التسلّح بسلاح اليوم و التدرّب فيه، و هم كلّ يوم يقرءون آيات الجهاد و القتال و الأمر بإعداد القوّة و رباط الخيل، و روايات الفريقين الواردة في هذا المجال. فكأنّهم سحروا و سخّروا في الفكر و العقل و الإرادة، فلا يلتفت القارئ إلى مغزى هذه الآيات و مفادها و مفاد الأخبار الواردة بمضمونها.

[ما في ترك الجهاد من الذّل]

18- و قد قال رسول اللّه «ص» على ما في خبر السكوني، عن أبي عبد اللّه: «من ترك الجهاد ألبسه اللّه ذلّا و فقرا في معيشته، و محقا في دينه. إنّ اللّه أغنى (أعزّ خ. ل) أمّتي بسنابك خيلها و مراكز رماحها.» «2»

فانظر كيف ذلّ المسلمون في قبال الكفّار الأجانب، و نهبت أموالهم و ذخائرهم و استولى الفقر المالي و الصحّي و الثقافي على بلادهم بما هادنوا الكفّار المهاجمين و تركوا الدفاع و الكفاح المسلّح.

19- و في نهج البلاغة: «أمّا بعد، فإنّ الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه اللّه لخاصّة أوليائه، و هو لباس التقوى و درع اللّه الحصينة و جنّته الوثيقة. فمن تركه رغبة عنه ألبسه اللّه ثوب الذلّ و شملة البلاء، و ديّث بالصغار و القماءة، و ضرب على قلبه بالأسداد، و أديل الحق منه بتضييع

______________________________

(1)- المبسوط 2/ 74.

(2)- الوسائل 11/ 5، الباب 1 من

أبواب جهاد العدوّ، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 764

الجهاد، و سيم الخسف و منع النصف ...» «1»

أقول: فالجهاد جنّة تقى مجتمع المسلمين من نفوذ الكفر و مظاهره من الفساد و الفحشاء إليه، و تركه يوجب سلطة الكفار و ذلّة المسلمين و حقارتهم.

و قوله: «ديّث» مبني للمفعول من ديّثه، أي ذلّله، و القماءة: الذلّة. و الأسداد: الحجب التي تحول دون بصيرة الإنسان و رشاده. و من لوازم الذلة و العبودية للغير انهدام شخصيّة الإنسان و عدم إحساسه بنفسيّته و استقلاله. و قوله: «أديل الحقّ»، لعلّ الهمزة للسلب، أي سلب منه دولة الحق. و قوله: «سيم الخسف»، أي كلّف الذلّ و المشقة. و النصف: الإنصاف و العدل. هذا.

و قد مرّ كثير من آيات الجهاد و رواياته في فصل عقدناه لذلك في الباب الثالث، فراجع «2».

20- و يظهر اهتمام الإسلام بأمر الجنود من وصيّة أمير المؤمنين «ع» بهم و برفاههم و الرفق بهم و ما ينبغي أن يراعى في انتخاب الأمراء و الولاة عليهم في كتابه «ع» لمالك الأشتر حين ولّاه مصر فقال:

«فالجنود- بإذن اللّه- حصون الرعية، و زين الولاة، و عزّ الدين، و سبل الأمن، و ليس تقوم الرعية إلّا بهم.

ثمّ لا قوام للجنود إلّا بما يخرج اللّه لهم من الخراج الذي يقوون به على جهاد عدوّهم، و يعتمدون عليه فيما يصلحهم، و يكون من وراء حاجتهم ...

فولّ من جنودك أنصحهم في نفسك للّه و لرسوله و لإمامك، و أنقاهم جيبا، و أفضلهم حلما ممن يبطئ عن الغضب و يستريح إلى العذر، و يرأف بالضعفاء و ينبو على الأقوياء، و ممن لا يثيره العنف و لا يقعد به الضعف.

ثم الصق

بذوي [المروءات] الأحساب و أهل البيوتات الصالحة و السوابق الحسنة، ثمّ أهل

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 94؛ عبده 1/ 63؛ لح/ 69، الخطبة 27.

(2)- راجع 1/ 112 و ما بعدها من الكتاب.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 765

النجدة و الشجاعة و السخاء و السماحة فإنّهم جماع من الكرم و شعب من العرف.

ثمّ تفقد من أمورهم ما يتفقّد الوالدان من ولدهما، و لا يتفاقمنّ في نفسك شي ء قوّيتهم به، و لا تحقرنّ لطفا تعاهدتهم به و إن قلّ، فإنّه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك و حسن الظنّ بك، و لا تدع تفقّد لطيف أمورهم اتّكالا على جسيمها، فإنّ لليسير من لطفك موضعا ينتفعون به، و للجسيم موقعا لا يستغنون عنه.

و ليكن آثر رءوس جندك عندك من واساهم في معونته و أفضل عليهم من جدته بما يسعهم و يسع من وراءهم من خلوف أهليهم حتّى يكون همّهم همّا واحدا في جهاد العدوّ، فإنّ عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك، و إنّ أفضل قرّة عين الولاة استقامة العدل في البلاد و ظهور مودّة الرعيّة، و إنّه لا تظهر مودّتهم إلّا بسلامة صدورهم، و لا تصحّ نصيحتهم إلّا بحيطتهم على ولاة الأمور و قلّة استثقال دولهم و ترك استبطاء انقطاع مدّتهم.

فافسح في آمالهم و واصل في حسن الثناء عليهم و تعديد ما أبلى ذووا البلاء منهم، فإنّ كثرة الذكر لحسن أفعالهم تهزّ الشجاع و تحرّض الناكل إن شاء اللّه. ثمّ اعرف لكل امرئ منهم ما أبلى، و لا تضيفنّ بلاء امرئ إلى غيره، و لا تقصرنّ به دون غاية بلائه، و لا يدعونّك شرف امرئ إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيرا، و

لا ضعة امرئ إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيما.» «1»

أقول: و للماوردي في بيان حقوق الجيش على أميرهم عند تسييرهم إلى جبهات القتال كلام نذكر ملخصه تتميما للفائدة. قال في الأحكام السلطانية:

«و عليه في السير بهم سبعة حقوق: أحدها: الرفق بهم في السّير الّذي يقدر عليه أضعفهم و تحفظ به قوّة أقواهم، و لا يجدّ السّير فيهلك الضعيف و يستفرغ جلد القويّ و قد قال النبي «ص»: «هذا الدّين متين فأوغلوا فيه برفق، فإنّ المنبتّ لا أرضا قطع و لا ظهرا أبقى. و شرّ السير الحقحقة.» و روي عن النبي «ص» أنه قال: «المضعف أمير الرفقة.» يريد أنّ من ضعفت دابّته كان على القوم أن يسيروا بسيره.

و الثاني: أن يتفقّد خيلهم التي يجاهدون عليها و ظهورهم الّتي يمتطونها ...

و الثالث: أن يراعى من معه من المقاتلة، و هم صنفان: مسترزقة، و متطوعة ...

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 1003؛ عبده 3/ 100؛ لح/ 432، الكتاب 53.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 766

و الرابع: أن يعرف على الفريقين العرفاء و ينقب عليهما النقباء، ليعرف من عرفائهم و نقبائهم أحوالهم ...

و الخامس: أن يجعل لكل طائفة شعارا يتداعون به، ليصيروا متميزين و بالاجتماع متظافرين ...

و السادس: أن يتصفح الجيش و من فيه، ليخرج منهم من كان فيه تخذيل للمجاهدين و إرجاف للمسلمين، أو عينا عليهم للمشركين ...

و السابع: أن لا يمالئ من ناسبه أو وافق رأيه و مذهبه على من باينه في نسب أو خالفه في رأي و مذهب، فيظهر من أحوال المباينة ما تفرق به الكلمة الجامعة تشاغلا بالتقاطع و الاختلاف ...» «1»

أقول: المنبتّ: المنقطع المتفرق. و الحقحقة: أرفع السير و

أتعبه. و قيل: السير في أول اللّيل. هذا.

و باب الدفاع و الجهاد و التجنيد و إعداد القوّة باب واسع يحتاج البحث فيه إلى تأليف كتاب كبير، و الغرض هنا هو الإشارة إلى أنّ من وظائف الإمام إجمالا هو إعداد العدّة و العدّة بقدر الكفاية للتجهز في قبال العدوّ الموجود في الحال أو المفروض وجوده في المآل، فتدبّر.

______________________________

(1)- الأحكام السلطانيّة/ 35- 37.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 767

تنبيه [في التسليح بالأسلحة الحديثة]

اعلم أنّ أكثر التشكيلات السياسيّة و الولائيّة إنّما تعرّضت الشريعة الإسلامية لأصولها و أحكامها الكلية، و تركت تفاصيلها لوليّ الأمر في كلّ عصر يحدّدها حسب تغيّر حاجات المسلمين و الشرائط و الإمكانات الزمانيّة و المكانيّة.

و من هذا القبيل تشكيلات القوّات المسلحة و الصنائع الحربية، حيث وردت في الكتاب و السنّة أحكامها الكلية في مثل قوله- تعالى-: «وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِبٰاطِ الْخَيْلِ، تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّٰهِ وَ عَدُوَّكُمْ ...»،

و قول أمير المؤمنين «ع» في عهده لمالك الأشتر: «فالجنود- بإذن اللّه- حصون الرعية، و زين الولاة، و عزّ الدين، و سبل الأمن، و ليس تقوم الرعية إلّا بهم» و نحو ذلك، و تركت تفصيلات نظامها لحكم العقل و سيرة العقلاء في كل عصر و مكان.

و حيث إنّ الأمّة الإسلاميّة في المجال العسكري تحتاج إلى قوّتين مسلّحتين-:

قوة تكون بإذن اللّه حصون الرعية في قبال الأجانب فتحفظ الحدود و الثغور من الأعداء الخارجيين، و قوة أخرى تكون سبل الأمن الداخلي فتحفظ البلاد و العباد من الأعداء الداخليين و المخلّين بأمن الناس في النفوس و الأموال و الحقوق- فلا محالة يحكم العقل بضرورة إيجاد هاتين القوّتين المسلحتين الأساسيّتين بشعبهما المحتاج إليها من

الأرضيّة و الجويّة و البحرية، و تجهيزاتها المناسبة لأعمالها و أهدافها.

و من المناسب أن تجعل القوّة الأولى تحت إشراف وزارة الدفاع، و الثانية تحت إشراف الوزارة الداخلية أو القوّة القضائيّة، و يطلق على الأولى القوّة النظامية و على الثانية القوّة الانتظامية أو ما شئت فعبّر، و لا محالة يؤسّس لتربية الأفراد لكل منهما معهد علمي يخصّها و يناسبها.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 768

كما أنّه يحكم العقل و الشرع بلزوم إعداد جميع المسلمين القادرين على القتال و الدفاع، و تدريبهم و تعبئتهم حتى يكونوا جنودا متطوّعين مستعدّين للدفاع عن الإسلام و المسلمين متى عرضت شرائط خاصة غير متوقعة مسّت الحاجة إلى إعانتهم لإحدى القوتين. هذا.

و لإنتاج أنواع الأسلحة و الوسائل العسكرية من القنابل و المدافع و الصواريخ و الأساطيل البحرية و المدرّعات و الطائرات و الهليكوبترات النظامية و غيرها، أيضا يلزم إيجاد المصانع العسكرية المناسبة تحت إشراف مديريّة واحدة قويّة عادلة حتى يعدّ فيها جميع ما يحتاج إليها القوى المسلحة بأصنافها.

فهذا كلّه ما يحكم بضرورته العقل و الشرع.

و بما ذكرنا يتّضح أنّ التشكيلات المسلّحة المتعددة المتكثرة الموجودة في عصرنا و في بلدنا مثل تشكيلات الجيش، و حرس الثّورة الإسلاميّة، و اللّجان الثورية الإسلاميّة، و شرطة البلد، و شرطة الحدود، و الشرطة القضائيّة و الضباط و نحوها ينبغي أن تدغم بالتدريج- بحسب الملاكين المتقدمين، أعنى حفظ الحدود، و حفظ الأمن الداخلي- في القوّتين الأساسيّتين و ترجع الجميع إليهما، إذ تعدّد القوى المسلّحة المتشابهة و تكثرها بشعبها الثلاث من الأرضية و الجوّيّة و البحرية، و كذا تعدّد مؤسّسات الصنائع الحربية المستقلة المتشابهة بحسب الإنتاج بلا ارتباط بينها يوجب أوّلا: تحميل نفقات كثيرة

على بيت مال المسلمين بلا موجب. و ثانيا: اختلاط الوظائف و المسؤوليّات، و تعقيد تفكيكها، و تحيّر الناس في ارتباط الأعمال بالقوى الموظفة، و ثالثا: وجود خطر تضادّ هذه التشكيلات المتشابهة في المستقبل، و تصارعها على النفوذ و السلطة، و هذا أمر مهمّ ينبغي للوليّ المدبّر أن يحسب له حسابه بحسب المآل مهما كانت التشكيلات في الوقت الحاضر مخلصة و منزّهة، و مهما كان المجتمع في الإيمان و الوعي في حدّ أعلى فعلا، فتدبّر.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 769

الفصل الخامس عشر في ذكر الآيات و الروايات الدالّة على ثبوت الحقوق المتقابلة بين الإمام و الأمّة،

اشارة

و أنّه يجب على الأمّة التسليم له و إطاعته، و كذا إطاعة عمّاله المنصوبين من قبله، إجمالا:

[الآيات]

1- قال اللّه- تعالى-: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ.» «1»

و قد مرّ تفسير الآية الشريفة و معنى أولي الأمر، و الوجه في تكرار قوله: «أطيعوا» في الباب الثاني عند ذكر الآية السادسة من الآيات الدالة على ولاية النبي «ص» و الأئمة «ع»، و كذا في الفصل الثالث من الباب الخامس مقدمة لشرح مقبولة عمر بن حنظلة، فراجع «2».

و محصل ما مرّ هو أنّ الأمر بإطاعة اللّه- تعالى- ناظر إلى إطاعته في أحكامه المبيّنة في الكتاب و السنّة، و الأمر بها إرشاديّ، و الأمر بإطاعة الرسول و أولي الأمر ناظر إلى إطاعتهم في أوامرهم المولوية الصادرة عنهم بما أنّهم ولاة الأمر و ساسة العباد، و الأمر بها

______________________________

(1)- سورة النساء (4)، الآية 59.

(2)- راجع 1/ 64 و 436 من الكتاب.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 770

مولويّ لا إرشاديّ، و لأجل ذلك كرّرت لفظة: «أطيعوا».

و المقصود بالأمر في الآية هو الولاية و الحكومة. سمّيت به، لقوامها بالأمر من طرف و الطاعة من طرف آخر، و بهذا الملاك أيضا تسمى حكما و حكومة. فالمراد بأولي الأمر الحكّام الّذين لهم حقّ الأمر و النهي في سياسة البلاد و فصل الخصومات.

و الإمامة العظمى و إن كانت حقّا عندنا للأئمّة المعصومين «ع» من عترة النبيّ «ص» مع حضورهم، و معهم تبطل إمامة غيرهم، و لكن قد مرّ بالتفصيل أنّ الحكومة لا تتعطل في عصر الغيبة، و أنّ تعطيلها يساوق تعطيل الإسلام.

و للحاكم الحقّ مطلقا حقّ الأمر و النهي في مجال حكمه

و نطاق ولايته، و تجب طاعته لا محالة.

إذ كيف يمكن الالتزام بولاية شخص شرعا بالنصب أو بالانتخاب و لو في شعبة أو منطقة خاصة و لا يلتزم بوجوب إطاعته، مع أنّ الأمر لا يتمّ و الغرض لا يحصل إلّا بالطاعة و التسليم؟!

و تعليق وجوب الإطاعة على كونه صاحب الأمر كأنّه من قبيل تعليق الحكم على الوصف، المشعر بالعلّيّة. فالملاك في وجوب الإطاعة كونه صاحب أمر بحيث يحق له الأمر و النهي، معصوما كان أو غير معصوم.

و لا مجال لحصر وجوب الطاعة في الإمام المعصوم، إذ كيف يمكن الالتزام بعدم وجوب طاعة المنصوبين من قبل النبي «ص» أو أمير المؤمنين «ع» أمثال مالك الأشتر في نطاق ولايته و حكومته.

فالحصر المذكور في بعض الأخبار الواردة في تفسير الآية كقول أبي جعفر «ع» في خبر بريد: «إيّانا عنى خاصّة. أمر جميع المؤمنين إلى يوم القيامة بطاعتنا» «1» مثلا يجب أن يحمل على الحصر الإضافي بالنسبة إلى حكّام الجور المتصدين للحكومة في أعصار الأئمة «ع».

______________________________

(1)- الكافي 1/ 276، كتاب الحجة، باب أنّ الإمام «ع» يعرف الإمام الذي يكون بعده ...، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 771

كما أنّ إطاعتهم «ع» أيضا واجبة إلى يوم القيامة، و لكن لا ينافي هذا وجوب تأسيس الدولة الحقّة في عصر الغيبة و وجوب إطاعتها. و آيات الكتاب العزيز لا تتقيد بالموارد الخاصّة، و الجري و التطبيق في بعض الروايات على بعض المصاديق لا يمنع من التمسك بالإطلاق و العموم.

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ إطاعة المنصوب من قبلهم أو المنتخب على أساس موازين الإسلام و الضوابط المبيّنة من قبلهم- عليهم السلام- كأنّها ترجع إلى إطاعتهم أيضا، و نحن

لا نأبى ذلك بعد الالتزام بوجوب الإطاعة.

نعم، لا تجوز إطاعتهم في معصية اللّه كما هو المستفاد من الأخبار كما ستأتي، بل من نفس الآية أيضا، إذ الظاهر منها وجوب إطاعة صاحب الأمر، أي من يكون له حقّ الأمر، و لا يحقّ لأحد الأمر بمعصية اللّه. و لا يطلق صاحب الأمر إلّا على من ثبت له حق الأمر، كما لا يطلق صاحب الدار إلّا على من ملكها شرعا دون من تسلّط عليها غصبا و ظلما. فأمراء السوء خارجون من الآية تخصّصا، فتدبّر.

قال الزمخشري في الكشاف في تفسير الآية:

«و المراد بأولي الأمر منكم أمراء الحقّ، لأن أمراء الجور اللّه و رسوله بريئان منهم، فلا يعطفون على اللّه و رسوله في وجوب الطاعة لهم، و إنّما يجمع بين اللّه و رسوله و الأمراء الموافقين لهما في إيثار العدل و اختيار الحقّ و الأمر بهما و النهي عن أضدادهما ...

و كيف تلزم طاعة أمراء الجور و قد جنح اللّه الأمر بطاعة أولي الأمر بما لا يبقى معه شكّ، و هو أن أمرهم أوّلا بأداء الأمانات و بالعدل في الحكم، و أمرهم آخرا بالرجوع إلى الكتاب و السنّة فيما أشكل، و أمراء الجور لا يؤدّون أمانة و لا يحكمون بعدل و لا يردّون شيئا إلى كتاب و لا إلى سنّة، إنّما يتّبعون شهواتهم حيث ذهبت بهم، فهم منسلخون عن صفات الذين هم أولوا الأمر عند اللّه و رسوله، و أحقّ أسمائهم: اللصوص المتغلّبة.» «1»

______________________________

(1)- الكشاف 1/ 535 (طبعة أخرى 1/ 524).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 772

2- و قال- تعالى-: «فَلٰا وَ رَبِّكَ لٰا يُؤْمِنُونَ حَتّٰى يُحَكِّمُوكَ فِيمٰا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لٰا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ

حَرَجاً مِمّٰا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً.» «1»

بناء على عدم اختصاص الحكم به «ص» و استفادة كون الملاك فيه هو ولايته «ص» و كونه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فيعمّ الحكم كل وليّ كانت ولايته ثابتة بالشرع.

[الروايات]

3- و في أصول الكافي بسند موثوق به، عن ابن أبي يعفور، عن أبي عبد اللّه «ع» أنّ رسول اللّه «ص» خطب الناس في مسجد الخيف فقال: «نضّر اللّه عبدا سمع مقالتي فوعاها و حفظها، و بلّغها من لم يسمعها، فربّ حامل فقه غير فقيه، و ربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه. ثلاث لا يغلّ عليهنّ قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل للّه، و النصيحة لأئمّة المسلمين، و اللزوم لجماعتهم، فإنّ دعوتهم محيطة من ورائهم. المسلمون إخوة تتكافأ دماؤهم و يسعى بذمّتهم أدناهم، و هم يد على من سواهم.» «2»

و روى نحوه أيضا بسنده، عن سفيان الثّوري، عن جعفر بن محمد «ع»، عنه «ص» «3».

أقول: قوله: «لا يغلّ» من غلّ يغلّ بالضمّ، أي خان. أو من يغلّ بالكسر، أي كان ذا حقد و غشّ. و قوله: «فإنّ دعوتهم»، قال المجلسي في مرآة العقول:

«و الدّعوة المرّة من الدعاء، و إضافتها إلى الضمير إضافة إلى المفعول، أي دعاء النّبيّ «ص» لهم محيطة بهم فإذا دخل فيهم و لزم جماعتهم شمله ذلك الدعاء، أو إلى الفاعل، أي دعاء المسلمين بعضهم لبعض يشمله.» «4» هذا.

و الحديث مما رواه الفريقان عنه، بل مضمونه مستفيض في كتب الفريقين.

______________________________

(1)- سورة النساء (4)، الآية 65.

(2)- الكافي 1/ 403، كتاب الحجّة، باب ما أمر النّبيّ «ص» بالنّصيحة لأئمّة المسلمين و ...، الحديث 1.

(3)- الكافي 1/ 403، كتاب الحجّة، باب ما أمر النّبيّ «ص» بالنّصيحة لأئمّة المسلمين و ...،

الحديث 2.

(4)- مرآة العقول 4/ 325 (ط. القديم 1/ 302).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 773

4- و من ذلك ما رواه أحمد في مسنده بسنده عن أنس بن مالك، عن رسول اللّه «ص»، قال: «نضّر اللّه عبدا سمع مقالتي هذه فحملها، فربّ حامل الفقه فيه غير ففيه، و ربّ حامل الفقه إلى من هو أفقه منه. ثلاث لا يغلّ عليهن صدر مسلم: إخلاص العمل للّه- عزّ و جلّ-، و مناصحة أولي الأمر، و لزوم جماعة المسلمين، فإنّ دعوتهم تحيط من ورائهم.» «1»

و فيه أيضا بسنده، عن جبير بن مطعم، عنه «ص» نحوه، و فيه: «إخلاص العمل، و النصيحة لوليّ الأمر، و لزوم الجماعة، فإنّ دعوتهم تكون من ورائه.» «2»

5- و من الروايات الجامعة في بيان ثبوت الحقوق المتقابلة بين الإمام و الأمّة ما خطبه أمير المؤمنين «ع» بصفّين فقال: «أمّا بعد، فقد جعل اللّه لي عليكم حقّا بولاية أمركم، و لكم عليّ من الحقّ مثل الّذي لي عليكم. فالحقّ أوسع الأشياء في التواصف و أضيقها في التناصف، لا يجري لأحد إلّا جرى عليه، و لا يجري عليه إلّا جرى له ...

و أعظم ما افترض اللّه- سبحانه- من تلك الحقوق حقّ الوالي على الرعية، و حقّ الرعية على الوالي، فريضة فرضها اللّه- سبحانه- لكلّ على كلّ، فجعلها نظاما لألفتهم و عزّا لدينهم. فليست تصلح الرّعيّة إلّا بصلاح الولاة، و لا يصلح الولاة إلّا باستقامة الرّعيّة.

فإذا أدّت الرّعيّة إلى الوالي حقّه، و أدّى الوالي إليها حقّها عزّ الحق بينهم، و قامت مناهج الدّين، و اعتدلت معالم العدل، و جرت على أذلالها السنن، فصلح بذلك الزمان، و طمع في بقاء الدولة، و يئست

مطامع الأعداء.

و إذا غلبت الرّعيّة و اليها، أو أجحف الوالي برعيّته اختلفت هنالك الكلمة و ظهرت معالم الجور و كثر الإدغال في الدين، و تركت محاجّ السنن فعمل بالهوى و عطّلت الأحكام و كثرت علل النفوس ...» «3»

أقول: أذلال جمع ذلّ بالكسر، و ذلّ الطريق محجّته. و الإدغال في الدّين: إدخال ما يخالفه و يفسده.

______________________________

(1)- مسند أحمد 3/ 225.

(2)- مسند أحمد 4/ 80.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 681؛ عبده 2/ 223؛ لح/ 332، الخطبة 216.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 774

6- و في نهج البلاغة أيضا: «أيّها النّاس إنّ لي عليكم حقّا، و لكم عليّ حقّ، فأمّا حقّكم عليّ فالنصيحة لكم و توفير فيئكم عليكم، و تعليمكم كيلا تجهلوا، و تأديبكم كيما تعلموا، و أمّا حقّي عليكم فالوفاء بالبيعة، و النصيحة في المشهد و المغيب، و الإجابة حين أدعوكم، و الطاعة حين آمركم.» «1»

7- و فيه أيضا: «و إنّ في سلطان اللّه عصمة لأمركم فأعطوه طاعتكم غير ملومة و لا مستكره بها.» «2»

بناء على كون المراد بسلطان اللّه الحكومة العادلة المرضيّة للّه- تعالى- كما لعلّه الظّاهر.

8- و فيه أيضا: «أنبئت بسرا قد اطّلع اليمن، و إنّي و اللّه لأظنّ أنّ هؤلاء القوم سيدالون منكم، باجتماعهم على باطلهم و تفرّقكم عن حقكم، و بمعصيتكم إمامكم في الحقّ و طاعتهم إمامهم في الباطل، و بأدائهم الأمانة إلى صاحبهم و خيانتكم.» «3»

9- و فيه أيضا من كتاب له «ع» إلى أمرائه على الجيوش: «أمّا بعد، فإنّ حقّا على الوالي أن لا يغيّره على رعيّته فضل ناله و لا طول خصّ به، و أن يزيده ما قسم اللّه له من نعمه دنوّا من عباده و

عطفا على إخوانه، ألا و إنّ لكم عندي أن لا أحتجز دونكم سرّا إلّا في حرب، و لا أطوي دونكم أمرا إلّا في حكم، و لا أؤخّر لكم حقّا عن محلّه، و لا أقف به دون مقطعه، و أن تكونوا عندي في الحقّ سواء.

فإذا فعلت ذلك وجبت للّه عليكم النعمة ولي عليكم الطاعة، و أن لا تنكصوا عن دعوة و لا تفرّطوا في صلاح و أن تخوضوا الغمرات إلى الحقّ.

فإن أنتم لم تستقيموا [لي] على ذلك لم يكن أحد أهون عليّ ممّن اعوجّ منكم، ثمّ أعظم له العقوبة، و لا يجد عندي فيها رخصة، فخذوا هذا من أمرائكم، و أعطوهم من أنفسكم ما يصلح اللّه

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 114؛ عبده 1/ 80؛ لح/ 79، الخطبة 34.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 548؛ عبده 2/ 99؛ لح/ 244، الخطبة 169.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 89؛ عبده 1/ 60؛ لح/ 67، الخطبة 25.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 775

به أمركم.» «1»

10- و فيه أيضا في كتابه «ع» إلى أهل مصر لمّا ولّى عليهم الأشتر: «امّا بعد، فقد بعثت إليكم عبدا من عباد اللّه لا ينام أيّام الخوف و لا ينكل عن الأعداء ساعات الروع، أشدّ على الكفّار من حريق النّار، و هو مالك بن الحارث أخو مذحج، فاسمعوا له و أطيعوا أمره فيما طابق الحقّ، فإنّه سيف من سيوف اللّه لا كليل الظبة و لا نابي الضريبة. فإن أمركم أن تنفروا فانفروا، و إن أمركم أن تقيموا فأقيموا، فإنّه لا يقدم و لا يحجم، و لا يؤخّر و لا يقدّم إلّا عن أمري.» «2»

أقول: نكل: نكص و جبن. و الرّوع بفتح الرّاء: الخوف و

الفزع. و مذحج كمجلس: قبيلة مالك و الظبة بضمّ الأوّل و فتح الثاني مخفّفا: حدّ السيف و السنان.

و الضّريبة: المضروب بالسيف. و نبا عنه السيف: لم يؤثر فيه.

11- و في أصول الكافي بسند صحيح، عن بريد بن معاوية، عن أبي جعفر «ع»، قال: قال رسول اللّه «ص»: «ما نظر اللّه- عزّ و جلّ- إلى وليّ له يجهد نفسه بالطاعة لإمامه و النصيحة إلّا كان معنا في الرفيق الأعلى.» «3»

12- و فيه أيضا بسنده، عن الحلبي، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «من فارق جماعة المسلمين و نكث صفقة الإمام جاء إلى اللّه- عزّ و جلّ- أجذم.» «4»

13- و فيه أيضا بسنده، عن أبي حمزة، قال: «سألت أبا جعفر «ع»: ما حقّ الإمام على الناس؟ قال: حقّه عليهم أن يسمعوا له و يطيعوا. قلت: فما حقّهم عليه؟

قال: يقسم بينهم بالسوية و يعدل في الرعية ...» «5»

14- و فيه أيضا بسنده، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: قال

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 982؛ عبده 3/ 88؛ لح/ 424، الكتاب 50.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 951؛ عبده 3/ 70؛ لح/ 411، الكتاب 38.

(3)- الكافي 1/ 404، كتاب الحجّة، باب ما أمر النّبيّ «ص» بالنصيحة لأئمّة المسلمين و ...، الحديث 3.

(4)- الكافي 1/ 405، كتاب الحجّة، باب ما أمر النّبيّ «ص» بالنصيحة لأئمّة المسلمين و ...، الحديث 5.

(5)- الكافي 1/ 405، كتاب الحجّة، باب ما يجب من حقّ الإمام على الرّعيّة و ...، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 776

أمير المؤمنين «ع»: «لا تختانوا ولاتكم و لا تغشّوا هداتكم و لا تجهلوا أئمّتكم و لا تصدّعوا عن حبلكم فتفشلوا و

تذهب ريحكم، و على هذا فليكن تأسيس أموركم و الزموا هذه الطريقة ...» «1»

15- و فيه أيضا بسنده، عن سدير، قال: «قلت لأبي جعفر «ع»: إنّي تركت مواليك مختلفين، يبرأ بعضهم من بعض. قال: فقال: و ما أنت و ذاك؟ إنّما كلّف الناس ثلاثة: معرفة الأئمّة، و التسليم لهم فيما ورد عليهم، و الردّ إليهم فيما اختلفوا فيه.» «2»

و في هذا الباب روايات أخر في التسليم للإمام، فراجع.

16- و فيه أيضا بسند صحيح، عن زرارة، عن أبي جعفر «ع»، قال: «ذروة الأمر و سنامه و مفتاحه و باب الأشياء و رضا الرحمن- تبارك و تعالى-: الطاعة للإمام بعد معرفته.»

ثمّ قال: «إنّ اللّه- تبارك و تعالى- يقول: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطٰاعَ اللّٰهَ، وَ مَنْ تَوَلّٰى فَمٰا أَرْسَلْنٰاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً.» «3»

17- و فيه أيضا بسنده، عن محمد بن الفضيل، قال: «سألته عن أفضل ما يتقرب به العباد إلى اللّه- عزّ و جلّ-، قال: أفضل ما يتقرب به العباد إلى اللّه- عزّ و جلّ- طاعة اللّه و طاعة رسوله و طاعة أولي الأمر.» «4»

و في هذا الباب روايات أخر في فرض طاعة الإمام، فراجع.

18- و فيه أيضا بسنده، عن ابن أبي ليلى، عن أبي عبد اللّه «ع» في حديث طويل، قال: «و صل اللّه طاعة وليّ أمره بطاعة رسوله، و طاعة رسوله بطاعته، فمن ترك طاعة ولاة الأمر لم يطع اللّه و لا رسوله.» «5»

______________________________

(1)- الكافي 1/ 405، كتاب الحجّة، باب ما يجب من حقّ الإمام على الرّعيّة و ...، الحديث 3.

(2)- الكافي 1/ 390، كتاب الحجّة، باب التسليم و فضل المسلمين، الحديث 1.

(3)- الكافي 1/ 185، كتاب الحجّة، باب فرض طاعة الأئمّة، الحديث 1. و

الآية المذكورة من سورة النساء، رقمها 80.

(4)- الكافي 1/ 187، كتاب الحجّة، باب فرض طاعة الأئمّة، الحديث 12.

(5)- الكافي 1/ 181، كتاب الحجّة، باب معرفة الإمام و الرّدّ إليه، الحديث 6.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 777

19- و في الأمالي للشيخ المفيد بسنده، عن عبد اللّه بن عباس، قال: قال رسول اللّه «ص»: «اسمعوا و أطيعوا لمن ولّاه اللّه الأمر، فإنّه نظام الإسلام.» «1»

20- و في تحف العقول في رسالة الحقوق لعلي بن الحسين «ع»: «فأمّا حق سائسك بالسلطان فإن تعلم أنّك جعلت له فتنة و أنّه مبتلى فيك بما جعله اللّه له عليك من السلطان، و أن تخلص له في النصيحة و أن لا تماحكه «2» و قد بسطت يده عليك فتكون سبب هلاك نفسك و هلاكه ...» «3».

و روى نحوه في الخصال في رسالة الحقوق و قال: «و أمّا حقّ رعيّتك بالسّلطان فإن تعلم أنّهم صاروا رعيّتك لضعفهم و قوّتك، فيجب أن تعدل فيهم و تكون لهم كالوالد الرحيم و تغفر لهم جهلهم و لا تعاجلهم بالعقوبة، و تشكر اللّه- عزّ و جلّ- على ما أتاك من القوّة عليهم.» «4»

21- و في تحف العقول أيضا في وصية موسى بن جعفر «ع» لهشام، قال:

«و طاعة ولاة العدل تمام العزّ.» «5»

22- و فيه أيضا عن الإمام الصادق «ع»: «ثلاث خصال تجب للملوك على أصحابهم و رعيّتهم: الطاعة لهم، و النصيحة لهم في المغيب و المشهد، و الدعاء بالنصر و الصلاح.

ثلاثة تجب على السلطان للخاصّة و العامّة: مكافأة المحسن بالإحسان ليزدادوا رغبة فيه، و تغمّد ذنوب المسي ء ليتوب و يرجع عن غيّه، و تألّفهم جميعا بالإحسان و الإنصاف.» «6»

23- و فيه

أيضا عن النبي «ص»: «و إيّاك أن تشتم مسلما أو تطيع آثما أو تعصي إماما عادلا.» «7»

______________________________

(1)- الأمالي/ 14، المجلس 2، الحديث 2.

(2)- ماحكه: خاصمه و لاجّه.

(3)- تحف العقول/ 260.

(4)- الخصال/ 567 (الجزء 2).

(5)- تحف العقول/ 390.

(6)- تحف العقول/ 319.

(7)- تحف العقول/ 26.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 778

24- و فيه أيضا في مواعظ عليّ بن الحسين «ع»: «فقدّموا أمر اللّه و طاعته و طاعة من أوجب اللّه طاعته بين يدي الأمور كلّها، و لا تقدّموا الأمور الواردة عليكم من طاعة الطواغيت و فتنة زهرة الدنيا بين يدي أمر اللّه و طاعته و طاعة أولي الأمر منكم ... فاتّقوا اللّه و استقبلوا من إصلاح أنفسكم و طاعة اللّه و طاعة من تولّونه فيها ... و اعلموا أنّه من خالف أولياء اللّه و دان بغير دين اللّه و استبدّ بأمره دون أمر وليّ اللّه، في نار تلتهب تأكل أبدانا غلبت عليها شقوتها ...» «1»

25- و في البحار، عن كتاب مطالب السؤول، عن أمير المؤمنين «ع»، قال:

«العالم حديقة سياحها الشريعة، و الشريعة سلطان تجب له الطاعة، و الطاعة سياسة يقوم بها الملك، و الملك راع يعضده الجيش، و الجيش أعوان يكفلهم المال، و المال رزق يجمعه الرعيّة، و الرعيّة سواد يستعبدهم العدل، و العدل أساس به قوام العالم.» «2»

26- و في أوّل كتاب الأموال لأبي عبيد بسنده، عن تميم الداري، قال: قال رسول اللّه «ص»: «الدّين النّصيحة. قيل: لمن يا رسول اللّه؟ قال: للّه و لرسوله و لكتابه و للأئمّة و لجماعة المسلمين.» «3»

أقول: النصيحة: الإخلاص و التصفية. و أقوى مراتب الإخلاص للإمام هو إطاعته و التسليم له في غير معصية اللّه-

تعالى-.

27- و فيه أيضا بسنده، عن مصعب بن سعد، قال: قال عليّ بن أبي طالب «ع» كلمات أصاب فيهنّ الحقّ، قال: «يحقّ على الإمام أن يحكم بما أنزل اللّه و أن يؤدّي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحقّ على النّاس أن يسمعوا له و يطيعوا و يجيبوه إذا دعا.» «4» و روى نحوه في كنز العمال عنه «ع» «5».

______________________________

(1)- تحف العقول/ 254.

(2)- بحار الأنوار 75/ 83 (طبعة إيران 78/ 83)، كتاب الروضة، الباب 16 (باب ما جمع من جوامع كلم أمير المؤمنين «ع»)، الحديث 87.

(3)- الأموال/ 10.

(4)- الأموال/ 13.

(5)- كنز العمّال 5/ 764، الباب 2 من كتاب الخلافة مع الإمارة من قسم الأفعال، الحديث 14313.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 779

28- و في مسند زيد، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ «ع»، قال: «حقّ على الإمام أن يحكم بما أنزل اللّه، و أن يعدل في الرعيّة، فإذا فعل ذلك فحقّ عليهم أن يسمعوا و أن يطيعوا، و أن يجيبوا إذا دعوا. و أيّما إمام لم يحكم بما أنزل اللّه فلا طاعة له.» «1»

29- و في صحيح مسلم بسنده، عن ابن عباس: «نزل يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ في عبد اللّه بن حذافة بن قيس بن عديّ السهمي، بعثه النبيّ «ص» في سريّة.» «2»

30- و فيه أيضا بسنده، عن أبي هريرة، عن رسول اللّه «ص» أنّه قال: «من أطاعني فقد أطاع اللّه، و من عصاني فقد عصى اللّه. و من أطاع أميري فقد أطاعني، و من عصى أميري فقد عصاني.» «3»

31- و فيه أيضا بسنده، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه «ص»: «عليك

السّمع و الطاعة في عسرك و يسرك، و منشطك و مكرهك و أثرة عليك.» «4»

32- و فيه أيضا بسنده، عن أبي ذرّ، قال: «إنّ خليلي أوصاني أن أسمع و أطيع و إن كان عبدا مجدّع الأطراف.» «5»

33- و فيه أيضا بسنده، عن يحيى بن حصين، قال: سمعت جدّتي تحدّث أنّها سمعت النبي «ص» يخطب في حجة الوداع و هو يقول: «و لو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب اللّه فاسمعوا له و أطيعوا.» «6»

______________________________

(1)- مسند زيد/ 322، كتاب السير، باب طاعة الإمام.

(2)- صحيح مسلم 3/ 1465، كتاب الإمارة، الباب 8 (باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية ...)، الحديث 1834.

(3)- صحيح مسلم 3/ 1466، كتاب الإمارة، الباب 8.

(4)- صحيح مسلم 3/ 1467، كتاب الإمارة، الباب 8، الحديث 1836.

(5)- صحيح مسلم 3/ 1467، كتاب الإمارة، الباب 8، الحديث 1837.

(6)- صحيح مسلم 3/ 1468، كتاب الإمارة، الباب 8، الحديث 1838.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 780

34- و فيه أيضا بسنده، عن يحيى بن حصين، عن جدّته أمّ الحصين، قال:

سمعتها تقول: «حججت مع رسول اللّه «ص» حجة الوداع، قالت: فقال رسول اللّه «ص» قولا كثيرا، ثمّ سمعته يقول: «إنّ أمّر عليكم عبد مجدّع (حسبتها قالت:) أسود يقودكم بكتاب اللّه فاسمعوا له و أطيعوا.» «1»

35- و فيه أيضا بسنده، عن ابن عمر، عن النبي «ص» أنّه قال: «على المرء المسلم السمع و الطاعة فيما أحبّ و كره إلّا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع و طاعة.» «2»

36- و فيه أيضا بسنده، عن عبادة، قال:

«بايعنا رسول اللّه «ص» على السمع و الطاعة في العسر و اليسر و المنشط و المكره، و على أثرة علينا،

و على أن لا ننازع الأمر أهله، و على أن نقول بالحق أينما كنّا لا نخاف في اللّه لومة لائم.» «3»

إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا المجال.

و لا يخفى أنّ المقصود منها هو إطاعة الإمام أو الأمير فيما حكم به من الأمور المرتبطة بسياسة الملك و الأمّة أمرا مولويّا بتّيّا، و في مثلها يكون العزم و القرار النهائي للإمام و يجب على كل فرد إطاعته و التسليم له و لو كان نظره الشخصي مخالفا له في هذا الموضوع الخاص حفظا للنظام، و في نهج البلاغة: «و قال «ع» لعبد اللّه بن عباس- و قد أشار عليه في شي ء لم يوافق رأيه-: لك أن تشير عليّ و أرى، فإن عصيتك فأطعني.» «4» هذا.

و أمّا ما يصدر عن الإمام في مقام بيان أحكام اللّه- تعالى- فالأمر فيه إرشاديّ لا إطاعة له سوى إطاعة المرشد إليه، نظير أوامر الفقيه في مقام بيان أحكام اللّه- تعالى-.

______________________________

(1)- صحيح مسلم 3/ 1468، كتاب الإمارة، الباب 8.

(2)- صحيح مسلم 3/ 1469، كتاب الإمارة، الباب 8، الحديث 1839.

(3)- صحيح مسلم 3/ 1470، كتاب الإمارة، الباب 8.

(4)- نهج البلاغة، فيض/ 1239؛ عبده 3/ 230؛ لح/ 531، الحكمة 321.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 781

لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق

كما أنّه لا طاعة للإمام و لا تجوز إطاعته إذا كان المأمور به من قبل الإمام أو الأمير معصية للّه- سبحانه-. و يدلّ على ذلك- مضافا إلى كونه- تعالى- وليّ الأولياء و لا حقّ لأحد في قبال حقوقه- الآيات و الأخبار المستفيضة بل المتواترة التي مرّ بعضها في الكتاب و في هذا الفصل.

و يكفينا في ذلك 1- قوله- تعالى- حكاية عن أهل النار:

«وَ قٰالُوا رَبَّنٰا إِنّٰا أَطَعْنٰا سٰادَتَنٰا وَ كُبَرٰاءَنٰا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا.» «1»

2- و قوله: «وَ لٰا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ* الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لٰا يُصْلِحُونَ.» «2»

3- و قوله: «وَ لٰا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنٰا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنٰا وَ اتَّبَعَ هَوٰاهُ وَ كٰانَ أَمْرُهُ فُرُطاً.» «3»

4- و في نهج البلاغة في الخطبة القاصعة: «ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم و كبرائكم الّذين تكبّروا عن حسبهم و ترفّعوا فوق نسبهم و ألقوا الهجينة على ربّهم و جاحدوا اللّه على ما صنع بهم مكابرة لقضائه و مغالبة لآلائه.» «4»

5- و فيه أيضا: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.» «5»

6- و في الوسائل عن الفقيه قال: من ألفاظ رسول اللّه «ص»: «لا طاعة لمخلوق في

______________________________

(1)- سورة الأحزاب (33)، الآية 67.

(2)- سورة الشعراء (26)، الآية 151 و 152.

(3)- سورة الكهف (18)، الآية 28.

(4)- نهج البلاغة، فيض/ 785؛ عبده 2/ 166؛ لح/ 289، الخطبة 192.

(5)- نهج البلاغة، فيض/ 1167؛ عبده 3/ 193؛ لح/ 500، الحكمة 165.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 782

معصية الخالق.» «1»

7- و في دعائم الإسلام: «روينا عن عليّ «ع» أنّه قال: «بعث رسول اللّه «ص» سريّة و استعمل عليهم رجلا من الأنصار و أمرهم أن يطيعوه، فلمّا كان ذات يوم غضب عليهم، فقال: أ ليس قد أمركم رسول اللّه «ص» أن تطيعوني؟ قالوا: نعم. قال: فاجمعوا لي حطبا فجمعوه، فقال: أضرموه نارا، ففعلوا، فقال لهم: ادخلوها، فهمّوا بذلك، فجعل بعضهم يمسك بعضا و يقولون: إنّما فررنا إلى رسول اللّه «ص» من النار، فما زالوا كذلك حتّى خمدت النار، و سكن غضب الرجل. فبلغ ذلك رسول اللّه «ص» فقال: لو دخلوها ما خرجوا منها

إلى يوم القيامة، إنّما الطاعة في المعروف. و عن عليّ «ع» أنّه قال: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.» «2»

و روى القصّة إلى قوله: «إنّما الطّاعة في المعروف» مسلم في صحيحه أيضا عن عليّ «ع» «3».

8- و في المصنف لعبد الرزاق: «إنّ النبي «ص» بعث عبد اللّه بن حذافة على سريّة، فأمر أصحابه فأوقدوا نارا ثمّ أمرهم أن يثبوها، فجعلوا يثبونها، فجاء شيخ ليثبها فوقع فيها فاحترق منه بعض ما احترق، فذكر شأنه لرسول اللّه «ص» فقال:

ما حملكم على ذلك؟ قالوا: يا رسول اللّه، كان أميرا و كانت له طاعة. قال: أيّما أمير أمّرته عليكم فأمركم بغير طاعة اللّه فلا تطيعوه، فإنّه لا طاعة في معصية اللّه.» «4»

و قد مرّ الحديث و بيانه في فصل اشتراط العدالة في الحاكم، فراجع «5».

إلى غير ذلك من الروايات الواردة في كتب الفريقين في هذا المجال.

و أمّا ما اشتهر بين العوامّ من أنّ المأمور معذور فاعتذار شيطاني لا دليل له لا في العقل و لا في النقل.

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 422، الباب 11 من أبواب الأمر و النهي ...، الحديث 7.

(2)- دعائم الإسلام 1/ 350، كتاب الجهاد، في ذكر ما يجب للأمراء و ما يجب عليهم.

(3)- صحيح مسلم 3/ 1469، كتاب الإمارة، الباب 8 (باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية ...)، الحديث 1840.

(4)- المصنف 11/ 335، باب لا طاعة في معصية، الحديث 20699.

(5)- راجع 1/ 299 من الكتاب.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 783

الباب السابع في ذكر بعض الآيات و الروايات الواردة في سيرة الإمام و أخلاقه في معاشرته المسلمين و غيرهم،

اشاره

و في مطعمه و ملبسه و نحو ذلك و فيه ثلاثة فصول:

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 785

الفصل الأوّل في مكارم أخلاقه و لطفه و عفوه و رحمته

[الآيات الواردة في أخلاق النبيّ ص و لطفه و عفوه و رحمته]

1- قال اللّه- تعالى- مخاطبا لنبيّه «ص»: «فَبِمٰا رَحْمَةٍ مِنَ اللّٰهِ لِنْتَ لَهُمْ، وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شٰاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، فَإِذٰا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّٰهِ، إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ.» «1»

أقول: لا يخفى أنّ رسول اللّه «ص» إمام الأئمّة و الأمّة جميعا، و للجميع فيه أسوة حسنة، فعلى إمام المسلمين و من يلي أمرهم أن يكون ليّنا عفوّا رحيما بهم عطوفا عليهم خاليا من الفظاظة و الغلظة حتى ينجذب إلى الإسلام جميع الأنام إلّا من طبع اللّه على قلبه، و لا ينافي هذا إجراء حدود اللّه و أحكامه في مواردها إذ المنظور فيها أيضا هو إصلاح الأمة و المجتمع لا التحقير و الانتقام.

قال العلامة المجلسي في البحار ما ملخّصه:

«و اختلف في فائدة مشاورته مع استغنائه بالوحي على أقوال: 1- أنه على وجه

______________________________

(1)- سورة آل عمران (3). الآية 159.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 786

التطييب لنفوسهم و الرفع من أقدارهم. 2- أنه ليقتدى به أمته في المشاورة و لا يرونها نقيصة. 3- أنه لكلا الوجهين. 4- أنّ ذلك ليمتحنهم ليتميّز الناصح من الغاش. 5- أن ذلك في أمور الدنيا و مكائد الحرب و في مثل ذلك يجوز أن يستعين بآرائهم.» «1»

2- و قال- تعالى-: «خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجٰاهِلِينَ* وَ إِمّٰا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطٰانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّٰهِ، إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.» «2»

أقول: قال: في مجمع البيان ما محصّله:

«العفو ما عفا من أموال الناس، أي

ما فضل من النفقة. و قيل: خذ العفو من أخلاق الناس، و معناه أنّه أمره بالتساهل و ترك الاستقصاء في القضاء و الاقتضاء.

و قيل: هو العفو في قبول العذر من المعتذر. و روي أنّه لما نزلت الآية سأل رسول اللّه «ص» جبرائيل عن ذلك فقال: لا أدري حتّى أسأل العالم، ثمّ أتاه فقال:

يا محمّد، إنّ اللّه يأمرك أن تعفو عمّن ظلمك، و تعطي من حرمك، و تصل من قطعك.

و أمر بالعرف، يعني بالمعروف و هو كلّ ما حسن في العقل أو الشرع و لم يكن منكرا و قبيحا.

و النزغ: الوسوسة و النخسة في القلب. قال ابن زيد: لما نزلت هذه الآية قال النبي «ص»: كيف يا ربّ و الغضب؟ فنزل قوله: و إمّا ينزغنّك من الشيطان نزغ.» «3»

3- و قال: «وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَ يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ، قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ.» «4»

______________________________

(1)- بحار الأنوار 16/ 198، تاريخ نبيّنا «ص»، الباب 9 (باب مكارم أخلاقه ...)، عن مجمع البيان 1/ 527 (الجزء 2).

(2)- سورة الأعراف (7)، الآية 199 و 200.

(3)- مجمع البيان 2/ 512 (الجزء 4).

(4)- سورة التوبة (9)، الآية 61.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 787

4- و قال: «لَقَدْ جٰاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مٰا عَنِتُّمْ، حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ، بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ.» «1»

قال في المجمع:

«معناه شديد عليه عنتكم، أي ما يلحقكم من الضرر بترك الإيمان.» «2»

5- و قال: «وَ عِبٰادُ الرَّحْمٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذٰا خٰاطَبَهُمُ الْجٰاهِلُونَ قٰالُوا سَلٰاماً.» إلى قوله: «وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنٰا هَبْ لَنٰا مِنْ أَزْوٰاجِنٰا وَ ذُرِّيّٰاتِنٰا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ اجْعَلْنٰا

لِلْمُتَّقِينَ إِمٰاماً.» «3»

أقول: هونا، أي بسكينة و وقار بلا تجبّر و تبختر.

6- و قال: «وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ* وَ اخْفِضْ جَنٰاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.» «4»

7- و قال: «فَاصْبِرْ، إِنَّ وَعْدَ اللّٰهِ حَقٌّ، وَ لٰا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لٰا يُوقِنُونَ.» «5»

و في البحار:

«و لا يستخفنك، أي و لا يحملنك على الخفّة و القلق الذين لا يوقنون بتكذيبهم.» «6»

8- و قال: «وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللّٰهِ فَضْلًا كَبِيراً* وَ لٰا تُطِعِ الْكٰافِرِينَ وَ الْمُنٰافِقِينَ وَ دَعْ أَذٰاهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللّٰهِ وَ كَفىٰ بِاللّٰهِ وَكِيلًا.» «7»

9- و قال: «وَ لٰا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لَا السَّيِّئَةُ، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَدٰاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ* وَ مٰا يُلَقّٰاهٰا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا، وَ مٰا يُلَقّٰاهٰا إِلّٰا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ* وَ إِمّٰا يَنْزَغَنَّكَ

______________________________

(1)- سورة التوبة (9)، الآية 128.

(2)- مجمع البيان 3/ 86 (الجزء 5).

(3)- سورة الفرقان (25)، الآية 63- 74.

(4)- سورة الشعراء (26)، الآية 214- 215.

(5)- سورة الروم (30)، الآية 60.

(6)- بحار الأنوار 16/ 205، تاريخ نبيّنا «ص»، باب مكارم أخلاقه ...

(7)- سورة الأحزاب (33)، الآية 47- 48.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 788

مِنَ الشَّيْطٰانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّٰهِ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.» «1»

10- و قال: «مٰا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ* وَ إِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ* وَ إِنَّكَ لَعَلىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ.» «2»

11- و قال: «فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا.» «3»

12- و قال: «وَ اصْبِرْ عَلىٰ مٰا يَقُولُونَ وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا* وَ ذَرْنِي وَ الْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَ مَهِّلْهُمْ قَلِيلًا.» «4»

[الروايات الواردة في أخلاق النبيّ ص و لطفه و عفوه و رحمته]

13- و في البحار عن أمالي الطوسي بسنده، عن أمير المؤمنين «ع» في أوصاف النّبيّ «ص»:

«ليس بالعاجز و لا باللئيم،

أكرم الناس عشرة، و ألينهم عريكة، و أجودهم كفّا، من خالطه بمعرفة أحبّه، و من رآه بديهة هابه، عزّه بين عينيه، يقول ناعته: لم أر قبله و لا بعده مثله.» «5»

أقول: العريكة: الطبيعة.

14- و فيه أيضا عن عيون أخبار الرضا بسنده، عن الحسن بن علي بن أبي طالب «ع»، قال: «سألت خالي هند بن أبي هالة عن حلية رسول اللّه «ص» فقال ... و يمشي هونا، ذريع المشية، إذا مشى كأنّما ينحطّ في صبب، و إذا التفت التفت جميعا، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جلّ نظره الملاحظة، يبدر من لقيه بالسلام ... و لا يتكلّم في غير حاجة، يفتتح الكلام و يختمه بأشداقه، يتكلّم بجوامع الكلم فصلا، لا فضول فيه و لا تقصير، دمثا ليس بالجافي و لا بالمهين ...» «6»

______________________________

(1)- سورة فصلت (41)، الآية 34- 36.

(2)- سورة القلم (68)، الآية 2- 4.

(3)- سورة المعارج (70)، الآية 5.

(4)- سورة المزّمّل (73)، الآية 10- 11.

(5)- بحار الأنوار 16/ 147، تاريخ نبيّنا «ص»، الباب 8 (باب أوصافه ...)، الحديث 3.

(6)- بحار الأنوار 16/ 148- 150، تاريخ نبيّنا «ص»، باب أوصافه ...، الحديث 4.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 789

أقول: الذريع: السريع. و الصبب: ما انحدر من الأرض. و الأشداق: جوانب الفم. و الدمث: سهل الخلق. و هند بن أبي هالة ربيب رسول اللّه «ص» أمّه خديجة أمّ المؤمنين، و كان وصّافا لحلية رسول اللّه «ص». و روى رواية هند بطولها في كنز العمال، فراجع «1».

15- و في البحار أيضا عن العيون بسنده، عن الحسين بن عليّ «ع»، عن أبيه «ع» في وصف رسول اللّه «ص»، قال: «كان

«ص» يخزن لسانه إلّا عما يعنيه و يؤلّفهم و لا ينفرهم، و يكرم كريم كلّ قوم و يولّيه عليهم، و يحذر الناس و يحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد بشره و لا خلقه، و يتفقّد أصحابه، و يسأل الناس عمّا في الناس، و يحسن الحسن و يقوّيه، و يقبّح القبيح و يوهنه، معتدل الأمر غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يميلوا، و لا يقصر عن الحق و لا يجوزه، الذين يلونه من الناس خيارهم، أفضلهم عنده أعمّهم نصيحة للمسلمين، و أعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة و موازرة ... و لا يوطن الأماكن و ينهى عن إيطانها، و إذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس و يأمر بذلك. و يعطي كلّ جلسائه نصيبه، و لا يحسب أحد من جلسائه أن أحدا أكرم عليه منه، من جالسه صابره حتى يكون هو المنصرف عنه، من سأله حاجة لم يرجع إلّا بها أو بميسور من القول، قد وسع الناس من خلقه و صار لهم أبا و صاروا عنده في الحق سواء، مجلسه مجلس حلم و حياء و صدق و أمانة، لا ترفع فيه الأصوات، و لا تؤبّن (لا توهن خ. ل) فيه الحرم، و لا تنثى فلتاته، متعادلين متواصلين فيه بالتقوى، متواضعين يوقّرون الكبير و يرحمون الصغير، و يؤثرون ذا الحاجة و يحفظون الغريب.

فقلت: فكيف كان سيرته في جلسائه؟ فقال: كان دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظّ و لا صخّاب و لا فحّاش و لا عيّاب و لا مدّاح، يتغافل عمّا لا يشتهي فلا يؤيس منه و لا يخيّب مؤمّليه، قد ترك نفسه من ثلاث: المراء و الإكثار و ما لا

يعنيه، و ترك الناس من ثلاث: كان لا يذمّ أحدا و لا يعيّره و لا يطلب عورته و لا عثراته. الحديث» «2»

______________________________

(1)- كنز العمال 7/ 163، كتاب الشمائل من قسم الأفعال، باب في حليته «ص»، الحديث 18535.

(2)- بحار الأنوار 16/ 151- 153، تاريخ نبيّنا «ص»، باب أوصافه ...، الحديث 4.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 790

أقول: قوله: «و لا يوطن الأماكن»، أي لا يتخذ لنفسه مجلسا يعرف به. و أبّنه: عابه و اتّهمه. لا تنثى فلتاته، أي لا تشاع و لا يتحدّث بها. الصخّاب: الشديد الصياح و مثله السخّاب بالسين.

16- و في البحار أيضا عن العياشي، عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه «ع»، عن النبي «ص» في حديث: «إنّي أنا الذي سمّاني اللّه في التوراة و الإنجيل محمد رسول اللّه المجتبى المصطفى، ليس بفحّاش و لا سخّاب في الأسواق، و لا يتبع السيّئة السيّئة، و لكن يتبع السيّئة الحسنة ...» «1»

17- و فيه أيضا عن الكازروني في المنتقى، عن عليّ «ع» في وصف النبي «ص»: «إذا مشى يتقلّع كأنّما يمشي في صبب، و إذا التفت جميعه، بين كتفيه خاتم النبوة و هو خاتم النبيين. أجود الناس كفّا، و أرحب الناس صدرا، و أصدق الناس لهجة، و أوفى الناس ذمّة، و ألينهم عريكة، و أكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، و من خالطه معرفة أحبّه، يقول ناعته: لم أر قبله و لا بعده مثله.» و روى نحوه بتفاوت ما عن كتاب الغارات عن عليّ «ع» «2».

18- و فيه أيضا عن أمالي الصدوق بسنده، عن موسى بن جعفر، عن أبيه، عن آبائه، عن أمير المؤمنين «ع»، قال: إنّ يهوديا كان له

على رسول اللّه «ص» دنانير فتقاضاه، فقال له: يا يهوديّ، ما عندي ما اعطيك. فقال: فإنّي لا أفارقك يا محمد حتّى تقضيني، فقال: إذا أجلس معك، فجلس معه حتّى صلّى في ذلك الموضع الظهر و العصر و المغرب و العشاء الآخرة و الغداة، و كان أصحاب رسول اللّه «ص» يتهدّدونه و يتواعدونه، فنظر رسول اللّه «ص» إليهم فقال:

ما الذي تصنعون به؟ فقالوا: يا رسول اللّه، يهوديّ يحبسك؟ فقال «ص»: لم يبعثني ربّي- عزّ و جلّ- بأن أظلم معاهدا و لا غيره، فلمّا علا النهار قال اليهوديّ: أشهد أن لا إله إلّا اللّه، و أشهد أنّ محمدا عبده و رسوله، و شطر مالي في سبيل اللّه. أما و اللّه ما فعلت بك الذي فعلت إلّا لأنظر إلى نعتك في

______________________________

(1)- بحار الأنوار 16/ 185، تاريخ نبيّنا «ص»، باب أوصافه ...، الحديث 21.

(2)- بحار الأنوار 16/ 190 و 194، تاريخ نبيّنا «ص»، باب أوصافه ...، الحديث 27 و 33.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 791

التوراة، فإنّي قرأت نعتك في التوراة: محمد بن عبد اللّه مولده بمكة و مهاجره بطيبة، و ليس بفظّ و لا غليظ و لا سخّاب، و لا متريّن بالفحش و لا قول الخناء. و أنا أشهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّك رسول اللّه، و هذا مالي فاحكم فيه بما أنزل اللّه. و كان اليهوديّ كثير المال. «1»

19- و فيه أيضا عن الأمالي بسنده، عن أبي جعفر «ع»، قال: قال رسول اللّه «ص»: «خمس لا أدعهنّ حتّى الممات: الأكل على الحضيض مع العبيد، و ركوبي الحمار مؤكفا، و حلبي العنز بيدي، و لبس الصوف، و التسليم على الصبيان

لتكون سنّة من بعدي.» «2»

20- و فيه أيضا عن الخصال بسنده، عن جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن عليّ «ع»، قال: قال رسول اللّه «ص»: «خمس لست بتاركهنّ حتى الممات: لباسي الصوف، و ركوبي الحمار موكفا، و أكلي مع العبيد، و خصفي النعل بيدي، و تسليمي على الصبيان لتكون سنّة من بعدي.» «3»

21- و فيه أيضا عن أمالي الطوسي بسنده، عن ابن عباس، قال:

«كان رسول اللّه «ص» يجلس على الأرض، و يأكل على الأرض، و يعتقل الشاة، و يجيب دعوة المملوك على خبز الشعير.» «4»

22- و فيه أيضا عن الكافي بسنده، عن جميل، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «كان رسول اللّه «ص» يقسم لحظاته بين أصحابه ينظر إلى ذا، و ينظر إلى ذا بالسوية.» «5»

23- و فيه أيضا عن مكارم الأخلاق، عن أنس بن مالك، قال:

«كان رسول اللّه «ص» إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيّام سأل عنه، فإن كان

______________________________

(1)- بحار الأنوار 16/ 216، تاريخ نبيّنا «ص»، الباب 9 (باب مكارم أخلاقه ...) الحديث 5.

(2)- بحار الأنوار 16/ 215، تاريخ نبيّنا «ص» باب مكارم أخلاقه، الحديث 2.

(3)- بحار الأنوار 16/ 219، تاريخ نبيّنا «ص»، باب مكارم أخلاقه، الحديث 11.

(4)- بحار الأنوار 16/ 222، تاريخ نبيّنا «ص»، باب مكارم أخلاقه، الحديث 19.

(5)- بحار الأنوار 16/ 280، تاريخ نبيّنا «ص»، باب مكارم أخلاقه، الحديث 121؛ و أصول الكافي 2/ 671، كتاب العشرة، باب النوادر، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 792

غائبا دعا له، و إن كان شاهدا زاره، و إن كان مريضا عاده.» «1»

24- و في مناقب ابن شهرآشوب:

«أمّا آدابه «ص» فقد جمعها بعض العلماء و التقطها من

الأخبار: كان النبي «ص» أحكم الناس و أحلمهم و أشجعهم و أعدلهم و أعطفهم لم تمسّ يده يد امرأة لا تحلّ، و أسخى الناس لا يثبت عنده دينار و لا درهم، فإن فضل و لم يجد من يعطيه و يجنّه الليل لم يأو إلى منزله حتى يتبرّأ منه إلى من يحتاج إليه، لا يأخذ مما آتاه اللّه إلّا قوت عامه فقط من يسير ما يجد من التمر و الشعير، و يضع سائر ذلك في سبيل اللّه، و لا يسأل شيئا إلّا أعطاه. ثمّ يعود إلى قوت عامه فيؤثر منه حتى ربّما احتاج قبل انقضاء العام إن لم يأته شي ء.

و كان يجلس على الأرض و ينام عليها و يأكل عليها، و كان يخصف النعل، و يرقع الثوب، و يفتح الباب، و يحلب الشاة، و يعقل البعير و يحلّه، و يطحن مع الخادم إذا أعيى، و يضع طهوره بالليل بيده، و لا يتقدمه مطرق، و لا يجلس متكئا، و يخدم في مهنة أهله، و يقطع اللحم، و إذا جلس على الطعام جلس محقّرا، و كان يلطع أصابعه، و لم يتجشّأ قطّ. و يجيب دعوة الحرّ و العبد و لو على ذراع أو كراع، و يقبل الهدية و لو أنّها جرعة لبن، و يأكلها و لا يأكل الصدقة، و لا يثبت بصره في وجه أحد، يغضب لربّه و لا يغضب لنفسه، و كان يعصب الحجر على بطنه من الجوع، يأكل ما حضر، و لا يردّ ما وجد، لا يلبس ثوبين، يلبس بردا حبرة يمنية و شملة جبّة صوف و الغليظ من القطن و الكتان، و أكثر ثيابه البياض، و يلبس العمامة تحت العمامة، يلبس القميص من قبل ميامنه،

و كان له ثوب للجمعة خاصّة، و كان إذا لبس جديدا أعطى خلق ثيابه مسكينا، و كان له عباء يفرش له حيث ما ينقل تثنى ثنيتين.

يلبس خاتم فضّة في خنصره الأيمن، يحبّ البطيخ، و يكره الريح الرديّة و يستاك عند الوضوء، يردف خلفه عبده أو غيره، و يركب ما أمكنه من فرس أو بغلة أو حمار، و يركب الحمار بلا سرج و عليه العذار، و يمشي راجلا و حافيا بلا رداء

______________________________

(1)- بحار الأنوار 16/ 233، تاريخ نبيّنا «ص»، باب مكارم أخلاقه، الحديث 35.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 793

و لا عمامة و لا قلنسوة، و يشيّع الجنائز، و يعود المرضى في أقصى المدينة، يجالس الفقراء و يؤاكل المساكين و يناولهم بيده، و يكرم أهل الفضل في أخلافهم، و يتألّف أهل الشرف بالبرّ لهم.

يصل ذوي رحمه من غير أن يؤثرهم على غيرهم إلّا بما أمر اللّه، و لا يجفو على أحد، يقبل معذرة المعتذر إليه، و كان أكثر الناس تبسّما ما لم ينزل عليه قرآن و لم تجر عظة، و ربّما ضحك من غير قهقهة، لا يرتفع على عبيده و إمائه في مأكل و لا في ملبس، ما شتم أحدا بشتمة و لا لعن امرأة و لا خادما بلعنة، و لا لاموا أحدا إلّا قال: دعوه، و لا يأتيه أحد: حرّ أو عبد أو أمة إلّا قام معه في حاجته، لا فظّ و لا غليظ و لا صخّاب في الأسواق، و لا يجزي بالسيّئة السيّئة و لكن يغفر و يصفح، و يبدأ من لقيه بالسلام، و من رامه بحاجة صابره حتّى يكون هو المنصرف، و ما أخذ أحد يده فيرسل

يده حتى يرسلها، و إذا لقي مسلما بدأه بالمصافحة، و كان لا يقوم و لا يجلس إلّا على ذكر اللّه، و كان لا يجلس إليه أحد و هو يصلّى إلّا خفّف صلاته و أقبل عليه و قال: أ لك حاجة؟ و كان أكثر جلوسه أن ينصب ساقيه جميعا، و كان يجلس حيث ينتهي به المجلس، و كان أكثر ما يجلس مستقبل القبلة، و كان يكرم من يدخل عليه حتّى ربّما بسط ثوبه، و يؤثر الداخل بالوسادة التي تحته، و كان في الرضا و الغضب لا يقول إلّا حقّا. الحديث.» «1»

أقول: قال في البحار:

«قوله: «لا يتقدمه مطرق»، أي كان أكثر الناس إطراقا إلى الأرض حياء، يقال:

أطرق، أي سكت و لم يكلم و أرخى عينيه ينظر إلى الأرض. و المهنة بالفتح و الكسر: الخدمة. و الكراع كغراب من البقر و الغنم: مستدقّ الساق.» «2»

و العذار: ما سال من اللجام على خدّ الفرس.

______________________________

(1)- مناقب ابن شهرآشوب 1/ 126؛ و رواه عنه في بحار الأنوار 16/ 226، تاريخ نبيّنا «ص»، باب مكارم أخلاقه، الحديث 34.

(2)- بحار الأنوار 16/ 229.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 794

25- و في أصول الكافي بسنده، عن زرارة، عن أبي جعفر «ع»، قال: «إنّ رسول اللّه «ص» أتي باليهودية التي سمّت الشاة للنبي «ص» فقال لها: ما حملك على ما صنعت؟

فقالت: قلت: إن كان نبيّا لم يضرّه و إن كان ملكا أرحت الناس منه. قال: فعفا رسول اللّه «ص» عنها.» و رواه أيضا ابن هشام في السيرة. «1»

26- و سيرة رسول اللّه «ص» في فتح مكة و معاملته مع رؤساء الكفّار و المشركين بعد ما غلب عليهم من أهم الوقائع

التي ترشدنا إلى ما ينبغي أن يكون عليه إمام المسلمين و زعيمهم من سعة الصدر و كثرة الإغماض و العفو في قبال الأعداء بعد أن أظفره اللّه عليهم، فقد كان أبو سفيان و أهله من ألدّ الأعداء لرسول اللّه «ص» و من أعظم من أوقد نيران الحرب على المسلمين، فلمّا ظفر عليه رسول اللّه «ص» في فتح مكة عرض عليه الإسلام ثمّ جعل داره مأمنا فقال: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن.» «2»

و زوجته هند مع ما كانت تؤذي الرسول «ص» في مكّة و ما صنعت في أحد بأجساد القتلى و جسد حمزة جاءت إليه متخفية فأسلمت و أهدت إلى رسول اللّه «ص» جديين و اعتذرت من قلة ولادة غنمها فدعا لها رسول اللّه «ص»، بالبركة في غنمها فكثرت «3».

و غلامهما وحشي بن حرب، قاتل حمزة هرب إلى الطائف ثمّ قدم في وفد أهله على رسول اللّه «ص» و أسلم، فسأله عن كيفية قتل حمزة فأخبره، فبكى «ص» و قال له: غيّب وجهك عنّي. «4»

و لما دخل «ص» مكّة نادى قريش فقال: «يا معشر قريش، ما ترون انّي فاعل بكم؟

قالوا: خيرا، أخ كريم و ابن أخ كريم.» قال: «اذهبوا، فأنتم الطلقاء.» فعفا عنهم

______________________________

(1)- أصول الكافي 2/ 108، كتاب الإيمان و الكفر، باب العفو، الحديث 9؛ و نحوه في سيرة ابن هشام 3/ 352.

(2)- سيرة ابن هشام 4/ 46؛ و الكامل لابن الأثير 2/ 245.

(3)- الكامل لابن الأثير 2/ 251.

(4)- الكامل لابن الأثير 2/ 250.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 795

و كان اللّه قد أمكنه منهم و كانوا له فيئا «1».

إلى غير ذلك ممّا عامل به المشركين في فتح

مكّة و قد كان رؤساء مكّة حاربوه في غزوات كثيرة و قتلوا المسلمين، فعفا عنهم و لم ينتقم حتّى من قاتل عمّه حمزة و من هند آكلة الأكباد.

27- و في غزوة حنين بعد ما ظفر النبيّ «ص» على هوازن بدأ بقسمة الغنائم فقسمها، ثمّ قدم عليه هوازن مسلمين فردّ عليهم السبي، و سألهم عن رئيسهم مالك بن عوف النصري فقالوا: هو مع ثقيف بالطائف، فقال: أخبروه أنّه إن أتاني مسلما رددت عليه أهله و ماله و أعطيته مأئة من الإبل. فلمّا أخبروا مالكا بذلك ركب مستخفيا فأدرك النبي «ص» بالجعرانة، و قيل: بمكّة، فردّ عليه أهله و ماله و أعطاه مأئة من الإبل كما وعده، و حسن إسلامه. و قال حين أسلم يمدح النبيّ «ص» ... و استعمله النبيّ «ص» على من أسلم من قومه، فكان يقاتل بهم ثقيفا لا يخرج لهم سرح إلّا أغار عليه و ضيّق عليهم حتّى أسلموا، و شهد فتح القادسية و فتح دمشق في خلافة عمر «2».

و مالك بن عوف هو الذي جمع الجموع في حنين ضدّ رسول اللّه «ص» و كانوا ثلاثين ألفا ثمّ بعد الانهزام فرّ إلى الطائف.

فانظر إلى سعة صدر رسول اللّه «ص» و أنّه كيف كان يعامل مقاتليه بعد أن أظفره اللّه عليهم.

فعلى إمام المسلمين و قائدهم العفو و الإغماض عن خطايا الأمّة مهما تيسّر ذلك و لم يوجب تعطيل الحقوق و الحدود و لا تجرّي الكفّار و المجرمين.

و لا ينافي هذا أمثال قوله- تعالى-: «يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ، جٰاهِدِ الْكُفّٰارَ وَ الْمُنٰافِقِينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ»* «3»، و قوله: «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّٰهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّٰاءُ عَلَى الْكُفّٰارِ رُحَمٰاءُ بَيْنَهُمْ.» «4» إذ موردها

______________________________

(1)- الكامل لابن الأثير

2/ 252؛ و نحوه في سيرة ابن هشام 4/ 55.

(2)- سيرة زيني دحلان المطبوع بحاشية السيرة الحلبية 2/ 306؛ و نحوه في سيرة ابن هشام 4/ 133.

(3)- سورة التحريم (66)، الآية 9.

(4)- سورة الفتح (48)، الآية 29.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 796

صورة المواجهة و التهاجم و إعدادهم القوى لذلك أو نقضهم العهود مرّة بعد مرّة، كما صنع بنو قريظة و يهود المدينة. و مورد العفو و الرحمة صورة الانتصار و التسلّط عليهم و الأمن من هجومهم و توطئتهم، كما لا يخفى على أهله.

و في الغرر و الدرر: «جمال السياسة العدل في الإمرة، و العفو مع القدرة.» «1»

و فيه أيضا: «ظفر الكرام عفو و إحسان. ظفر اللئام تجبّر و طغيان.» «2» هذا.

أقول: و يمكن أن يستفاد من أمثال هذه الوقائع، و كذا من قصّة عفو أمير المؤمنين «ع» لأصحاب الجمل، بعد ما ظفر عليهم و فيهم الرؤساء كمروان و عبد اللّه بن الزبير و أمثالهما و في رأسهم أمّ المؤمنين عائشة مع ما سبّبوا لقتل كثير من المسلمين، أنّه في موارد الحرب و قتال جيش ضدّ جيش و انتصار أحدهما على الآخر تكون رعاية المصالح العامّة أولى و أقدم من رعاية الحقوق الشخصيّة الفرديّة، و أمر الانتقام و العفو فيها إلى الإمام، و حكم القصاص و التغريم المالي بلحاظ الحقوق الفردية إنّما يجريان في الموارد الشخصيّة الحادثة في خلال المجتمع لا في هذه الموارد العامّة التي يظفر فيها نظام على نظام، بل لعلّ الدليل عليهما منصرف عن أمثالها.

فرسول اللّه «ص» عفا عن مشركي مكّة و هم قد شاركوا في إراقة دماء المسلمين في بدر و أحد و غيرهما من المعارك،

و عفا عن مثل وحشي قاتل عمّه حمزة من غير أن يسترضي فيه بنت حمزة و ورّاثه، و عفا عن مالك بن عوف المسبّب لقتل كثير من المسلمين في هوازن.

و أمير المؤمنين «ع» عفا عن أصحاب الجمل و قد قال فيهم على ما في نهج البلاغة:

«فقدموا على عاملي بها و خزّان بيت مال المسلمين و غيرهم من أهلها فقتلوا طائفة صبرا و طائفة غدرا. فو اللّه لو لم يصيبوا من المسلمين إلّا رجلا واحدا معتمدين لقتله بلا جرم جرّه لحلّ لي قتل ذلك

______________________________

(1)- الغرر و الدرر 3/ 375، الحديث 4792.

(2)- الغرر و الدرر 4/ 273 و 274، الحديث 6044 و 6045.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 797

الجيش كلّه، إذ حضروه فلم ينكروا و لم يدفعوا عنه بلسان و لا بيد، دع ما أنهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدّة التي دخلوا بها عليهم.» «1»

فهذه نكتة فقهية ينبغي أن يلاحظها الفقيه إذ بها يفتتح باب واسع في الفقه.

و يمكن أن تقرّب هذه المسألة- بعد دلالة سيرة النبيّ «ص» و أمير المؤمنين «ع» عليها- بوجوه:

الأول: أنّ أدلّة القصاص و الضمان و إن كانت مطلقة و لكن مع تزاحم الملاكات تتقدّم المصالح العامة لأهميّتها على المصالح الخاصّة، فيجوز للإمام العفو عن الجيش الكافر أو الباغي بعد الغلبة عليه إذا رأى ذلك صلاحا للإسلام و الأمّة، حيث إنّه بذلك تنجذب الفئة الكافرة أو الباغية إلى الإسلام.

الثاني: أن حق القصاص و إن جعل لولي الدّم مطلقا و لكن الإمام وليّ الأولياء و يكون أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فتقدّم ولايته على ولاية وليّ الدم كما تقدّم ولاية الجدّ على ولاية الأب مع التعارض.

و لعلّه على

هذا الأساس جعل النبي «ص» كلّ دم كان في الجاهلية تحت قدميه.

الثالث: أنّ أدلة القصاص و الضمان منصرفة عن صورة مقابلة جيش لجيش و نظام لنظام، حيث إن كلّا من الطرفين بإقدامه على الحرب كأنّه جعل نفسه و ماله باختياره في معرض التلف. فالمعتدي باعتدائه أهدر ماله و دمه، و المؤمن بإقدامه على الجهاد باع نفسه و ماله في سبيل اللّه.

و لا يتوهّم أن الإغماض عن مثل أبي سفيان و أمثالهم كان لإسلامهم و أنّ

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 556؛ عبده 2/ 104؛ لح/ 247، الخطبة 172.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 798

الإسلام يجبّ ما قبله، إذ الجبّ كان في مقام الامتنان، و لا امتنان في إسقاط الضمانات و الحقوق. فلو كان كافر مدينا لمسلم ثمّ أسلم فهل يمكن الالتزام بجبّ الإسلام لدينه؟ فمورد الجبّ التكاليف و الأحكام، فتدبّر.

28- و في سنن ابن ماجة بسنده عن ابن مسعود، قال: «أتى النبي «ص» رجل فكلمه فجعل ترعد فرائصه، فقال له: هوّن عليك، فإنّي لست بملك، إنّما أنا ابن امرأة تأكل القديد.» «1» هذا.

و إنّما تعرّضنا في هذا الباب للآيات و الروايات الواردة في خلق النبيّ «ص» و أدبه و عشرته و عفوه و رحمته لأنّه «ص» أوّل من أسّس الدولة الإسلاميّة و أوّل إمام و قدوة للمسلمين، فعلى الأمّة الإسلاميّة و لا سيّما أئمتهم و قادتهم و المنصوبين من قبلهم الايتمام به في سيرته و أخلاقه و أعماله، كما قال اللّه- تعالى- في كتابه: «لَقَدْ كٰانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّٰهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كٰانَ يَرْجُوا اللّٰهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللّٰهَ كَثِيراً.» «2»

و لم يصحّ خلوّ الباب المعقود لبيان سيرة

الإمام و أخلاقه من بيان سيرة أوّل من أقام الحكم الإسلامي و أسّس أساسه. كما أنّه من المتوقّع من حكّام المسلمين و نوّابهم في جميع الأعصار التفقّه في سيرته «ص» و أعماله الفرديّة و العائلية، و في عباداته و معاملاته، و في غزواته و سراياه، و في معاملته مع من كان تحت حكمه و مع أعدائه و مخالفيه. هذا.

29- و في الكافي بسنده عن حنّان، عن أبيه، عن أبي جعفر «ع»، قال: قال رسول اللّه «ص»: «لا تصلح الإمامة إلّا لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي اللّه، و حلم يملك به غضبه، و حسن الولاية على من يلي حتّى يكون لهم كالوالد الرحيم.» و في رواية أخرى: «حتّى يكون للرعيّة كالأب الرحيم.» «3»

______________________________

(1)- سنن ابن ماجة 2/ 1101، كتاب الأطعمة، الباب 30، الحديث 3312.

(2)- سورة الأحزاب (33)، الآية 21.

(3)- أصول الكافي 1/ 407، كتاب الحجّة، باب ما يجب من حق الإمام على الرعية ...، الحديث 8.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 799

30- و فيه أيضا بسنده عن حنان بن سدير الصيرفي، قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: نعيت إلى النبيّ «ص» نفسه و هو صحيح ليس به وجع، قال: نزل به الروح الأمين، قال: فنادى «ص»: الصلاة جامعة و أمر المهاجرين و الأنصار بالسلاح، و اجتمع الناس، فصعد النبيّ «ص» المنبر فنعى إليهم نفسه ثمّ قال: أذكّر اللّه الوالي من بعدي على أمّتي ألّا يرحم على جماعة المسلمين فأجلّ كبيرهم و رحم ضعيفهم، و وقّر عالمهم (عاملهم خ. ل)، و لم يضربهم فيذلّهم، و لم يفقرهم فيكفرهم، و لم يغلق بابه دونهم فيأكل قويّهم ضعيفهم، و لم

يخبزهم في بعوثهم فيقطع نسل أمتي، ثمّ قال: «قد بلغت و نصحت فاشهدوا.» و قال أبو عبد اللّه «ع»: هذا آخر كلام تكلّم به رسول اللّه «ص» على منبره «1».

أقول: المراد بالبعوث: الجيوش. و قوله: «لم يخبزهم»، فالمستفاد من البحار و من مرآة العقول «2» أنّه إمّا بالخاء المعجمة و الباء الموحّدة ثم الزاي المعجمة من الخبز بمعنى السوق الشديد. أو بالجيم و النون و الزاي المعجمة من جنزه إذا ستره و جمعه. أو بالجيم و التاء و تشديد الزاي المعجمة افتعال من اجتزّ الحشيش إذا قطعه بحيث لم يبق منه شي ء.

قال: و في قرب الإسناد: «و لم يجمرهم في ثغورهم.» «3» و هو أظهر نظرا إلى التعليل.

قال في النهاية:

«في حديث عمر: «لا تجمروا الجيش فتفتنوهم.» تجمير الجيش: جمعهم في الثغور و حبسهم عن العود إلى أهلهم.» «4»

31- و في كنز العمال: «أوصى الخليفة من بعدي بتقوى اللّه، و أوصيه بجماعة المسلمين أن يعظّم كبيرهم و يرحم صغيرهم، و يوقّر عالمهم، و أن لا يضربهم فيذلهم، و لا يوحشهم فيكفّرهم،

______________________________

(1)- أصول الكافي 1/ 406، كتاب الحجّة، باب ما يجب من حق الإمام على الرعية ...، الحديث 4.

(2)- بحار الأنوار 27/ 247 و 22/ 496؛ و مرآة العقول 4/ 339 (ط. القديم 1/ 305).

(3)- قرب الإسناد/ 48، و فيه «و لم يجهّزهم في ثغورهم».

(4)- النهاية لابن الأثير 1/ 292.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 800

و أن لا يخصيهم فيقطع نسلهم، و أن لا يغلق بابه دونهم فيأكل قويّهم ضعيفهم.» (هق، عن أبي أمامة) «1».

[الروايات الواردة في أخلاق أمير المؤمنين ع و الأئمة من بعده في هذا المجال]

32- و في نهج البلاغة من عهد له «ع» إلى محمد بن أبي بكر حين قلّده مصر:

«فاخفض

لهم جناحك و ألن لهم جانبك، و ابسط لهم وجهك، و آس بينهم في اللحظة و النظرة، حتّى لا يطمع العظماء في حيفك لهم، و لا ييأس الضعفاء من عدلك عليهم، فإنّ اللّه- تعالى- يسائلكم معشر عباده عن الصغيرة من أعمالكم و الكبيرة، و الظاهرة و المستورة فإن يعذّب فأنتم أظلم، و إن يعف فهو أكرم.» «2»

33- و فيه أيضا في كتاب له «ع» إلى بعض عمّاله: «فاستعن باللّه على ما أهمّك، و اخلط الشدّة بضغث من اللين، و ارفق ما كان الرفق أرفق و اعتزم بالشدّة حين لا يغني عنك إلّا الشدة، و اخفض للرعيّة جناحك (و أبسط لهم وجهك) و ألن لهم جانبك و آس بينهم في اللحظة و النظرة، و الإشارة و التحيّة حتّى لا يطمع العظماء في حيفك، و لا ييأس الضعفاء من عدلك، و السلام.» «3»

34- و فيه أيضا من وصية له «ع» لعبد اللّه بن عباس عند استخلافه إيّاه على البصرة: «سع الناس بوجهك و مجلسك و حكمك. و إيّاك و الغضب، فإنّه طيرة من الشيطان.» «4»

أقول: في شرح عبده:

«الطيرة: الفأل الشؤم. و الغضب يتفأل به الشيطان في نيل مأربه من الغضبان.»

35- و فيه أيضا: «أمّا بعد، فإن حقّا على الوالي أن لا يغيّره على رعيّته فضل ناله، و لا طول

______________________________

(1)- كنز العمال 6/ 47، الباب الأول من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14787.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 886؛ عبده 3/ 31؛ لح/ 383، الكتاب 27.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 976؛ عبده 3/ 85؛ لح/ 420، الكتاب 46.

(4)- نهج البلاغة، فيض/ 1080؛ عبده 3/ 149؛ لح/ 465، الكتاب 76.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص:

801

خصّ به، و أن يزيده ما قسم اللّه له من نعمه دنوّا من عباده و عطفا على إخوانه. ألا و إن لكم عندي أن لا أحتجز دونكم سرّا إلّا في حرب، و لا أطوي دونكم أمرا إلّا في حكم، و لا أؤخّر لكم حقّا عن محلّه، و لا أقف به دون مقطعه، و ان تكونوا عندي في الحق سواء، فإذا فعلت ذلك وجبت للّه عليكم النعمة ولي عليكم الطاعة، و أن لا تنكصوا عن دعوة، و لا تفرّطوا في صلاح، و أن تخوضوا الغمرات إلى الحق. الحديث.» «1»

و روى نحوه في البحار عن كتاب الصفين، فراجع «2».

أقول: الطول بالفتح: عظيم النعمة و الفضل. قوله: «و لا أطوي دونكم أمرا إلّا في حكم»، يعني: لا أدع مشاورتكم في الأمور إلّا في حكم صرّح به الشرع، حيث إنّ حكم اللّه هو النافذ.

36- و فيه أيضا في كتابه «ع» لمالك: «و أشعر قلبك الرحمة للرعيّة و المحبّة لهم و اللطف بهم، و لا تكوننّ عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان: إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، و تعرض لهم العلل و يؤتى على أيديهم في العمد و الخطأ، فأعطهم من عفوك و صفحك مثل الذي تحبّ أن يعطيك اللّه من عفوه و صفحه فإنّك فوقهم، و والي الأمر عليك فوقك، و اللّه فوق من ولّاك، و قد استكفاك أمرهم و ابتلاك بهم، و لا تنصبنّ نفسك لحرب اللّه، فإنّه لا يدي لك بنقمته و لا غنى بك عن عفوه و رحمته، و لا تندمنّ على عفو. و لا تبجحنّ بعقوبة و لا تسرعنّ إلى بادرة وجدت منها مندوحة، و

لا تقولنّ إنّي مؤمّر آمر فأطاع، فإنّ ذلك إدغال في القلب و منهكة للدين و تقرّب من الغير.» «3»

أقول: يؤتى على أيديهم مبني للمفعول، و على أيديهم نائب للفاعل، و المقصود أن السيئات و الخطايا تأتي على أيديهم. و قوله: لا يدي لك بنقمته، أي لا تقدر على دفعها.

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 982؛ عبده 3/ 88؛ لح/ 424، الكتاب 50.

(2)- بحار الأنوار 72/ 354 (طبعة إيران 75/ 354)، كتاب العشرة، باب أحوال الملوك و الأمراء، الحديث 70؛ و كتاب وقعة صفين/ 107.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 993؛ عبده 3/ 93؛ لح/ 427، الكتاب 53.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 802

بجح به كفرح لفظا و معنى. و البادرة: ما يبدر من الحدّة و الغضب. و المندوحة:

المخلص. و الإدغال: الإفساد. و نهكه: أضعفه. و الغير: حوادث الدهر و تبدّل الدول.

37- و فيه أيضا من كتاب له «ع» إلى بعض عمّاله: «أمّا بعد، فإنّ دهاقين أهل بلدك شكوا منك غلظة و قسوة، و احتقارا و جفوة. و نظرت فلم أرهم أهلا لأن يدنوا لشركهم، و لا أن يقصوا و يجفوا لعهدهم، فالبس لهم جلبابا من اللين تشوبه بطرف من الشدّة، و داول لهم بين القسوة و الرأفة، و امزج لهم بين التقريب و الإدناء، و الإبعاد و الإقصاء، إن شاء اللّه». «1»

38- و فيه أيضا: «و إنّ من أسخف حالات الولاة عند صالح الناس أن يظنّ بهم حبّ الفخر و يوضع أمرهم على الكبر، و قد كرهت أن يكون جال في ظنّكم انّي أحبّ الإطراء و استماع الثناء، و لست- بحمد اللّه- كذلك، و لو كنت أحبّ أن يقال ذلك لتركته انحطاطا للّه- سبحانه-

عن تناول ما هو أحقّ به من العظمة و الكبرياء، و ربّما استحلى الناس الثناء بعد البلاء فلا تثنوا عليّ بجميل ثناء لإخراجي نفسي إلى اللّه و إليكم من التقية في حقوق لم أفرغ من أدائها و فرائض لا بدّ من إمضائها، فلا تكلّموني بما تكلّم به الجبابرة، و لا تتحفّظوا منّي بما يتحفّظ به عند أهل البادرة، و لا تخالطوني بالمصانعة، و لا تظنّوا بي استثقالا في حقّ قيل لي و لا التماس إعظام لنفسي، فإنّه من استثقل الحقّ أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفّوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإنّي لست في نفسي بفوق أن أخطئ و لا آمن ذلك من فعلي إلّا أن يكفي اللّه من نفسي ما هو أملك به منّي فإنّما أنا و أنتم عبيد مملوكون لربّ لا ربّ غيره، يملك منّا ما لا نملك من أنفسنا. الحديث.» «2»

39- و فيه أيضا: و قال- عليه السّلام- و قد لقيه عند مسيره إلى الشام دهاقين الأنبار فترجّلوا له و اشتدّوا بين يديه فقال: «ما هذا الذي صنعتموه؟» فقالوا: خلق منّا نعظّم به أمراءنا. فقال «ع»: «و اللّه ما ينتفع بهذا أمراؤكم و إنّكم لتشقّون على أنفسكم في دنياكم، و تشقون به في آخرتكم، و ما أخسر المشقّة وراءها العقاب، و أربح الدعة معها الأمان من

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 869؛ عبده 3/ 21؛ لح/ 376، الكتاب 19.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 686؛ عبده 2/ 226؛ لح/ 334، الخطبة 216.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 803

النار.» «1»

أقول: ترجلوا، أي نزلوا عن خيولهم مشاة. و اشتدوا: أسرعوا. و الدعة:

الراحة.

40- و في فروع الكافي بسنده عن رجل من ثقيف، قال: استعملني علي بن أبي طالب «ع» على بانقيا و سواد من سواد الكوفة، فقال لي و الناس حضور: «انظر خراجك فجدّ فيه و لا تترك منه درهما، فإذا أردت أن تتوجّه إلى عملك فمرّ بي.» قال فأتيته فقال لي: «إنّ الذي سمعت منّي خدعة، إيّاك أن تضرب مسلما أو يهوديا أو نصرانيا في درهم خراج أو تبيع دابّة عمل في درهم، فإنّما أمرنا أن نأخذ منهم العفو.» و رواه عنه في البحار «2».

41- و في أصول الكافي بسنده عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد اللّه «ع»، عن آبائه- عليهم السّلام-: «أنّ أمير المؤمنين «ع» صاحب رجلا ذمّيا، فقال له الذّميّ: أين تريد يا عبد اللّه؟ فقال: أريد الكوفة، فلمّا عدل الطريق بالذمّي عدل معه أمير المؤمنين «ع» فقال له الذميّ: أ لست زعمت أنّك تريد الكوفة؟ فقال له: بلى. فقال له الذميّ: فقد تركت الطريق، فقال له: قد علمت. قال: فلم عدلت معي و قد علمت ذلك؟ فقال له أمير المؤمنين «ع»: هذا من تمام حسن الصحبة أن يشيع الرجل صاحبه هنيئة إذا فارقه، و كذلك أمرنا نبيّنا «ص». فقال له الذميّ: هكذا قال؟ قال: نعم. قال الذميّ: لا جرم إنّما تبعه من تبعه لأفعاله الكريمة، فأنا أشهدك أنّي على دينك. و رجع الذميّ مع أمير المؤمنين «ع»، فلمّا عرفه أسلم.» «3»

42- و فيه أيضا بسنده عن عبد اللّه بن القدّاح، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال:

«دخل رجلان على أمير المؤمنين «ع» فألقى لكل واحد منهما و سادة فقعد عليها أحدهما و أبى الآخر.

فقال أمير المؤمنين «ع»: اقعد عليها، فإنّه لا يأبى الكرامة

إلّا حمار. ثمّ قال: قال رسول اللّه «ص»:

إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه.» «4»

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 1104؛ عبده 3/ 160؛ لح/ 475، الحكمة 37.

(2)- فروع الكافي 3/ 540، (ط. القديم 1/ 152)، كتاب الزكاة، باب أدب المصدق، الحديث 8؛ و في بحار الأنوار 41/ 128، تاريخ أمير المؤمنين «ع»، الباب 107 (باب جوامع مكارم أخلاقه)، الحديث 37.

(3)- أصول الكافي 2/ 670، كتاب العشرة، باب حسن الصحابة و حق الصاحب في السفر، الحديث 5.

(4)- أصول الكافي 2/ 659، كتاب العشرة، باب إكرام الكريم، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 804

43- و في المناقب عن مختار التمار، عن أبي مطر البصري «أنّ أمير المؤمنين «ع» مرّ بأصحاب التمر فإذا هو بجارية تبكي، فقال: يا جارية، ما يبكيك؟ فقالت: بعثني مولاي بدرهم فابتعت من هذا تمرا فأتيتهم به فلم يرضوه، فلمّا أتيته به أبى أن يقبله. قال: يا عبد اللّه، إنّها خادم و ليس لها أمر فاردد إليها درهمها و خذ التمر. فقام إليه الرجل فلكزه. فقال الناس: هذا أمير المؤمنين «ع». فربا الرجل و اصفرّ و أخذ التمر و ردّ إليها درهمها ثمّ قال: يا أمير المؤمنين ارض عنّي. فقال: ما أرضاني عنك إن أصلحت أمرك.

و في فضائل أحمد: إذا وفيت الناس حقوقهم.

و دعا «ع» غلاما له مرارا فلم يجبه، فخرج فوجده على باب البيت فقال:

ما حملك على ترك إجابتي؟ قال: كسلت عن إجابتك و أمنت عقوبتك. فقال: الحمد للّه الذي جعلني ممّن يأمنه خلقه. امض فأنت حرّ لوجه اللّه ...

و كان عليّ «ع» في صلاة الصبح فقال ابن الكواء من خلفه: «وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ

لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخٰاسِرِينَ.» «1» فأنصت عليّ «ع» تعظيما للقرآن حتّى فرغ من الآية، ثمّ عاد في قراءته، ثمّ أعاد ابن الكوّاء الآية فانصت عليّ «ع» أيضا ثمّ قرأ، ثمّ أعاد ابن الكوّاء فأنصت عليّ «ع» ثمّ قال:

«فاصبر، إنّ وعد اللّه حقّ، و لا يستخفّنك الذين لا يوقنون.» ثمّ أتمّ و ركع ...

و جاء أبو هريرة- و كان يتكلّم فيه و أسمعه في اليوم الماضي- و سأله حوائجه فقضاها فعاتبه أصحابه على ذلك، فقال: إنّي لأستحي أن يغلب جهله علمي، و ذنبه عفوي، و مسألته جودي.» و رواه عنه في البحار «2».

أقول: اللكز: الضرب بجمع الكف. و الربو و الربوة: انتفاخ الجوف و علّة تحدث في الرئة فتصيّر النفس صعبا. و ابن الكوّاء كان من رؤساء الخوارج و اسمه عبد اللّه.

______________________________

(1)- سورة الزمر (39)، الآية 65.

(2)- مناقب ابن شهرآشوب 1/ 379؛ و بحار الأنوار 41/ 48، تاريخ أمير المؤمنين «ع»، الباب 104 (باب حسن خلقه)، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 805

44- و في المناقب أيضا عن العقد و نزهة الأبصار: «و أسر مالك الأشتر يوم الجمل مروان بن الحكم فعاتبه «ع» و أطلقه. و قالت عائشة يوم الجمل: ملكت فأسجح «1»، فجهّزها أحسن الجهاز و بعث معها بتسعين امرأة أو سبعين. و استأمنت لعبد اللّه بن الزبير على لسان محمد بن أبي بكر فآمنه و آمن منعه سائر الناس. و جي ء بموسى بن طلحة بن عبيد اللّه فقال له: قل: أستغفر اللّه و أتوب إليه ثلاث مرّات، و خلّى سبيله و قال: اذهب حيث شئت، و ما وجدت لك في عسكرنا من سلاح أو

كراع فخذه و اتّق اللّه فيما تستقبله من أمرك و اجلس في بيتك.» و رواه عنه في البحار «2».

45- و في شرح ابن أبي الحديد المعتزلي:

«و قد علمتم ما كان من عائشة في أمره، فلمّا ظفر بها أكرمها، و بعث معها إلى المدينة عشرين امرأة من نساء عبد القيس عمّمهنّ بالعمائم، و قلّدهنّ بالسيوف. فلمّا كانت ببعض الطريق ذكرته بما لا يجوز أن يذكر به، و تأفّفت و قالت: هتك ستري برجاله و جنده الذين وكّلهم بي، فلمّا وصلت المدينة ألقى النساء عمائمهنّ و قلن لها: إنّما نحن نسوة.

و حاربه أهل البصرة، و ضربوا وجهه و وجوه أولاده بالسيوف و شتموه و لعنوه، فلمّا ظفر بهم رفع السيف عنهم و نادى مناديه في أقطار العسكر: ألا لا يتبع مولّ و لا يجهز على جريح و لا يقتل مستأسر، و من ألقى سلاحه فهو آمن، و من تحيّز إلى عسكر الإمام فهو آمن.

و لم يأخذ أثقالهم و لا سبى ذراريهم، و لا غنم شيئا من أموالهم، و لو شاء أن يفعل كلّ ذلك لفعل، و لكنّه أبى إلّا الصفح و العفو، و تقيّل سنّة رسول اللّه «ص» يوم فتح مكّة، فإنّه عفا و الأحقاد لم تبرد و الإساءة لم تنس.» «3»

______________________________

(1)- أسجح الوالي: أحسن العفو.

(2)- مناقب ابن شهرآشوب 1/ 381؛ و بحار الأنوار 41/ 50، تاريخ أمير المؤمنين «ع»، باب حسن خلقه، الحديث 2.

(3)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1/ 23.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 806

أقول: تقيّل أباه: أشبهه.

46- و في أنساب الأشراف للبلاذري في أمر وقعة النهروان: «و كان عليّ «ع» يقول: إنّا لا نمنعهم الفي ء و لا

نحول بينهم و بين دخول مساجد اللّه و لا نهيّجهم ما لم يسفكوا دما و ما لم ينالوا محرّما.» «1»

47- و في مصنف ابن أبي شيبة بسنده عن كثير بن نمر، قال: بينا أنا في الجمعة و علي بن أبي طالب على المنبر إذ جاء رجل فقال: لا حكم إلّا للّه، ثمّ قام آخر فقال: لا حكم إلّا للّه، ثمّ قاموا من نواحي المسجد يحكّمون اللّه. فأشار عليهم بيده: اجلسوا. نعم، لا حكم إلّا للّه، كلمة حقّ يبتغي بها باطل، حكم اللّه ينتظر فيكم. ألا إنّ لكم عندي ثلاث خلال ما كنتم معنا: لن نمنعكم مساجد اللّه أن يذكر فيها اسمه، و لا نمنعكم فيئا ما كانت أيديكم مع أيدينا، و لا نقاتلكم حتّى تقاتلوا. ثمّ أخذ في خطبته.» «2»

و رواه عنه البيهقي في سننه. و روى البيهقي قريبا من ذلك أيضا عن الشافعي، عن عليّ، فراجع «3».

48- و في الوسائل عن قرب الإسناد بسنده عن مسعدة بن زياد، عن جعفر، عن أبيه «ع» أنّ عليّا «ع» لم يكن ينسب أحدا من أهل حربه إلى الشرك و لا إلى النفاق، و لكنه كان يقول: «هم إخواننا بغوا علينا.» «4»

قال في الوسائل: «هذا محمول على التقية.»

أقول: و وجهه غير واضح، فإنّ الظاهر أنّ أمير المؤمنين «ع» كان يعاملهم معاملة المسلمين.

49- و روى قريبا من هذه الرواية ابن أبي شيبة في مصنّفه، فروى بسنده عن

______________________________

(1)- أنساب الأشراف 2/ 359.

(2)- مصنف ابن أبي شيبة 15/ 327، كتاب الجمل، الحديث 19776.

(3)- سنن البيهقي 8/ 184، كتاب قتال أهل البغي، باب القوم يظهرون رأى الخوارج ...

(4)- الوسائل 11/ 62، الباب 26 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 10.

دراسات في

ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 807

أبي البختري قال: سئل عليّ عن أهل الجمل، قال: قيل: أ مشركون هم؟ قال: من الشرك فرّوا. قيل: أ منافقون هم؟ قال: إنّ المنافقين لا يذكرون اللّه إلّا قليلا. قيل:

فما هم؟ قال: إخواننا بغوا علينا. «1»

أقول: فانظر إلى سعة صدر أمير المؤمنين إمام المسلمين و أنه كيف كان يحتمل مخالفيه و أهل حربه و أنه كان يواجههم بالصفح و العفو و حسن العبارة.

50- و في المناقب عن زاذان: أنّه «ع» كان يمشي في الأسواق وحده و هو ذاك يرشد الضّال و يعين الضعيف و يمرّ بالبيّاع و البقال فيفتح عليه القرآن و يقرأ: تلك الدار الآخرة نجعلها ... «2»

51- و في كنز العمّال عن ابن عساكر، عن زاذان، عن عليّ «ع» أنّه كان يمشي في الأسواق وحده و هو وال يرشد الضالّ و ينشد الضالّ و يعين الضعيف و يمرّ بالبيّاع و البقّال فيفتح عليه القرآن و يقرأ: «تِلْكَ الدّٰارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهٰا لِلَّذِينَ لٰا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لٰا فَسٰاداً» «3»، و يقول: نزلت هذه الآية في أهل العدل و التواضع من الولاة و أهل القدرة من سائر الناس «4».

52- و في كتاب الجمل للشيخ المفيد عن الواقدي، عن رجاله، قال: لما أراد أمير المؤمنين «ع» الخروج من البصرة استخلف عليها عبد اللّه بن عباس و وصّاه و كان في وصيته له أن قال: «يا ابن عباس، عليك بتقوى اللّه و العدل بمن ولّيت عليه و أن تبسط للناس وجهك و توسّع عليهم مجلسك و تسعهم بحلمك. و إيّاك و الغضب، فإنّه طيرة الشيطان. و إيّاك و الهوى، فإنّه يصدّك عن سبيل اللّه. و اعلم

أن ما قرّبك من اللّه فهو مباعدك من النار، و ما باعدك من اللّه فمقرّبك من النار. و اذكر اللّه كثيرا و لا تكن من الغافلين.» و قد مرّ نحوه عن نهج البلاغة «5».

______________________________

(1)- مصنف ابن أبي شيبة 15/ 256، كتاب الجمل، الحديث 19609.

(2)- مناقب ابن شهرآشوب 1/ 372.

(3)- سورة القصص (28)، الآية 83.

(4)- كنز العمال 13/ 180، كتاب الفضائل من قسم الأفعال، باب فضائل الصحابة، الحديث 36538.

(5)- كتاب الجمل/ 223؛ و نهج البلاغة، فيض/ 1080؛ عبده 3/ 149؛ لح/ 465، الكتاب 76.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 808

53- و في الوسائل عن الشهيد الثاني في رسالة الغيبة بسنده عن النوفلي، قال كنت عند جعفر بن محمد الصادق «ع» فإذا بمولى لعبد اللّه النجاشي قد ورد عليه فسلّم و أوصل إليه كتابه ففضّه و قرأه و إذا أوّل سطر فيه: «بسم اللّه الرحمن الرحيم (إلى أن قال): إنّي بليت بولاية الأهواز فإن رأى سيدي و مولاي أن يحدّ لي حدّا أو يمثّل لي مثالا ...

فأجابه أبو عبد اللّه «ع»: بسم اللّه الرحمن الرحيم ... و اعلم أنّي سأشير عليك برأي إن أنت عملت به تخلّصت ممّا أنت متخوّفه، و اعلم أنّ خلاصك ممّا بك (و نجاتك خ. ل) من حقن الدماء و كفّ الأذى عن أولياء اللّه، و الرفق بالرّعيّة، و التأنّي و حسن المعاشرة مع لين في غير ضعف، و شدّة في غير عنف، و مداراة صاحبك، و من يرد عليك من رسله، و ارتق فتق رعيّتك بأن توقفهم على ما وافق الحقّ و العدل إن شاء اللّه. و إيّاك و السعاة و أهل النمائم، فلا يلتزقنّ بك أحد

منهم. و لا يراك اللّه يوما و ليلة و أنت تقبل منهم صرفا و لا عدلا فيسخط اللّه عليك ...» و الحديث طويل، فراجع «1».

54- و في تحف العقول عن الإمام الصادق «ع»: «أفضل الملوك من أعطي ثلاث خصال: الرأفة، و الجود، و العدل. و ليس يحبّ للملوك أن يفرّطوا في ثلاث: في حفظ الثغور، و تفقّد المظالم، و اختيار الصالحين لأعمالهم ... ثلاثة تجب على السلطان للخاصّة و العامّة: مكافأة المحسن بالإحسان ليزدادوا رغبة فيه، و تغمّد ذنوب المسي ء ليتوب و يرجع عن غيّه، و تألّفهم جميعا بالإحسان و الإنصاف.» «2»

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 2، ص: 808

55- و في أصول الكافي بسند صحيح عن معاوية بن وهب، قال: قلت له:

كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا و بين قومنا و بين خلطائنا من الناس ممّن ليسوا على أمرنا؟ قال: «تنظرون إلى أئمتكم الذين تقتدون بهم فتصنعون ما يصنعون فو اللّه إنّهم ليعودون مرضاهم و يشهدون جنائزهم و يقيمون الشهادة لهم و عليهم و يؤدّون الأمانة إليهم.» «3»

______________________________

(1)- الوسائل 12/ 150- 152، الباب 49 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1، عن رسالة الغيبة/ 122.

(2)- تحف العقول/ 319.

(3)- أصول الكافي 2/ 636، كتاب العشرة، باب ما يجب من المعاشرة، الحديث 4.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 809

56- و فيه أيضا بسند صحيح عن معاوية بن وهب أيضا، قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع»: كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا و بين قومنا

و فيما بيننا و بين خلطائنا من الناس؟ قال: فقال: «تؤدّون الأمانة إليهم و تقيمون الشهادة لهم و عليهم و تعودون مرضاهم و تشهدون جنائزهم.» «1»

إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا المجال، فراجع.

أقول: و قد عثرت بعد جمع هذه الروايات و تنظيمها على رواية لها نظر إلى مضمون روايتي مسعدة و أبي البختري (الرقم 48 و 49)، فلنتعرّض لها هنا استدراكا، و هي ما رواه العيّاشي في تفسير سورة الأعراف بسنده، قال: «جاء رجل من أهل الشام إلى عليّ بن الحسين «ع» فقال: أنت علي بن الحسين؟ قال: نعم. قال: أبوك الّذي قتل المؤمنين؟ فبكى علي بن الحسين «ع» ثم مسح عينيه فقال: ويلك! كيف قطعت على أبي أنّه قتل المؤمنين؟ قال: قوله: إخواننا قد بغوا علينا، فقاتلناهم على بغيهم.

فقال: ويلك! أما تقرأ القرآن؟ قال بلى. قال: فقد قال اللّه: «وَ إِلىٰ مَدْيَنَ أَخٰاهُمْ شُعَيْباً»، «وَ إِلىٰ ثَمُودَ أَخٰاهُمْ صٰالِحاً»؛ فكانوا إخوانهم في دينهم أو في عشيرتهم؟ قال له الرجل: لا، بل في عشيرتهم. قال: فهؤلاء إخوانهم في عشيرتهم، و ليسوا إخوانهم في دينهم. قال:

فرّجت عنّي، فرج اللّه عنك.» «2»

______________________________

(1)- أصول الكافي 2/ 635، كتاب العشرة، باب ما يجب من المعاشرة، الحديث 2.

(2)- تفسير العيّاشيّ 2/ 20. و الآية الأولى في سور الأعراف (7)، الرقم 85، و هود (11)، الرقم 84، و العنكبوت (29)، الرقم 36؛ و الآية الثانية في سورة هود (11)، الرقم 61.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 811

الفصل الثاني في أنه على الإمام أن لا يحتجب عن رعيته

1- في البحار عن عيون أخبار الرضا بسنده عن الحسين بن علي «ع»، عن أبيه في وصف النبيّ «ص»: «إذا آوى إلى منزلة جزّأ دخوله ثلاثة أجزاء:

جزء للّه، و جزء لأهله، و جزء لنفسه. ثم جزأ جزءه بينه و بين الناس فيردّ ذلك بالخاصّة على العامّة، و لا يدّخر عنهم منه شيئا. و كان من سيرته في جزء الأمّة إيثار أهل الفضل بإذنه و قسمه على قدر فضلهم في الدين، فمنهم ذو الحاجة، و منهم ذو الحاجتين، و منهم ذو الحوائج، فيتشاغل بهم و يشغلهم فيما أصلحهم و الأمّة: من مسألته عنهم، و إخبارهم بالذي ينبغي، و يقول: ليبلّغ الشاهد منكم الغائب، و أبلغوني حاجة من لا يقدر على إبلاغ حاجته، فإنّه من أبلغ سلطانا حاجة من لا يقدر على إبلاغها ثبّت اللّه قدميه يوم القيامة. الحديث» «1»

و روى نحوه في كنز العمّال عن هند بن أبي هالة، فراجع «2».

قال المجلسي في البحار:

______________________________

(1)- بحار الأنوار 16/ 150، تاريخ نبيّنا «ص» باب أوصافه ...، الحديث 4.

(2)- كنز العمال 7/ 163، كتاب الشمائل من قسم الأفعال، باب في حليته «ص»، الحديث 18535.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 812

«قوله «يردّ ذلك بالخاصة على العامّة»، معناه أنّه كان يعتمد في هذه الحال على أنّ الخاصّة يرفع إلى العامّة علومه و آدابه و فوائده. و فيه قول آخر: فيردّ ذلك بالخاصّة على العامّة أن يجعل المجلس للعامّة بعد الخاصّة.»

2- و في نهج البلاغة في كتابه «ع» لمالك: «و أمّا بعد، فلا تطولنّ احتجابك عن رعيّتك، فإنّ احتجاب الولاة عن الرعيّة شعبة من الضيق و قلّة علم بالأمور، و الاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير، و يعظم الصغير، و يقبح الحسن، و يحسن القبيح و يشاب الحق بالباطل، و إنّما الوالي بشر لا يعرف ما توارى

عنه الناس به من الأمور، و ليست على الحق سمات تعرف بها ضروب الصدق من الكذب، و إنّما أنت أحد رجلين: إمّا امرؤ سخت نفسك بالبذل في الحقّ، ففيم احتجابك؟ من واجب حقّ تعطيه، أو فعل كريم تسديه؟ أو مبتلى بالمنع. فما أسرع كفّ الناس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك. مع أنّ أكثر حاجات الناس إليك ممّا لا مئونة فيه عليك من شكاة مظلمة أو طلب إنصاف في معاملة.» «1»

و روى نحوه في كنز العمال عن ابن عساكر و الدينوري، فراجع «2».

3- و فيه أيضا من كتاب له «ع» إلى قثم بن العباس، و هو عامله على مكة:

«أمّا بعد، فأقم للناس الحج، و ذكّرهم بأيام اللّه، و اجلس لهم العصرين، فأفت المستفتي، و علّم الجاهل، و ذاكر العالم، و لا يكن لك إلى الناس سفير إلّا لسانك، و لا حاجب إلّا وجهك، و لا تحجبنّ ذا حاجة عن لقائك بها، فإنّها إن ذيدت عن أبوابك في أوّل وردها لم تحمد فيما بعد على قضائها.» «3»

أقول: العصران: الغداة و العشى. إن ذيدت، أي دفعت الحاجّة. و الورد بالكسر: الورود.

4- و في البحار عن أمالي الصدوق بسنده عن الصادق «ع»، قال: «من تولّى أمرا من أمور الناس فعدل، و فتح بابه و رفع شرّه، و نظر في أمور الناس كان حقّا على اللّه- عزّ و جلّ-

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 1024؛ عبده 3/ 114؛ لح/ 441، الكتاب 53.

(2)- كنز العمال 13/ 185، كتاب الفضائل من قسم الأفعال، باب فضائل الصحابة، الحديث 36553.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 1062؛ عبده 3/ 140؛ لح/ 457، الكتاب 67.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 813

أن يؤمن روعته يوم

القيامة و يدخله الجنة» «1»

5- و فيه أيضا عن الخصال بسنده عن هشام بن معاذ، قال: «دخل الباقر «ع» على عمر بن عبد العزيز فوعّظه و كان فيما وعّظه: يا عمر افتح الأبواب، و سهّل الحجاب، و انصر المظلوم، و ردّ المظالم.» «2»

6- و فيه أيضا عن ثواب الأعمال بسنده عن ابن نباتة، عن أمير المؤمنين «ع»، قال: «أيّما وال احتجب عن حوائج الناس احتجب اللّه يوم القيامة عن حوائجه، و إن أخذ هدية كان غلولا، و إن أخذ رشوة فهو مشرك.» «3»

7- و في مسند أحمد بسنده عن عمرو بن مرّة الجهني أنّه قال لمعاوية: يا معاوية، إنّي سمعت رسول اللّه «ص» يقول: «ما من إمام أو وال يغلق بابه دون ذوي الحاجة و الخلّة و المسكنة إلّا أغلق اللّه- عزّ و جلّ- أبواب السماء دون حاجته و خلّته و مسكنته.» «4»

8- و في كنز العمّال: «من ولّاه اللّه شيئا من أمور المسلمين فاحتجب دون حاجتهم و خلّتهم و فقرهم احتجب اللّه عنه يوم القيامة دون حاجته و خلّته و فقره.» (د و ابن سعد و البغوي، عن أبي مريم الأزدي) «5»

9- و فيه أيضا: «من ولي من أمر المسلمين شيئا فاحتجب عن ضعفة المسلمين و أولي الحاجة

______________________________

(1)- بحار الأنوار 72/ 340 (طبعة إيران 75/ 340)، كتاب العشرة، الباب 81 (باب أحوال الملوك و الأمراء)، الحديث 18.

(2)- بحار الأنوار 72/ 344 (طبعة إيران 75/ 344)، كتاب العشرة، باب الأحوال الملوك و الأمراء، الحديث 36.

(3)- بحار الأنوار 72/ 345 (طبعة إيران 75/ 345)، كتاب العشرة، باب أحوال الملوك و الأمراء، الحديث 42.

(4)- مسند أحمد 4/ 231.

(5)- كنز العمال 6/ 35، الباب الأوّل من كتاب

الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14739، و نحوه الحديث 14740 و غيره.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 814

احتجب اللّه عنه يوم القيامة.» (حم طب، عن معاذ) «1».

10- و فيه أيضا عن علي «ع»، قال: «ثلاثة من كنّ فيه من الأئمة صلح أن يكون إماما اضطلع بأمانته: إذا عدل في حكمه، و لم يحتجب دون رعيّته، و أقام كتاب اللّه- تعالى- في القريب و البعيد.» (الديلمي) «2»

11- و في مسند زيد عن علي «ع»، قال: قال رسول اللّه «ص»: «أيّما وال احتجب من حوائج الناس احتجب اللّه منه يوم القيامة.» «3»

و بالجملة، فمقتضى هذه الأخبار أنّ على الإمام أن لا يحتجب عن رعيّته بالكلّيّة، و الرّعيّة عامّة تشمل جميع طبقات المجتمع اللّهم إلّا أن يكون هناك مانع خاصّ و شرائط خاصّة كما يستفاد من بعض الأخبار، فراجع.

أقول: و يناسب هنا نقل كلامين في هذا الباب عن الخليفة الثاني:

ففي المصنف لعبد الرزاق الصنعاني، عن معمر، عن عاصم بن أبي النجود:

«أن عمر بن الخطاب كان إذا بعث عمّاله شرط عليهم أن لا تركبوا برذونا و لا تأكلوا نقيّا، و لا تلبسوا رقيقا، و لا تغلقوا أبوابكم دون حوائج الناس. فإن فعلتم شيئا من ذلك فقد حلّت بكم العقوبة.» قال: ثم شيّعهم فإذا أراد أن يرجع قال:

«إني لم أسلّطكم على دماء المسلمين و لا على أعراضهم و لا على أموالهم، و لكني بعثتكم لتقيموا بهم الصلاة و تقسّموا فيئهم و تحكموا بينهم بالعدل، فإن أشكل عليكم شي ء فارفعوه إليّ ...» «4»

و في كنز العمال عن إبراهيم، قال:

______________________________

(1)- كنز العمال 6/ 36، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14742.

(2)- كنز العمال 5/

764، الباب 2 من كتاب الخلافة مع الإمارة من قسم الأفعال، الحديث 14315.

(3)- مسند زيد/ 323، كتاب السير، باب طاعة الإمام.

(4)- المصنف 11/ 324، باب الإمام راع، الحديث 20662.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 815

كان عمر إذا استعمل عاملا فقدم إليه الوفد من تلك البلاد قال: كيف أميركم أ يعود المملوك؟ أ يتبع الجنازة؟ كيف بابه؟ أ ليّن هو؟ فإن قالوا: بابه ليّن و يعود المملوك تركه و إلّا بعث إليه ينزعه. (هناد) «1»

______________________________

(1)- كنز العمال 5/ 770، الباب 2 من كتاب الخلافة مع الإمارة من قسم الأفعال، الحديث 14336.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 817

الفصل الثالث في سيرة الإمام في مطعمه و ملبسه و إعراضه عن الدنيا و زخارفها

[ما في نهج البلاغة في هذا المجال]

1- ففي نهج البلاغة: «و كذلك من عظمت الدنيا في عينه و كبر موقعها في قلبه آثرها على اللّه فانقطع إليها و صار عبدا لها. و قد كان في رسول اللّه «ص» كاف لك في الأسوة، و دليل لك على ذمّ الدنيا و عيبها، و كثرة مخازيها و مساويها، إذ قبضت عنه أطرافها و وطّئت لغيره أكنافها، و فطم عن رضاعها، و زوي عن زخارفها.

و إن شئت ثنيت بموسى كليم اللّه «ص» إذ يقول: «ربّ إنّي لما أنزلت إليّ من خير فقير.» و اللّه ما سأله إلّا خبزا يأكله، لأنّه كان يأكل بقلة الأرض. و لقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه لهزاله و تشذّب لحمه.

و إن شئت ثلثت بداود «ص» صاحب المزامير، و قارئ أهل الجنة، فلقد كان يعمل سفائف الخوص بيده و يقول لجلسائه: أيّكم يكفيني بيعها؟ و يأكل قرص الشعير من ثمنها.

و إن شئت قلت في عيسى ابن مريم «ع»، فلقد كان يتوسّد الحجر

و يلبس الخشن، و يأكل الجشب، و كان إدامه الجوع و سراجه بالليل القمر، و ظلاله في الشتاء مشارق الأرض و مغاربها، و فاكهته و ريحانه ما تنبت الأرض للبهائم، و لم تكن له زوجة تفتنه، و لا ولد يحزنه، و لا مال يلفته، و لا طمع يذلّه، دابّته رجلاه و خادمه يداه.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 818

فتأسّ بنبيّك الأطيب الأطهر «ص»، فإنّ فيه أسوة لمن تأسّى، و عزاء لمن تعزّى. و أحبّ العباد إلى اللّه المتأسّي بنبيّه و المقتصّ لأثره، قضم الدنيا قضما، و لم يعرها طرفا، أهضم أهل الدنيا كشحا، و أخمصهم من الدنيا بطنا، عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها، و علم أنّ اللّه- سبحانه- أبغض شيئا فأبغضه، و حقّر شيئا فحقّره، و صغّر شيئا فصغّره. و لو لم يكن فينا إلّا حبّنا ما أبغض اللّه و رسوله، و تعظيمنا ما صغّر اللّه و رسوله، لكفى به شقاقا للّه و محادّة عن أمر اللّه.

و لقد كان «ص» يأكل على الأرض، و يجلس جلسة العبد، و يخصف بيده نعله، و يرقع بيده ثوبه و يركب الحمار العاري و يردف خلفه، و يكون الستر على باب بيته فتكون فيه التصاوير فيقول:

يا فلانة- لإحدى أزواجه- غيّبيه عنّي، فإنّي إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا و زخارفها، فأعرض عن الدنيا بقلبه، و أمات ذكرها من نفسه و أحبّ أن تغيب زينتها عن عينه، لكيلا يتّخذ منها رياشا و لا يعتقدها قرارا، و لا يرجو فيها مقاما، فأخرجها من النفس، و أشخصها عن القلب، و غيّبها عن البصر. و كذلك من أبغض شيئا أبغض أن ينظر إليه، و أن يذكر عنده.

و لقد

كان في رسول اللّه «ص» ما يدلّك على مساوي الدنيا و عيوبها، إذ جاع فيها مع خاصّته، و زويت عنه زخارفها مع عظيم زلفته. فلينظر ناظر بعقله، أكرم اللّه محمدا «ص» بذلك أم أهانه؟

فإن قال: «أهانه» فقد كذب و أتى بالإفك العظيم. و إن قال: «أكرمه» فليعلم أن اللّه قد أهان غيره حيث بسط الدنيا له، و زواها عن أقرب الناس منه، فتأسّى متأسّ بنبيّه و اقتصّ أثره، و ولج مولجه، و إلّا فلا يأمن الهلكة، فإنّ اللّه جعل محمّدا «ص» علما للساعة، و مبشرا بالجنّة، و منذرا بالعقوبة، خرج من الدنيا خميصا، و ورد الآخرة سليما، لم يضع حجرا على حجر حتّى مضى لسبيله، و أجاب داعي ربّه. فما أعظم منّة اللّه عندنا حين أنعم علينا به سلفا نتبعه، و قائدا نطأ عقبه.

و اللّه لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها. و لقد قال لي قائل: ألا تنبذها عنك؟

فقلت: اغرب عنّى فعند الصباح يحمد القوم السّرى.» «1»

أقول: الاسوة بالضم و بالكسر: القدوة. المخازي جمع مخزاة: ما يستحى من ذكره

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 505؛ عبده 2/ 72؛ لح/ 226، الخطبة 160.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 819

لقبحه. و المساوي: العيوب. الأكناف: الجوانب و الأطراف. زوي: قبض. شفّ الثوب شفّا و شفيفا: رقّ فحكى ما تحته. الصفاق ككتاب: جلد البطن. الهزال بالضم: نقيض السمن. التشذّب: التفرّق و انهضام اللحم. و مزامير داود: ما كان يتغنّى به من الزبور و الأدعية. السفائف جمع السفيفة: النسيجة. الخوص: بالضمّ:

ورق النخل. الجشب: الخشن الغليظ السي ء المأكل. الظلال جمع الظلّ: الماوى و الكنّ. القضم: الأكل بأطراف الأسنان بحيث لم يملأ بالشي ء فمه و كأنّه

لم يأكله.

لم يعرها طرفا، أي لم يعطها النظر على وجه العارية فكيف بأن يجعلها مطمح نظره.

و الهضم: خلوّ البطن من الجوع. و الكشح: الخاصرة فما دونها. خصف النعل:

خرزها. الرياش: اللباس الفاخر. أشخصها: أبعدها. و المدرعة: ثوب من صوف.

و السّرى بالضمّ: السير في الليل. و الستر الذي فيه تصاوير كان على باب عائشة، كما في كنز العمال عن ابن عساكر عن عروة، قال: «كان على باب عائشة ستر فيه تصاوير فقال النبيّ «ص»: «يا عائشة أخّري هذا، فإنّي إذا رأيته ذكرت الدنيا.» «1» هذا.

فليتأمّل في هذه الخطبة الشريفة قادة المسلمين و من جعل نفسه إماما لهم، فليتأسّوا بأنبياء اللّه و بالنبيّ الأكرم في سيرتهم و لا يغترّوا بزينة الدنيا و زخارفها ليجزيهم اللّه- تعالى- بذلك من درجات الآخرة و نعيمها مع أنبيائه و أوليائه.

2- و فيه أيضا في الخطبة القاصعة: «فلو رخّص اللّه في الكبر لأحد من عباده لرخّص فيه لخاصّة أنبيائه و أوليائه، و لكنّه- سبحانه- كرّه إليهم التكابر، و رضي لهم التواضع، فألصقوا بالأرض خدودهم، و عفّروا في التراب وجوههم، و خفضوا أجنحتهم للمؤمنين، و كانوا أقواما مستضعفين، و قد اختبرهم اللّه بالمخمصة و ابتلاهم بالمجهدة، و امتحنهم بالمخاوف، و مخضهم بالمكاره. فلا تعتبروا الرضا و السخط بالمال و الولد جهلا بمواقع الفتنة و الاختبار، في مواضع الغنى و الاقتدار (الإقتار خ. ل)، و قد قال اللّه- سبحانه و تعالى-: «أَ يَحْسَبُونَ أَنَّمٰا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مٰالٍ وَ بَنِينَ* نُسٰارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرٰاتِ، بَلْ لٰا يَشْعُرُونَ.» «2» فإنّ اللّه- سبحانه- يختبر عباده المستكبرين في أنفسهم بأوليائه المستضعفين في أعينهم.

______________________________

(1)- كنز العمال 7/ 186، كتاب الشمائل من قسم الأفعال، باب شمائل الأخلاق، الحديث 18604.

(2)- سورة

المؤمنين (23)، الآية 55 و 56.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 820

و لقد دخل موسى بن عمران و معه أخوه هارون- عليهما السلام- على فرعون و عليهما مدارع الصوف و بأيديهما العصيّ، فشرطا له إن أسلم بقاء ملكه و دوام عزّه، فقال: «ألا تعجبون من هذين؟ يشرطان لي دوام العزّ و بقاء الملك و هما بما ترون من حال الفقر و الذل، فهلّا ألقي عليهما أساور من ذهب؟!» إعظاما للذهب و جمعه و احتقارا للصوف و لبسه.

و لو أراد اللّه- سبحانه- لأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان و معادن العقيان و مغارس الجنان، و أن يحشر معهم طير السماء و وحوش الأرض لفعل. و لو فعل لسقط البلاء، و بطل الجزاء و اضمحلت الأنباء، و لما وجب للقابلين أجور المبتلين، و لا استحق المؤمنون ثواب المحسنين، و لا لزمت الأسماء معانيها، و لكن اللّه- سبحانه- جعل رسله أولي قوة في عزائمهم و ضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم، مع قناعة تملأ القلوب و العيون غنى، و خصاصة تملأ الأبصار و الأسماع أذى.» «1».

[ما ورد من سائر الأئمة ع في هذا المجال]

3- و في البحار عن أمالي الصدوق بسند صحيح، عن العيص بن القاسم، قال:

قلت للصادق جعفر بن محمد «ع»: حديث يروى عن أبيك «ع» أنّه قال: «ما شبع رسول اللّه «ص» من خبز برّ قطّ.» أ هو صحيح؟ فقال: «لا، ما أكل رسول اللّه «ص» خبز برّ قطّ و لا شبع من خبز شعير قطّ.» «2»

4- و فيه عن الأمالي، عن أمير المؤمنين «ع» قال: «كان فراش رسول اللّه «ص» عباءة و كانت مرفقته ادم حشوها ليف، فثنّيت له ذات ليلة فلما أصبح قال: لقد

منعني الفراش الليلة الصلاة. فأمر «ص» أن يجعل بطاق واحد.» «3»

5- و فيه أيضا عن قرب الإسناد بسنده، عن جعفر، عن أبيه «ع» أنّ رسول اللّه «ص» لم يورّث دينارا و لا درهما و لا عبدا و لا وليدة و لا شاة و لا بعيرا. و لقد قبض «ص» و إن درعه مرهونة عند يهوديّ من يهود المدينة بعشرين صاعا من شعير استلفها نفقة لأهله.» «4»

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 789؛ عبده 2/ 167؛ لح/ 290، الخطبة 192.

(2)- بحار الأنوار 16/ 216، تاريخ نبيّنا «ص»، الباب 9 (باب مكارم أخلاقه ...)، الحديث 4.

(3)- بحار الأنوار 16/ 217، تاريخ نبيّنا «ص»، باب مكارم أخلاقه ...، الحديث 5.

(4)- بحار الأنوار 16/ 219، تاريخ نبيّنا «ص»، باب مكارم أخلاقه، الحديث 8.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 821

6- و فيه أيضا عن الكافي بسنده عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «إيّاك أن تطمح نفسك إلى من فوقك، و كفى بما قال اللّه- عزّ و جلّ- لرسول اللّه «ص»: «فَلٰا تُعْجِبْكَ أَمْوٰالُهُمْ وَ لٰا أَوْلٰادُهُمْ.» «1» و قال اللّه- عزّ و جلّ- لرسوله: «وَ لٰا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلىٰ مٰا مَتَّعْنٰا بِهِ أَزْوٰاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا.» «2» فإن خفت شيئا من ذلك فاذكر عيش رسول اللّه «ص»، فإنّما كان قوته الشعير و حلواه التمر و وقوده السعف إذا وجد.» «3»

7- و فيه أيضا بسنده عن ابن سنان، عن أبي عبد اللّه، قال: «إنّ النبيّ «ص» كان قوته الشعير من غير ادم.» «4»

8- و فيه أيضا عن عيون أخبار الرضا بأسانيده، عن الرضا «ع»، عن آبائه «ع»، قال: قال رسول اللّه «ص»: «أتاني ملك فقال: يا محمد،

إنّ ربّك يقرئك السلام و يقول: إن شئت جعلت لك بطحاء مكة ذهبا، قال: فرفع رأسه إلى السماء و قال: يا ربّ، أشبع يوما فأحمدك، و أجوع يوما فأسألك.» «5»

9- و فيه أيضا عن محاسن البرقي بسنده، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «كان رسول اللّه «ص» يأكل أكل العبد، و يجلس جلوس العبد، و يعلم أنه عبد.»

و رواه أيضا عن الكافي، عن هارون بن خارجة، عن أبي عبد اللّه «ع» «6».

10- و فيه أيضا عن المحاسن بسنده، عن جابر، عن أبي جعفر «ع»، قال:

«كان رسول اللّه «ص» يأكل أكل العبد، و يجلس جلسة العبد، و كان يأكل على الحضيض، و ينام على الحضيض.»

______________________________

(1)- سورة التوبة (9)، الآية 55.

(2)- سورة طه (20)، الآية 131.

(3)- بحار الأنوار 16/ 280، تاريخ نبيّنا «ص»، باب مكارم أخلاقه، الحديث 120.

(4)- بحار الأنوار 16/ 281، تاريخ نبيّنا «ص»، باب مكارم أخلاقه، الحديث 125.

(5)- بحار الأنوار 16/ 220، تاريخ نبيّنا «ص»، باب مكارم أخلاقه، الحديث 12.

(6)- بحار الأنوار 16/ 225 و 262، تاريخ نبيّنا «ص»، باب مكارم أخلاقه، الحديث 29 و 52.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 822

و رواه أيضا عن الكافي، عن جابر عنه «ع» «1».

11- و في أصول الكافي بسند صحيح عن حميد و جابر، قال: قال أمير المؤمنين «ع»: «إنّ اللّه جعلني إماما لخلقه، ففرض عليّ التقدير في نفسي و مطعمي و مشربي و ملبسي كضعفاء الناس كي يقتدي الفقير بفقري و لا يطغى الغني غناه.» «2»

12- و فيه أيضا بسند صحيح عن المعلّى بن خنيس، قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع» يوما جعلت فداك ذكرت آل فلان

و ما هم فيه من النعيم فقلت: لو كان هذا إليكم لعشنا معكم. فقال «ع»: «هيهات يا معلّى، أما و اللّه إن لو كان ذاك ما كان إلّا سياسة الليل و سياحة النهار و لبس الخشن و أكل الجشب فزوي ذلك عنّا. فهل رأيت ظلامة قطّ صيّرها اللّه نعمة إلّا هذه؟» «3»

13- و في البحار عن غيبة النعماني بسنده عن المفضّل، قال: كنت عند أبي عبد اللّه «ع» بالطواف، فنظر إليّ و قال لي: يا مفضل، مالي أراك مهموما متغيّر اللون؟ قال: فقلت له: جعلت فداك نظري إلى بني العباس و ما في أيديهم من هذا الملك و السلطان و الجبروت، فلو كان ذلك لكم لكنا فيه معكم، فقال: «يا مفضّل، أما لو كان ذلك لم يكن إلّا سياسة الليل، و سياحة النهار و أكل الجشب و لبس الخشن، شبه أمير المؤمنين، و إلّا فالنار، فزوي ذلك عنّا فصرنا نأكل و نشرب. و هل رأيت ظلامة جعلها اللّه نعمة مثل هذا؟» «4»

14- و فيه أيضا عن غيبة النعماني بسنده عن عمرو بن شمر، قال: كنت عند أبي عبد اللّه في بيته و البيت غاصّ بأهله ... فقال: «لا تبك يا عمرو، نأكل أكثر الطيب و نلبس اللين و لو كان الذي تقول لم يكن إلّا أكل الجشب و لبس الخشن، مثل أمير المؤمنين علي بن أبي

______________________________

(1)- بحار الأنوار 16/ 225 و 262، تاريخ نبيّنا «ص»، باب مكارم أخلاقه، الحديث 30 و 55.

(2)- أصول الكافي 1/ 410، كتاب الحجّة، باب سيرة الإمام ...، الحديث 1.

(3)- أصول الكافي 1/ 410، كتاب الحجّة باب سيرة الإمام ...، الحديث 2.

(4)- بحار الأنوار 52/ 359، تاريخ الإمام الثاني عشر

«ع»، الباب 27 (باب سيره و أخلاقه ...)، الحديث 127.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 823

طالب «ع»، و إلّا فمعالجة الأغلال في النار.» «1»

[بعض ما ورد من سيرة عليّ ع في هذا المجال]

15- و في أصول الكافي أيضا بسند صحيح عن حماد بن عثمان، قال: حضرت أبا عبد اللّه «ع» و قال له رجل: أصلحك اللّه ذكرت أنّ علي بن أبي طالب «ع» كان يلبس الخشن، يلبس القميص بأربعة دراهم و ما أشبه ذلك، و نرى عليك اللباس الجديد. فقال له: «إنّ علي بن أبي طالب «ع» كان يلبس ذلك في زمان لا ينكر عليه، و لو لبس مثل ذلك اليوم شهر به، فخير لباس كل زمان لباس أهله، غير أنّ قائمنا أهل البيت- عليهم السلام- إذا قام لبس ثياب عليّ «ع» و سار بسيرة عليّ «ع».» «2»

أقول: الظاهر عدم معارضة هذه الرواية لغيرها، إذ لا منافاة بين لزوم رعاية أوضاع الزمان و مقدوراته و تعارفاته و بين لزوم تقدير الإمام نفسه بأضعف أهل زمانه، فتأمّل. و لعلّه يوجد الفرق بين الإمام المبسوط اليد و بين غيره أيضا.

16- و فيه أيضا: «علي بن محمد عن صالح بن أبي حمّاد، و عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، و غيرهما بأسانيد مختلفة في احتجاج أمير المؤمنين «ع» على عاصم بن زياد حين لبس العباء و ترك الملاء و شكاه أخوه الربيع بن زياد إلى أمير المؤمنين «ع» أنّه قد غمّ أهله و أحزن ولده بذلك. فقال أمير المؤمنين «ع»: عليّ بعاصم بن زياد. فجي ء به، فلما رآه عبس في وجهه، فقال له: أما استحييت من أهلك؟

أ ما رحمت ولدك؟ أ ترى اللّه أحلّ لك الطيّبات و هو يكره أخذك

منها؟ أنت أهون على اللّه من ذلك! أ و ليس اللّه يقول: «وَ الْأَرْضَ وَضَعَهٰا لِلْأَنٰامِ* فِيهٰا فٰاكِهَةٌ وَ النَّخْلُ ذٰاتُ الْأَكْمٰامِ» «3»؟ أ و ليس اللّه يقول: «مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيٰانِ* بَيْنَهُمٰا بَرْزَخٌ لٰا يَبْغِيٰانِ* (إلى قوله) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجٰانُ» «4»؟ فباللّه لابتذال نعم اللّه بالفعال أحبّ إليه من ابتذاله لها بالمقال، و قد قال اللّه- عزّ

______________________________

(1)- بحار الأنوار 52/ 360، تاريخ الإمام الثاني عشر «ع»، باب سيره و أخلاقه ...، الحديث 128.

(2)- الكافي 1/ 411، كتاب الحجة، باب سيرة الإمام ...، الحديث 4.

(3)- سورة الرحمن (55)، الآية 10 و 11.

(4)- سورة الرحمن (55)، الآية 19- 22.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 824

و جلّ-: «وَ أَمّٰا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ.» «1»

فقال عاصم: يا أمير المؤمنين، فعلى ما اقتصرت في مطعمك على الجشوبة، و في ملبسك على الخشونة؟ فقال: ويحك، إنّ اللّه- عزّ و جلّ- فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيغ بالفقير فقره. فألقى عاصم بن زياد العباء و لبس الملاء.» «2»

أقول: العباء: الكساء من الصوف و هي لباس خشن. و الملاء بالضم: الثوب اللين الرقيق. و في مرآة العقول: «ابتذال نعمة اللّه بالفعال بالفتح: أن يصرفها فيما ينبغي متوسعا من غير ضيق.» «3» و طعام جشب، أي غليظ. و تبيّغ به و تبوّغ به: هاج به.

17- و روى القصة في نهج البلاغة بنحو آخر، قال: «و من كلام له- عليه السّلام- بالبصرة، و قد دخل على العلاء بن زياد الحارثي- و هو من أصحابه- يعوده، فلمّا رأى سعة داره قال: ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا؟ أما أنت إليها في الآخرة

كنت أحوج؟ و بلى إن شئت بلغت بها الآخرة، تقري فيها الضيف، و تصل فيها الرحم، و تطلع منها الحقوق مطالعها، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة. فقال له العلاء: يا أمير المؤمنين، أشكو إليك أخي عاصم بن زياد. قال: و ماله؟ قال: لبس العباءة و تخلّى عن الدنيا.

قال: عليّ به. فلمّا جاء قال: «يا عديّ نفسه، لقد استهام بك الخبيث. أما رحمت أهلك و ولدك؟ أ ترى اللّه أحلّ لك الطّيّبات و هو يكره أن تأخذها؟ أنت أهون على اللّه من ذلك! قال:

يا أمير المؤمنين، هذا أنت في خشونة ملبسك و جشوبة مأكلك! قال: ويحك، إنّي لست كأنت. إنّ اللّه فرض على أئمة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيّغ بالفقير فقره.» «4»

أقول: عديّ تصغير عدوّ. و استهام بك الخبيث، أي جعلك الشيطان هائما ضالّا.

______________________________

(1)- سورة الضّحى (93)، الآية 11.

(2)- أصول الكافي 1/ 410، كتاب الحجة، باب سيرة الإمام ...، الحديث 3.

(3)- مرآة العقول 4/ 367 (ط. القديم 1/ 311).

(4)- نهج البلاغة، فيض/ 662؛ عبده 2/ 213؛ لح/ 324، الخطبة 209.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 825

و في شرح ابن أبي الحديد المعتزلي:

و اعلم أنّ الذي رويته عن الشيوخ، و رأيته بخطّ عبد اللّه بن أحمد بن الخشّاب «ره» أنّ الربيع بن زياد الحارثي أصابته نشّابة في جبينه فكانت تنتقض عليه في كل عام فأتاه عليّ «ع» عائدا ... قال الربيع: يا أمير المؤمنين، ألا أشكو إليك عاصم بن زياد أخي؟ قال: ماله؟ قال: لبس العباء و ترك الملاء و غمّ أهله و حزن ولده ...

إلى آخر ما ذكره، و قد ذكر قريبا ممّا في الكافي، فراجع. قال:

و

الربيع بن زياد هو الذي افتتح بعض خراسان ... و أمّا العلاء بن زياد الذي ذكره الرضي- رحمه اللّه- فلا أعرفه، و لعلّ غيري يعرفه. «1»

18- و في نهج السعادة مستدرك نهج البلاغة عن سبط ابن الجوزي بسنده عن الأحنف بن قيس، قال: دخلت على أمير المؤمنين «ع» ليلة عند إفطاره فقال لي: قم فتعشّ مع الحسن و الحسين. ثمّ قام إلى الصلاة، فلمّا فرغ دعا بجراب مختوم بخاتمه فأخرج شعيرا مطحونا ثمّ ختمه. فقلت: يا أمير المؤمنين، لم أعهدك بخيلا فكيف ختمت على هذا الشعير؟! فقال: لم أختمه بخلا و لكن خفت أن يبسّه الحسن و الحسين بسمن أو إهالة. فقلت: أ حرام هو؟ قال: «لا، و لكن على أئمة الحق أن يتأسّوا بأضعف رعيّتهم حالا في الأكل و اللباس، و لا يتميّزون عليهم بشي ء لا يقدرون عليه، ليراهم الفقير فيرضى عن اللّه- تعالى- بما هو فيه، و يراهم الغني فيزداد شكرا و تواضعا.» «2»

أقول: بسّ السويق: خلطه بسمن أو زيت. و الإهالة بالكسر: الشحم المذاب أو دهن يؤتدم به.

19- و في نهج البلاغة من كتاب له «ع» إلى عثمان بن حنيف الأنصاري- و هو عامله على البصرة و قد بلغه أنه دعى إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها-: «أمّا بعد، يا ابن حنيف فقد بلغني أنّ رجلا من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها

______________________________

(1)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11/ 35- 37.

(2)- نهج السعادة 2/ 48، الخطبة 168.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 826

تستطاب لك الألوان، و تنقل إليك الجفان. و ما ظننت أنك تحبيب إلى طعام قوم عائلهم مجفوّ و غنيّهم مدعوّ،

فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، و ما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه.

ألا و إنّ لكلّ مأموم إماما يقتدي به و يستضي ء بنور علمه، ألا و إن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه و من طعمه بقرصيه. ألا و إنّكم لا تقدرون على ذلك و لكن أعينوني بورع و اجتهاد و عفّة و سداد. فو اللّه ما كنزت من دنياكم تبرا و لا ادّخرت من غنائمها وفرا، و لا أعددت لبالي ثوبي طمرا، و لا حزت من أرضها شبرا ...

و لو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفّى هذا العسل و لباب هذا القمح و نسائج هذا القزّ، و لكن هيهات أن يغلبني هواي و يقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة و لعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص و لا عهد له بالشبع!! أو أبيت مبطانا و حولي بطون غرثى و أكباد حرّى!! أو أكون كما قال القائل:

و حسبك داء أن تبيت ببطنة و حولك أكباد تحنّ إلى القدّ.

أ أقنع من نفسي بأن يقال: أمير المؤمنين و لا أشاركهم في مكاره الدهر؟ أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش؟ الحديث.» «1»

أقول: المأدبة بفتح الدال و ضمّها: الطعام يصنع لدعوة أو عرس. و الجفان جمع الجفنة و هي القصعة. و القضم: الأكل بطرف الأسنان. و الطمر بالكسر: الثوب الخلق. و التبر بالكسر: ما كان من الذهب غير مصوغ أو غير مضروب. و الوفر: المال الكثير الواسع. و القمح: البرّ. و الجشع: شدّة الحرص. و البطنة: الامتلاء من الطعام.

و القدّ بالكسر و التشديد: القطعة من الجلد غير المدبوغ.

فتأمّل في هذا الكتاب الشريف، و انظر إلى سيرة أمير المؤمنين «ع»

في مطعمه و ملبسه حينما كان متصديا للولاية العامة، و كان في قبضته الأموال العامة و بيت مال المسلمين، و انظر إلى أنّه مع ما كان بين الكوفة و البصرة من المسافة البعيدة و لم تكن توجد في تلك الأعصار ما يوجد من المخابرات كيف كان أمير المؤمنين «ع»

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 965؛ عبده 3/ 78؛ لح/ 416، الكتاب 45.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 827

يتطلّع على أحوال أمرائه و عمّاله؟ و كيف كان يناقشهم على أمور جزئية تبلغه منهم.

فهكذا يجب أن يكون الأئمة و الولاة في مراقبة الأمراء و العمّال و الضبّاط المنصوبين من قبلهم، و في حفظ الأموال العامّة و الاحتياط في صرفها، اللّهم فأعنّا على العمل بوظائفنا و لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبدا.

20- و في نهج البلاغة أيضا: «و رئي عليه «ع» إزار خلق مرقوع فقيل له في ذلك فقال: «يخشع له القلب، و تذلّ به النفس، و يقتدى به المؤمنون. الحديث.» «1»

21- و في الوسائل بسند صحيح، عن محمد بن قيس، عن أبي جعفر «ع» انّه قال: «و اللّه إن كان عليّ «ع» ليأكل أكل العبد، و يجلس جلسة العبد، و ان كان ليشتري القميصين السنبلانيين فيخيّر غلامه خيرهما، ثمّ يلبس الآخر، فإذا جاز أصابعه قطعه، و إذا جاز كعبه حذفه، و لقد وليّ خمس سنين ما وضع آجرّة على آجرّة و لا لبنة على لبنة، و لا أقطع قطيعا، و لا أورث بيضاء و لا حمراء، و ان كان ليطعم الناس خبز البرّ و اللحم و ينصرف إلى منزله و يأكل خبز الشعير و الزيت و الخلّ، و ما ورد عليه أمران

كلاهما للّه رضى إلّا أخذ بأشدّهما على بدنه، و لقد أعتق ألف مملوك من كدّ يده، و تربت فيه يداه و عرق فيه وجهه، و ما أطاق عمله أحد من الناس.

الحديث.» «2»

و رواه أيضا في البحار عن أمالي الصدوق بسند صحيح، عن محمد بن قيس، عن أبي جعفر «ع» «3».

أقول: في البحار عن القاموس:

«قميص سنبلاني: سابغ الطول، أو منسوب إلى بلد بالروم.»

22- و في المناقب عن الغزالي في إحياء العلوم: «كان عليّ بن أبي طالب يمتنع

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 1132؛ عبده 3/ 173؛ لح/ 486، الحكمة 103.

(2)- الوسائل 1/ 66، الباب 20 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث 12.

(3)- بحار الأنوار 41/ 102، تاريخ أمير المؤمنين «ع»، الباب 107 (باب جوامع مكارم أخلاقه)، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 828

من بيت المال حتى يبيع سيفه، و لا يكون له إلّا قميص واحد في وقت الغسل لا يجد غيره.» «1»

23- و فيه أيضا: «قال معاوية لضرار بن ضمرة: صف لي عليّا. قال: كان و اللّه صوّاما بالنهار قوّاما بالليل، يحبّ من اللباس أخشنه، و من الطعام أجشبه، و كان يجلس فينا، و يبتدئ إذا سكتنا، و يجيب إذا سألنا، يقسّم بالسويّة و يعدل في الرعيّة، لا يخاف الضعيف من جوره، و لا يطمع القويّ في ميله. و اللّه لقد رأيته ليلة من الليالي و قد أسبل الظلام سدوله و غارت نجومه و هو يتململ في المحراب تململ السليم و يبكي بكاء الحزين، و لقد رأيته مسيلا للدموع على خدّه قابضا على لحيته يخاطب دنياه فيقول: يا دنيا أبي تشوقت و لي تعرضت؟! لا حان حينك، فقد أبنتك ثلاثا لا

رجعة لي فيك، فعيشك قصير و خطرك يسير، آه من قلّة الزاد و بعد السفر و وحشة الطريق.» «2»

24- و في أمالي الصدوق بسنده عن الأصبغ بن نباتة، قال: دخل ضرار بن ضمرة النهشلي على معاوية بن أبي سفيان فقال له: صف لي عليّا «ع» قال: أو تعفيني، فقال: لا، بل صفه لي.

قال ضرار: رحم اللّه عليّا، كان و اللّه فينا كأحدنا يدنينا إذا أتيناه و يجيبنا إذا سألناه و يقربنا إذا زرناه لا يغلق له دوننا باب و لا يحجبنا عنه حاجب، و نحن و اللّه مع تقريبه لنا و قربه منا لا نكلّمه لهيبته و لا نبتديه لعظمته، فإذا تبسّم له ثغر مثل اللؤلؤ المنظوم.

فقال معاوية: زدني في صفته.

فقال ضرار: رحم اللّه عليّا، كان و اللّه طويل السهاد قليل الرقاد، يتلو كتاب اللّه آناء الليل و أطراف النهار و يجود للّه بمهجته و يبوء إليه بعبرته، لا تغلق له الستور و لا يدّخر عنّا البدور و لا يستلين الاتكاء و لا يستخشن الجفاء، و لو رأيته إذ مثل في

______________________________

(1)- مناقب ابن شهرآشوب 1/ 366.

(2)- مناقب ابن شهرآشوب 1/ 371.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 829

محرابه و قد أرخى الليل سدوله و غارت نجومه و هو قابض على لحيته يتململ تململ السليم و يبكى بكاء الحزين و هو يقول: يا دنيا، أ لي تعرّضت أم إليّ تشوّقت؟ هيهات هيهات، لا حاجة لي فيك أبنتك ثلاثا لا رجعة لي عليك. ثمّ يقول: واه واه لبعد السفر، و قلّة الزاد، و خشونة الطريق.

قال: فبكى معاوية و قال: حسبك يا ضرار كذلك كان و اللّه عليّ، رحم اللّه أبا الحسن.» «1»

و

رواه عنه في البحار و قال:

«البدور جمع البدرة. و السدول جمع السدل و هو الستر. و تململ: تقلّب. و السليم:

من لدغته الحيّة.» «2»

أقول: البدرة: المال الكثير- عشرة آلاف درهم.

25- و في نهج البلاغة قال: و من خبر ضرار بن حمزة الضبابي عند دخوله على معاوية و مسألته له عن أمير المؤمنين «ع» و قال: فاشهد لقد رأيته في بعض مواقفه و قد أرخى الليل سدوله و هو قائم في محرابه قابض على لحيته يتململ تململ السليم و يبكي بكاء الحزين و يقول: «يا دنيا يا دنيا، إليك عنّي، أبي تعرّضت؟! أم إليّ تشوّقت؟

لا حان حينك، هيهات! غرّي غيري، لا حاجة لي فيك، قد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيها فعيشك قصير و خطرك يسير، و أملك حقير، آه من قلة الزاد و طول الطريق و بعد السفر و عظيم المورد.» «3»

أقول: و الظاهر اتحاد الخبرين و أحد الاسمين مصحّف الآخر. و المذكور في تنقيح المقال ضرار بن ضمرة الضبابي، و كذا في نسخة قديمة مخطوطة من نهج البلاغة. و إن شئت تفصيل الخبر فراجع الشرح لابن أبي الحديد «4».

______________________________

(1)- الأمالي/ 371 (طبعة أخرى/ 499)، المجلس 91، الحديث 2.

(2)- بحار الأنوار 41/ 14، تاريخ أمير المؤمنين، الباب 101 (باب عبادته و خوفه)، الحديث 6.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 1118؛ عبده 3/ 166؛ لح/ 480، الحكمة 77.

(4)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 18/ 225؛ تنقيح المقال 2/ 105؛ و نهج البلاغة المخطوط في سنة 494 ه.

ق، ص 263.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 830

26- و في المناقب أيضا عن الإبانة عن ابن بطّة، و الفضائل عن أحمد: أنّه عليه السّلام- اشترى تمرا بالكوفة

فحمله في طرف ردائه فتبادر الناس إلى حمله و قالوا: يا أمير المؤمنين، نحن نحمله. فقال «ع»: «ربّ العيال أحق بحمله.» «1»

27- و فيه أيضا عن قوت القلوب عن أبي طالب المكي: كان عليّ «ع» يحمل التمر و المالح بيده و يقول:

«لا ينقص الكامل من كماله ما جرّ من نفع إلى عياله.»

«2» 28- و في تاريخ ابن عساكر بسنده عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، قال: «لم يرزأ علي بن أبي طالب من بيت مالنا يعني بالبصرة حتى فارقنا غير جبّة محشوّة أو خميصة درابجردية.» «3»

و رواه ابن أبي شيبة في مصنّفه «4».

أقول: الخميصة: ثوب أسود مربّع.

29- و فيه أيضا بسنده عن عبد العزيز بن محمد، عن أبيه أنّ عليا «ع» أوتي بالمال فأقعد بين يديه الوزان و النقّاد فكوّم كومة من ذهب و كومة من فضّة و قال:

«يا حمراء، يا بيضاء، احمرّي و ابيضّي و غرّي غيري.» «5»

30- و فيه أيضا بسنده عن هارون بن عنترة، عن أبيه، قال: دخلت على عليّ بن أبي طالب بالخورنق و عليه قطيفة و هو يرعد من البرد!! فقلت:

يا أمير المؤمنين، إنّ اللّه قد جعل لك و لأهل بيتك في هذا المال نصيبا و أنت تفعل بنفسك هذا؟! فقال: إي و اللّه، لا أرزأ من أموالكم شيئا، و هذه هي القطيفة التي أخرجتها من

______________________________

(1)- مناقب ابن شهرآشوب 1/ 372.

(2)- مناقب ابن شهرآشوب 1/ 372.

(3)- تاريخ ابن عساكر، قسم ترجمة علي بن أبي طالب «ع» 3/ 181.

(4)- مصنّف ابن أبي شيبة 14/ 595، كتاب المغازي، الحديث 18942.

(5)- تاريخ ابن عساكر، قسم ترجمة علي بن أبي طالب «ع» 3/ 182.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2،

ص: 831

بيتي، أو قال: من المدينة «1».

31- و فيه أيضا بسنده عن سفيان، يقول: «ما بنى عليّ آجرّة على آجرّة و لا لبنة على لبنة، و لا قصبة على قصبة، و إن كان ليؤتى بحبوبه من المدينة في جراب.» «2»

32- و فيه أيضا بسنده عن مجمع التيمي، قال: خرج علي بن أبي طالب بسيفه إلى السوق فقال: «من يشتري منّي سيفي هذا؟ فلو كان عندي أربعة دراهم اشترى بها إزارا ما بعته.» و نحوها رواية أخرى، فراجع «3».

33- و فيه أيضا بسنده عن ابن عباس، قال: اشترى علي بن أبي طالب قميصا بثلاثة دراهم- و هو خليفة- و قطع كمّيه من موضع الرصغين و قال: الحمد للّه الذي هذا من رياشه. «4»

34- و فيه أيضا بسنده عن مولى لآل عصيفر، قال: رأيت عليّا خرج فأتى رجلا من أصحاب الكرابيس فقال له: عندك قميص سنبلاني؟ قال: فأخرج إليه قميصا فلبسه فإذا هو إلى نصف ساقيه، فنظر عن يمينه و عن شماله فقال: ما أرى إلّا قدرا حسنا، بكم هو؟ قال: بأربعة دراهم يا أمير المؤمنين، قال: فحلّها من إزاره فدفعها إليه ثمّ انطلق. «5»

35- و فيه أيضا بسنده عن سعيد الرجاني، قال: اشترى عليّ قميصين سنبلانيين انبجانيين بسبعة دراهم فكسا قنبر أحدهما، فلما أراد أن يلبس قميصه فإذا إزاره مرقوع برقعة من أديم «6».

______________________________

(1)- تاريخ ابن عساكر، قسم ترجمة علي بن أبي طالب «ع» 3/ 188.

(2)- تاريخ ابن عساكر، قسم ترجمة علي بن أبي طالب «ع» 3/ 188.

(3)- تاريخ ابن عساكر، قسم ترجمة علي بن أبي طالب «ع» 3/ 189.

(4)- تاريخ ابن عساكر، قسم ترجمة علي بن أبي طالب «ع» 3/ 191.

(5)- تاريخ ابن عساكر،

قسم ترجمة علي بن أبي طالب «ع» 3/ 191.

(6)- تاريخ ابن عساكر، قسم ترجمة علي بن أبي طالب «ع» 3/ 191.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 832

36- و فيه أيضا بسنده عن زيد بن وهب الجهني، قال: خرج علينا عليّ بن أبي طالب ذات يوم و عليه بردان متّزر بأحدهما، مرتد بالآخر قد أرخى جانب إزاره و رفع جانبا قد رقع إزاره بخرقة، فمرّ به أعرابيّ فقال: أيّها الإنسان، البس من هذا الثياب، فإنّك ميّت أو مقتول. فقال: «أيّها الأعرابي، إنّما ألبس هذين الثوبين ليكونا أبعد لي من الزهو، و خيرا لي في صلاتي، و سنّة للمؤمن.» «1»

37- و فيه أيضا بسنده عن صالح بيّاع الأكسية، عن جدّته، قالت: رأيت عليّا اشترى تمرا بدرهم فحمله في ملحفته فقالوا: يا أمير المؤمنين ألا نحمله عنك؟

فقال «أبو العيال أحق بحمله.» و رواه عنه في كنز العمال «2»

38- و في كنز العمال عن ابن عساكر و غيره، عن علي بن الأرقم، عن أبيه، قال: «رأيت علي بن أبي طالب يعرض سيفا له في رحبة الكوفة و يقول: من يشتري منّي سيفي هذا؟ و اللّه لقد جلوت به غير مرّة من وجه رسول اللّه «ص». و لو أنّ عندي ثمن إزار ما بعته.» «3»

39- و فيه أيضا عن علي «ع» قال: «نكحت ابنة رسول اللّه «ص» و ليس لنا فراش إلّا فروة كبش فإذا كان الليل بتنا عليها و إذا أصبحنا فقلبنا و علفنا عليها الناضح.» «4»

أقول: هذا لم يكن في عصر خلافته و إمامته.

40- و فيه أيضا عن عمرو بن قيس، قال: رؤي على عليّ «ع» إزار مرقوع فقيل له. فقال: يقتدي به

المؤمن و يخشع به القلب. «5»

______________________________

(1)- تاريخ ابن عساكر، قسم ترجمة علي بن أبي طالب «ع» 3/ 192.

(2)- تاريخ ابن عساكر، قسم ترجمة علي بن أبي طالب «ع» 3/ 200؛ و كنز العمال 13/ 180، كتاب الفضائل، باب فضائل الصحابة، الحديث 36537.

(3)- كنز العمال 13/ 178، كتاب الفضائل من قسم الأفعال، باب فضائل الصحابة، الحديث 36531.

(4)- كنز العمال 13/ 179، كتاب الفضائل من قسم الأفعال، باب فضائل الصحابة، الحديث 36536.

(5)- كنز العمال 13/ 181، كتاب الفضائل من قسم الأفعال، باب فضائل الصحابة، الحديث 36542.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 833

41- و فيه أيضا عن مسند عليّ، عن عبد اللّه بن شريك، عن جدّه أنّ علي بن أبي طالب «ع» أتي بفالوذج فوضع قدامه، فقال: إنّك طيّب الريح حسن اللون طيّب الطعم، و لكن أكره أن أعوّد نفسي ما لم تعتد «1».

42- و فيه أيضا عن ابن المبارك، عن زيد بن وهب، قال: خرج علينا عليّ «ع» و عليه رداء و إزار قد رقّعه بخرقة فقيل له، فقال: «إنما ألبس هذين الثوبين ليكون أبعد لي من الزهو، و خيرا لي في صلاتي، و سنّة للمؤمنين.» «2»

إلى غير ذلك من الروايات الواردة في هذا المجال.

و قد مرّ في الفصل الأوّل من هذا الباب أيضا روايات كثيرة تدلّ على مضمون هذا الفصل، فراجع.

و الحمد للّه رب العالمين، و صلّى اللّه على محمّد و آله الطّاهرين، و لعنة اللّه على أعدائهم أجمعين.

تمّ الجزء الثاني من الكتاب، و يتلوه إن شاء اللّه الجزء الثالث، و أوّله الباب الثامن منه في المنابع الماليّة للدولة الإسلاميّة و يحقّ هنا أن أبرز تقديري و شكري للعلمين الفاضلين حجّتي

الإسلام الشيخ محمود واحد و الشيخ قربانعلي حبيب اللّهي، دامت إفاضاتهما؛ حيث صرفا طاقاتهما في تصحيح الكتاب و تطبيقه على مصادره، فللّه- تعالى- درّهما و عليه أجرهما.

______________________________

(1)- كنز العمال 13/ 184، كتاب الفضائل من قسم الأفعال، باب فضائل الصحابة، الحديث 36549.

(2)- كنز العمال 13/ 185، كتاب الفضائل من قسم الأفعال، باب فضائل الصحابة، الحديث 36552.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.